مكتب سماحة السيد مرتضى المهري

النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم... (أولى) أي أحرى، وأصله من الولاية بمعنى القرب. والجمع في قوله (بالمؤمنين) منحلّ الى كل فرد، فمعنى الجملة أنه صلى اللّه عليه وآله وسلّم أولى من كل أحد من المؤمنين بنفسه.

وقيل: يحتمل كون المراد أنه صلى اللّه عليه وآله وسلّم أولى بكل أحد من غيره من المؤمنين الآخرين، باعتبار أن المراد بأنفسهم غير المولّى عليه من سائر المؤمنين، كقوله تعالى خطابا لبني اسرائيل: (ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ) البقرة: 85. اي تقتلون الآخرين من أبناء المجتمع، اذ ليس المراد ان يقتل أحد نفسه.

وهذا الاحتمال باطل لأنّه لا يوجد هنا احتمال ثبوت الولاية للآخرين بتاتا ليكون النبي صلى اللّه عليه وآله وسلّم أحرى بها من غيره.

وحيث إنّ الانسان أقرب الى نفسه من كل شيء فاعتبار انسان أولى به وأقرب اليه من نفسه بمعنى وجوب إطاعته في كل شيء، حتى اذا استلزم التضحية بالنفس، كما قال تعالى: (مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللّه وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ..) التوبة: 120.  

ثم إنّ هذه الآية أيضا تعالج موضوعا إجتماعيا، ولكنه لم يكن من السنن القديمة، بل هو أمر شرّعه الإسلام ابتداءا وهو الإخاء بين المؤمنين. فإنّ النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم آخى بين المهاجرين والأنصار في المدينة، حيث كان المهاجرون قد تركوا بيوتهم وأموالهم وأهليهم في مكة، ووردوا المدينة ضيوفا فقراء، وأهل المدينة كانوا في ــ ذلك العهد ــ في يسر ورخاء نسبيين. والرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم آخى بين كل رجل من المهاجرين والذي يناسبه من الأنصار حتى يأوي إليه، فتحققت بينهم أواصر وعلاقات وثيقة جدا، بحيث كان كل من الأخوين يرث من الآخر، لأنه كان يعتبره أخا له، بل أقرب من الأخ الشقيق، لأنه أخ في الدين، والدين أهم للمؤمن من أواصر النسب. بل إنهم شاطروهم الأموال والأراضي وغير ذلك قبل الإخاء أيضا.

ولكن بعد تبدّل الحالة الاجتماعية والاقتصادية، وكسب المغانم، وتقوّي شوكة الاسلام والمسلمين، صدر الحكم من اللّه تعالى بأنّ هذه الأخوّة لا توجب التوارث، وهذه الآية نزلت لابلاغ هذا الحكم.

وبالمناسبة فان الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم ــ على ما يقال ــ آخى بين أصحابه ولم يجعل لأمير المؤمنين عليه السلام أخا، وإنما قال له: (انت أخي في الدنيا والآخرة).

روى الترمذي في صحيحه (عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ آخَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَصْحَابِهِ فَجَاءَ عَلِيٌّ تَدْمَعُ عَيْنَاهُ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ آخَيْتَ بَيْنَ أَصْحَابِكَ وَلَمْ تُؤَاخِ بَيْنِي وَبَيْنَ أَحَدٍ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْتَ أَخِي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ) [1]

وذلك اشارة إلى أنه ليس بين الناس من يكون عدلا له عليه السلام إلا شخص الرسول الأكرم صلى اللّه عليه وآله وسلم. ولو لم يكن له عليه السلام الا هذه الميزة لكفته، ولكن أكثرهم لا يعقلون.      

وعلى كل حال فالآية تنحو نحو منع التوارث على أساس الأخوّة الدينية، وإن كانت أواصر هذه الأخوّة أقوى بكثير ــ خصوصا في ذلك العهد ــ من أواصر القرابة النسبية. ومقدمة لبيان هذا الحكم ذكر أمرين:

الأول: ان النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أولى بالمؤمنين من أنفسهم. ولعل السرّ في تقديم ذلك، التنويه على أن منع التوارث ليس بمعنى نفي الاُخوّة، فإن هذه الاُخوّة تستند إلى وجود أب مشترك وهو الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم، كما ورد في الحديث: (أنا وعليّ أبوا هذه الأمة) [2] ولكنه أب معنوي وروحي، وليس أبا بالمعنى المتعارف كما سياتي في نفس السورة (وما محمد ابا احد من رجالكم).

