يا أيها الذين آمنوا اذا نكحتم المؤمنات ثم طلّقتموهنّ من قبل ان تمسوهنّ فما لكم عليهنّ من عدّة تعتدّونها فمتّعوهنّ وسرحوهنّ سراحا جميلا... مجموعة آيات تتعرض لبعض احكام النكاح والطلاق. والآية الاولى عامة للمؤمنين، وما بعدها خاصة بالنبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلّم. ولعلّ هذا هو وجه ارتباط هذه الآية بما قبلها وما بعدها.
ومهما كان فالمراد بالنكاح العقد، حيث فرض عدم المساس بعده، وهو كناية عن المواقعة. والآية تذكر حكم المطلقة قبل المواقعة وأنّها لا عدّة عليها، فيجوز لها أن تتزوّج بعد الطلاق مباشرة. وقد ذكر حكمها في سورة البقرة بالفرق بين التي فرض لها فريضة أي قدّر لها مهر، فتستحقّ نصفه والتي لم يفرض لها ذلك فتستحقّ الإمتاع.
قال تعالى: (لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ * وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللّه بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) البقرة: 236-237.
والذي لم يذكر في سورة البقرة من حكمها هو عدم وجوب العدّة عليها وذكر في هذه الآية. والتعبير يوهم أنّ العدّة حقّ للرجل على المرأة، حيث قال تعالى: (فما لكم عليهنّ من عدّة تعتدّونها) فالعدة للرجل على المراة وهو الذي يعتدّها، ولذلك قال المفسرون في توجيه ذلك: أنّ العدّة إنما شرّعت لحفظ الأنساب، والرجل هو صاحب النسب والذي ينسب اليه الولد، فله الحق في منع المرأة من الزواج في العدّة، لحفظ نسبه، فإذا لم يتحقّق بينهما مساس فلا حقّ له.
وربما يستبعد كون الاعتداد حقّا للرجل من جهة أنّه غير قابل للاسقاط من قبله. وأجاب بعضهم: إنّ عدم جواز الإسقاط لا ينافي كونه حقّا له فإن بعض الحقوق، لا يصح إسقاطه كحق الورثة في تركة الميت، وحق الفقراء في الزكاة.
أقول: أما الورثة فيملكون التركة وليس هذا حقّا، وأمّا الزكاة فصاحب الحقّ او المالك هو عنوان الفقير، لا مجموع الفقراء وليس هناك من نقض، فكل حقّ قابل للإسقاط الا اذا كان في نفس الوقت يشتمل على حق آخر كحقّ الحضانة، فإنه لا يصح إسقاطها لأنه حقّ للوالدين وللطفل ايضا، او لأنّه حق وحكم شرعي بلزوم حضانة الطفل.
ومهما كان فالإشكال في المقام، ليس من جهة جواز الإسقاط، بل من جهة أنّ العدّة حكم شرعي واجب على المرأة، حتى لو ارتدّ زوجها السابق، او كانا كافرين وأسلمت الزوجة. والذي أوهم الجماعة هو الضمير المذكر في الخطاب؛ وغاب عنهم أنّ هذا خطاب للمجتمع الإسلامي، والقرآن يعبّر عن كلّ القوانين الإجتماعية بمثل ذلك، فيخاطب المجتمع بإجراء الحد كقوله تعالى: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا..) المائدة: 38 وقوله تعالى: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ..) النور: 2 ونحو ذلك.
ويشهد له قوله تعالى: "فتعتدّونها" فإنّه بمعنى الإمتناع من الزواج بها، وهو لا يشمل الزوج السابق، اذ ليس عليها عدّة بالنسبة له، وانّما الخطاب هنا لسائر الرجال.
وقد وقع النقاش بين المفسرين وكذلك الفقهاء في كيفيّة التعامل مع الآيتين، حيث إنّ ظاهرهذه الآية وجوب الإمتاع لكل مطلّقة قبل المساس، سواء فرضت لها فريضة أم لا.. وظاهر الآية التي في سورة البقرة التفصيل، واختصاص الامتاع بمن لم يفرض لها مهر حين العقد، وفقهاؤنا يقيّدون إطلاق هذه الآية، بما ورد في سورة البقرة، فيحملون هذه الآية على خصوص من لم تفرض لها فريضة.
وذهب بعض الفقهاء الى استحباب الإمتاع للكل، فحمل الأمر هنا على الإستحباب ولم يحمل المطلق على المقيد، وفي كل ذلك مخالفة للظاهر. وفسّر بعض المفسرين الإمتاع بما يشمل دفع نصف المهر وهو أبعد من الكل، ويقرب في الذهن ان حمل الأمر على الاستحباب، هو الأولى.
وهناك أمر آخر تختلف فيه الآيتان، وهو تنصيف المهر بالطلاق قبل الدخول كما ورد في سورة البقرة، ولم يرد هنا الا أنّ هذه الآية ساكتة عن حكم المهر، فلا تنافي بينهما من هذه الجهة.
والتسريح: الارسال، وأصله تسريح الابل في المرعى. والمراد بالسراح الجميل ان لا تكون المفارقة بحقد وتشهير، كما هو الحال في أكثر الموارد، فهناك كثير من الأذواق والأخلاق لا تتلاءم، ولكن لا ينبغي أن يحدث بينهما بغض وكراهية وشنآن، فليتفارقا بمسالمة و تفاهم، ويغني اللّه كلا من سعته.
يا ايها النبي إنّا أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت اُجورهنّ... تبيّن الآية حكم زواج النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلّم وما خصّه اللّه تعالى به في هذا المجال، فإنّ اللّه تعالى حرّم على الرجال، الزواج بأكثر من أربع، وأوجب على من كان له أكثر من ذلك ــ قبل نزول الحكم ــ أن يختار منهن أربعا، ولكنّه أحلّ للرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم ما كان له من أزواج حين نزول الآية، بشرط أن يكون قد آتاهنّ مهورهنّ، وهي المراد بالاجور، وهذا الشرط كان حاصلا حيث قيل إنّه صلى اللّه عليه وآله وسلّم لم يؤخّر مهر امرأة، فالنتيجة أنّ اللّه تعالى أحلّ له الإبقاء على كل زوجاته.
