يسألك الناس عن الساعة... الساعة جزء من أجزاء الزمان اي اللحظة.. ويختلف المراد بها في القرآن الكريم حسب اختلاف موارد استعمالها، فربّما يراد بها لحظة الموت، أو لحظة انعدام هذا النظام الكوني، او لحظة قيام الناس وبعثهم. وفي الغالب يراد بها أحد الأخيرين.. ومن الطبيعي أن يسأل الناس عن موعدهما وخصوصا الثانية، ولذلك أتى بالفعل المضارع الدالّ على الاستمرار. والسؤال ربما كان للتشكيك والاستبعاد، او للإستهزاء والتعجيز، او للمعرفة، إذ لا يختص السؤال بالكفار.
قل إنّما علمها عند اللّه وما يُدريك لعل الساعة تكون قريبا... مهما كان السؤال فالجواب واحد، وهو أنّ العلم بها ممّا استأثر به اللّه تعالى فلم يُعلمها أحدا، بناءا على أن (إنّما) يفيد الحصر. ولعل خطاب الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم بقوله تعالى: (وما يُدريك) لئلا يتوهم أنه صلى اللّه عليه وآله وسلّم يعلمها من دون الناس، فأراد أن يبين أنّ الجميع في عدم معرفتها سواء.
وأشار بهذه الجملة إلى وجه إخفائها، وهو أن يبقى الإنسان ينتظره في كل لحظة (وما يدريك لعل الساعة تكون قريبا) فيستعدّ لذلك اليوم العظيم وأهواله، ولكن الإنسان يمرّ على كل هذا التهويل غافلا، ويعتبره بعيدا.. بعيدا في الإحتمال، أو بعيدا في الموعد. وما ينفعه البعد الزماني؟!
ثم إنّه يكفيه الإحتمال لكون المحتمل في غاية الأهميّة؟! ونحن في شؤون حياتنا نعمل ونبني ونهدم للإحتمال. ومن يعلم أنه سيبقى في الدنيا طويلا؟! ومع ذلك فنحن نسعى ونسعى ونبذل كل الجهد ونتعب أنفسنا ونسهر الليالي لنحصل على شهادة، فنحيا بضع سنين بعد ذلك في بلهنية من العيش، ومن لا يفعل ذلك نستنكر منه الكسل ونؤنّبه بعدم الإعداد لمستقبله مع أنّه مستقبل غير قطعي.
وكم نجد حوالينا من أتعب نفسه في بناء دار لم يسكنه، بل لم يسكنه أولاده ايضا، فلماذا لا نهتمّ بالمستقبل الطويل الذي لا ينتهي حتى لو كان ذلك محتملا، وحتى لو كان الإحتمال ضعيفا، فإنّ أهميّة المحتمل تكفي في كونه حافزا قويّا جدّا؟!
ولكن الانسان لا يستطيع ان يقاوم شهواته وأهواءه، ولا يصغي الى ما يهديه اليه العقل والحكمة، فيحاول أن يقلّل من أهميّة كل ما يعترض طريق الشهوات وان أدّى ذلك إلى شقائه الأبديّ، فهو لا يرى إلا أمتارا من الطريق أمامه.. إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا.
ان اللّه لعن الكافرين وأعد لهم سعيرا... اللعن: الطرد، والسعير: النار المشتعلة. يبيّن اللّه سبحانه في هذا المقطع نتيجة الكفر في الحياة الآخرة مما يكفي للإنسان أن يحسب حسابه، ولا يغرّه بُعد موعد الساعة كما يظنّ. ويكفي الكافر أنّ اللّه لعنه وأبعده عن رحمته التي وسعت كل شيء، وتجلّت اللعنة في السعير المحرق.
ولا يختص الكافر بمن نعتبره في هذه الدنيا كافرا، فإنّ التقسيم الى مسلم وكافر ــ حسب اصطلاحنا ــ إنما نقصد به موضوع الأحكام الظاهرية هنا من أنواع التعامل معهم، وأما يوم ينكشف الغطاء، ويُحصّل ما في الصدور، وتُبلى السرائر، فإنّ الكفر لا يختص بالجحود، بل تارك الصلاة كافر ــ كما في الحديث ــ وتارك الحج كافر، كما في قوله تعالى: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ)..
بل هناك كفرة بين المسلمين لا يُعرف كفرهم، كمن ينكر مما بلّغه الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم ما لا يعجبه، سواء كان ذلك متعلقا بالعبادات، او بالشؤون الاجتماعية، كبعض القوانين التي لا تعجب من لا ينتفع بها، او بالإمامة ومودّة أهل البيت عليهم السلام، أو غير ذلك.
