يا ايها الذين آمنوا اذكروا اللّه ذكرا كثيرا... الذكر يقابل النسيان فيشمل اللساني والقلبي، كما ذكرناه في آية "ان المسلمين..." كما أنّ التسبيح يمكن أن يكون في القلب والإعتقاد أيضا، إلا أنّ الظاهر منه هو التسبيح باللسان، فيمكن أن يكون قرينة على أن المراد هنا بالذكر، خصوص اللساني ايضا. والذكر مهما كان يستلزم أن يكون العبد مستحضرا ربه ويراه مهيمنا عليه. وهذا لو كان يحصل بصورة دائمة، لكان العبد مراقبا كل حركاته وسكونه، ولأوصله ذلك الى مرتبة العصمة، أو ما يقرب منها، ولكنه لا يستطيع ذلك، فأمره اللّه تعالى أن يكثر من ذكره.
وسبحوه بكرة وأصيلا... ثم أمر بتسبيحه كل صباح ومساء. والأصيل هو العشاء كما في مفردات الراغب. و قيل: ما بعد العصر الى المغرب. ومثل ذلك قوله تعالى: (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ) ق: 39 وقد ورد في الأحاديث التأكيد على تكرار القول بـ (لا اله الا اللّه وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت ويميت ويحيي وهو حي لا يموت بيده الخير وهو على كل شيء قدير) عشر مرات قبيل الطلوع، وعشرا قبيل الغروب.
ويمكن أن يكون المراد بالتسبيح بكرة وأصيلا الاستمرار عليه مهما أمكن، وفي كافة الأوقات، كقوله تعالى: (يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ) الانبياء: 20 حيث يصف بذلك ملائكته، والملائكة ليس لهم ليل ونهار، بل يسبحونه تعالى دائما.
هو الذي يصلي عليكم وملائكته ليخرجكم من الظلمات الى النور... سياق الآيات وتصدير هذه الآية بالضمير، يوحي بأنّ هذه الآية والآية التالية في مقام ذكر النتيجة والجزاء للذكر الكثير. وبتعبير آخر في مقام بيان سبب التشريع. والحاصل أنّ الذكر الكثير يوجب العطف الإلهي والرحمة الخاصة بالمؤمنين، بحيث يخرجهم من ظلمات الغفلة والجهل إلى نور الايمان والعبودية والتشرف بذكر اللّه لهم، كما قال تعالى: (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ..) البقرة: 152.
والصلاة، يقال: إنّها في أصل اللغة بمعنى العطف او الميل. ولا يبعد أن يكون المعنى في أصل اللغة هو هذه العبادة الخاصة، على اختلاف مصاديقها، حسب الشرايع. وقد ذكرنا في مبحث الحقيقة الشرعية من المباحث الأصولية أنّ الصلاة من أعرق المفاهيم البشرية، وأنها كانت مع الإنسان منذ بدء خلقته، فلا وجه لمحاولة كشف معنى لغوي، يكون هو الأصل في هذه الكلمة، ثم البحث عن زمان تحقق الحقيقة الشرعية.
وعليه فالصحيح في هذا المقام أنّ المعنى الاول للصلاة، وإن كان هو العبادة الخاصة، الا انها بهذه المناسبة تستعمل لإفادة معنى مطلق العطف و الميل مجازا، وهي بهذا المعنى تختلف حسب الموارد.. فالصلاة من اللّه رحمة ربوبية، والصلاة من العبد عبادة وتذلل، ومن الملائكة دعاء بالرحمة ــ كما هو المشهور ــ ويشهد له ما ورد في القرآن من دعائهم كما في أوائل سورة غافر، ولا يبعد ان يكون من صلاتهم وعطفهم التوسط والشفاعة، فإنهم وسائط نزول الرحمة، كما لعله هو المراد هنا، فاللّه تعالى يبعث ملائكته ليخرج المؤمنين من الظلمات الى النور.