هذا هو ما يبدو إبتداءا من الآية الكريمة ولكن سيأتي في صحيحة الحلبي ما يظهر منه أنّ المراد بهذا العنوان ليس هو خصوص أزواجه الّلاتي كانت له صلى اللّه عليه وآله وسلّم حين نزول الآية، بل المراد أنّه يحل له من النساء ما شاء من دون تحديد في العدد.
وما ملكت يمينك ممّا أفاء اللّه عليك... وهذا هو القسم الثاني من النساء الّلاتي أحلّ اللّه لرسوله صلى اللّه عليه وآله وسلّم، وهنّ الاماء المملوكات له، بشرط أن تكون الجارية ممّا أفاء اللّه عليه بسبي وغنيمة او بإهداء من كافر، فإنه غنيمة وفيء أيضا، فيشمل هذا القسم مارية القبطية. وظاهره المنع من شراء الجواري، ولكنّ الظّاهر أنّه لا يحرّم عليه ما كان لديه من جوار مما اشتراهنّ لو فرض ذلك.
ويقع الكلام هنا بالمناسبة عن جواز الاسترقاق في الشريعة مع أنّه أمر يرفضه المنطق والعقل السليم. وأنّه ما هو ميزة إنسان على اخر حتى يملكه؟! وأنّه كيف يمكن أن يعتبر الانسان سلعة يشترى؟! ونحو ذلك مما يقال.
وقد أجابوا عن ذلك بان الاسلام انما أحلّ الاسترقاق في الحرب، فالذي يحارب المسلمين ويعتدي عليهم يستحقّ القتل، فأولى له ان يُبقى عليه ويُسترقّ، مضافا الى أنّ في ذلك مصلحة له وللمجتمع فانه سيبقى بذلك في المجتمع الاسلامي، ويتعلم ويعود عضوا مفيدا في المجتمع البشري. وهناك عدّة من علماء المسلمين في مختلف العلوم هم في الاصل من الرقيق.
ولكنّ هذا الجواب ضعيف للغاية، فمجرّد ترتّب اثر مطلوب عليه لا يبرّره، كما أنّا نجد أنّ الساسة الدهاة ينتهزون الفرص، ويستفيدون من الحروب الطاحنة، والاعمال الارهابية لمصلحة شخصهم أو مجتمعهم، ولكن ذلك لا يبرّر الحرب والإجرام، ومن المعلوم أنّ الإسترقاق ما كان يختصّ بالسبي في الحروب، والسبي ايضا ما كان يختص بالرجال المحاربين، ومن ذلك مورد الآية الكريمة اي الجواري، فانهنّ ما كنّ يشاركن في حرب، بل ربّما كان بعضهنّ مغلوبا على امرها. ولو خيّرت لاختارت الخروج من المجتمع الذي تعيش فيه، ولكن لا خيار للضعفاء، خصوصا في تلك العصور، فما هو المبرّر لاسترقاقهنّ؟
وأغرب من ذلك استرقاق الاطفال، فانّه أيضا مجاز في الشريعة، وما ذكر من التعليل العليل لا يشملهم من دون ريب.
وأمّا ما يقال من أن الإسلام عالج المسألة بالحكم بالعتق في الكفّارات وغيرها فهذا أضعف، فإنّا نجد على أرض الواقع أنّ المشكلة ازدادت تفاقما، واتّسعت دائرة الرقيق يوما فيوما، ولم نجد حتى من أئمتنا الأطهار عليهم السلام شجبا واستنكارا لذلك، بل بالعكس كانوا يشترون الرقيق من سوق المسلمين، ويعاملونهم معاملة الرقيق المسبيّ من دون فرق.
والصحيح في الجواب إجمالا هو ما نجيب به عن كل مناقشة واعتراض على الحكم الشرعي، وهو أنّ الحكم للّه تعالى وعلينا السمع والطاعة سواء علمنا للحكم مصلحة ام لم نعلم.. بل حتى لو علمنا أنّه مخالف للمصلحة، وقد حكم اللّه على بني اسرائيل بأن يقتلوا أنفسهم ليتوب عليهم بعد عبادتهم العجل.. فما هو المصلحة في قتل النفس؟! فلو كان اللّه يجيز بيع الأولاد أو قتلهم، لجاز من دون ترديد.
ونحن لم نعلّق ايماننا باللّه وبالاسلام والقرآن والرسالة بأنّنا وجدنا أحكام هذه الشريعة موافقة للعقل والمنطق، وإنّما آمنّا باللّه بدليل العقل والفطرة، وآمنّا بالرسالة للمعجزات التي أظهرها اللّه تعالى على يد النبيّ الكريم صلى اللّه عليه وآله وسلم وأعظمها القرآن الكريم. وما علينا بعد ذلك الا التسليم والطاعة العمياء.
وكيف يمكن للانسان أن يعترض على ربّه وخالقه؟! وماذا يمكنه أن يصنع إن لم يسلّم لحكم ربّه؟! وهل من الممكن أن يقاوم الانسان قوانين الطبيعة التي جعلها اللّه تعالى تكوينا؟! فكما لا يمكنه ذلك لانه مفروض عليه فرضا كذلك ما يحكم به اللّه تعالى تشريعا.
