يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى فبرّأه اللّه مما قالوا وكان عند اللّه وجيها... الآية الكريمة تنهى المؤمنين وتحذّرهم من أن يؤذوا الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم، كما كان بنواسرائيل يؤذون رسولهم موسى عليه السلام. والمراد بايذائه اتّهامه بما لا يليق بمقام الرسالة، وليس مطلق الايذاء، وإن كانوا يؤذونه بشتى الوجوه، كالمطالبة برؤية اللّه جهرة، وأن يجعل لهم الها، وغير ذلك، الا أنّ المراد هنا هو الإتّهام والكذب عليه، بقرينة قوله تعالى (فبرّأه اللّه مما قالوا...)، حيث يدلّ على أنّ الايذاء كان تهمة ألصقوها به، فأظهر اللّه سبحانه كذبهم، وبرّأه من التهمة.
ويظهر من سياق الآية أنّ بعض الصحابة إتّهموا الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم في أحد المواقف التي مرّ ذكرها في هذه السورة بما لا يليق بكرامته. ولعل أوضح ما يستوجب الكلام الباطل، هو زواجه صلى اللّه عليه وآله وسلم بزينب، ولا يبعد أنّ بعضهم لم يرقه هذا الزواج، لكونه مخالفا لعاداتهم وتقاليدهم، فأخذوا يتحدّثون بما لا يليق بمقام الرسالة وكرامتها.
بل وضع بعض الناس في ذلك أحاديث واضحة الفساد إمّا في ذلك العهد او بعد ذلك، ولعل ما ورد في الحديث الموضوع في هذه القصة كان مما تلوك به الالسنة في ذلك العهد. فنهاهم اللّه سبحانه وحذّرهم من أن يكونوا كبني اسرائيل، حيث كانوا يؤذون موسى عليه السلام ويتّهمونه بما لا يليق، فأظهر اللّه كذبهم وبرأه أي أظهر براءته مما وصموه به، وذلك لوجاهته عند اللّه، فلم يرض بأن يمسّ الناس كرامته.. وهكذا الرسول الاكرم صلى اللّه عليه وآله وسلم فإنه أوجه الخلق عند اللّه تعالى.
وقد وردت روايات بشأن ما اتّهم به موسى عليه السلام مما لا يخلو من غرابة، فمنها ما ورد من أنه كان حييّا، لا يظهر جسمه أمام الناس فقالوا إنّه لا يفعل ذلك الا لعيب فيه، فذهب يغتسل ووضع ثوبه على حجر، فأمر اللّه الحجر فسار بثوبه، فركض خلفه موسى بعصاه وهو يقول ثوبي حجر! ثوبي حجر! فبلغ به بين الناس فنظروا اليه عريانا، وبذلك برأه اللّه مما قالوا!!!
وقد ورد هذا الحديث في صحاح العامة كالبخاري وفي تفسير علي بن ابراهيم من كتبنا وغيرهما وان كان استناد التفسير اليه غير ثابت. ومن الغريب قبول بعض علمائنا لذلك كالعلامة الطباطبائي رحمه اللّه. وما أدري ألم يكن هناك طريق آخر لتبرئته؟! ألم يكن الأجدر به أن يكشف عن ثوبه ما عدا العورة؟! وهل هكذا يصنع اللّه تعالى شأنه بالوجهاء عنده؟! عفوك اللّهم!
وروي غير ذلك من الروايات مما لا يصح سندا ولا متنا. والأولى أن لا نبحث عنه، فلا دخل له في فهم معنى الآية ولا يترتّب عليه أثر.
يا أيّها الذين ءامنوا اتّقوا اللّه و قولوا قولا سديدا... الآية الكريمة وما تليها أيضا في نفس السياق السابق، وهو إيذاء الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم بإلصاق التّهم الباطلة، فيأمرهم اللّه سبحانه بتقوى اللّه.
وفي ذلك تهديد بأنّ ما تحتقرونه من الكلام، ينطوي على خطر شديد وأنّه يثير سخط اللّه تعالى ويستتبع عذابه في الدنيا والآخرة..
ثم يأمرهم بأن يجتنبوا القول الذي لا يستند إلى دليل، ولا يقولوا الا القول السديد، وهو مأخوذ من السد المانع من تسرّب الماء او أي شيء آخر.. فالقول الذي يستند الى دليل محكم سديد، يمنع تسرّب الباطل والكذب اليه. و القول بدون مستند، يتسرّب اليه الكذب لا محالة.. وهذه عبارة أخرى عن المنع عن القول بغير علم قال تعالى: (ولا تقف ما ليس لك به علم) الاسراء: 36.
يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم... جزاء الامر اي إن تتقوا اللّه وتقولوا القول السديد يصلح لكم أعمالكم. ومنه يعلم أنّ كون العمل صالحا صبغة إلهية، لا يكفي فيه محاولة الإنسان، فلا يغترّنّ العاملون بأعمالهم الطويلة العريضة.
والصلوح كما أسلفنا يختلف حسب اختلاف الموارد. والمراد هنا إمّا الصلوح لدخول الجنّة، او لنيل مرضاته تعالى، وهي الجنّة الحقيقية. ولولا ذلك لم يكن فرق بين الجنة والنار، وإنّ أهل مرضاته ينعمون بالجنة في هذه الدنيا، وإن كانوا في ظلم المطامير.
والآية تدلّ على أهمّية الصدق في القول، وتحرّي الحقيقة في التحدّث عن الناس، في ما يجوز البتّة لا في موارد الغيبة، وأنّه يترتب عليه صلوح الأعمال وغفران الذنوب، وذلك بلطف من اللّه تعالى.
وليس في ذلك سببية طبيعية كما حاول إثباته السيد الطباطبائي رحمه اللّه، مدّعيا أنّ الإلتزام بالصدق وترك اللغو من الكلام، يجرّ الانسان الى الأعمال الصالحة. مع أنّ هناك من الكفار والفساق من لم يعهد منهم الكذب في القول.
ويظهر من الآية أهميّة الكلام سيّئه وحسنه، فلا يستخفنّ الانسان بما يخرج من شدقيه. وقد بيّن اللّه تعالى ما يترتب على بعض الكلام مما يثير الدهشة، قال تعالى: (وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا * تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا) مريم: 88-91، وجعل اللّه تعالى أجر المؤمنين تثبيت قولهم، حيث قال: (يُثَبِّتُ اللّه الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ..) ابراهيم: 27.
ومن يطع اللّه ورسوله فقد فاز فوزا عظيما... الفوز: الظفر بالخير. ومما يشغل فكر الانسان وهمّه في هذه الحياة، هو السباق مع الآخرين والتقدّم عليهم. والانسان غالبا يهتمّ بتقدمه على الأقران في المجالات المختلفة، أكثر مما يهتمّ بكسب النفع في نفسه.. وهو مجبول على حبّ التفوق على الأقران. ويعتبر حب التفوّق من الغرائز الطبيعية، وهو الأساس في تقدّم الانسان في علمه وثقافته وحضارته، وسائر جوانب الحياة المادية.
واللّه تعالى في هذه الآية الكريمة يخبر الإنسان أنّ الفوز والنجاح العظيم للذي يطيع اللّه ورسوله، فليتسابقوا في هذا المجال، فكل من كان أطوع لهما وأبعد من المعصية فقد فاز بالقدح المعلّى. ويتبيّن ذلك يوم تتبيّن الحقائق وينكشف الغطاء.