مكتب سماحة السيد مرتضى المهري

سورة البقرة اطول سورة في القرآن وتبلغ جزءين ونصف تقريبا وهي من اوائل السور النازلة في المدينة وحيث انها نزلت في مقاطع متباعدة فلا يمكن تحديد موعد نزولها ولعل بعضها نزل بعد الشروع في نزول سورة اخرى فكل قطعة نزلت في مناسبة خاصة وانما جعلت هذه المقاطع المتفرقة ضمن سورة واحدة.

وهناك بحث في من وضع الآيات في مواضعها من السور والمعروف بين المسلمين ان ذلك تم بامر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فيكون ذلك بوحي من الله تعالى.

ويمكن ان يستدل على ذلك بتعبير القرآن عن هذه المجموعات بالسورة كقوله تعالى (سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)[1] فكل واحدة من سور القرآن مجموعة من الآيات محددة ومعينة عند الله تعالى ووحدة كل سورة من السور وحدة اعتبارية بحيث لا تجوز فيها الزيادة والنقصان وربما تتعلق بهذه الوحدة احكام شرعية كوجوب قراءة سورة كاملة في الصلاة وربما تترتب عليها آثار تكوينية ايضا.

كما لا يمكن تحديد مواضيع هذه السورة فهي تشتمل على مواضيع مختلفة منها ما يرتبط ببدء الخلق او بالمعاد او بالرسالة وسائر اصول العقيدة ومنها ما يرتبط ببني اسرائيل وسائر الامم السالفة وانبيائهم ومنها احكام شرعية في مواضيع شتى كاحكام الارث والنساء وغيرها.

 

الم...

من الحروف المقطعة وقد ذكرنا بعض الكلام حولها في تفسير سورة يس ومجمل البحث ان الاقوال في تفسيرها كثيرة وبعضها لا يستحق ان يذكر فمن الاقوال انها حروف تنبيه للسامعين كما يُصدّر الكلام بادوات التنبيه نحو (ألا). ولكن هذا لا يعتبر توجيها لتخصيص هذه الحروف بالذات وفي خصوص هذه السور.

ومنها ما أصر بعض المفسرين عليه وهو أنها تشير الى كون القرآن مؤلفا من هذه الحروف الهجائية التي تتكلمون بها ومع ذلك فلا يستطيع احد مجاراتها. وهذا ايضا لا يوجه خصوصية هذه الحروف مع تكرار بعضها في مجموعة خاصة من السور مما يدل على علاقة خاصة بين هذه السور وهذه الحروف.

وأحسن ما قيل في ذلك ما ذكره العلامة الطباطبائي رحمه الله في تفسير سورة الشورى وهو احتمال أن يكون الغرض من هذه الحروف الاشارة الى المواضيع التي وردت في السورة وكل حرف يرمز الى موضوع خاص. ثم قال (ان هذه الحروف رموز بين الله سبحانه وبين رسوله صلى الله عليه وآله وسلم خفية عنا لا سبيل لأفهامنا العادية إليها إلا بمقدار أن نستشعر أن بينها وبين المضامين المودعة في السور ارتباطا خاصا).

ومما يشهد له أن مجموعة الطواسين اي سورة الشعراء والنمل والقصص ورد في مطلع كل منها حرف الطاء وتتعرض كلها للقاء موسى عليه السلام على جبل طور سيناء ووردت القصة في سورة طه المبدوة بالطاء ايضا فيقوى احتمال كون الطاء في كل هذه السور اشارة الى الطور ولم يرد حرف الطاء في فواتح السور الا في هذه السور الاربع كما أن الاشارة الى هذا الموضوع لم ترد في سورة اخرى الا اشارة عابرة في سورة النازعات.

ولعل حرف السين فيها اشارة ايضا الى سيدنا موسى عليه السلام كما أن حرف النون في سورة القلم قد يكون اشارة الى الحوت في قصة يونس عليه السلام وقد وردت مختصرة في هذه السورة. والنون ــ اي نونان بينهما واو ــ بمعنى الحوت في اللغة ولذلك لقب يونس عليه السلام في سورة الانبياء بذي النون اي صاحب الحوت كما ورد هذا التعبير اي صاحب الحوت في سورة القلم نفسها.

ولعل السر في هذه الرموز ان ذلك نوع من التعبير الرمزي او براعة الاستهلال كما قلناه في القسم المذكور في اوائل بعض السور نظير ما يقوله الشعراء في مطلع قصائدهم من الغزل ونحوه مما يناسب الموضوع وان كان بذاته مبهما لا يعلم المراد منه او لا يعرف الشخص الذي يمدح او يتغزل به الا انه يحثّ السامع على التأمل في النص وفي المعنى الذي هو المقصود بالذات ولذلك كان المراد بما يقسم به الله تعالى في كثير من الموارد مبهما من حيث التفاصيل الا انه بمعناه الاجمالي يناسب الموضوع.

وهناك وجوه اخرى بعيدة يراجع بشأنها الكتب المفصلة.

ومن الغريب أنه لم يذكر في الاحاديث والتاريخ أنّ المشركين او اهل الكتاب أبدوا استغرابا واستنكارا من وجود هذه الحروف في افتتاح بعض السور. كما لم ينقل من الصحابة او اصحاب الائمة عليهم السلام إلحاح في السؤال عن مغزاها ولم ترد روايات معتبرة او متعددة كما هو المتوقع في توضيحها في كتب الفريقين وكأنّ الجميع تسالموا على أنّها رموز يجب السكوت عنها.

نعم ورد بشأنها بعض الروايات مما لا تغني شيئا واكثرها ضعيفة:

منها ما رواه الصدوق في معاني الاخبار قال: (حدثنا أحمد بن زياد بن جعفر الهمداني - رضي الله عنه - قال: حدثنا علي ابن إبراهيم عن أبيه عن يحيى بن أبي عمران عن يونس بن عبدالرحمن عن سعدان عن أبي بصير عن أبي عبدالله عليه السلام قال: "الم" هو حرف من حروف اسم الله الاعظم المقطّع في القرآن الذي يؤلّفه النبي صلى الله عليه وآله وسلم والامام فاذا دعا به أجيب). [2]

ولكنه روى بسند معتبر عن محمد بن قيس قال: (سمعت أبا جعفر عليه السلام يحدث أن حُييّا وأبا ياسر ابني أخطب ونفرا من يهود أهل نجران أتوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالوا له: أليس فيما تذكر فيما أنزل الله عليك " ألم" ؟ قال: بلى. قالوا: أتاك بها جبرئيل من عند الله تعالى؟ قال: نعم. قالوا: لقد بعثت أنبياء قبلك وما نعلم نبيا منهم أخبرنا مدة ملكه وما أجل أمته غيرك قال: فأقبل حيي بن أخطب على أصحابه فقال لهم: الألف واحد واللام ثلاثون والميم أربعون فهذه إحدى وسبعون سنة فعجب ممن يدخل في دين مدة ملكه وأجل أمته إحدى وسبعون سنة! قال: ثم أقبل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال له: يا محمد هل مع هذا غيره؟ قال: نعم. قال هاته قال: "المص" قال: هذه أثقل وأطول الألف واحد  واللام ثلاثون والميم أربعون والصاد تسعون فهذه مائة وإحدى وستون سنة. ثم قال لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: فهل مع هذا غيره؟ قال: نعم . قال: هاته. قال صلى الله عليه وآله وسلم: "الر" قال: هذه أثقل وأطول الألف واحد واللام ثلاثون والراء مائتان ثم قال لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: فهل مع هذا غيره؟ قال: نعم. قال: هاته قال: "المر" قال: هذه أثقل وأطول. الألف واحد، واللام ثلاثون والميم أربعون والراء مائتان. ثم قال له: هل مع هذا غيره؟ قال: نعم. قالوا قد التبس علينا أمرك فما ندري ما أعطيت! ثم قاموا عنه ثم قال أبو ياسر للحيي أخيه: ما يدريك؟! لعل محمدا قد جمع له هذا كله وأكثر منه).