وبنظرة واقعية أعمق نتساءل: ما هو الدليل على استنكار الإسترقاق سوى انه لا يوافق أذواقنا بعد ما نادت الجوامع البشرية بالحريّة؟! وهل تملّك الحيوان ثم ذبحه وأكله، أوفق مع العقل من استرقاق الانسان؟! حقا إنّه لأمر غريب أن يستسيغ الملاحدة والمنكرون للألوهية ذبح الحيوانات وأكلها واستخدامها، فهنا يقع نفس السؤال.. فإنّ الحيوان أيضا ذو حياة يسعد بها ويحبها ويدافع عنها وله علائق في الحياة كالأولاد والبيت، ولعل هناك غير ذلك مما لا نعلمه من العلائق فنحن لا نعلم من حياة الحيوان إلا القليل، فما هوالمبرّر لحرمانه من كل ذلك، لسبب واحد وهوانا نريد استخدامها وذبحها وأكلها ونقدرعلى ذلك؟!
لا أعتقد أن أحدا يمكنه أن يذكر وجها مقنعا الا أنّ اللّه تعالى ــ وهو خالق الكون وله كل ما في السماوات والارض ــ قد أجاز لنا ذلك وسخّر لنا الحيوان. و هذا المنطق يبرّر الإسترقاق حتى بالنسبة للأطفال أيضا.
ويشهد لذلك أنّ البشرية كانت منسجمة مع نظام الإسترقاق طيلة التاريخ البشري، وإنما كانت ترفض الظلم والقسوة مع العبيد، وهو مرفوض في جميع الشرائع والقوانين. ولست أقصد بذلك تبرير نظام الإستعباد ككلّ، فإنّ هذا النظام بني من أصله على الظلم، ولكن أقول: إن تشريع أصل هذا النظام، بشروط وقوانين معقولة، ليس أمرا مستنكرا في حدّ ذاته، ولكنه كأيّ حكم آخر لا يجوز لأحد تشريعه، وإنما ذلك للّه تعالى، وله الحمد والمجد.
وبنات عمّك وبنات عماتك وبنات خالك وبنات خالاتك اللاتي هاجرن معك... وهذا قسم آخر من النساء أحل اللّه تعالى لرسوله صلى اللّه عليه وآله وسلّم الزواج بهنّ، ولا شكّ أنّ المراد ليس الزواج بكل هذه النسوة، ولا إبقاء من كان منهنّ في عصمته لما مرّ من ذكرهنّ في الجملة الاولى، فالمراد أنّه يجوز له أن يتزوج بهنّ ما شاء، بشرط أن يكنّ قد هاجرن معه.
وهذا القيد ربما يمنع من الزواج بكثير من المذكورات، فإنّهنّ لم يهاجرن معه صلى اللّه عليه وآله وسلّم، الا أن يراد بذلك الهجرة الى نفس المكان وبنفس الهدف وان لم يكن في نفس الوقت. وهو غير بعيد.
ونظير ذلك قوله تعالى (وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ) في عدة مواضع من القرآن الكريم، فالمعيّة لا يراد بها المعيّة الزمانية، بل وحدة الهدف والطريق، او بمعنى المتابعة.
وقد وقع الكلام في المراد بهنّ، فقيل إنّهنّ القرشيات، فكلهنّ بنات عمّه او عمّاته، ونساء بني زهرة، فإنهنّ بنات أخواله وخالاته، وذلك للتوسع في إطلاق هذه العناوين في لغة العرب، ليشمل كل المتقربات بالأب والأم.
وقيل: إنها على حقيقتها وإنه كان له صلى اللّه عليه وآله وسلم عدة من الأرحام يمكنه التزوّج بهنّ.. ولكن الظاهر انه لم يتزوج حتى بواحدة منهنّ إلا زينب بنت جحش.. والظاهر أنّ ذلك أيضا كان قبل نزول الآية.
وهناك بحث طويل في سرّ افراد العم والخال، والجمع في العمة والخالة. وأفضل ما قيل فيه: أنّ ابن العم وابن الخال اسم جنس في لغة العرب فيطلق على كل قريب من جهة الاب، واما ابن العمة والخالة فلا يطلق الا على ابن عمة بعينها، وخالة بعينها.
وامرأة مؤمنة ان وهبت نفسها للنبي ان أراد النبي أن يستنكحها... قسم آخر من الزواج أحلّه اللّه تعالى لرسوله خاصة، وهو أن تهب المرأة نفسها له فإذا أراد النبي أن يستنكحها، جاز له ذلك.. وهذا أيضا مما لم يعمل به الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم، وإن نُقل في الأحاديث أن امراة وهبت نفسها للنبي صلى اللّه عليه وآله وسلم فلم يتزوجها، وتزوّجها عثمان بن مظعون رضي اللّه عنه، وهي خولة بنت حكيم.
وقد روى البخاري في باب (ترجئ من تشاء..) عن عائشة قالت: (كُنْتُ أَغَارُ عَلَى اللَّاتِي وَهَبْنَ أَنْفُسَهُنَّ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَقُولُ أَتَهَبُ الْمَرْأَةُ نَفْسَهَا فَلَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى (تُرْجِئُ مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنْ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ) قُلْتُ مَا أُرَى رَبَّكَ إِلَّا يُسَارِعُ فِي هَوَاكَ).
ورواه في موضع آخر عن هِشَام عَنْ أَبِيهِ قَالَ كَانَتْ خَوْلَةُ بِنْتُ حَكِيمٍ مِنْ اللَّائِي وَهَبْنَ أَنْفُسَهُنَّ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ عَائِشَةُ أَمَا تَسْتَحِي الْمَرْأَةُ أَنْ تَهَبَ نَفْسَهَا لِلرَّجُلِ فَلَمَّا نَزَلَتْ (تُرْجِئُ مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ..) قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَرَى رَبَّكَ إِلَّا يُسَارِعُ فِي هَوَاكَ).
ورواهما مسلم وغيرهما من اصحاب الصحاح والمسانيد وقد صحح الالباني الحديث. وفي مجمع البيان أن الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم قال لها بعد ذلك: (إنك إن أطعت اللّه سارع في هواك).
