لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينّك بهم ثم لا يجاورونك فيها الا قليلا * ملعونين أينما ثقفوا اخذوا وقُتّلوا تقتيلا... هذه الآيات تشرّع قانونا اجتماعيا صارما لاستتباب الأمن في المدينة، ويعلنه في صورة تهديد بليغ لمنع المفسدين من الاستمرار في الفساد. وكانوا ثلاثة رهط:
المنافقون، والظاهر أنهم رأس الفساد فكانوا ــ مضافا الى ما يرتكبونه من جرائم ــ يحرّضون ذوي القلوب المريضة، وهم الرهط الثاني، لمزاولة أنحاء الفساد الخلقي والإجتماعي من التحرّش بالنساء او السرقة وغير ذلك مما يهدّد أمن المجتمع، بعد ما استقرّ الوضع، وقويت شوكة المسلمين، وأجلوا اليهود، وأرغموا اُنوف المشركين، وتبعهم في ذلك اُناس يتداولون الأكاذيب ويشيعونها في البلد، لزعزعة أمنه وإرعاب أهله، وهم الرهط الثالث، أي المرجفون، حيث إنّ أكاذيبهم كانت تزلزل استقرار المجتمع فعبّر عنه بالإرجاف، والرجف: الاضطراب الشديد.
والقانون يقضي بإبعادهم عن البلد، ان استمروا على مؤامراتهم، والحكم عليهم بالقتل الذريع أينما اُلقي القبض عليهم. والإغراء هو التحريض، ولم يذكر متعلق الاغراء، وهو الابعاد. ويعلم ذلك من قوله تعالى: (ثم لا يجاورونك فيها) والمراد بقوله تعالى (إلا قليلا) اي بمقدار ما يستعدون للخروج.
ويمكن أن يكون الحكم في الواقع هو القتل لا الإبعاد، وعليه فالمراد بخروجهم من المدينة لجوءهم الى الفرار. ولعل المراد بقوله تعالى (ملعونين) أي مطرودين من كل مكان لا يستقرّ لهم قرار، كما سلبوا البلد استقراره وأمنه. وقوله تعالى: (قُتّلوا تقتيلا) مبالغة في القتل، للتأكيد على قطع جذور الفتنة وعدم الإبقاء عليهم.
والظاهر أنّ التهديد كان كافيا واستتبّ الأمن في المدينة المنوّرة، اذ لم ينقل في كتب السيرة والتاريخ العمل بذلك في حق أحد.
سنة اللّه في الذين خلوا من قبل... مرّ بعض الكلام حول هذه الجملة في تفسير الآية (38) والمراد بها هنا التأكيد بأنّ هذا الحكم ليس غريبا في التشريع الإلهي، لئلا يُتّهم الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم بأنّ حكمه بذلك ناشئ من غرور النصر ونشوة الظفر بالأعداء، بل هو سنّة قديمة الهية.
والمراد بالذين خلوا ومضوا يمكن أن يكون الامم السالفة، ويمكن أن يكون المشركين واليهود في تعامل الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم معهم. والاول أقرب الى ظاهر اللفظ.
ولن تجد لسنة اللّه تبديلا... بهذه الجملة قطع اللّه تعالى آمال المفسدين، وبيّن لهم أنّ هذا ليس قانونا وضعيّا وضعه البشر، وتناله يد التغيير والتبديل، بل هو سنّة الهية واللّه تعالى لا يبدّل سننه، وإنما يبدّل الانسان سننه وقوانينه، لما يبدو له من خلل فيها لم يعلمه حين التشريع، واللّه تعالى عليم بكل شيء لا يخفى عليه أمر، فلا يبدّل سننه وقوانينه التشريعية والتكوينية.
وإنما يحصل بعض التغيير في التشريعات لتبدّل الاوضاع الاجتماعية، وتطوّر الحياة البشرية، وتكامل الانسان في عقله وجسمه. وليس ذلك ناشئا عن تغيير جذري في أصول القوانين الشرعية. ولذلك قال تعالى: (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ...) الشورى: 13.<