قال: فذكر أبو جعفر عليه السلام أن هذه الآيات[3] أنزلت فيهم (مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ)[4] قال: (وهي تجري في وجه آخر على غير تأويل حيي وأبي ياسر وأصحابهما). [5]

وهذه القصة مروية في كتب العامة ايضا. ويظهر منها أنه كانت هناك بعض المحاولات لمعرفة هذا السر ولكن بأفكار ساذجة ولم ينبه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم على خطئهم ولا على ما هو الصحيح.

 

ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ...

(ذلك) اشارة الى البعيد مع ان المشار اليه حاضر وهو القران الكريم بل هذه الجملة جزء منه فهذه الاشارة تشملها ايضا. والسر في ذلك التنبيه على عظمة هذا الكتاب وعلوّ مكانه والعرب اذا تكلموا امام العظماء وارادوا الاشارة اليهم جاءوا باسم الاشارة للبعيد كأنه في سمو مقامه ورفعة مكانه بعيد عن موضع المتكلم او المخاطبين.

وقال جمع من النحاة ان اسم الاشارة للبعيد قد يؤتى به للقريب من دون ملاحظة ما ذكرناه وكذلك العكس.

 وقيل يمكن أن تكون اشارة الى ما مضى من الكتاب فان السورة متأخرة عن قسم كبير من الآيات والسور التي نزلت بمكة. ولكنه بعيد لان الآية حينئذ لا تشمل القرآن المدني.

والكتاب مصدر كتب اي جمع وبمعنى اسم المفعول اي المجموع. قال ابن دريد في الجمهرة (كتب الكتاب يكتب كَتْبا اذا جمع حروفه واصل الكَتْب ضَمُّك الشيء الى الشيء). وبهذا الاعتبار يطلق على مجموعة الالفاظ والكلمات كما يطلق على مجموعة المعاني التي تحكي عنها الالفاظ.

والمراد به هنا مجموعة الالفاظ التي نزلت من السماء على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فان القران كله بلفظه ومعناه إنشاء من الله تبارك وتعالى. والوحي النازل هو الذي لا ريب فيه واما ما يتلوه الناس فانما هو حاك عن تلك الالفاظ الموحاة وربما لا يكون موافقا لها فان كتابة المصحف او تلاوته بطريقة خاطئة امر ممكن حتى لو قلنا ان المصحف المتداول بجميع قراءاته قطعي التوافق مع الوحي النازل ولكن الآية لا تشير الى ما كتبناه بأيدينا.

وقوله (الكتاب) يمكن ان يكون بدلا من اسم الاشارة وخبره (لا ريب فيه) فالمعنى ان القران الكريم لا ريب فيه.

ويمكن ان يكون الكتاب خبرا عن اسم الاشارة وما بعده خبر بعد خبر. والجملة حينئذ تفيد الحصر اي القران هو الكتاب اي لا كتاب غيره وكأنه لا كتاب في الكون غيره. وهو صحيح بمعنى ان الكتاب السماوي منحصر فيه واما غيره من كتب السماء فقد حُرِّفت وتغيرت مفاهيمها وشُوِّهت حقائقها فكأنها ليست من كتب السماء فالكتاب الالهي الصحيح منحصر في القرآن الكريم.

ويمكن أن يكون الحصر مبالغة نظير ما يقال من ان زيدا هو العالم وكأن غيره ليس عالما مع وجود كثير من العلماء الا ان الفاصل بينه وبين الآخرين كبير جدا بحيث يصح مبالغة ان يقال ان العالم حق العالم منحصر فيه وهكذا الكتاب بمعنى المجموعة من الالفاظ والمعاني التي لا يستغني الانسان من قراءته ومعرفة محتواه ومتابعته منحصر في القرآن وان كانت هناك كتب اخرى لا يستغني الانسان عنها الا أن الفاصل بينها وبين هذا الكتاب كبير جدا بحيث يصح مبالغة ان يقال ان الكتاب الحق منحصر فيه.

والريب: الشك. والغرض الرد على المشركين حيث كانوا يلقون الشك في قلوب الناس بابداء احتمال اندساس الشياطين في صفوف الملائكة او نزول الشيطان بصورة ملك وامثال ذلك ويستندون في تشكيكهم الى نزول الشياطين بأخبار السماء على الكهنة. ومع ان الكهانة انتهت بالبعثة النبوية المباركة الا ان الاستناد الى الكهانات لإيجاد الشك كان باقيا.

والله تعالى ردّ عليهم في عدّة موارد وبيّن أن الوحي ينزل بطريقة لا يمكن للشياطين التاثير عليه قال تعالى (وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ * وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ * إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ).[6]

 وقال تعالى في طريقة نزول الملائكة بالوحي (وَالصَّافَّاتِ صَفًّا * فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا * فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا)[7] فبيّن أنهم ينزلون جماعات صافة فمنهم جماعات زاجرة للشياطين ومنهم جماعات يتلون الذكر على الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.

والحاصل ان قوله (لا ريب فيه) لا يعني انه لا يوجد من يشك فيه بل معناه انه ليس محلّا للريب والشك ولا ينبغي ان يشكّ فيه احد بان يشكّ في كونه من الله تعالى وذلك لوضوح الاعجاز فيه وانه لا يمكن ان يكون من غيره تعالى كما قال جلّ شأنه (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا).[8]

و(هدى) مصدر كالهداية حمل على الكتاب من باب المبالغة فانه سبب للهداية ولكنه قويّ في التأثير فكأنّه بنفسه الهداية ولكنه هدى للمتقين ولا يهتدي به من لا يتقي الله ولا يخاف عذابه وسخطه بل تزيده آيات الكتاب حقدا ونفورا وبالتالي يزداد خسارا كما قال تعالى (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا).[9]

وجملة (هدى للمتقين) خبر اخر لاسم الاشارة او لضمير مقدر اي هو هدى للمتقين او مبتدأ خبره (فيه) بناءا على قراءة الوقف على الريب فيكون قوله (فيه هدى للمتقين) جملة اخرى.

والتقوى اسم مصدر من وقي قال في العين (التقوى في الاصل وقوى فعلى من وقيت فلما فتحت ابدلت تاءا فتركت في تصريف الفعل في التقى والتقوى والتقاة والتقية). وقال في المفردات ( الوقاية حفظ الشيء مما يؤذيه ويضرّه).

والمتقين من الاتقاء وهو افتعال من الوقاية ومعناه ان يحفظ الانسان نفسه من شيء يضره ويتعلق غالبا بنفس ما يضره كقوله تعالى (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ)[10] او (وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا)[11] او (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً)[12] واما اذا تعلق به تعالى كقوله (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ)[13] وهو كثير فلا بد من تقدير متعلق كالغضب والعذاب فان الله تعالى لا يتقى منه بنفسه كما قال (وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ).[14]

وربما يقال ان الانسان لا يكون متقيا الا بعد ان يؤمن بالله وبالرسالة وبالكتاب فيكون قد اهتدى قبل ان يهديه الكتاب. والذي هو بحاجة الى الهداية من لم يؤمن وليس من المتقين. او يقال بأن القرآن كتاب هدى للجميع وليس خاصا بالمتقين.

وقد اجيب عنه بوجوه:

الوجه الاول: أن الهداية لها معنيان اراءة الطريق والايصال الى المطلوب والقرآن هداية للجميع بالمعنى الاول وهداية للمتقين بالمعنى الثاني.

ولكن القرآن ليس بنفسه هاديا وانما هو مجموعة معارف واحكام فيهتدي به الانسان اذا آمن بما يحتوي عليه من المعارف وعمل بما فيه من الاحكام فدور القرآن في الهداية ليس الا اراءة الطريق والهداية بمعنى الايصال الى المطلوب تستند الى الله تعالى فحسب ولذلك قال تعالى (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ..)[15] مع ان اراءة الطريق وظيفة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والهداية التي لا يتمكن منها بالنسبة الى الجميع هو الايصال.