ولو لم ينقل الحديث في الصحاح لكان مرفوضا، لأنّ التعبير المنقول لا يناسب من يؤمن بالرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم، بل إنّ كلمة (ربك) بدلا عن التعبير باسم الجلالة لا تناسب الايمان باللّه ايضا، ثم إنّ قولها للمرأة: (أما تستحي المرأة ان تهب نفسها للرجل) يحكي عن أنها لم تفرّق بين الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم وغيره من الرجال، إذ من الواضح أن المرأة المذكورة لإيمانها بالرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم وهبت نفسها له، لا لأنه رجل.
خالصة لك من دون المؤمنين قد علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم وما ملكت أيمانهم... اعتبر بعض المفسرين هذا القيد قيدا للحكم الأخير فقط، أي هبة المرأة نفسها له، ولكن الظاهر أنه قيد لكل ما ورد قبله، فإنها كلها خاصة به صلى اللّه عليه وآله وسلم. ولذلك عقّبه بقوله تعالى: (قد علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم وما ملكت أيمانهم) فالمعنى أنّ هذه الأحكام خالصة لك، وللمؤمنين أحكام اخرى في الزواج وملك اليمين.
والذي يتحصّل من الآية تحليل الزواج له صلى اللّه عليه وآله وسلّم بأي عدد شاء، ومن أي نوع من النساء الا ما حرمه اللّه تعالى على الجميع بقوله (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ...) النساء: 23. ولكن كل ذلك بالشروط العامة والخاصة، فهناك شروط في اصل الزواج كعدم كونها في عصمة الغير، وهناك شروط خاصة للنبي صلى اللّه عليه وآله وسلّم. وذلك في غير زوجاته اللاتي كنّ على عصمته وقت نزول الآية.
ولا يصحّ ما قيل ونسب الى ابن عباس من أنّه حرّم عليه الزواج بغير المهاجرات، لانّ قوله تعالى (وامرأة مؤمنة ان وهبت..) يشمل كل المؤمنات. ولكن اشترط في غير المذكورات قبل ذلك، أن تكون المرأة هي التي تظهر رغبتها في الزواج وأن لا يكون بطلب المهر. وهذا شرط خاص في زواجه صلى اللّه عليه وآله وسلّم بغير المهاجرات من أقاربه.
والحاصل أنّ هذه الآية تفتح المجال أمام الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم في أمر الزواج لمصلحة سياسية، وتحدّده ايضا في نفس الوقت لمصلحة اخرى سنشير اليها. وهذا التعميم في التحليل هو المستفاد من روايات اهل البيت عليهم السلام. وسيأتي ذكرها وبعض الكلام حولها ان شاء اللّه تعالى، ونسأله التوفيق.
لئلا يكون عليك حرج وكان اللّه غفورا رحيما... أي إنّ هذه الأحكام الخاصة إنما شرّعت لك، لئلا يكون عليك حرج فيما تريده من أمر الزواج. وأما التعقيب بالغفران والرحمة، فالظاهر أنه بلحاظ أصل الترخيص كما ورد ذلك في عدة موارد، وليس بمعنى غفران الذنب، فان التحليل والترخيص ينشأ من الغفران والرحمة. أما الرحمة فواضح، وأما الغفران اي الستر باعتبار أنّه تعالى في مقام التشريع لا يلاحظ ما يقتضي التشديد وفرض الأحكام الالزامية، فهو ايضا نوع من الستر والغفران.
وقد تشبّث أعداء الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم بكثرة أزواجه، وبهذه الاحكام التي خصّه اللّه تعالى بها للوقيعة في كرامته واتّهامه بما لا يليق، مع أنّ من الواضح أنّه كان أبعد ما يكون عن متابعة الشهوات، فقد بقي الى سن الخامسة والعشرين لم يتزوج، مع سهولة الزواج في ذلك العصر، وكونه في غاية العزّ لدى العشيرة وفي قريش بأكمله، ولم يسمع أحد منه بزلّة طيلة شبابه، وإلّا لأوصموه بها بعد ما كان يقبّح عاداتهم وسننهم، بل يحتقر آلهتهم.
ثم إنّه تزوج وهو في عنفوان شبابه بامرأة تكبره بخمسة عشر عاما، وهي السيدة خديجة سلام اللّه عليها، وبقيت زوجته الوحيدة الى أن توفيت ولم يتزوج بعدها إلى أن انتقل الى المدينة، فتزوّج كل أزواجه هناك، وبقي الى آخر العمر يذكر خديجة ويتأسّف عليها، مما أثار حفيظة عائشة وقد روت بنفسها ذلك على ما في كتب احاديث العامة.
ونحن ننقل عن مسند احمد فقد روى (عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا ذَكَرَ خَدِيجَةَ أَثْنَى عَلَيْهَا فَأَحْسَنَ الثَّنَاءَ قَالَتْ فَغِرْتُ يَوْمًا فَقُلْتُ مَا أَكْثَرَ مَا تَذْكُرُهَا حَمْرَاءَ الشِّدْقِ قَدْ أَبْدَلَكَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهَا خَيْرًا مِنْهَا قَالَ مَا أَبْدَلَنِي اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ خَيْرًا مِنْهَا قَدْ آمَنَتْ بِي إِذْ كَفَرَ بِي النَّاسُ وَصَدَّقَتْنِي إِذْ كَذَّبَنِي النَّاسُ وَوَاسَتْنِي بِمَالِهَا إِذْ حَرَمَنِي النَّاسُ وَرَزَقَنِي اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَلَدَهَا إِذْ حَرَمَنِي أَوْلَادَ النِّسَاءِ) وروي بوجوه اخر. ويلاحظ ايضا أن كل نسائه صلى اللّه عليه وآله وسلّم ثيبات الا عائشة.
