يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي الا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه ولكن اذا دعيتم فادخلوا فاذا طعمتم فانتشروا... الآية تنبّه المجتمع الاسلامي آنذاك ببعض الآداب الاجتماعية التي كانت غريبة على المجتمع العربي البدوي، فإنّهم ما كانوا يستأذنون على من يدخلون بيته، ولا يهتمّون بشؤون صاحب البيت، حيث إنّه ربما كان يثقل عليه بقاؤهم في داره بلا داع يدعو اليه، كما أنّهم كانوا لا يتورّعون من الإختلاط بنساء صاحب البيت، وكانوا يتعاملون بنفس الطريقة مع الرسول الاكرم صلى اللّه عليه وآله وسلم، وكان يستحيي من مصارحتهم بتأذيه من ذلك، وإنّما كان يكتفي بتعليمهم الآداب عمليّا فيستأذن للدخول على أيّ أحد حتى على ابنته، ومع ذلك فإنهم لم يتأدّبوا، وربما كانوا يحسبون أنّ بيت الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم يعد بيت جميع المسلمين، فلا مانع من الدخول بدون استئذان، ولا من الجلوس هناك قبل نضج الطعام بانتظار بلوغه النضج، ولا من الجلوس بعده للحديث..
وكان ذلك يؤذي النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم فيستحيي من مصارحتهم، فأنزل اللّه المنع عن ذلك، والآداب المذكورة في هذه الآية الكريمة عامّة ظاهرا، وإن كان موردها الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم.
كما أنزل آية الاستئذان للعموم أيضا فقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ ...) النور: 27 و 28.
وقوله: (الى طعام) متعلق بقوله يؤذن، والاذن يتعدى بـ (في) وانما تعدى هنا بـ (الى) بتضمين معنى الدعوة، اي لا تدخلوا بيوت النبي صلى اللّه عليه وآله وسلّم حتى تدعون الى الطعام، ويؤذن لكم في الدخول ايضا. وقوله غير ناظرين حال من (لا تدخلوا) اي لا تدخلوا الا حين يؤذن لكم، وحالكونكم غير ناظرين بمعنى منتظرين و(إنى) بمعنى النضج والبلوغ. فالآية الكريمة تمنع جلوسهم قبل وقت الطعام بانتظار نضجه.
ثم أكّده بقوله ولكن اذا دعيتم فادخلوا فاذا طعمتم فانتشروا. ومعنى (طعمتم) اي تناولتم الطعام، والمراد بالانتشار الخروج من البيت، وانما عبّر به تأدبا لأن الأمر بالخروج لا يناسب الكرماء، وحيث ان الخروج مقدمة للانتشار بمعنى ذهاب كل أحد الى سبيله، كنّى به عن الخروج.
ولا مستأنسين لحديث... عطف على ناظرين، اي لا تدخلوا مستأنسين لحديث. ويمكن ان يكون العامل فيه فعل مقدر، اي ولا تمكثوا مستأنسين لحديث، لأن بعضهم على ما ورد في بعض الروايات كان يجلس في البيت بعد تناول الطعام. ومثل ذلك هو ما يطلق عليه الثقل، و يطلق على من تعوده الثقيل. وقد كتب الادباء قديما مقالات وكتبا عن الثقلاء. وحكي عن بعضهم أنه قال حسبك في الثقلاء أن الوحي ايضا لم يتحملهم.
إنّ ذلكم كان يؤذي النبي فيستحيي منكم واللّه لا يستحيي من الحق... الأذى هو الضرر، فمعنى الآية أنّ عملهم ذلك كان يضرّ به صلى اللّه عليه وآله وسلّم إمّا في علاقاته الاجتماعية، او علاقاته الخاصة في البيت، او في شؤون نبوّته، ولكنه صلى اللّه عليه وآله وسلّم لدماثة أخلاقه ولين جانبه كان يستحيي من اظهار التذمّر منهم فضلا عن الامر بالخروج.