الوجه الثاني: ما ذكره العلامة الطباطبائي قدس سره في الميزان بعد ان اشار الى أن الاشكال أعمق مما ذكر وذلك لانه تعالى وصف المتقين بأنهم على هدى في آخر اوصافهم حيث قال (أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ..) فالقرآن هدى لهم مع أنهم على هدى.

وحاصل ما ذكره أن المراد بالهدى الذي هم عليه قبل القرآن الهداية الفطرية وأن الانسان بفطرته السليمة يصل الى مبادئ الدين من التوحيد والنبوة والمعاد والى وجوب الصلاة والزكاة وهذه هي صفات المتقين الخمسة التي ذكرها في الآية فالهداية الثانية التي تصل اليهم من القرآن جزاء من الله تعالى اكراما لهم على متابعتهم الفطرة السليمة.

واستدل على ذلك ببعض الآيات كقوله تعالى (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ..)[16] وقوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ..)[17] وقوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ).[18] وقال ان الآيات التي تدل على هداية ثانية جزاءا للهداية الاولى كثيرة.

وما ذكره قدس سره يصعب علينا قبوله لعدة امور:

الاول: ان المراد بالهدى في قوله تعالى (اولئك على هدى من ربهم) نفس هذه الهداية التي يحصلون عليها بمتابعة القرآن كما أن الفلاح ايضا ليس الا بها ولا موجب لافتراضها هداية فطرية كانت لهم بفطرتهم ولا تدلّ الآية على أنّهم كانوا عليها قبل القرآن.

الثاني: ان حمل ما ورد في الآية من الصلاة والانفاق والايمان بالغيب وبالرسالات على ما تمليه الفطرة غير قابل للقبول وهو واضح فلا تطلق الصلاة على الخشوع القلبي ولا الانفاق في سبيل الله على التصدق على الفقراء رحمة بهم ولا الايمان بالغيب على ما يشعر به الانسان من الانجذاب الى الله تعالى حسب فطرته واما الايمان بما انزل في الرسالات وما انزل على الرسول صلى الله عليه وآله وسلم خاصة فهو الايمان بالشريعة تماما ومن آمن به فهو من المؤمنين ولا يطلق عليه انه من اتباع الحنيفية.

الثالث: استدلاله رحمه الله بالآيات غريب فالمستفاد منها ليس الا أن الايمان له مراتب والمطلوب من المؤمنين تقوية ايمانهم بل يمكن ان يكون المراد بالذين آمنوا من آمن في الظاهر فيشمل حتى المنافقين والمطلوب من الجميع الايمان الواقعي ولا علاقة للآيات بالايمان الفطري وان الله تعالى يجزي عليه بالايمان بالشريعة والكتاب.

الوجه الثالث: ما ذكره الشيخ الطوسي قدس سره في التبيان وهو ان القرآن وان كان هدى للجميع الا ان الذي يهتدي به وينتفع به هم المتقون نظير قوله تعالى (إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ..)[19] مع أنه ينذر الجميع الا ان من يستفيد من انذاره هو الذي يتبع الذكر. وبعبارة اخرى القرآن نزل لهداية الجميع وهذا شأنه ولكن الذي يهتدي به بالفعل هو المتقي فحسب.

وهذا لا باس به في حد ذاته كما يجاب به في الموارد المشابهة ايضا كالآية المذكورة آنفا وكقوله تعالى (إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا)[20] وغيرهما.

ولكن الصحيح أن الاشكال لا اساس له من أصله لانه يبتني على أن هداية القرآن لا تختص بالمتقين بل هو هداية للجميع حيث يدعوهم الى الايمان بالله تعالى وبالرسالة ولكن القرآن له نوعان من الهداية:

الاول انه يهدي الى اصل الايمان بالله وبالرسالة وذلك باعتبار انه معجزة وآية الهية تدل على رسالة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وهذه الهداية عامة للجميع.

الثاني انه يدعو الى العمل باحكام الشريعة ويهدي الانسان الى المعارف الالهية وهذه الهداية خاصة بالمؤمنين المتقين فان المؤمن المتقي بحاجة بعد الايمان الى من يهديه الى ما هو الحق من المعارف الالهية وما يجب ان يعمل او يترك في طريق التقوى ليصل الى الكمال المطلوب وبهذا المعنى ليس القرآن كتاب هداية الا للمؤمنين المتقين فحسب.

وبعبارة اخرى الهداية الحاصلة بالكتاب تختلف عن الهداية التي هي سبب للايمان بالرسالة وللتقوى فاذا آمن الانسان بالله تعالى وبكتابه وبرسوله صلى الله عليه وآله وسلم فقد اهتدى الى الدين الصحيح ولكنه برجوعه الى القرآن الكريم يستضيء بنور هداه الى سبل السلام ويتبيّن له الطريق الصحيح للوصول الى غاية الكمال ونيل رضوان الله تعالى ويتثبت في دينه.

ولذلك ندعوه دائما وفي كل صلاة (اهدنا الصراط المستقيم) ويدعو بهذا الدعاء المعصومون المقربون ايضا وهم مهتدون قطعا ولكن الانسان مهما كان لا يستغني عن هدايات الله تعالى في جميع شؤون حياته وقد قال تعالى (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ).[21] فالاشكال فاسد من اصله.

 

الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ...

خمس صفات للمتّقين: الايمان بالغيب وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والايمان بجميع الرسالات وبالمعاد.

فالايمان بالغيب يبتني على صفة نفسية يتوقف عليها الايمان بالله تعالى وبرسالاته فهو الاصل وسيأتي توضيح لهذا الامر ان شاء الله. ولم يذكر الايمان بالله لانه جزء من الايمان بالغيب مع أنّه مفروض من التوصيف بالتقوى وباقامة الصلاة.

والايمان فسر في كتب اللغة والتفسير بالتصديق واستشهدوا عليه بقوله تعالى في نقل كلام اخوة يوسف لابيهم عليهما السلام (وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا..)[22] وفي المفردات أنه إفعال من الامن وهو الطمأنينة. ولعله مراد العلامة رحمه الله حيث قال (الإيمان تمكّن الاعتقاد في القلب مأخوذ من الأمن كأن المؤمن يعطي لما آمن به الأمن من الريب والشك).

وعليه فالمؤمن انما يطلق عليه ذلك لأنه يحقق الطمأنينة لنفسه بالنسبة الى معتقده واذا آمن الانسان أحدا اي أجاره فهو مؤمن او مؤمّن له اي يحقق الطمأنينة له واذا وصف به الله تعالى فلأنه الواهب للطمأنينة والوثوق والامان.

وهذا لا ينافي وجود مرحلة متكاملة من الاطمئنان فوق ما يعتبر في صدق الايمان كما يظهر من قوله تعالى (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي..)[23] اذ لا شك انه عليه السلام كان مطمئنا بقدرته تعالى وبأنّه يحيى الموتى الا أنه أراد أن يرى ذلك بعينه ليزداد اطمئنانا فان ما يصدّقه الانسان بعقله وان اطمأن به الا أنه ليس كالرؤية بالعين.

وأما وجه تعدّيه بالباء او اللام فهو أنّه متضمن معنى الاقرار والتصديق. وقيل ان هناك فرقا بين تعدي الايمان بالباء وتعديه باللام فالاول بمعنى التصديق والثاني بمعنى قبول كلامه لمصلحته فاللام تدل على المنفعة وبذلك فسّر قوله تعالى (وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ..)[24] فالمعنى انه يؤمن بالله ويصدّق كلام المؤمنين وان لم يتبين صدقهم مراعاة لحالهم.

