وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وابراهيم وموسى وعيسى بن مريم... الميثاق: العقد المؤكد بيمين او تعهد. والمواثيق والعهود المذكورة في القرآن بعضها عامة لجميع الناس، كقوله تعالى: (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ) يس: 60 وقوله تعالى: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا..) الاعراف: 172.
وهناك عهود ومواثيق خاصة بجمع من الناس كبني إسرائيل كقوله تعالى: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللّه وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنكُمْ وَأَنتُم مِّعْرِضُونَ) البقرة: 83 وقوله تعالى: (لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّمَا جَاءهُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُواْ وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ)المائدة: 70 وكذلك بالنسبة للمسلمين كقوله تعالى: (وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّه عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُم بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُواْ اللّه إِنَّ اللّه عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) المائدة: 7. وهناك عهود ومواثيق بين اللّه ورسله، ومنها هذه الآية.
والظاهر أن المراد بأخذ المواثيق من النبيين والمرسلين هو ما التزموا به مع رسل اللّه تعالى أي الملائكة حين نزول الوحي، فالميثاق هنا بمعناه الحقيقي. ولا يبعد أن يكون الأمر كذلك في عهود الأمم، فإن اللّه تعالى أخذ ميثاقهم بواسطة رسلهم، والبيعة التي تتمّ بينهم وبين رسلهم تعتبر بيعة مع اللّه تعالى، كما قال سبحانه: (إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللّه يَدُ اللّه فَوْقَ أَيْدِيهِم..) الفتح: 10.
ومهما كان فالميثاق ــ حسب هذه الآية ــ مأخوذ من النبيين جميعا ولكنه مأخوذ بصورة خاصة ومؤكدة من أصحاب الشرائع، وهم حسب ترتيب الذكر هنا: محمد صلى اللّه عليه وآله وسلّم ونوح وابراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام. والظاهر أن تقديم اسم الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم لكونه أفضل الانبياء والمرسلين.
ومن الملفت أنه تعالى يؤكّد في مواضع كثيرة على نسبة عيسى الى امه الصديقة مريم عليهما السلام. ولعل السر في ذلك التنديد بالنصارى، وبفكرة التثليث، وأنه ابن اللّه، تعالى اللّه عما يقول الظالمون علوا كبيرا.
وأخذنا منهم ميثاقا غليظا... كرر ذكر أخذ الميثاق للتاكيد. ووصفه بالغلظة تشبيها بالغلظة المحسوسة، لكونه مؤكدا. مع أن الميثاق بنفسه يشتمل على تأكيد، لكونه مأخوذا من الوثوق، فهو تأكيد في تأكيد.
والآية الكريمة لم تبين موضوع هذا الميثاق. ولكنه ظاهر لا يحتاج إلى بيان. فإنّ ميثاق الرسل، يتعلق برسالتهم. أي إنّ اللّه تعالى أخذ منهم المواثيق المغلظة بأن لا يألوا جهدا في تبليغ رسالات اللّه سبحانه.
ولعله مقدمة لما سيأتي من تأنيب بعض المؤمنين حيث لم يقوموا بواجبهم ودورهم في هذا التبليغ، فلم ينصروا الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم كما هو مفروض عليهم. والميثاق وإن كان بين اللّه ورسله، إلا أنه يشمل المؤمنين بعد أن بايعوا رسولهم.
ليسأل الصادقين عن صدقهم... اللام للتعليل. فالمعنى أنه أخذ الميثاق من النبيين ليسأل الصادقين عن صدقهم. وهذا يدلّ على ما ذكرناه آنفا من أنّ هذا الميثاق يسري الى المؤمنين، اذ لا ينحصر الصادقون في الانبياء. وفيه وجه آخر سيأتي.
والاصل في الصدق، قيل: هو القوة. وقيل: هو مطابقة الواقع. وقيل: الصادق هو الكامل من كل شيء. وقيل غير ذلك. ومهما كان فهو لا يختص بالكلام حتى إنّهم يعبّرون عن السيف القاطع بالسيف الصادق، اي أنّه يعمل العمل المطلوب منه بصدق. ومنه الصدق في الوعد وهو الوفاء به، والصدق في العهد اي الالتزام به. فإذا كان الإنسان مؤمنا، فليكن صادقا في إيمانه، بأن يطابق عمله عقيدته. وعليه فالمـراد هنا بالصادقين الذين صدقوا في إيمانهم، وهو الذي عاهدوا اللّه عليه.
وسيأتي في هذه السورة تطبيق ما ورد في هذه الآية على المجاهدين في سبيل اللّه في قوله تعالى: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللّه عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا * لِيَجْزِيَ اللّه الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ...).
ويقع الكلام هنا في أنه ما هو المراد بالسؤال؟ وأين موضعه؟
يحتمل أن يكون المراد السؤال في الآخرة، فيكون المراد محاسبتهم على ذلك وجزاؤهم وفقا لدرجة صدقهم. ويحتمل أن يكون موضعه الدنيا، وأنّ المراد بالسؤال، مطالبتهم بأن يبرزوا صدقهم في العمل وعلى أرض الواقع. أو المراد بالسؤال الامتحان وإيجاد الارضية التي تقتضي أن يُبرزوا عليها صدقَهم في الإيمان.