خالدين فيها أبدا... الخلود مكتوب للبشر لأنّه بحقيقته ليس جسما كالجماد والحيوان، ينتفي بانتفاء الجسم وتحلّله في التراب، بل هو روح ارتبطت بهذا الجسم زمانا، ثم عادت الى اصلها قال تعالى: (اللّه يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا...) الزمر: 42، فالخلود مما لا بدّ منه، سواء كان في نعيم صنعه بعمله، أو في شقاء نتيجة ظلمه لنفسه وغيره. و(أبدا) تأكيد للخلود لئلا يتوهّم أن المراد به البقاء مدة طويلة، كما يعبّر به عن ذلك في هذه الحياة.
لا يجدون وليا ولا نصيرا... لا يجدون وليا يوكلون اليه الأمر فيستريحوا، ولا نصيرا يساعدهم فيما هم فيه، اذ يتبين له هناك أن من كان يزعم فيه الولاية والنصرة، ليس إلا عبدا ذليلا لا يستطيع إنقاذ نفسه، سواء في ذلك الآلهة المزعومة أو البشر.
ويلاحظ ان الإنسان عاد اليوم الى عبادة البشر، فالفلسفة الاجتماعية اليوم التي هي وراء كل هذه المفاسد الرسمية والقانونية تبني أساسها على أصالة الإنسان، وأن ليس وراءه شيء يستمد منه المبادئ، فالحق ما يخدم مصالح الانسان، والباطل ما عداه مهما كان.. وهكذا اصبح الانسان إلها يُعبد.. وسيجد عبّاد البشر يوم القيامة ان الإنسان لا يغني عنهم شيئا، فلا وليّ لهم ولا نصير.
يوم تقلّب وجوههم في النار... (يوم) ظرف لفعل محذوف اي اذكر. ويمكن ان يكون ظرفا لـ (يقولون). والقرآن الكريم يصوّر فظاعة النار بوجوه عديدة، فتارة يقول: (كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ) النساء: 56، وتارة: (وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ) ابراهيم: 17، واخرى: (لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ) الاعراف: 41، وفي موضع آخر: (سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ) ابراهيم: 50، وفي آخر: (تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ) المؤمنون: 104، وفي موضع: (يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ) القمر: 48، وغير ذلك.
ومنها ما في هذه الآية (يوم تقلب وجوههم في النار) فكأنّه لحم يراد شواؤه يقلّب من ناحية الى اخرى، او المراد تقلّب من حال الى حال، ومن لون الى لون.
يقولون يا ليتنا اطعنا اللّه واطعنا الرسولا... (يا ليتنا) اصله يا قوم ليتنا.. ثم نزعت عنه الدلالة على النداء، وانّما هو حرف تنبيه. وهذا من تمنيّات أهل النار، وهي من الحقائق التي يكشف عنها القرآن، ليتمّ الحجّة على الانسان يوم القيامة، وكم يروي من تمنياته: (يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا) الفرقان: 27 ــ 28 (يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي) الفجر: 24 (يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا) النبأ: 40 (يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ) الحاقّة: 27 وغير ذلك. ومنها هذه الآية. فهو يتمنى لو أطاع اللّه والرسول ولم يطع سادته وكبراءه.
وقالوا ربّنا إنّا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلّونا السّبيلا... لعلّ المراد بالسّادة والكبراء، الشخصيّات الإجتماعية المرموقة من الساسة وشيوخ العشائر وأصحاب المال والسلطة.
ويمكن أن يكون المراد بالكبراء الكبار في السنّ، فإن البشر يتبع ــ في الغالب ــ أباه وشيوخ قومه دون أن يتدبّر الأمور وينظر فيها بعقله الذي وهبه اللّه له، وبذلك يضلّ السبيل برفقة قومه، ويشعر الانسان في الغالب أنّه ليس في الطريق الصحيح، الا أنّه فرح بمسيره مع الجماعة مهما كانت النتيجة! وهو ينتبه الى خطئه يوم القيامة يوم لا ينفعه الإنتباه.
ربّنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعنا كبيرا... ضعفين بمعنى مرّتين فلا يختلف معناه عن قوله تعالى (رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ) الاعراف: 38. ومهما كان فهم يدعون ربهم أن يضاعف على السادة والكبراء العذاب، ويلعنهم لعنا كبيرا، أكبر من لعن عامّة الكافرين، لأنّهم الاصل في هذا الضلال، ولأنّهم اعتبروا أنفسهم كبراء فلا بدّ من كون اللعنة عليهم مناسبة لحجم مدّعاهم، والا فالّلعن بذاته لا يوصف بالكبر.
ويأتيهم الجواب على ما في آية سورة الاعراف الآنفة الذكر: (قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ) لكل فريق ضعف من العذاب، إمّا لأنّ التابعين أيضا سبب في ضلال المتبوعين بإشادتهم لمواقفهم والتصفيق لهم، ولولا ذلك لم يتمكن الكبراء من الظلم والطغيان، وهل يكبر الكبراء الا بشعارات الغوغاء والتابعين؟! أو لأنّ التابعين، هم بدورهم متبوعون لجيل آخر وقوم آخرين، او لأنّ العذاب لا يقدّر حجمه بأوهام الناس، فهو ضعف ما يتصورونه على كل حال.