ولكن الظاهر انه لا فرق بينهما فان القرآن يحكي كلام فرعون بكل منهما خطابا للسحرة بعد ايمانهم قال تعالى (قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ..)[25] وقال في سورتي طه والشعراء (قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ..).[26]

وبالتأمل في معنى الايمان يتبين أنه ليس امرا انفعاليا فحسب وأنه ليس نوعا من العلم بل هو فعل اختياري من الانسان حيث يوجِد في نفسه الطمأنينة ولذلك يؤمر به قال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ..).[27] فالايمان الذي جعل صلة في هذه الاية يراد به الدخول في حوزة المؤمنين والايمان المأمور به هو تحقيق الطمأنينة والوثوق في القلب.

والانسان يمكنه ان يحقق الوثوق في نفسه بالنسبة الى شيء ويُقنع نفسه فالايمان امر اختياري وهو قابل للشدة والضعف فمن اراد ان يقوّي ايمانه ينظر في آيات الله الكونية والكتابية ويفتح قلبه لكل ما يوجب الوثوق منها فيحصل على اقوى مراتب اليقين ويرى ما لا يراه الناس كما حدث في عهد الرسول صلى الله عليه واله وسلم لبعض الصحابة.

روى الكليني بسند معتبر عن ابي عبدالله عليه السلام انه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صلى بالناس الصبح فنظر إلى شاب في المسجد وهو يخفق ويهوي برأسه مصفرّا لونه قد نحف جسمه وغارت عيناه في رأسه فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كيف أصبحت يا فلان؟ قال أصبحت يا رسول الله موقنا، فعجب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من قوله وقال إن لكل يقين حقيقة فما حقيقة يقينك؟ فقال إن يقيني يا رسول الله هو الذي أحزنني وأسهر ليلي وأظمأ هواجري فعزفت نفسي عن الدنيا وما فيها حتى كأني أنظر إلى عرش ربي وقد نصب للحساب وحشر الخلائق لذلك وأنا فيهم وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتنعمون في الجنة ويتعارفون وعلى الارائك متكئون وكأني أنظر إلى أهل النار وهم فيها معذبون مصطرخون وكأني الآن أسمع زفير النار يدور في مسامعي فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لاصحابه هذا عبد نور الله قلبه بالايمان، ثم قال له الزم ما أنت عليه فقال الشاب ادع الله لي يا رسول الله أن ارزق الشهادة معك فدعا له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلم يلبث أن خرج في بعض غزوات النبي صلى الله عليه وآله وسلم فاستشهد بعد تسعة نفر وكان هو العاشر).[28] والحديث مروي في كتب العامة ايضا بصور مختلفة وفي بعضها ان اسمه الحارث بن مالك.[29]

فهذا الحديث يدل على أن الانسان يتمكن من تقوية ايمانه فضلا عن عقد قلبه به وأما من لا يهتم بالدين ولا يفتح قلبه للايمان فانه يحاول التشكيك في كل شيء وبأيّ عذر حتى انه قد يتشبث بما رآه من عدم التزام بعض رجال الدين ليشكك في اصل الدين وتراه دائما في ريبة من امر دينه لا يستقر على قرار كما قال تعالى (وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ).[30] حتى لو شاهد معجزة واضحة يشك فيها كما قال تعالى (وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ * لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ)[31] وربما يؤمن بسبب معجزة او كرامة ثم يعود الى شكه لمجرد إلقاء شبهة ضعيفة من اعداء الدين.

ثمّ إنّ فعل المضارع يدلّ على الاستمرار وهو واضح في إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وأما الايمان فهو يحصل بمجرد التصديق بالرسالة فيقع السؤال عن مدلول الفعل المضارع هنا.

يمكن أن يكون المراد عدم عروض التكذيب او التزلزل في الايمان فيكون التصديق مستمرا باقيا بل متجدّدا لأن الانسان دائما في معرض التشكيك والترديد فهناك شياطين الانس يحاولون بثّ سمومهم وشكوكهم في المجتمع المؤمن وشياطين الجن يستمرون في الوسوسة في النفوس المؤمنة فلا بدّ للانسان المؤمن أن يكون متيقظا حذرا ويجدّد ايمانه بالغيب ويتعوذ بالله من شياطين الانس والجن كما قال تعالى (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ).[32] وهذا ايضا لا يتم الا برياضة نفسية وخشوع وتوجّه دائم الى الله تعالى والعزوف عن المغريات.

وهناك من الناس من يستهين بالايمان ويرى أنه لا موجب للاهتمام بتحصيله ومحاولة دفع الشكوك عن النفس فهو لا يحل لنا مشكلة في الحياة ولكن الواقع أن الذي يبعث الانسان ويدعوه لايجاد الايمان في نفسه وتثبيته هو الخوف من المستقبل المجهول فهو يلاحظ ان الانبياء طيلة التاريخ البشري أتوا لينذروه بما يستقبل الانسان من الخطر الدائم في عالم مجهول وهذا على الاقل يثير فيه احتمال الصدق.

ومن الغباء والتخلف العقلي ان لا يهتم به بحجة انه لا يشعر بما وراء هذه الطبيعة فالخطر كل الخطر فيما لا يشعر به الانسان ومن هنا نعلم ان المادّية المضلّلة أضرّت بالبشرية اعظم الضرر حيث أغفلته عن متابعة هذا الامر واختلقت له المعاذير كالقول بان هذا امر لا تصل اليه عقولنا فلماذا نضيّع فيه أوقاتنا والافضل لنا ان نهتمّ بما يفيدنا عاجلا من العلم المادّيّ ونطوّر بذلك حياتنا المادّيّـة.

وبعض المؤمنين أبهرتهم حضارة المادّيّين وتقدّمهم في شؤون الحياة الدنيا وما وصلوا اليه من الرفاه الكاذب وتخلّوا عن الإيمان بالغيب تبعا للإعلام الفاسد.

والايمان بالغيب هنا فيه احتمالان:

الاحتمال الاول: أن المراد بالغيب المعنى المصدري كما هو ظاهره والغيب كل ما هو غائب عن الأنظار وهو أمر نسبيّ فما هو غيب لنا قد يكون مشهودا لغيرنا ولكن المراد هنا بناءا على هذا الاحتمال هو ما يكون غائبا عن انظار المجتمع ومتعلق الايمان مقدر وهو الله تعالى او الشرع والباء بمعنى (في) فالمراد ان يؤمن بالله في الخفاء ولا يقتصر ايمانه بما يعلن به امام الناس فهذا القيد يخرج المنافقين كما سيأتي ذكرهم.

وقد استعمل الغيب بهذا المعنى في موارد كثيرة في القرآن كقوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ..)[33] وقوله تعالى (الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ..)[34] وله عدة نظائر وكذلك قوله تعالى (وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ..)[35] وغير ذلك من الآيات فالمراد بالغيب في كل هذه الموارد هو ما غاب عن انظار عامة الناس.

الاحتمال الثاني وهو الصحيح ان يكون الايمان متعلقا بنفس الغيب وهو مصدر يراد به اسم الفاعل اي الغائب والمقصود هنا ما هو غيب لجميع البشر اي لا تمكن مشاهدته ولا الإحساس به بإحدى الحواسّ. وهذا ينطبق على الله تعالى وعلى الملائكة والوحي والحياة بعد الموت اي عالم الآخرة وما وراء الموت بصورة عامّة فالانسان لا يعلم ماذا يحدث للبشر بعد الموت مباشرة وهو يشعر شعورا خفيّا بأنّ هناك اُمورا تحدث لروح الانسان بعد موته ولكنّه حيث لا يعلم التفاصيل ويخاف من ذلك فربما ينكر أصل وجود الروح.

والمادّية الحديثة تنكره ايضا مع أنّ الشواهد القطعيّة على وجوده وآثاره كثيرة:

منها الاحلام الصحيحة التي تحكي عن حوادث مستقبلية او حوادث في أماكن بعيدة ونجدها تتحقّق.