وكل هذه المناكح إنما حدثت بعد أن تجاوز الثالثة والخمسين، فهل يمكن أن ينسب ذلك الى اتّباع الشهوات؟! والذي ثبت تاريخيا أنه صلى اللّه عليه وآله وسلم كان يتزوج النساء من قبائل مختلفة، ليحقّق المصاهرة بينه وبين قبائل العرب، وكانت العرب ــ ولا زالت ــ تهتمّ بهذا الأمر، وتدافع عن أصهارها. وكانت المصاهرة الطريق السهل لسدّ باب الحرب بين القبيلتين، بل كانوا يرغمون قبيلة القاتل أن يزوجوا فتاتهم لرجل من قبيلة المقتول لحقن الدماء.. والحاصل أنّ المصاهرة كانت وسيلة للتحابّ والتوادد، وكانت سياسة الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم قائمة على ذلك.
وقد رووا انّ هناك موارد خطب فيهم الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم، وأرجأ الامر، فكانوا يكتفون بذلك يتباهون به في المجتمع العربي. وربما كان بعض مناكحه لوجوه أخرى، كزواجه بزينب، على ما مرّ ذكره. وذكرت وجوه أخرى في سائر الموارد. كل ذلك يبيّن الامر بوضوح، ويعلم وجه الحكمة في هذا التشريع، وأنّ اللّه تعالى لأيّ سبب، سهّل أمر الزواج على الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم، ورفع الحرج عنه، والحمد للّه على التوفيق.
هذا ويصح أن نعتبر الآية بوجه محددا لمناكح الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم، او هكذا يبدو لأول نظرة. ولعل الوجه في ذلك أنه صلى اللّه عليه وآله وسلم كان يقع في حرج في مواجهة توقّعات الناس في أن يتزوج منهم، فحدّد اللّه مناكحه ليكون له العذر في ردّ من يتقدم إليه بهذا الطلب..
وبهذا يتبيّن السرّ في اهتمام الوحي بهذه المسألة التي ربما يعد الإهتمام به غريبا بالنظر الى شخصيّة الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم وعظمة الرسالة الإلهية. ويتبيّن أنّ مسألة مناكح النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم كانت موضع اهتمام العرب آنذاك، وأنّها كانت تحرج الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم. واللّه العالم.
ترجي من تشاء منهن وتؤوي إليك من تشاء... الإرجاء هو التأخير، والإيواء هو الإسكان، وهو كناية عن القبول والضم. وقد وقع الكلام في أنّ هذه الجملة هل تعود الى أزواجه صلى اللّه عليه وآله وسلّم، أو الى خصوص المذكورات في آخر الآية السابقة أي اللاتي وهبن أنفسهنّ، او الى كل الأصناف المذكورة، فيجوز له قبول من أرادها وردّ من لم يردها، ثم هو بالخيار بعد ذلك أيضا في قبول من ردّها.
وبناءا على الاول فالمراد بيان حكم خاص به صلى اللّه عليه وآله وسلم أيضا، وهو أنّ حق القسم بين النساء في البيتوتة، لا يحدّد حياته الزوجية، فله أن يقدّم من يشاء ويؤخّر من يشاء منهنّ. والنتيجة أنه كان بإمكانه أن يتزوج ويترك زوجته لا يقسم لها شيئا من لياليه، وكان بإمكانه أن يعود اليها إن أراد.
ولم يذكر في التاريخ أنه ترك بعضهن كذلك بل كان صلى اللّه عليه وآله وسلّم مثلا في العدل بينهن، كما هو مثل في كل الاخلاق السامية. فلعل هذا الحكم أيضا له سرّ يرتبط بما ذكرناه آنفا من تحرّج الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم في ردّ بعض التوقعات، وذلك لأنّ جعل النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم بالخيار في ذلك، يقلّل من رغبة النساء في المناكحة.
ومهما كان فهذ الحكم ايضا من خصائصه صلى اللّه عليه وآله وسلم، فلا حرج عليه أن لا يقسم بين نسائه، بل يترك بعضهنّ نهائيا وله أن يعود اليها متى شاء.
وهذا المعنى وان كان هو الانسب بسياق الآية، الا أن المصرح به في صحيحة الحلبي الآتية أن (من آوى فقد نكح ومن أرجأ فلم ينكح) وهو ينطبق على أحد الاحتمالين الآخرين. فالواهبة نفسها يمكن أن يؤخّر الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم قبولها او ردها فعليها الانتظار، وكذا سائر الاصناف اذا أظهر الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم تمايله للزواج، وقد روي أنه اذا خطب وجب الانتظار. وسيأتي توجيه ما ينافي هذا الاحتمال في الجمل التالية.
ومن ابتغيت ممن عزلت فلا جناح عليك.... الجناح: الاثم، وأصله الميل والانحراف. وبناءا على الاحتمال الاول فالمراد ــ كما مر ــ جواز الايواء بعد الارجاء، اي ومن قصدت الرجوع اليها في القسم بعد أن تركتها فلا اثم عليك، فيكون العزل بمعنى الارجاء وهو بعيد. وهذا مما يبعّد هذا الاحتمال.
وأما بناءا على الاحتمالين الآخرين فلا يجب أن تكون هذه الجملة مرتبطة بالايواء والارجاء، بل يحتمل أن يكون مورد هذه الجملة هو القسم، فيكون العزل بمعناه الحقيقي، وتفيد الجملة حينئد جواز العزل في القسم ثم العود. والنتيجة أنّ الجملة السابقة تبين حكم جواز التأخير والقبول في عرض الزواج عليه صلى اللّه عليه وآله وسلّم، وهذه الجملة تبيّن حكما آخر، وهو جواز عزل بعض الزوجات في القسم ثم العود اليها.
