مكتب سماحة السيد مرتضى المهري

إنّا عرضنا الأمانة على السماوات والارض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الانسان إنّه كان ظلوما جهولا... كثر الكلام حول هذه الآية، وأنّه ما هو المراد من الأمانة، ومن العرض، ومن السماوات والارض، ومن الإنسان، ومن الحمل، ومن التعليل بالظلوم والجهول، بحيث يطول بنا الحديث لو أردنا استعراضها، فننقل المهمّ منها:

قال العلامة الطباطبائي قدس سره في تفسير الميزان ما معناه: إنّ المراد بالأمانة الولاية الإلهية، وكمال صفة العبودية، والاستكمال بحقائق الدين الحق علما وعملا. وقال: إنّ المراد بالعرض اعتبارها مقيسة الى هذه الأشياء، وإنّ الإباء عن الحمل والإشفاق بمعنى عدم قابليتها للحمل. والمراد بحمل الإنسان، صلاحيّته الذاتية. وإنّ التعليل بكونه ظلوما جهولا باعتبار أنّه قابل لما يقابلهما، وهو العلم والعدل.

وقال بعضهم: إنّ المراد بالأمانة التكليف. وإنّما عدل عنه العلامة الطباطبائي بدعوى أنّ الهدف الاساس للتكليف، هو بلوغ هذا الحدّ من الكمال.

وقال الزمخشري: إنّ المراد بالحمل الخيانة، وهي التي أبى عنها كل الموجودات الا الانسان، واستشهد ببعض استعمالات العرب وأنّه يطلق الحمل على الخيانة. ولم يقبل منه ذلك من تأخّر عنه.

وقال بعضهم: إنّ المراد بالعرض معناه الظاهر والمتبادر، وأنّ اللّه تعالى خلق في هذه الاشياء دركا ومعرفة، فخاطبها وعرض عليها التكليف.

وقيل: إنّ المراد بالامانة العقل... الى آخر ما تفنّن القائلون في بيانه.

ومن الواضح أنّ المراد بالأمانة أمر تحمّله الانسان بطبعه، ورفضته سائر الموجودات بطباعها. فالآية ليست بصدد بيان حادثة في الكون، بل هو بيان لأمر طبيعي مستمرّ على الطريقة القرآنية التي تنسب كل المقدّرات الطبيعية إلى إرادة اللّه تعالى، ونظير ذلك الآية التي تبيّن إنطواء الفطرة الإنسانية على التسليم للرب، والإعتراف به، المعروفة بآية الذرّ. وكذلك الآيات التي تذكر قصة مبدأ خلق الانسان، ودخوله الجنة، وسجود الملائكة، ورفض إبليس، وإخراج الإنسان من الجنة، ونزوله على هذا الكوكب، فهذه كلها من هذا القبيل.

وهذه الآية تذكّر الإنسان بأنه يختلف ذاتا عن سائر الموجودات، فهو الذي حمل الأمانة الإلهية، وهي إمّا نفس التكليف والمسؤولية الشرعية، أو مناط التكليف وهو العقل والإرادة والاختيار. واليه يرجع القول بأن المراد بها خلافة اللّه في الارض، فإنّ مناطها هو الارادة والاختيار. وأمّا ماذكره العلامة الطباطبائي رحمه اللّه فلا يخلو عن تكلّف.

وإنّما يبقى السؤال عن تعليل ذلك بكونه ظلوما جهولا، وفي ما ذكره العلامة هنا أيضا تكلّف واضح، ولو كان الامر كما ذكره، لكان الأولى بل الصحيح أن يعلّل بكونه عادلا عليما فما الموجب للعدول؟! وإرجاع ذلك الى القابليّة للأمرين لا يصحّح التعليل بهذين الوصفين.