ومنها تحضير الارواح وإخبارهم بامور لا نعلم بها وهي صحيحة.

ومنها الأفعال الغريبة التي تصدر من روح الانسان في التأثير على الأشياء بطريقة غير طبيعية مما يحصل بسبب الرياضات الصعبة على ما ينقل. وغير ذلك. والروح البشري من الغيب ايضا لانه ليس مادّيا.

ثم إنّ بعض المفسّرين فسّر الغيب بوجوده تعالى وبعضهم عمّمه ليشمل الملائكة واليوم الآخر. ولكن الظاهر أنّ المراد به هو نفس الغيب ولا وجه لتأويله فالمؤمن هو الذي لا يقتصر في وثوقه واطمئنانه على ما يراه ويحسّ به بل هو واثق تمام الوثوق أنّ هناك وراء هذه الظواهر عالما آخر أوسع من هذا الكون المشهود بكثير.

ونفس هذا الإيمان يساعده على تخطّي هذه الظواهر وعدم الاهتمام بها والركون اليها وكلما حاول الانسان الوصول الى عالم الغيب وبذل الجهد في هذا السبيل فإنّ نفسه تتّسع وتتقوّى الى أن يصل الى حد يرى ما هناك كما يرى ما هنا بل ربما يرى حقائق الغيب أوضح من حقائق هذا الكون فإنّ الاحساس كثيرا ما يخطئ حتى في المشاهدة أمّا ما يصل اليه الانسان بروحه ونفسه فلا يرتاب فيه لأنّه ليس رؤية ولا إحساسا بواسطة الحواسّ بل هو إدراك مباشر.

والحاصل أنّ الإيمان بالغيب يبتني على صفة نفسية هو الفارق الاساس بين الالهيين والماديين فان المادية تتبنى نفي كل ما لا يراه الانسان ولا يحسّ به بكل ما اوتي من وسائل ومجاهر ولا يصل اليه بآثاره عن طريق المحاسبات الرياضية ونحوها. ولكن المؤمن يخترق جدار الطبيعة بروحه القويّة وإيمانه العميق ويصل الى معدن العظمة ويرى ما لا يراه العلماء المادّيّون بالرغم من قدراتهم العلمية.

وبهذه المناسبة أذكر ما دار بيني وبين احد منكري وجود الامام المنتظر المهدي أرواحنا فداه مع أنّه لم يكن من منكري أصل المهدوية ولكنه لم يعترف بوجود ولد للامام الحسن الزكيّ عليه السلام كما تقوله الشيعة لأنّ التاريخ لم ينقل لنا ذلك بوضوح وليس هناك دليل واضح على وجود ولد له.

وهذا صحيح وطبيعيّ لأنّ الأعداء كانوا يترقّبون وجوده ويبحثون عنه كما كان فرعون وجنوده يبحثون عن موسى عليه السلام وكما أخفاه الله تعالى مع غاية ظهوره ووجوده في قصر الطاغية كذلك أخفى وجود الامام المهدي عليه السلام عن أعينهم فلم يره أحد ولم يبرزه والده لعامة الناس حفاظا عليه ومن الطبيعيّ أنّ مولودا كهذا لا يذكر في التاريخ ولا يوجد دليل واضح على وجوده.

ولما عارضني الرجل بأنّك أيضا لا يمكنك الإقرار بوجوده أجبته في بعض المواقع بأنّي مؤمن به عليه السلام وأدعو الله صباحا ومساءا أن يجعلني من أنصاره والمستشهدين بين يديه.

وكتبت هناك أنّ إيماني به ينبع من الإيمان بالغيب وأنت محروم عنه وذلك لأنّ ولادة الامام المهدي في بيت الامام العسكري عليهما السلام ومشاهدته وإن وردتا في روايات موثوقة كثيرة الا أنّ الاصل في إثبات ذلك الروايات الكثيرة المتواترة التي وردت عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأئمة الهدى عليهم السلام مع التصريح بأنّه التاسع من ولد الإمام الحسين عليه السلام ونحن نؤمن بأنّ كلّ ما جاء به الرسول صلى الله عليه واله وسلم وحي من الله تعالى فنؤمن به إيماننا بالغيب بخلاف المادّيين فهم لا يؤمنون الا بما ثبت بالحسّ.

 

وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ...

والصفة الثانية من صفات المتقين المهتدين بالكتاب إقامة الصلاة وهي حفظ علاقة الانسان بربه والإتّصال به والخشوع لديه في كل يوم عدّة مرّات بحيث لا يشعر الانسان بابتعاده عنه بسبب التوغّل في الدنيا وشؤونها زمانا طويلا إلّا ويعود اليه تعالى في صلاة اُخرى في نفس اليوم فالدين لا يقبل من المؤمن أن يبتعد عن ربه ويشتغل بامور الدنيا مدة طويلة ولا يرتبط بربّه الا في مناسبات متباعدة بل يحثّه على التواصل المستمر.

 وإقامة الصلاة جعلها قائمة بمعنى ثبوتها ودوامها فالقيام في اللغة بمعنى الإعتدال والإنتصاب. ويتمّ ذلك برعاية جميع شرائطها وواجباتها بل وآدابها ومن أهمّ ما يعتبر في كمالها التوجّه الى الله تعالى بالقلب بأن يستشعر الخشوع والخضوع والتذلّل أمام ربّه.

وقد ورد في أحاديث متعدّدة أنّ الصلاة لا تقبل الا ما كان مع التوجه الى الله تعالى وليس المراد بطلان الصلاة فيما لم يُقبِل فيه على ربّه بل بمعنى أنّها لا تفيده كعمل صالح يرفع من رتبته يوم القيامة وإن كانت الصلاة صحيحة لا تجب إعادتها.

ففي صحيحة محمد بن مسلم عن ابي جعفر عليه السلام قال (إنّ العبد لَيُرفع له من صلاته نصفُها او ثلثُها او ربعُها او خمسُها فما يُرفع له الا ما أقبل عليه بقلبه وإنّما اُمرنا بالنّافلة ليتمّ لهم بها ما نقصوا من الفريضة).

وفي صحيحة الفضيل بن يسار عن ابي جعفر وابي عبدالله عليهما السلام أنّهما قالا (انما لك من صلاتك ما اقبلت عليه منها فان اوهمها كلها او غفل عن أدائها لُفَّت فضرب بها وجه صاحبها) [36]

وقوله عليه السلام (أوهمها كلها) اي كان الى اخر الصلاة واهما غافلا لا يشعر بما يعمل وقوله (غفل عن أدائها) اي غفل عن كونه في حال الصلاة والجملة الاخيرة تعبير قاس عن عدم القبول.

وهناك كثير من الناس لا يمكنهم استشعار الخضوع بل الحضور امام الله تعالى بل استشعار حالة المصلي في جميع حالات الصلاة فمن الطبيعي ان الانسان لا يتمكن من الابقاء على حالته الاولى والذهن كما يقال كثير الجولان لا يبقى على استشعار امر واحد مدة طويلة حتى قيل ان مثل الانسان في تحوله بين الخواطر الذهنية كالطير المتنقل من غصن الى غصن بل الواقع انه أسرع من ذلك بكثير.

ويقال إنّ من أصعب الرياضات التي يمارسها المرتاضون هو تثبيت الذهن على أمر واحد خمس دقائق بل يقال إنه لا يمكن لغالب الناس حتى لدقيقة واحدة ولكن تثبيت الذهن ممكن اذا كان الانسان مشغولا بعمل يستوجب الدقّة ولذلك قال بعض المشايخ إنّ التوجّه في الصلاة ممكن اذا كان الانسان يفكّر في معاني ما يقرأه.

ولكن هذا ايضا لا يحلّ المشكل فالانسان في صلاة الجماعة لا يقرأ وقد لا يسمع كما في الإخفاتية مع أنّ السماع لا يوجب تثبيت الذهن.