ذلك أدنى ان تقرّ أعينهنّ ولا يحزنّ ويرضين كلهن... الظاهر أنّه إشارة الى خصوص الحكم الأخير، وهو جواز الإبتغاء بعد الإعتزال، وبذلك يكون ترتب الرضا وعدم الحزن واضحا، فمن لم تعزل راضية من البدو، ومن عزلت ثم ابتغيت ترضى بعد ذلك.
واما على ما ذكروه من كونه إشارة الى كل ما سبقه، بناءا على أنّ الارجاء بمعنى العزل، فيحتاج الى تأويل لأنّ التي ترجأ لا ترضى بل تحزن. فقالوا إنّها اذا علمت أنّ ذلك حكم عام لجميع زوجات الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم، او أنّه من اللّه تعالى فسترضى.
وضعف ذلك واضح، فإنّ الرضا بقضاء اللّه لا ينافي الحزن، كما أنّ التعبير بقرة العين لمجرد ذلك بعيد جدا.
واللّه يعلم ما في قلوبكم وكان اللّه عليما حليما... إشارة الى أنّ أحكامه تعالى إنّما يلاحظ فيها ــ مضافا الى المصالح العامة ــ ما تتطلّبه الجهات النفسية، وما تنطوي عليه القلوب من حبّ وبغض، وتوادّ وتحاسد وغيرة ونحو ذلك، واللّه يعلم ما يصلح شؤونكم، وهو حليم لا يستعجل بلوغ المقاصد..
وهذه نقطة مهمة، فإن كل مشرّع غيره تعالى، حتى لو علم بالمصالح وبما يحقّقها، الا أن استعجاله في بلوغ المآرب، يجعله يشرّع قانونا يفيد من جهة ويضر من جهات، ولذلك وبعد التجربة يضطرّ الى إلغائه.. ولكن اللّه تعالى لحلمه وعدم استعجاله في تحقق الأهداف، يشرّع قانونا يضمن الوصول إليها دون إضرار.
لا يحلّ لك النساء من بعد ولا أن تبدّل بهنّ من أزواج ولو أعجبك حسنهنّ الا ما ملكت يمينك... المعروف في تفسير الآية أنّ اللّه تعالى حرّم على رسوله أن يتزوّج امرأة غير ما عنده من النساء حين نزول الآية اي التسع.. ولكي لا يُتوهم أنّ مراعاة العدد ــ اي التسع ــ هو المقصود، صرّح بحرمة التبديل، بأن يترك واحدة ويتزوّج غيرها. وعليه فالمراد بقوله (من بعد) اي بعد نزول هذه الاحكام.
ولكنّ هذا التفسير بالرغم من كونه هو الظاهر بدوا، إلا أنّه ينافي بوضوح قوله تعالى (إنّا أحللنا لك...) اذ لا يبقى للتحليل مورد أصلا، ولا يمكن القول بالنسخ لوضوح تعاقب الآيات، ولم يقل بهذا النسخ أحد.
وكنت أتبنّى هذا التفسير سابقا واُصرّ عليه، ولكن هناك روايات من أئمة أهل البيت عليهم السلام تصرّ على عدم صحّته، وأنّ اللّه تعالى لم يحرّم على رسوله ما أحلّه على غيره. ومن الغريب أنّ بعض مفسّري الشيعة ايضا حاولوا التهرّب من الرضوخ لمفاد هذه الروايات بحجّة أنها مخالفة للكتاب، وإن كان بعضها صحيحة سندا.
وقد راجعتها، وتأمّلتها بدقّة، وتأثّرت عميقا بمضامينها العالية، وتوقّفت كيف أجمع بينها وبين الآية الكريمة، الى أن هداني اللّه تعالى حيث أصررت على أن لا أفرّق بين الكتاب والعترة الطاهرة، والحمد للّه، وهو الهادي.
وأنقل هنا نص الاحاديث الشريفة تباعا وتماما، تيمّنا وتبرّكا:
1- روى الكليني في الكافي عن علي بن إبراهيم عن أبيه ومحمد بن يحيى عن أحمد بن محمد جميعا، عن ابن أبي عمير عن حماد عن الحلبي، عن أبي عبداللّه عليه السلام قال: (سألته عن قول اللّه عزوجل: (يا أيّها النبي إنّا أحللنا لك أزواجك..) قلت: كم أحلّ له من النساء؟ قال: ماشاء من شيء قلت: قوله: (لا يحلّ لك النساء من بعد ولا أن تبدل بهنّ من أزواج)؟ فقال: لرسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم أن ينكح ماشاء من بنات عمه وبنات عماته وبنات خاله وبنات خالاته، وأزواجه الّلاتي هاجرن معه، وأحلّ له أن ينكح من عرض المؤمنين بغير مهر، وهي الهبة، ولا تحلّ الهبة إلا لرسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم، فأمّا لغير رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم فلا يصلح نكاح إلا بمهر. وذلك معنى قوله تعالى: (وامرأة مؤمنه إن وهبت نفسها للنبي..) قلت: أرأيت قوله: (ترجي من تشاء منهن وتؤوي إليك من تشاء..) قال: من آوى فقد نكح، ومن أرجأ فلم ينكح، قلت: قوله: (لا يحلّ لك النساء من بعد..) قال: إنما عنى به النساء اللاتي حرّم عليه في هذه الاية (حرّمت عليكم امهاتكم وبناتكم وأخواتكم.. إلى آخرالاية) ولو كان الامر كما يقولون كان قد أحلّ لكم مالم يحلّ له، إنّ أحدكم يستبدل كلّما أراد، ولكن ليس الامر كما يقولون، إنّ اللّه عزوجل أحلّ لنبيه صلى اللّه عليه وآله ما أراد من النساء إلا ماحرم عليه في هذه الاية التي في النساء).