والظاهر هو الثاني اي كون موضعه الحياة الدنيا، وأنّ المراد بالسؤال امتحانهم واختبارهم ليظهروا صدقهم، فإن المؤمن إنما يبرز صدق إيمانه في مواجهة الشدائد، كالفقر والحرب ونحو ذلك، فإذا جاد بنفسه وماله في سبيل اللّه، حينما تقع الحاجة الاجتماعية إليهما، فهو صادق في إيمانه، ولا يبرز الصدق في الرخاء غالبا.
وهذا هو معنى الإمتحان الإلهي، فإنّ اللّه تعالى عالم بالغيوب وأسرار النفوس، وإنما يختبر الإنسان، ليبرز إيمانه على أرض الواقع، فيستحقّ الجزاء وارتفاع الدرجة. ولا يكفي في ذلك أنّه من حيث الايمان، بالغٌ درجة من القوّة، تمكّنه من أداء ما يُطلب منه، فإنّ الجزاء وعلوّ الدرجة لا يترتّبان على إمكان ذلك، ولا على استعداد النفس، وإنّما يترتبان على بروز الإيمان في مرحلة العمل، وفي مواجهة الواقع الخارجي، وهذا هو الصدق.
وبذلك يرتفع الاستغراب عن سؤال الصادقين عن صدقهم، فانه ربّما يقال: إنّهم اذا كانوا صادقين حسب الفرض فما معنى السؤال عن صدقهم، وإنّما يسأل غيرهم أنّهم هل صدقوا أم لا؟
وبناءا على ما ذكرنا فالمراد بالسؤال ليس هو الاستفهام، بل المراد ايجاد الجوّ المناسب، والارضية الصالحة لبروز استعدادهم في الصدق في مرحلة العمل. وإنّما صحّ التعبير بالسؤال، لأنّ مآل هذه التهيئة وإيجاد الارضيّة، هو استخبار ما فيهم من صدق، وأنّه الى أيّ حدّ من الابتلاء يبقى ويقاوم؟
ويمكن أن يكون الوجه في تعليل اخذ ميثاق النبيين بالسؤال عن الصادقين هو أن الميثاق يهيء الارضية الصالحة لامتحان من يدعي الايمان ولبروز صدق الصادقين منهم ولتعيين درجة صدق كل واحد منهم ايضا، وذلك لأن صدقهم لا يتبين الا بمتابعة الانبياء، ويتبين درجة الصدق بحدود تبعية المؤمن للانبياء عليهم السلام.
ومنه يعلم أنّ من يدّعي الايمان بالله تعالى عن غير طريق الانبياء ومتابعتهم كما ربما يتبجح به بعض الفلاسفة ومن يدعون العرفان والمتصوّفة فانّ دعواهم باطلة ولا يكون المؤمن صادقا في ايمانه الا بمتابعة مواثيق الانبياء عليهم السلام.
وأعدّ للكافرين عذابا اليما... قيل: إنّ الجملة عطف على قوله تعالى (أخذ من النبيين..) وهو غير ملائم من حيث المعنى. والصحيح أنّه عطف على جملة مقدّرة مترتّبة على الجملة السابقة، اي ليسأل الصادقين عن صدقهم، ويجزيهم على ذلك، وأعدّ للكافرين.. وإنّما أتى في ذكر جزاء الكافرين بالماضي تأكيدا على أنّه أمر مقضيّ ثابت لا مفرّ منه.
ويعلم من المقابلة أنّ الذي لا يظهر منه الإيمان في موارد الإمتحان، فهو كافر في الواقع، وإن أظهر الإيمان، وترتّبت عليه أحكام المؤمن حسب ظاهر الشرع.
ومن هنا يتبيّن أنّ هاتين الآيتين، مقدّمة للتعرّض لحال المسلمين في غزوة الأحزاب، إذ قلّ منهم من كان صادقا في إيمانه كأمير المؤمنين عليه السلام، والسبب هو كثرة عدد المهاجمين من مكة، وسائر أنحاء الجزيرة العربية، ومن اليهود، وفيهم من لا يقوى على منازلته أحد، كعمرو بن عبدود الذي قتله الامام عليه السلام، وكانوا حوالي عشرة آلاف مقاتل، تجمّعوا حول المدينة، ولم يكن فيها إلا ثلاثة آلاف مقاتل، فلو كانت هذه الحرب تدور دائرتها، لكان فيها خطر عظيم على الإسلام والمسلمين. وسيأتي بيان ذلك في الآيات التالية إن شاء اللّه تعالى.
ومن الغريب جدّا ما وقع في التاريخ الاسلامي من الظلم في حقّ المؤمنين الصادقين الذين أبرزوا صدق إيمانهم في مختلف المجالات، كيف ساووهم بل فضّلوا عليهم من لم يبرز منهم الإيمان في أيّ مجال، و كلّما بعثوا في حرب أو نزال، رجعوا مقهورين، يجبّن بعضهم بعضا. وما زال التاريخ والأقلام الحاقدة مستمرّة في ظلمها وظلامها.