يا أيها النبي انا أرسلناك شاهدا ومبشّرا ونذيرا وداعيا الى اللّه باذنه وسراجا منيرا... أبلغ مدحة من خالق الكون وربّه لنبيّه الكريم صلى اللّه عليه وآله وسلّم حيث وصفه بأوصاف خمسة:
1- الشاهد. والشهادة هنا تحتمل ثلاثة معان:
أ- شهادة قائد المجتمع وإمام الناس لأعمالهم، مما تنبئ عن خبايا أسرارهم واتّجاهاتهم، وإيمانهم به وبرسالته، أو كفرهم أو نفاقهم. والحاصل أنّه يرى من أعمال كل أحد وجهة تأثيره الاجتماعي. والشهادة بهذا المعنى تتحقق بالنسبة لكل قائد إجتماعي. وربما يحمل قوله تعالى: (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللّه عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ) التوبة: 105 على ذلك، بقرينة أنّ رؤية المؤمنين ليس الا على هذا الوجه.
ب- أنّ الملائكة تعرض أعمال العباد على الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم، وكذلك على الائمة من بعده فهو شاهد على خبايا أعمالهم، وليس على ظواهرها وتأثيراتها الاجتماعية فحسب.
وبهذا المعنى وردت روايات تدلّ بعضها على أنّ الأعمال تعرض على الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم حتى بعد وفاته، وبعضها على أنّها تعرض بعده على الإمام، وأنّ المراد بالمؤمنين في الآية الكريمة الآنفة الذكر هو أمير المؤمنين عليه السلام، او الأئمة كلهم عليهم السلام.
ولا شكّ أنّ كيفية العرض غير مفهومة لنا، ولا نعلم أنّ الاعمال هل تعرض بكل تفاصيلها، أم أنّ هناك نوعا خاصا من العرض لا تبلغه افهامنا؟ وهل كلّ الاعمال تعرض، أم أنّ قسما خاصا منها تعرض عليهم؟ وقد ورد ذكر الشهادة في آيات كثيرة.والبحث عنها يستدعي موضعا آخر.
ج- الشهادة بمعنى كونه مثلا يحتذى به، ومقياسا للصلاح والعبودية، فالرسول او الامام بعمله وسيرته شاهد في الدنيا يقتدى به، وفي الآخرة يقاس به الاعمال، قال تعالى: (يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا) الاسراء: 71، فالتفريع في قوله (فمن اُوتي..) يدلّ على أنّ دعوة الامام لتمييز من يؤتى كتابه بيمينه. وهناك شواهد اخرى على ذلك ايضا.
و(شاهدا) حال، فيدلّ على أنّ الرسالة ملازمة للشهادة، وهي كذلك بأي معنى من المعاني المذكورة. ولا وجه لما قيل من أنها حال مقدرة اي انا ارسلناك مقدّرا أن تكون شاهدا في المستقبل، فإنّ الشهادة متحققة من بدء الرسالة.
2و3- المبشر والنذير. يبشّر المتقين والصالحين بأن لهم أجرا حسنا، وينذر من اتّبع هواه بما تستتبعه أعماله من العذاب الأبدي. ولعل الفرق بين البشارة والانذار حيث أتى بالاول بصيغة اسم الفاعل والثاني بصيغة المبالغة، من جهة كون الانذار أهمّ في رسالة الرسل.
وكثيرا مّا يأتي الانذار فقط من دون بشارة كأنّ دور الرسول منحصر فيه، بل يأتي ضمن صياغة تفيد الحصر كقوله تعالى (إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ..) هود: 12 وقوله تعالى (إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ..) الرعد: 7 وذلك من جهة أنّ دفع الضرر أهم، ومن جهة أنّ أكثر الناس معرّضون للعذاب، (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ) سبأ: 13.