2- وروى ايضا عن عدة من أصحابنا عن سهل بن زياد عن أبي نجران عن عاصم بن حميد عن أبي بصير قال: (سألت أبا عبداللّه عليه السلام عن قول اللّه عزوجل: (لايحل لك النساء من بعد ولا أن تبدل بهنّ من أزواج ولو أعجبك حسنهنّ إلا ما ملكت يمينك) فقال: أراكم وأنتم تزعمون أنه يحلّ لكم مالم يحلّ لرسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلّم، وقد أحلّ اللّه تعالى لرسوله صلى اللّه عليه وآله وسلم أن يتزوج من النساء ماشاء، إنّما قال: لايحلّ لك النساء من بعد الذي حرّم عليك قوله: (حرّمت عليكم أمّهاتكم وبناتكم.. إلى آخر الاية).
3- وروى ايضا عن الحسين بن محمد عن معلى بن محمد عن الحسن بن علي الوشّاء عن جميل بن دراج ومحمد بن حمران، عن أبي عبداللّه عليه السلام قالا: (سألنا أبا عبداللّه عليه السلام كم احلّ لرسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم من النساء؟ قال: ماشاء (يقول بيده هكذا) وهي له حلال (يعني يقبض يده).
4- وروى ايضا عن عدة من أصحابنا عن سهل بن زياد عن ابن أبي نجران عن عبدالكريم ابن عمرو عن أبي بكرالحضرمي، عن أبي جعفر عليه السلام في قول اللّه عزوجل لنبيه صلى اللّه عليه وآله وسلّم: (يا أيّها النبيّ إنّا أحللنا لك أزواجك..) كم أحلّ له من النساء؟ قال: ماشاء من شيء قلت: قوله عزوجل: (وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي..) فقال: لاتحلّ الهبة إلا لرسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم وأمّا لغير رسول اللّه فلا يصلح نكاح إلا بمهر، قلت: أرأيت قول اللّه عزوجل: (لا يحلّ لك النساء من بعد..) فقال: إنما عنى به لايحلّ لك النساء التي حرم اللّه في هذه الاية (حرّمت عليكم امّهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعمّاتكم وخالاتكم إلى آخرها) و لوكان الامر كما تقولون كان قد أحلّ لكم مالم يحلّ له، لأنّ أحدكم يستبدل كلما أراد، ولكن ليس الامر كما يقولون، إنّ اللّه عزوجل أحلّ لنبيّه صلى اللّه عليه وآله وسلم أن ينكح من النساء ما أراد، إلا ما حرّم عليه في هذه الاية في سورة النساء).
5- وروى ايضا عن أحمد بن محمد العاصمي عن علي بن الحسن بن فضال عن علي بن أسباط عن عمه يعقوب بن سالم عن أبي بصير، عن أبي عبداللّه عليه السلام قال: (قلت له: أرأيت قول اللّه عزوجل: (لايحلّ لك النساء من بعد..)؟ فقال: إنّما لم يحلّ له النساء التي حرّم اللّه عليه في هذه الاية (حرّمت عليكم امّهاتكم وبناتكم..) في هذه الآية كلها، ولو كان الامر كما يقولون لكان قد أحلّ لكم مالم يحلّ له هو، لأنّ أحدكم يستبدل كلما أراد، ولكن ليس الامركما يقولون. أحاديث آل محمّد صلى اللّه عليه وآله وسلم خلاف أحاديث الناس، إنّ اللّه عزوجلّ أحلّ لنبيه صلى اللّه عليه وآله وسلم أن ينكح من النساء ما أراد، إلا ماحرّم عليه في سورة النساء في هذه الاية).
والصحيح سندا من هذه الاحاديث هو الاول فقط، وهو أهمّها متنا ايضا، لاشتماله على نقاط مهمة في تفسير هذه الآيات الكريمة، ورفع الابهام عنها، فنكتفي بملاحظتها:
1- في الجواب عن السؤال الاول بيّن الامام عليه السلام أنّ المراد بالعنوان الاول في الآية الكريمة ليس هو خصوص الأزواج الّلاتي كنّ في عصمته صلى اللّه عليه وآله وسلّم حين نزول الآية، بل المراد جواز زواجه بأيّ عدد شاء من النساء.
2- وفي الجواب عن السؤال الثاني بيّن عليه السلام أنّ ذكر بنات العم والخال ليس الا من قبيل ذكر الخاصّ قبل العامّ، لأنه أحلّ له أيّ امرأة من عرض المؤمنين اذا وهبت نفسها له صلى اللّه عليه وآله وسلّم بشرط أن يرغب فيها، والهبة بمعنى أنّها لا تطلب منه مهرا.
وهذا من خصوصياته صلى اللّه عليه وآله وسلّم، فليس هناك تقييد في نوع النساء اللاتي يمكن للرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم الزواج بهنّ، ولكن اذا كانت من غير بنات العم والخال يشترط فيها ان تهب نفسها له، ولا تطالب مهرا.
3- وفي الجواب عن السؤال الثالث تعرّض الامام عليه السلام لمعنى الإرجاء والايواء، وأنّ المراد بالاول رفضه النكاح، وبالثاني قبوله، ولذلك قوّينا احتمال أن لا تكون هذه الجملة مرتبطة بالقسم بين النساء كما يبدو.
4- وأمّا في الجواب عن السؤال الرابع حيث عيّن الامام عليه السلام ما حرّمه اللّه تعالى على رسوله صلى اللّه عليه وآله وسلّم في المحارم الاصلية، فالظاهر أنّه عليه السلام يريد بذلك أنّه بعد أن تبيّن أنّ ما أحلّه اللّه تعالى عليه يشمل جميع المؤمنات، وان كانت هناك شروط عامة وخاصة، ولم يحدّد له صلى اللّه عليه وآله وسلّم عددا، فلا يبقى تحت العنوان المحرّم الا المحارم.