مضافا الى ذلك أنّ التثبيت إنّما يكون في أوّل صلاة يصليها الانسان بعد تعلّمه واما بعد الممارسة والتعوّد يعود الاشكال كما أنّ أصحاب الصناعات الدقيقة بعد الممارسة يمكنهم الاستمرار في العمل مع الاشتغال بالتحدّث الى آخرين او التفكّر في امور اخرى.

فالحلّ ليس الا محاولة تثبيت الذهن واستشعار الحضور أمام الله تعالى مهما أمكن والالتزام بآداب الصلاة فانها تساعد على تثبيت الذهن ومنها النظر حال القيام الى موضع السجود وقد ورد ذلك في الروايات وان يصلي في موضع لا يشغل باله شيء كالاطفال والاصوات وأن لا يكون أمامه مرآة او صورة او كتاب او خط او باب مفتوح وكل ما يمكن ان يلفت نظره وهذه المحاولة تفيد بصورة قطعيّة بعد الممارسة والتكرار.

ومن المؤسف أنّ مساجدنا اليوم مملوءة باطنا وظاهرا بالزخرفة والنقوش بحيث فقدت معنويّتها وأصبحت مدعاة للعزوف عن التوجه الى الله في الصلاة وهناك سباق بين الناس في ذلك وكأنهم يرون فيه مرضاة لله تعالى.

واما الشروط المعتبرة في الصلاة كالطهارة فتبطل الصلاة بفقدانها او عدم صحتها ولو جهلا فان كان معذورا في جهله فلعله يحصل على شيء من الثواب ان كان مخلصا في نيّـته ولكنه لا يصحح العمل ويجب عليه القضاء.

ولعل بعض الناس يتوهم أنّ الطهارة وشروط صحتها وغيرها من شروط صحة الصلاة امور شكلية ظاهرية ولا تؤثر في حقيقة الصلاة التي هي التوجه والعطف كما سيأتي.

وهذا التوهّم يسري في كثير من الاحكام الشرعية فيلاحظ من بعض الناس عدم الاهتمام بها لانها لا ترتبط بالعدالة الاجتماعية او بحياة الانسان ويعود الامر في ذلك الى عدم معرفة وجه الحكمة في الشريعة.

ولذلك كثيرا ما يقال بوحدة المذاهب وأنّ الاختلاف في الفروع كالاختلاف في فتاوى فقهاء المذهب الواحد ولا ينبغي الاهتمام به وكثيرا ما يستبعد الانسان حكما شرعيا لانه لا مصلحة فيه او المصلحة في خلافه.

ولكن الواقع ان المصلحة العامة في جميع الاحكام هو امتحان الانسان ليتبيّن من يتعبّد بالشرع. والتعبّد لا يتوقف على معرفة وجه الحكمة بل لو عرفه الانسان فقد يكون عمله بداعي تحقيق تلك المصلحة لا للتعبّد ويبطل العمل حينئذ اذ يفقد الاطاعة والتعبّد وقصد القربة وانما يحصل التعبّد مع الجهل بالحكمة بل ربما يرى الانسان الحكمة في خلاف الحكم ومع ذلك يتعبّد به.

روى الكليني قدّس سره بسند صحيح عن زرارة ومحمد بن مسلم عن ابي جعفر عليه السلام قال ( إنّما الوضوء حدّ من حدود الله ليعلم الله من يطيعه ومن يعصيه وإنّ المؤمن لا يُنجّسه شيء إنّما يكفيه مثل الدهن).[37]

وقوله عليه السلام (وان المؤمن لا ينجّسه شيء) يقصد به نفي القذارة المعنوية التي ربما يُدّعى حصولها للانسان وزوالها بالوضوء كوجه للحكمة فيه. فبيّن الامام عليه السلام انه ليس وجها له. والوجه في جميع حدوده تعالى تميّز المطيع عن العاصي.

ويبتني على هذا التوهّم توهّم آخر وهو أنّ الصفات المذكورة في الآية الكريمة موجودة في جميع المسلمين الملتزمين بشتّى فرقهم ومذاهبهم فيشملهم جميعا الحكم بانهم مهتدون ومفلحون. بل يشمل حتى الفرق الضالّة التي تنشر الرعب والارهاب في صفوف المسلمين وتقتل وتعتدي كما يلاحظ انتشارهم وكثرتهم في زماننا هذا وإهلاكهم الحرث والنسل فتشملهم الآية الكريمة بل لعلّها تشملهم بطريق أولى وأوضح لما يشاهد منهم من التضحية في سبيل العقيدة بالمال والنفس مما يدلّ على قوة إيمانهم بالله ويقينهم بالآخرة.

والجواب أنّ الآية لا تشملهم لأنّ المراد باقامة الصلاة رعاية كل شروطها الواقعية التي انزلها الله تعالى او سنّها الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وهم لا يتّبعون المذهب الحق ولا يلتزمون بالشروط الواقعية فكل اعمالهم باطلة.

وهذه الاحكام الشكلية والظاهرية - كما ذكرنا - هي اساس الدين والشريعة ولو صحّ القول بعدم الاهتمام بها لصحّ ان يقال لا ضرورة في اعتناق الدين الاسلامي والايمان بالرسالة وان كل من يؤمن بالله تعالى ولا يعتدي على الناس ويعمل الخير ويساعد الفقراء والضعفاء فهو مستحقّ للثواب والجنة وان لم يلتزم بالدين او لم يؤمن بالرسالة.

وهذا خطأ واضح والله تعالى يقول (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ).[38] وكما لا يقبل الله ممن لا يعتنق الاسلام عمله لا يقبل ايضا ممن لا يؤمن بكل ما أنزل الله على رسوله صلى الله عليه وآله وسلم من الاحكام ومن أهمّ ما أنزل الولاية فمن لم يؤمن بها فهو غير مؤمن بالرسالة ايضا.

ولذلك كان تبليغ الرسالة بأجمعها منوطا بتبليغ الولاية كما قال تعالى (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ).[39]

ولا يمكن أن يكون المراد من التبليغ الاول تبليغ كل الرسالة اذ يكون المعنى ان لم تبلغ فما بلغت فيجب ان يختلف متعلق التبليغ. وقوله (والله يعصمك من الناس) يدل على أن متعلق هذا التبليغ مما كان يثير بعض الاحقاد الجاهلية الباقية في قلوب بعض المسلمين.

وذيل الآية يشير الى أن من يعارض هذا الحكم فهو كافر وهذا لا يختص بهذا الحكم قطعا بل الكفر هو معارضة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في ايّ حكم يبلغه عن الله تعالى.

ولذلك ايضا اعتبر إعلام الولاية موجبا ليأس الذين كفروا ومكمّلا للدين حيث قال تعالى (الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا).[40]

وليس لاحد ان يأخذ ببعض الدين ويترك بعضه كما قال تعالى في بني اسرائيل (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ).[41]

ويلاحظ أن كثيرا من الناس مع ايمانهم بالله وبالرسالة وبالولاية لا ينصاعون لبعض احكام الدين حيث لا يلائم أهواءهم. ولذلك ورد في كلام امير المؤمنين عليه السلام (غيرة المرأة كفر).[42] وليس ذلك لانه يؤول الى الكفر كما قال بعض الشرّاح بل لانها بسبب غيرتها وعدم تقبّلها لزواج الرجل بغيرها ترفض الانصياع لحكم صريح من احكام الله تعالى.

وهذا لا يختص بهنّ فنحن نجد من المؤمنين من يهتمّ غاية الاهتمام بالصلاة وكثير من الاحكام الظاهرة للعيان حتى المستحبّات ويهتمّ بحفظ الشعائر ولكنه يرفض الحكم بالانفاق كدفع الزكاة والخمس ونحوهما.