ومعنى ذلك أنّ ما كانوا يرتكبونه كان محرّما شرعا وفي غاية القبح والحرمة، لأنّ فيه إيذاءا للرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم، مع أنّ ايذاء كل مسلم حرام، ولكنّه صلى اللّه عليه وآله وسلّم كان يعفو عنهم، وكان ذلك من حقه فلا تترتّب عليه معصية، ولا يجب عليه صلى اللّه عليه وآله وسلّم النهي عنه.
ومن هنا يتبين أنه ليس في قوله تعالى (واللّه لا يستحيي من الحق) تعريض بالرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم، وأنّه لا ينبغي ان يستحيي من الحق ــ كما توهم ــ فإنه صلى اللّه عليه وآله وسلم انما كان يستحيي فيما يعود اليه، ويحقّ له العفو عنه، ولا يمتنع من القول في غير ذلك، كما هو معروف عنه.
والاستحياء انقباض في النفس من العمل بما لا يليق بالانسان، ويقابله الوقاحة وعدم الاكتراث بما يهدر كرامة الانسان أمام غيره. وهذا المعنى مستحيل على اللّه تعالى، فاسناد ذلك اليه من باب المشاكلة، او بنحو من التوسع. ومعناه أنه تعالى لا يتأبّى من بيان الحق وان صعب على الناس سماعه. ومن الواضح أنه تعالى لا يتأثر بشيء، ولا يمنع من ارادته شيء، ولا يخاف شيئا.
فقوله تعالى (لا يستحيي من الحق) يقصد به التأكيد على أنّ هذا الامر حقّ تجب متابعته، وليس معناه أنه تعالى يستحيي من قول الباطل، بل يستحيل عليه أن يقول الا الحق كما قال تعالى: (وَاللّه يَقُولُ الْحَقَّ..) الاحزاب: 4، لأنّ الباطل لا يقوله الا الضعيف او الجاهل.
واذا سألتموهنّ متاعا فاسألوهنّ من وراء حجاب... منع الناس من استعارة متاع من بيوت النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم إلا من وراء حجاب أي ستار. والضمير يعود الى زوجات النبي صلى اللّه عليه وآله وسلّم، وان لم يسبق ذكرهنّ، لدلالة كلمة البيوت فانها تكنى بها عن النساء ربات البيوت. والمتاع كل ما ينتفع به انتفاعا طويل الامد، فلا يطلق على ما لا يفيد الا في مدة قصيرة، فمن ذلك ما ينتفع به في البيت من الاواني والفرش ونحوها.
ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهنّ... المراد بالطهارة عفة النفس. والقلوب تتمايل نحو الشهوات بطبيعتها، فلا بدّ من إبعاد كل ما يهيّج الشهوة في غير الحلال، اذا اقتضى الامر تحرّي ما هو الاطهر للنفوس. ويتبيّن من الآية ــ على الاقل ــ رجحان ترك الإختلاط حتى مع الحجاب، فإنّ المراد بالحجاب هنا هو الستار، لا الملابس المحتشمة لمكان قوله: (من وراء).
وانما قلنا بالرجحان لاحتمال اختصاص الحكم بزوجات الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم تحفّظا على كرامتهنّ، ومكانتهنّ في بيت النبوة، ولقوله تعالى (ذلك أطهر)، الظاهر في انه أبعد من احتمال النظر المحرّم والريبة، ولا شك في عدم وجوب تحرّي ما هو أبعد في ذلك، وإنما يجب اجتناب ما ينافي أصل الطهارة من الدنس.
وما كان لكم أن تؤذوا رسول اللّه ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا... قلنا إنّ الأذى هو الاضرار بالشخص في نفسه او عرضه او من يتعلق به. ولا شكّ أنّ ايذاء الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم من أقبح المعاصي وأكبرها، قال تعالى: (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللّه لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) التوبة: 61.