4- الداعي إلى اللّه بإذنه. اي داعيا الى الايمان باللّه وبوحدانيته، وتقواه، ومتابعة دينه وشريعته، وحبّه والانقياد له. والدعوة انما هي إلى اللّه تعالى لا إلى إصلاح اجتماعي، أو ثورة على وضع قائم، او أي هدف إنساني آخر، فكل ذلك مهما كان لها من أهمية، فهي تصغر أمام هذا الهدف العظيم. وهو يشمل في النهاية كل الأهداف السامية لأن السير الى اللّه تعالى في طريقه الذي رسمه للبشرية يوصله الى الخير المطلق في الدنيا والآخرة.
وأما التقييد بكون الدعوة باذنه تعالى فانه يفيد أنّه مبعوث من قبل اللّه تعالى، فليس داعيا منبعثا من نفسه. ولعل الوجه في تقييده بالاذن دون غيره، أنّ ذكر اسمه تعالى في هذا الوصف ربّما يوهم أنّه يدعو اليه تعالى بدافع ذاتيّ، فالاتيان بهذا القيد لدفع التوهم.
وقيل: إنّ الوجه فيه هو استثقال أمر الدعوة، فالتعبير بالاذن يراد به التيسير، أي أنّه يدعو الى اللّه تعالى بتيسير منه، والا لم يتمكن، بل كان يحجم عن الامر كما أنه أحجم عنه في بدء البعثة، حتى أنزل اللّه تعالى (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ).
وهذا الاحتمال ضعيف، لان شهادته صلى اللّه عليه وآله وسلّم إن لم تكن أهم وأصعب، فلا تقل عن الدعوة. ولذلك ذهب بعضهم الى أن القيد يعود الى كل ما سبق. ولكنه بعيد، اذ لا وجه لاخراج كونه سراجا منيرا من التقييد.
5- السراج المنير. فهو لا يكتفي بالدعوة الى اللّه وإراءة الطريق، بل ينير الدرب بأقواله وأفعاله وأخلاقه وسيرته، فإنه إمام الموحدين. والإمام هو المثال الحي للسائرين على الدرب يقتدون بهداه. وهكذا ينير الطريق في الظلمات الكالحة؛ ظلمات الجهل والشهوة، والأفكار الخاطئة، والتقاليد البالية، والسنن الجاهلية.
والسراج يطلق على الشيء المنير بذاته الذي لا يكتسب نوره من غيره، ولذلك ورد التعبير في القران عن الشمس بالسراج دون القمر. وهذا يدلّ على العظمة الذاتية للنبي صلى اللّه عليه وآله وسلم، وأنه في جوهره وذاته وكيانه يختلف عن سائر البشر.
وبشّر المؤمنين بأن لهم من اللّه فضلا كبيرا... الظاهر أنّ هذه الجملة عطف على جملة مقدّرة تفهم من سياق الآيتين السابقتين، فإنّهما وإن كانتا في مقام المدح والثناء للرسول الكريم صلى اللّه عليه وآله وسلّم، الا أنّهما يحملان أمرا اليه ايضا، فانّ المراد بهما نصبه صلى اللّه عليه وآله وسلّم لهذه المقامات، مما يستدعي لزوم مباشرة العمل وفقا لها، فانّ الملك اذا نصب أحدا وزيرا، فان معناه الامر بالعمل وفق مقتضيات الوزارة، فمعنى الآيتين الامر بمباشرة الشهادة والبشارة والانذار والدعوة والانارة. وهذه الجملة اي تبشير المؤمنين عطف على الامر السابق.
والفضل بمعنى الزيادة. ويطلق على ما يمنحه أحد لغيره من دون استحقاق. وكل ما يعطيه اللّه تعالى ، فهو فضل، لأنّ المخلوق لا يستحق شيئا على خالقه، وكل ما يقال من حق أحد حتى الأنبياء والأولياء، فهو حق جعله اللّه على نفسه.. وحيث إنّ الفضل في الدنيا لا يختصّ بالمؤمنين؛ خصّهم في الآية بالفضل الكبير.
وقد وردت الاشارة الى هذا الفضل في قوله تعالى (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ) الشورى: 22.