وحكي عن بعض الصحابة أنه قال: كان في الحرف الاوّل (النبيّ أولى بالمؤمنين من أنفسهم وهو أب لهم وأزواجه أمّهاتهم) ولعله من التفسير وبيان المراد، وأنّ الغرض أنّ الأخوة باقية، والرسول بمنزلة الأب، وأزواجه بمنزلة الأمّهات. ومع ذلك فهذه الأخوّة لا توجب التوارث، فهذه الجملة للتأكيد على بقاء الأخوّة الدينيّة.

وأما التعبير بالأبوة وإسناده إلى الحرف الأول فغير صحيح، وهذا من روايات التحريف الساقطة. وأولويّة الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم من كل أحد من المؤمنين بنفسه ليس كولاية الأب، فإنّ الأب وإن كان أولى من الولد بنفسه، إلا أنّه وليّ ما دام الولد صغيرا وتنقطع ولايته ببلوغ الولد وأما ولاية الرسول فمطلقة دائمة.

ومن جهة أخرى لا يصحّ تصرّف الصغير إلا بإذن الوليّ، وأما ولاية الرسول فلا تمنع من تصرف المؤمنين في أنفسهم وأموالهم، ولا يتوقف على اذنه، ولكن إذا أمرهم بشيء أو نهاهم عنه، وجبت إطاعته، سواء كان متعلقا بنفسه أو بماله أو بما يتعلق به، وسواء كان أمرا إجتماعيا أو شخصيا كما قال تعالى: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللّه وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ) الاحزاب: 36، فلا يجوز لأحد مخالفة أمر الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم مطلقا حتى لو أمره بقتل نفسه.

بل الأمر أعظم من ذلك، فلا يكون الإنسان مؤمنا إلا إذا لم يشعر بأي نفور واشمئزاز من حكمه صلى اللّه عليه وآله وسلّم، وإن كان مخالفا لمصالحه ومضرّا به. قال تعالى: (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) النساء: 65، فلا يكفي أن يطيع كرها، بل عليه أن يطيع راضيا، وهذا هو مناط الإيمان.  

وهذه الولاية ثابتة بعد الرسول لأمير المؤمنين عليه السلام لقوله صلى اللّه عليه وآله وسلم يوم الغدير: (ألست أولى بكم من أنفسكم) فلما أجابوا: بلى يا رسول اللّه قال: (فمن كنت مولاه فهذا علي مولاه) [3] والفاء في هذه الجملة بعد الجملة السابقة للتنبيه على أن هذه الولاية، هي نفس ولايته صلى اللّه عليه وآله وسلم.

ومثله غيره من الأحاديث التي صرح فيها بولايته عليه السلام. وهي أيضا ثابتة للأئمة المعصومين عليهم السلام بمقتضى روايات كثيرة.

وأزواجه امهاتهم... الثاني: أنّ أزواجه أمّهات المؤمنين. ولا شكّ أنّ الأمومة هنا ليست بمعناها الحقيقي، بل المراد ترتيب بعض الآثار والأحكام الشرعية، وليس كل أحكام الأمومة أيضا، إذ لا شكّ في أنّه لا يجوز لمؤمن أن ينظر إليهن، كما أنّه يجوز التزوّج ببناتهنّ، ولا يرثهنّ المؤمنون، ولا يرثن منهم، وغير ذلك من أحكام الأم. وإنّما المراد ــ على الظاهر ــ ترتيب أثرين: أحدهما اكرامهن واحترامهن، كما يكرم الإنسان أمّه، والآخر حرمة الزواج بهنّ بعد الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم.

وللتأكيد على هذه الحرمة، والتشنيع على هذا المنكر، اعتبرهنّ اللّه تعالى أمهات المؤمنين، فالزواج بهنّ كالزواج بالأمهات. وهذا يوجب نفور الطبع من هذا الزواج، فضلا عن الحرمة التشريعية التي صرّح بها في هذه السورة: (ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا). والسبب في ذلك هو ما يروى من بعض الصحابة أنه قال ما معناه، انه سيتزوّج بعض نساء النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم بعد وفاته.

وقد روي عن عائشة أنها قالت: أنا أمّ رجالكم. ومعنى ذلك أنّ هذه الأمومة لا يترتّب عليها إلّا حرمة الزواج فهي خاصّة بالرجال.

ولكن روي عن أم سلمة قولها: أنا أم رجالكم ونسائكم. ولعلها ــ على افتراض صحة النسبة ــ أرادت بذلك التنبيه على أنّ الأمومة هنا تستلزم الإكرام والإحترام وهذا لا يختص بالرجال. واحترام الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم يستلزم ــ بالطبع ــ إحترام كل ما يتعلق به، كالأرض والبلد والدار والأولاد والزوجات ونحو ذلك، فالإحترام ليس لخصوصيّة في هذه الأمور، بل لذلك الشخص الكريم.   

وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب اللّه من المؤمنين والمهاجرين... اولو الارحام هم الاقرباء المشتركون في رحم، كرحم الام، او الجدّة من قبل الامّ او الاب.

ويمكن ان يكون الرحم في الاصل بمعنى القرابة، واطلاقه على رحم المرأة من هذا الباب، فالمعنى وأصحاب القرابات أولى بالميراث. وانّما أتى بالارحام جمعا باعتبار اختلاف أنواع القرابة الموجبة للارث.

وهذه الجملة تتكفل بيان حكم التوارث، وأنّه مختص بأولي الأرحام ولا يشمل الإخوة في الدين، ولا تتعرض الجملة للأولويات الموجودة بين ذوي الأرحام، حيث إنّ بعضهم ايضا أولى من بعض آخر. وذلك لأنّه لم يقل بعضهم أولى من بعض، وإنما تعرّضت لأولوية ذوي الأرحام إجمالا من سائر المؤمنين. فقوله تعالى: (بعضهم أولى ببعض) أي الورثة أولى بالمورثين من سائر المؤمنين.

والمراد بكتاب اللّه، الشريعة الإلهية. والكتاب هو المكتوب. وكَتَبَ بمعنى جَمَعَ، فيطلق الكتاب على كل مجموعة يجمعها إعتبار واحد، سواء جمعت في مؤلف بالمعنى المتعارف أم لم تُجمع. والمراد بالمؤمنين، الأنصار بقرينة المقابلة للمهاجرين. ولعل وجه التعبير أنّهم غالبا آمنوا قبل المهاجرين.

وقد وردت هذه الجملة في سورة الانفال: 75 ايضا قال تعالى (وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ..) وفسّرت في روايات العامّة والخاصّة بالاولوية في الارث.

إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفا... المعروف ما يعرف حسنه عامة الناس او خصوص المتشرعة، كما أن المنكر ما ينكره عامة الناس أو خصوص المتشرعة. ولذلك يمكن منع شمول الامر بالمعروف والنهي عن المنكر لكل واجب وحرام. وللبحث عنه مجال آخر.

والمراد به هنا الاحسان الى الولي اي الاخ المؤمن بالوصية. فهذا استثناء من نفي التوارث على أساس الأخوة الإسلامية.. والمراد بالولي هنا الأخ في الدين، فلا مانع من أن يوصي أحد لأخيه المؤمن شيئا من المال. والآية مطلقة إلا أن الروايات تقيّدها بأن لا تتجاوز الوصية، ثلث التركة، فان تجاوزه يتوقف نفوذها على إجازة الورثة.

كان ذلك في الكتاب مسطورا... الظاهر أن (ذلك) اشارة الى حكم منع التوارث بالاخوة في الدين. وهذا تأكيد على الحكم بعد أن بيّن ضمن الجملة السابقة أن هذا الحكم في كتاب اللّه، فهذا تأكيد بعد تأكيد لترسيخ الحكم في المجتمع، وتوطين النفوس بأنه من كتاب اللّه وشريعته المسجلة التي لا تقبل التغيير..

ولعل السر في هذه التأكيدات، هو إقناع المجتمع بتقبّله حيث ان الحكم بالتوارث كان راسخا في القلوب، بعد جعل الأخوّة بينهم من قبل الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم.

 


[1]  صحيح الترمذي ج5 ص301

[2]  رواه الصدوق في عدة من كتبه بطرق مختلفة منها كمال الدين وتمام النعمة ص261 ورواه غيره ايضا

[3]  الحديث متواتر نذكر احد طرقه من كتب العامة. روى الحاكم في المستدرك عن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى انتهينا إلى غدير خم فأمر بدوح ، فكسح في يوم ما أتى علينا يوم كان أشد حرا منه فحمد الله وأثنى عليه وقال: « يا أيها الناس، إنه لم يبعث نبي قط إلا ما عاش نصف ما عاش الذي كان قبله، وإني أوشك أن أدعى فأجيب، وإني تارك فيكم ما لن تضلوا بعده كتاب الله عز وجل» ثم قام فأخذ بيد علي رضي الله عنه فقال: «يا أيها الناس، من أولى بكم من أنفسكم؟» قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: «ألست أولى بكم من أنفسكم؟» قالوا : بلى، قال: «من كنت مولاه فعلي مولاه» قال الحاكم: «هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه» اي البخاري ومسلم المستدرك ج3 ص110