ولذلك لم يمنعه بصورة النهي، بل بالنفي (وما كان لكم)، ليدلّ على أن هذا الامر ينافي الايمان بالرسالة، ومن هنا عبّر عنه صلى اللّه عليه وآله وسلّم بالرسول، بخلاف الموارد السابقة حيث عبّر عنه بالنبي.
وهناك فرق بين العنوانين، فالرسول أخص مصداقا ومفهوما، فكل رسول نبي، وليس كل نبيّ رسولا، والنبي مأخوذ من النبأ، وأصله النبيء أي من يخبره اللّه تعالى عن الغيب، والرسول من أرسله الله تعالى ليكون رابطا بينه وبين الناس. فلعل التعبير عنه صلى اللّه عليه وآله وسلّم في هذه الجملة بالرسول، للاشارة الى وجه الاستقباح في إيذائه فإنّ كونه صلى اللّه عليه وآله وسلّم وسيطا بينهم وبين ربّهم جهة خاصّة بهم يستوجب إكرامه وإعظامه.
ولكن الظاهر أن المراد بالايذاء هنا إيذاء خاص، وهوما ذكر بعد ذلك من التهديد بالزواج بنسائه بعده. وفي ذلك هتك لكرامة الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم، ومحاولة للوصول الى أسراره العائلية. وقد مرّ في صدر السورة المباركة أنّ اللّه سبحانه إنما عدّ زوجات الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم أمّهات المؤمنين تشنيعا بالزواج بهنّ.
وقد روى السيوطي في الدر المنثور عدة روايات في من أظهر ذلك من دون ذكر الاسم، ثم روى عدة روايات فيها ذكر طلحة بن عبيد اللّه فقال:
أخرج ابن أبي حاتم عن السدي رضي اللّه عنه قال بلغنا أنّ طلحة بن عبيد اللّه قال: أيحجبنا محمد عن بنات عمنا ويتزوج نساءنا من بعدنا؟! لئن حدث به حدث لنتزوجن نساءه من بعده، فنزلت هذه الآية...
قال: وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر عن قتادة رضي اللّه عنه قال: قال طلحة بن عبيد اللّه: لو قبض النبي صلى اللّه عليه وسلم تزوجت عائشة رضي اللّه عنها، فنزلت (وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللّه..) الآية...
وقال أخرج ابن سعد عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم في قوله (وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللّه) قال: نزلت في طلحة بن عبيد اللّه، لأنه قال: إذا توفي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم تزوجت عائشة رضي اللّه عنها.
وكأنّ بعض المفسرين لم ير هذه الروايات فقال في تفسيره: إنّ بعض المنافقين قال ذلك!!!.
وقيل: ان طلحة بن عبيد اللّه مشترك بين قائل هذا القول وهو ايضا من الصحابة، وبين طلحة بن عبيد اللّه المعروف.
وهو بعيد جدا، ومحاولة لدفع الشبهة عن أحد المبشّرين بالجنة، كما ادّعاه القوم ورووا فيه الحديث. ووجه البعد أنّ هذا الاسم يتبادر منه الرجل المعروف به فلو اريد غيره وجب التصريح به، خصوصا في ما اذا اريد اسناد أمر اليه يستوجب حطّا من كرامته. هذا مع أن طلحة الثاني لم يرد له ذكر في اي موضع آخر، وانما اختلقت شخصيته لدفع هذه الشبهة.
إنّ ذلكم كان عند اللّه عظيما... إشارة الى نفس العمل اي التزوّج بهنّ, لا القول الذي قاله بعضهم، وإن كان الإيذاء حصل بنفس القول، فالإثم العظيم هو نفس الزواج بهنّ حتى لو لم يوجب إيذاءا للرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم.