والكبير أمر نسبي، فهو كبير بالنسبة الى ما فضّل به على غير المؤمنين من نعم الدنيا، فإنّ الحياة الدنيا ليست في الآخرة إلا متاع. وهناك فضل أكبر بكثير، وهو فضله تعالى على النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم قال تعالى: (إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا) الاسراء: 87، فهذا كبير بالنسبة الى كل فضل أوتي به غيره صلى اللّه عليه وآله وسلّم.
ولا تطع الكافرين والمنافقين ودع أذاهم وتوكل على اللّه وكفى باللّه وكيلا... عطف على الآية السابقة، فهناك أمر بتبشير المؤمنين، وهنا بمواجهة الكفار والمنافقين. وسياق الآيات يأبى النزول في مكة كما ادّعي. ولا موجب لذلك فإنّ النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلّم كان محاطا بمؤامرات الكفار والمنافقين في المدينة اكثر بكثير مما كان في مكة، وكما كانت المؤامرات تحاول الاطاحة به صلى اللّه عليه وآله وسلّم كانت تحاول ايضا كسب بعض الامتياز للكفار او لآلهتهم او للمنافقين.
وقد ورد نفس هذا النهي في اول السورة، وقلنا انه صلى اللّه عليه وآله وسلّم لم يكن يهادن الكفار، وانما ورد هذا النهي ليكون حجة له صلى اللّه عليه وآله وسلّم في مواجهة فريقين من المسلمين: فريق يدعو الى التشدد، وفريق يدعو الى الهدنة.
ثم ان الإطاعة هي اللين، وبالطبع فإن المنع منه يستلزم ممارسة الخشونة معهم، وهي تستتبع مواجهتهم، وربما تستتبع حربا بل حروبا، ولكن اللّه تعالى يستصغر كيدهم ويعتبره مجرد إيذاء، إذ لا يستطيعون أن يعملوا شيئا إلا ما أراده اللّه تعالى.. ثم قلّل من شأنه، كإيذاء أيضا، وأمر رسوله صلى اللّه عليه وآله وسلّم أن يتركه ولا يهتمّ به ويتوكّل على اللّه، ويكل أمرهم اليه وكفى به وكيلا.
وليس معنى ذلك عدم اتخاذ المواقف اللازمة في كل موضع يقومون فيه بعمل عدواني ضد الاسلام والمسلمين، و لذلك لم يتوقف الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم عن محاربتهم ومقابلة كيدهم بالسياسة الحكيمة، بل المراد عدم الإهتمام، لأنّ اللّه تعالى لهم بالمرصاد، إلا أنّه لا يبرز المعجزات في مثل ذلك، و إنما يعالج الموقف بالأسباب الطبيعية، ومنها هذه المواقف الحكيمة التي كان النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم يتخذها في مواجهتهم. وقد مرّ بعض الكلام في التوكّل في بداية السورة المباركة.
وبناءا على ذلك فالمراد بقوله تعالى (ودع أذاهم) عدم الاهتمام بما يكيدون، وما يمارسونه من أعمال إيذائية، فالاذى مصدر مضاف الى الفاعل. والامر بالترك وهو معنى (دع) كناية عن عدم الاهتمام.
وقيل: إنّ المراد النهي عن إيذائهم، فالاذى مضاف الى المفعول، و(دع) بمعناه الحقيقي. وهو بعيد في حد ذاته لأنه صلى اللّه عليه وآله وسلّم ما كان يؤذي أحدا، وانما كان يدفع أذى المشركين والمنافقين اذا تجاوز الحد، بل كان يتحمل أذاهم قبل الهجرة وبعدها، وحتى بعد استقرار حكومته وخضوع الرقاب له صلى اللّه عليه وآله وسلّم، فما كانت المؤامرات تتوقف، والايذاء كان مستمرا حتى في آخر لحظات حياته صلى اللّه عليه وآله وسلّم، فالنهي عن الايذاء لا يناسب خلقه الرفيع، مضافا الى أنه لا يناسب الامر بالتوكل، وانما يناسبه عدم الاعتناء بهم وبإيذائهم.