والذي يخطر بالبال أنّ التعليل مبنيّ على الإعتبار الأدبي المصحّح لنفس الإفتراض، فالمفروض أنّه ليس هناك في الواقع عرض ورفض وإشفاق وتحمّل، وإنّما كل ذلك تعبير عن الحالة الطبيعية التي تفصل الإنسان، وتميّزه عن غيره من الموجودات، رغم كبرها وضخامتها، فالمراد بالعرض هو وجود هذه المقارنة على أرض الواقع، بمعنى أنّه اذا لوحظ التكليف والارادة والاختيار، وافترض أن تعتبر السماوات والارض والجبال على ضخامتها موضعا لهذه المزايا لأَبَين من ذلك وأشفقن منها، اي خفن وشقّ عليهنّ تحمّل ذلك.

ويلاحظ الاتيان بنون النسوة كأنّ هذه الاشياء ذوات عقل وليس ذلك الا لمجرد التصوير والافتراض الادبي. وفي هذا الافتراض الأدبي يصحّ تعليل قبول الانسان للأمانة، بأنه ناش عن ظلمه وجهالته.

اما الظلم فبمعنى ظلمه لنفسه حيث يحمّل نفسه ما لا طاقة لها به او بمعنى الرمي في الظلام ــ كما أسلفنا مرارا ــ فالإنسان جسور قليل المبالاة بالعواقب، يرمي في الظلام ولا يعلم نتيجة عمله.

وأمّا الجهالة فليست بمعنى الجهل بل بمعنى السفاهة، فكأنّه يريد أن يقول إنّ الذي يدعو الإنسان إلى قبول المسؤولية، سفاهته وعدم تدبّره، ولو كان بمعنى الجهل، فالمراد جهله بعواقب الأمور.

ومهما كان، فاللّه تعالى لا يريد تعيير الإنسان على قبوله المسؤولية وأنّه إنّما قبل ذلك لظلمه وجهله، بل هذا تعبير أدبي عن ضخامة المسؤولية وعدم تمكّن الإنسان ــ في الغالب ــ من أدائها، بالرغم من طاقاته ومواهبه، بحيث لو كان الانسان مختارا في قبول هذه المسؤولية ورفضها، ومع ذلك كان يقبلها ويلتزم بمضمونها، لكان ذلك ناشئا من سفاهته ومن ظلمه لنفسه. فالغرض هو الاشارة الى ضخامة الامر، وتنبيه الانسان أنّه قد حمّل أمانة عظيمة لا يتحملها الكون بأجمعه.

ليعذّب اللّه المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات ويتوب اللّه على المؤمنين والمؤمنات وكان اللّه غفورا رحيما... قيل: إنّ اللام لبيان العاقبة وأنّ عاقبة أمر الانسان آلت الى انقسامه الى هذه الأقسام، ولكنّ الظاهر أنّها للعلية وأنّ الجملة علة للعرض وتحميل المسؤولية، ليميّز اللّه الخبيث من الطيّب. وقدّم تعذيب المنافقين لأنّهم في الدرك الأسفل من النار، ولأنّ النفاق جريمة مضاعفة، فالمنافق مشرك في الواقع ويظهر الإيمان.

وتوبته على المؤمنين بمعنى رجوعه عليهم بالرحمة، وتوبة المؤمن مسبوقة بتوبة ربه، كما قال تعالى: (ثم تاب عليهم ليتوبوا..) التوبة: 118.

ثم عقّب الآية بغفرانه ورحمته إيذانا بأن المؤمن أيضا مهما بلغ من إيمانه، فإنه لا يبلغ المقصود إلا برحمة من اللّه تعالى وفضل وغفران لذنوبه وتكميل لنقصه..

وهكذا يتبيّن أنّ الإنسان كم كان جاهلا بعواقب الأمور لو فرض قبوله للمسؤولية، فإنّه لم ينج منه إلا القليل وذلك بغفران من اللّه تعالى ورحمة.

وهكذا ينبّه اللّه تعالى عباده بخطورة الموقف، ويبعث فيهم الرجاء في نفس الوقت برحمته وغفرانه.

ومن لطيف التعبير بمناسبة بعض آيات السورة عطف النساء على الرجال في الأصناف الثلاثة، تنبيها على وحدة المناط في الحكم، وعدم الفرق بين الرجال والنساء من حيث الآثار المترتبة على اختيار الصفات المذكورة. والحمد للّه رب العالمين.