ولعل السبب فيه ــ مضافا الى ما مر ــ هو خطورة أن يتستّر بعض الناس بذلك، ويبرزوا أمّهات المؤمنين، ويستخدموهنّ في الوصول الى مآرب غير مشروعة. وقد تمكنّوا من ذلك فعلا من دون زواج، فكيف لو كان أحدهم يتزوج بعضهنّ! ويمكن أن يعتبر الزواج إيذاءا للرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم حتى بعد وفاته، لأنّه يعلم بما يجري على امته فكيف بما يحدث في بيته.
إن تبدوا شيئا او تخفوه فإنّ اللّه كان بكل شيء عليما... تهديد شديد لمن كان يخفي هذه النوايا السيّئة في نفسه، ولمن كان يظهر ذلك ويتبجّح به. ولعلّ بعضهم كان يخطّط لها أيضا، أو أنّ بعضهم أظهر ما في قلبه وبعضهم أخفاه. ولكن لم نجد نسبة هذا القول صريحا الى غير طلحة. ومن الغريب التعبير المحكي عنه حيث عبّر عن الرسول الاكرم صلى اللّه عليه وآله وسلّم بالاسم.
وكان التعبير المتوقع في الآية أن يقول (فان اللّه كان به عليما) ليعود الى الشيء المذكور في الشرط، ولعل وجه العدول عنه التنبيه على أنه تعالى لا يختلف لديه الظاهر والباطن، فليس أعلم بالظاهر من الباطن، بل نسبة كل الأشياء اليه تعالى نسبة واحدة.
لا جناح عليهنّ في آبائهنّ و لا أبنائهنّ و لا إخوانهنّ ولا أبناء اخوانهنّ ولا أبناء أخواتهنّ ولا نسائهنّ ولا ما ملكت أيمانهنّ... استثناء عن وجوب تستّر نساء النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم مضافا إلى الحجاب. وهذا التستّر لم يذكر في الآية السابقة صريحا، وإنّما اُمر به الرجال، ولكنّه يفهم بالملازمة من أمرهم بذلك.
ولم يذكر من المحارم العم والخال، فقال بعضهم: إن الآباء يشملهم، وهو غير صحيح. ولا شك في أنّه لا يشمل الأخوال على الأقل.
وقيل: إن حكمهما يعلم من حكم أبناء الإخوان والأخوات لوحدة المناط. وفيه أنّ المناط غير واضح.
وقيل: لم يذكرهما لأنّهما ربما يصفانهنّ لأبنائهما... ومعنى هذا القول التسليم لعدم الجواز، ومهما كان فالتعليل عليل.
ولكن أصل عدم الجواز لا يبعد صحّته في خصوص المقام أي أزواج النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم، فلا مانع من إختصاص هذا الحكم بهنّ وإن كان العم والخال محرمين في سائر الموارد.
ولعل المراد بـ (نسائهنّ) النساء المؤمنات فيحرم عليهن البروز أمام الكافرات، ولعل التعليل المذكور في العم والخال يصحّ هنا. ويمكن أن يكون المراد كل النساء، والاضافة اليهنّ ليس للتقييد، بل لأن من يأتيهنّ من النساء لهنّ علاقة خاصة بهنّ.
وأما ملك اليمين فهو شامل للجنسين ولا مانع منه، وليس معناه أنّ العبيد محارم للمرأة المالكة، فإنّ الكلام هنا ليس في الحجاب، بل في البقاء خلف الستر وعدم البروز حتّى مع الحجاب.
واتقين اللّه ان اللّه كان على كل شيء شهيدا... التفات من الحديث عن الغائب الى مخاطبتهنّ بالتقوى إهتماما بالأمر. والمراد التقوى في تطبيق التستر المطلوب بدقّة، لحفظ كرامة الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم. وفي التعليل بأنه تعالى شهيد على كلّ شيء تهديد لهنّ، لأنّ مخالفة مثل هذا الأمر ربما تحدث في خفاء شديد، فلا يخاف في ذلك الخفاء الا اللّه تعالى، فانّه ليس لديه غيب وشهود بل كل شيء حاضر لديه.