والحاصل أنّ الايمان بالرسالة والشريعة لا يتبعّض فمن قال في مواجهة تعيين ولي الامر ان الامر يجب ان يكون شورى تمسّكا بظاهر الآية الكريمة في مقابل نص الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فهو منكر للرسالة.

ويتبع ذلك تخبّطه في الاحكام الفرعية وعدم الاتيان بشرائط الصلاة على ما شرّعه الله تعالى فتجده يغسل رجله في الوضوء خلافا لما امر الله به من المسح ولعله يتأوّل عمله بان غسل الرجل اولى من المسح. ولكنه غير صحيح ومخالف للنص القرآني.

وهكذا غيره من الاحكام وهي كثيرة وكلها مهمة. وهذا هو الاساس.

ولذلك كانت الولاية اهم ركن في الدين ففي صحيحة الفضيل بن يسار عن ابي جعفر عليه السلام قال (بني الاسلام على خمس على الصلاة والزكاة والصوم والحج والولاية ولم يُنادَ بشيء كما نُودي بالولاية فاخذ الناس باربع وتركوا هذه يعني الولاية).

والروايات في هذا الباب متعددة ومنها صحيحة زرارة عن ابي جعفر عليه السلام قال (بني الاسلام على خمسة اشياء على الصلاة والزكاة والحج والصوم والولاية قال زرارة فقلت وأيّ شيء من ذلك افضل فقال الولاية افضل لانها مفتاحهن والوالي هو الدليل عليهن..). [43]

والسر واضح لانهم اذا أخطأوا في الولاية اخطأوا في الجميع واتّبعوا غير ما انزل الله تعالى وتركوا سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وخسروا في كل ذلك كما مُني به العالم الاسلامي.

ويمكن ان يراد بإقامة الصلاة المحافظة على أوقات فضيلتها والاهتمام بها وجعلها من أهمّ الأولويات فإنّ الصلاة عند الغالب من المصلّين في آخر أولوياتهم ولا يذكرونها الا بعد الانتهاء من كلّ ما يهمّهم من شؤون الدنيا، ونسمع من بعضهم اذا نودي للصلاة الاعتذار بانه مشغول وكأنّ الصلاة فرضت لملء أوقات الفراغ مع أنّها أهمّ من كل الامور وعلى المؤمن أن يفرغ نفسه لها بل يفرغ باله لها ايضا.

واذا نُسِبت إقامة الصلاة الى المجتمع كما هو الحال في هذه الآية فيمكن ان يراد بها اهتمام الجميع بحيث يبذل كل فرد نهاية وسعه في ترويجها والحثّ عليها. ويتم ذلك ببناء المساجد واقامة الجماعات وإعلان الاذان في البلدان وغير ذلك مما يلاحظ اهتمام المسلمين به في كل العصور تبعا لما فهموه من النصوص المتكررة في الكتاب العزيز من الحثّ على اقامة هذه الشعيرة التي هي عمود الدين كما في الحديث[44] بحيث يتبين بوضوح أنّ هذا مجتمع متعوّد على الصلاة ومهتمّ بها، فالمساهمة في إيجاد هذه الحالة في المجتمع هي من إقامة الصلاة.

وهناك بحث في اللغة واصول الفقه في اصل معنى الصلاة وانه هل هو الدعاء او انه العطف او الميل وقالوا ان الكلمة اطلقت على هذه الشعيرة بهذه المناسبة وقال بعضهم كابن سِيْدة ان اصلها بمعنى الركوع والسجود.

ولا يبعد أن يكون المعنى في أصل اللغة هو هذه العبادة الخاصة على اختلاف مصاديقها حسب الشرايع كما هو الصحيح في مبحث الحقيقة الشرعية من المباحث الأصولية والسر فيه أنّ الصلاة من أعرق المفاهيم البشرية، وكانت مع الإنسان منذ بدء خلقته فلا وجه لمحاولة كشف معنى لغوي يكون هو الأصل في هذه الكلمة ثم البحث عن زمان تحقق الحقيقة الشرعية.

 

وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ...

والصفة الثالثة للمهتدين بالقرآن الكريم الانفاق على الفقراء وعلى المصالح الاجتماعية الذي هو من ضرورات الحياة لكل من يعيش في أيّ مجتمع بشري فلا يجوز للانسان أن يكون آخذا ومستفيدا من الحياة المدنية في ظل مجتمع متكاتف من دون عطاء.

وعبّر عن الاموال بما رزقهم الله ليسهل على النفوس إنفاقها في ما يرضيه تعالى فالمال وان اكتسبه الانسان بتعبه الا أنه من رزق الله تعالى فان الرزق ليس كما يتوهّم بمعنى إيصال حصّة كل احد مما يحتاجه اليه. بل الرزق هو العطاء ولكل موجود حيّ نصيب من عطائه تعالى في الطبيعة مما تتوقّف عليها حياته من الماء والطعام والهواء وغير ذلك.

وقد جعل الله تعالى في الطبيعة لكل أحد حظّا منها وجعل له من القوى والوسائل ما يمكنه اكتساب نصيبه فما يحصل عليه الانسان بكدّ يمينه يعتبر من رزقه تعالى كما أنّ ما يحصل عليه كل حيوان بجهده من رزقه ايضا. وهذا معنى قوله تعالى (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا..).[45]

والرزق هو العطاء والانعام ولا يختص بما يجري ويستمر كما ربما يتوهم لقوله تعالى (وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ..) [46] ومن الواضح أنه عطاء محدود.

وفي معجم مقاييس اللغة أنه في الاصل يدل على عطاء لوقت ثم يحمل عليه غير الموقوت وربما يشهد له بعض التعابير منها ان الرزق يعبر عنه بالفارسية بـ (روزى) اي ما يصل الى الانسان يوميا والقرآن يعبر عن نعمه تعالى في الجنة بالرزق وهو عطاء مستمر قال تعالى (فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ).[47]

فلا يبعد ان يكون الرزق كل ما يوجب استمرار البقاء بعد الخلق والتطور والتكامل اللازم الى أن يصل الانسان الى الكمال المنشود ولكن المراد به هنا خصوص الاموال بقرينة الانفاق.

و(من) في قوله (مما رزقناهم) تبعيضية فان الانسان لا ينبغي ان ينفق كل ما اُوتي من مال على غيره بل قد لا يجوز فيجب عليه ان ينفق على نفسه أوّلا بما يحفظ به نفسه ثم على زوجته ثم على أولاده وابويه ثم على ارحامه واقربائه المحتاجين ثم ينفق على غيرهم من الفقراء وينفق ايضا في المصالح العامة في سبيل الله تعالى. وقد قال تعالى (وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا).[48]

والإنفاق إفعال من النَّفاق والنفوق اي التلف والنفاد. يقال نفقت الدابّة اي ماتت ونفق الطعام اي فَنِي. فالإنفاق: الاتلاف. والمراد به هنا صرف المال في وجوه البرّ ومنها مساعدة الفقراء. ولا يختص بالزكاة الواجبة كما توهمه بعضهم.

والانفاق ايضا كالصلاة لا يقبل الا بالولاية بل انه غالبا لا يكون في الموضع الصحيح من دونها فقد تبين ان الانفاق هو صرف المال ولكن لا شك في أنّ صرفه لا يكون من علامات المؤمن ومن مقتضيات الهداية اذ قد يصرفه في الباطل بل حتى لو صرف المال في ما هو بظاهره من شؤون الدين قد يكون وسيلة لنشر الباطل كما قال تعالى (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ).[49]

وفي عصرنا مساجد كثيرة لا ينشر فيها الا الضلال وينشأ فيها العتاة المردة الذين يحاربون الله ورسوله ويفسدون في الارض. 

 

وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ...