والحاصل أنّ الاحاديث الشريفة المذكورة تؤكّد وتركّز بكل حماس على أمرين:
أحدهما عدم حصر العدد في تسع فضلا عن انحصار الزواج في تلك الزوجات الّلاتي كنّ على ذمّته صلى اللّه عليه وآله وسلّم حين نزول الآية، كما هو المعروف.
والثاني أنّه ليس هناك عنوان محرم على الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم خاصّة ومحلّل على غيره، وإن كان هناك شرط في زواجه بغير بنات العم والخال، كما أنّ الزواج بهنّ ايضا يشترط فيه الهجرة، ولعله بذلك تخرج منهنّ من بقيت في مكة الى زمان الفتح.
فمعنى الآية الكريمة على ضوء الاحاديث الشريفة أنّه لا يحلّ لك النساء بعد ما أحللنا لك في الآية السابقة، الا ضمن الشروط المذكورة هناك، من دون تحديد بعدد ولا بعناوين خاصة، كما لا يحلّ لك أن تطلّق ما تزوّجت من هذه الأصناف بشروطها، لتتزوّج بغيرها، من دون منع عن أصل الطلاق، ولا عن أصل الزواج بالغير ضمن الشروط.
وقوله تعالى (ولو أعجبك حسنهنّ) يؤكّد هذا المنع. و(لو) هنا شرطية وجزاؤه محذوف، اي لو أعجبك حسنهنّ لا يجوز ايضا، ويفيد التأكيد على المضمون السابق.
وربّما يستشكل على هذه الأحاديث بوجوه:
الوجه الاول: أنّ تحريم هذه النساء معلوم مسبقا، فلا موجب لتكراره.
والجواب: أوّلا أن التكرار ليس بعزيز في القرآن الكريم.
وثانيا أنّه حسب التوجيه الذي أشرنا اليه ليس المراد تفسير كلمة النساء الواردة في الآية بذلك، بل المراد أنّه لا يبقى تحت العنوان المحرم غير المذكورات. ولعلّ هناك قصد في الابهام وايهام التحريم، كما أشرنا اليه ليكون وازعا من كثرة التوقّعات المحرجة للنبي الحبيب صلى اللّه عليه وآله وسلّم.
الوجه الثاني: أنّ هذا التفسير ينافي قوله تعالى (ولا أن تبدّل بهنّ من أزواج) لأنّ التبديل انّما يتصور في الزوجات بالفعل، بأن يطلّق احداهنّ ويستبدلها بغيرها. وأمّا النساء اللاتي يجوز له الزواج بهنّ فلا معنى للتبديل في حقهنّ.
والجواب أنّ هذا الاشكال يرد ايضا في تفسير الآية بأنّ المراد النساء المحلّلات في قوله تعالى (إنّا أحللنا لك..). وهو المنقول عن كثير من السابقين، بل مرجع القولين واحد، وانّما الاختلاف في تفسير الموارد المحلّلة في تلك الآية. وتبيّن أنّ ما ورد في الحديث الشريف هو الصحيح الموافق للتأمّل في الآية الكريمة.
والحلّ أنّ المراد بالتبديل تطليق من تزوّج بها من المذكورات في آية التحليل بقصد الزواج بغيرها فلا يختصّ الحكم بالزوجات بالفعل.
وأما ما قيل في التوجيه من أنّ التبديل كناية عن أصل التطليق، لأنّ المتعارف أنّ الرجل يطلّق ليتزوج بغيرها فلا وجه له، ولا موجب لتكلّف هذه الكناية، مع أنّ ما ذكر من التعارف ممنوع، خصوصا في من تعددت زوجاته، مضافا الى أنّ تحريم الطلاق على الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم بوجه مطلق موجب لأشدّ الحرج، وهو بعيد جدا.
الوجه الثالث: أنّ استثناء ملك اليمين ينافي ذلك، اذ لا يستقيم الاستثناء الا اذا قلنا بعدم جواز الزواج بغير التسع مطلقا، ولا تبديل بعضهن بغيرهنّ الا ملك اليمين فلا محدودية فيه. وأما اذا قلنا بأنه لا محدودية في زواجه صلى اللّه عليه وآله وسلّم الا في المحرمات الاصلية العامة فمعنى الاستثناء أنه يجوز له النكاح مع المحارم ــ والعياذ باللّه ــ بملك اليمين. وهو باطل قطعا.
وهذا الاشكال لا يرد على من فسّر الآية بغير من أحلّ اللّه في الآية السابقة، لأنّه يبقى على هذا التفسير موارد يمنع من النكاح فيها الا بملك اليمين.
ولعلّ هذا الاشكال أقوى ما يمكن أن يورد على الأحاديث، ولكنّك اذا لاحظت تفسيرنا للاحاديث المذكورة تبيّن لك ضعفه ايضا، فإنّ مفادها ليس الا منع التحديد بالعدد فضلا عن خصوص التسعة المذكورة، ومنع تحريم عناوين خاصة عليه صلى اللّه عليه وآله وسلّم، وإن كانت هناك محدودية من حيث الشروط، وهذه المحدودية لا تشمل ملك اليمين. بل الواقع أن استثناء ملك اليمين استثناء منقطع، لانه ليس من الزواج، فلا يفيد الا التأكيد على التقيّد بالشروط المذكورة في الزوجات.
وكان اللّه على كل شيء رقيبا... لعل التعقيب بالرقابة الإلهية لإفادة أمرين:
أحدهما: التأكيد على الأحكام المذكورة ولزوم العمل بها وتقوى اللّه فيها.
والثاني: التنبيه على أنّ الأحكام إنما تنشأ بملاحظة جميع الجهات الدخيلة في المصالح والمفاسد، فإنّ اللّه تعالى يراقب كل الأمور الدخيلة في الحكم.