وكان بالمؤمنين رحيما... لعل الاتيان بالفعل الماضي للاشارة إلى أنّ ذكر المؤمنين الذي كان السبب في هذه الرحمة الخاصة الممتازة المعبر عنها بالصلاة، إنما كان بنفسه أيضا برحمة مسبقة من اللّه تعالى، نظير قوله تعالى: (ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا..) فهناك توبة مسبقة من اللّه، اي رجوع عليهم بالعطف والرحمة ليتوبوا، ثم توبة بعد توبتهم تتمثل في قبول التوبة منهم.
ولعلك تقول: إنّ مقتضى السياق ان يقال: وكان بكم رحيما.. لاستمرار الخطاب في هذه الجملة فلماذا أتي بالاسم الظاهر؟ ومما ذكرناه آنفا يمكن الجواب بأنّ الاتيان بالاسم الظاهر لعله للايذان بأنّ كثرة ذكرهم التي هي السبب في هذه الرحمة الخاصة المعبّر عنها بالصلاة كان برحمة مسبقة من اللّه تعالى بسبب ايمانهم.
وهذا أولى مما قاله العلامة الطباطبائي رحمه اللّه من أنّه إنما أتى بالإسم الظاهر بدلا عن الضمير للإيذان بأنّ سبب الرحمة الخاصة، هو الإيمان، و ذلك لمنافاته مع ما ذكر من أنّ ظاهر الآية أنّ سبب هذه الرحمة الخاصة هو الذكر الكثير لا مطلق الإيمان.
تحيتهم يوم يلقونه سلام... ما مرّ في الآية السابقة نتيجة الذكر الكثير في الدنيا، وأمّا يوم القيامة ــ وهو يوم يلقون اللّه تعالى ــ فجزاؤهم أن يحيَّوا من قبل اللّه تعالى وملائكته بالسلام، كما ورد في آيات أخرى، منها قوله تعالى: (وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلَامٌ عَلَيْكُمْ..) الرعد: 23 - 24.
ويمكن أن يكون المراد بيوم اللقاء، يوم الموت والتوفّي، فإنّ المؤمن يلقى ربّه ذلك اليوم، وقد قال تعالى: (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ..) النحل: 23. واللقاء بمعنى الادراك المباشر الذي ربما يعبّر عنه بالرؤية، مع أنّه إدراك أقوى بكثير من الرؤية البصرية، فالبصر قد يخطئ في الالوان وفي الحركات وغيرها، كما هو واضح محسوس، ولكن الإدراك المباشر بالذات والروح لا يمكن أن يخطئ.
والمثال الواضح له في هذه الحياة هو إدراك الإنسان لنفسه، فإنه لا يمكن أن يكون خاطئا، وهو أقوى إدراك محسوس وشامل. ومثل هذا الإدراك يحصل للإنسان بموته حيث ينكشف عنه الغطاء ويخرج من قيود المادة، وهناك يلقى ربه ويحظى بلقائه السعيد الذي هو غاية المنى.
والسلام الذي يحيّون به حكم وعمل، لا مجرد كلام أو دعاء، كما أنّ اللعنة هناك إبعاد عن الرحمة في الواقع الخارجي لا دعاء به. فالمراد بالسلام ــ واللّه العالم ــ الأمن والسلامة المطلقة، لا خوف عليهم ولا هم يحزنون. والتعبير مع ذلك مفعم بالإكرام والإحترام.
وأعدّ لهم أجرا كريما... ومن اكرامهم أن اللّه تعالى هيّأ لهم من قبل أجرا لا يقدّر بقدر، ويكفي في عظمته أنّ اللّه، خالق الكرامة، يعبّر عنه بالكريم. والكريم بمعنى الثمين والقيّم فذلك الاجر في مقياس اللّه تعالى قيّم، مع أنّه لا يرى لهذه الحياة الدنيا بكل ما فيها من زينة وبهاء، أيّ قيمة.