في هذه الآية الكريمة ورد ذكر الصفتين الرابعة والخامسة من صفات المتقين المهتدين بالكتاب العزيز فالرابعة هي الايمان برسالات السماء. وهذه الصفة تنحل الى امرين: الاول الايمان برسالة السماء بوجه عام. والثاني الايمان بالرسالة الحاضرة ووجوب متابعة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم واطاعته.

والقرآن يدعو الى الايمان بالرسالات السابقة كجزء من الدين قال تعالى (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ..).[50]

وقد تكرر هذا الامر في مواضع من القران منها قوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا).[51]

ومنها ايضا قوله تعالى (وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ).[52]

وقوله تعالى (قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ * فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ).[53]

ومعنى الايمان بتلك الرسالات الاعتراف بأنهم رسل الله وكان من الواجب متابعتهم في حياتهم ولا يعني العمل بما في شرايعها في هذا العصر فان هذه الشريعة كاملة لا ينقصها شيء ولا حاجة الى البحث عن الحكم في الشرايع السابقة للعمل.

والاحكام تتغير حسب تغير المقتضيات وتطوّر الانسان وانما الغرض اظهار وحدة الاديان وان كلها من قبله تعالى كما قال (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ..).[54] فالايمان بالرسل كالايمان بالملائكة والكتب السماوية ينبع عن الايمان بالقرآن والتسليم لما ورد فيه ولا يعتبر في هذا الايمان ان يكون مقدمة للعمل كما ان الايمان بالملائكة ليس مقدمة للعمل ايضا.

وفي الامر بالايمان بالرسالات السابقة تأكيد على وحدة الشرائع وأن هذه الرسالة ليست بدعا من الرسالات بل هي استمرار لها. وهذا يوجب قوة للرسالة الحاضرة وشعورا لدى المؤمنين بكثرة الاشياع فان الانسان مجبول على الاستيحاش من قلة الاشياع وان كان لا ينبغي له ذلك كما قال تعالى (قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ..).[55] وكما قال امير المؤمنين عليه السلام (أَيُّهَا النَّاسُ لَا تَسْتَوْحِشُوا فِي طَرِيقِ الْهُدَى لِقِلَّةِ أَهْلِهِ).[56]

ويترتب عليه ايضا الدعوة غير المباشرة لاهل الكتاب أن يتركوا التعصب ويؤمنوا بالرسالة الجديدة.

ويترتب ايضا الرد على توهم بعض اتباع الاديان السابقة المعتدلين حيث يظنون انه يكفي الانسان ان يكون مؤمنا بالله تعالى وباي رسالة سماوية فهو يعترف بنبوة نبينا صلى الله عليه وآله وسلم ولكن لا يجد ضرورة في ترك دينه والدخول في الاسلام.

وهذا اعتقاد باطل. واوضح آية في إبطاله قوله تعالى (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ * فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ).[57]

ولا شك أنّ الرسل ما كانوا يُبعثون في عصر الرسول السابق فالمراد أنّ كل رسول مأمور بان يُبلّغ امته بوجوب متابعة الرسول اللاحق والعمل بشريعته. ومن هنا كان الرسل عليهم السلام يبشّرون بالرسول المتأخّر كما قال تعالى (وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ..).[58] فهذه الرسالة من السيد المسيح عليه السلام لربط الاديان والشرايع بعضها ببعض فهو مصدّق للتوراة ومبشر برسالة الرسول الاكرم صلى الله عليه وآله وسلم.

ومن الخطأ ما وقع في بعض التفاسير تبعا لما ينسب الى بعض الصحابة والتابعين من أن هذه الجملة ليست لبيان وصف اخر من اوصاف المؤمنين المتقين بل هؤلاء طائفة اخرى وهم المؤمنون من اهل الكتاب الذين اهتدوا وآمنوا بالرسول صلى الله عليه وآله وسلم. وانما قالوا ذلك لتكرار الموصول مع العطف اي قوله (والذين يؤمنون) ولان الايمان بالرسالات السابقة ليس شرطا في الايمان بهذه الرسالة.

ومن هنا توهم ان المراد به من كان في زمان مؤمنا بتلك الرسالات ثم آمن بهذه الرسالة فجمع بين الايمانين. ولا شك ان تكرار الموصول والعطف لا يدلان على كون المراد بيان حال طائفة اخرى بل هذه صفة اخرى لنفس الطائفة.

والدليل ان الايقان بالآخرة لا شك انه من اصول الدين ولم يذكر في الطائفة الاولى فلا بد من كون هذا الوصف مكملا لاوصاف المؤمنين المتقين كما أن الايمان بالغيب واقامة الصلاة وايتاء الزكاة شرط مطلق وليس خاصا بالطائفة الاولى.

ولا حاجة الى تخصيص المؤمنين من اهل الكتاب بجملة فهم ايضا داخلون في مجموعة المؤمنين بالرسالة الجديدة. وايمانُهم بالكتب السابقة ليس وصفا خاصا بهم كما تبين مما تلوناه من الآيات بل المسلمون كلهم يؤمنون بها.

والحاصل أنه لا فرق بين كون المؤمن مشركا قبل ايمانه او من اهل الكتاب.

وقوله تعالى (بما انزل اليك وما انزل من قبلك) لا يختص بالكتب النازلة من السماء بل بكل ما اوحي من الله تعالى على رسله فكل ذلك مما انزل من السماء. ويشمل هذا العنوان الولاية ايضا بل هي من اوضح ما يجب الايمان به فان الدين لم يكمل الا بها.

وبتشريعها يئس الذين كفروا من زوال هذا الدين حيث تبين استمرار الولاية الالهية كما قال تعالى (الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا).[59]

والتعبير بالانزال باعتبار أن الوحي من الله تعالى وكل ما يصدر من الله فهو مما أُنزل كما ان التعبير بالسماء بهذا اللحاظ وليس هناك نزول وصعود مادي كما هو واضح. والسماء بمعنى عالم الملائكة ليس امرا ماديا فوقنا كما يتوهمه الناس بل بعض الخواص ايضا.

والصفة الخامسة: اليقين بالآخرة اي بالحياة الآخرة و(آخر) اسم فاعل من (أخر) ومعناه خلاف المتقدم اي آخر ما يأتي للانسان من الحياة فحياته في الدنيا هي الاولى ثم البرزخ ثم الآخرة.

واليقين بالحياة الآخرة هو العنصر الاساس في تحكيم التقوى وبدونه لا يشعر الانسان بوازع عن ارتكاب مخالفة القانون الديني والشريعة في كثير من الحالات بل اكثرها اذ لا يمكن تدخل رجال القانون في البيوت والمخابئ. بل هناك من مفاسد الاخلاق المانعة من تكامل الانسان وبلوغه الرتبة المنشودة ما لا يظهر لاحد وهي النيات الفاسدة ولا يمنعها الا التقوى والخوف من غضب الله تعالى وعذابه في الآخرة.

والدين لم ينزل لصيانة المجتمع وحفظ الأمن ونحو ذلك مما تهتمّ به الانظمة الاجتماعية فحسب بل هذه الامور مقصودة بالتبع، والاساس في الدين تكميل النفوس البشرية للوصول الى مدارج القرب لدى الله تعالى. وهذا مما لا تهتمّ به الانظمة الاجتماعية بل يعتبرونها امورا شخصية ومن خصوصيات الفرد التي لا يجوز التدخّل فيها.

واليقين على ما في العين (ازاحة الشك وتحقيق الامر) وفي المفردات (سكون الفهم مع ثبات الحكم) ويشير بقوله سكون الفهم الى طمأنينة النفس. واليقين لا يسند الى الله تعالى بخلاف العلم لان اليقين يدل على اطمئنان النفس ولو قلنا انه مجرد ازاحة الشك فلا يصح ايضا اسناده اليه تعالى.

والظاهر أنه مرتبة خاصة من العلم كما في المفردات ايضا ولذلك اضيف اليه العلم في قوله تعالى (كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ)[60] لان العلم قد يصدق لدى العرف مع قليل من الشك ولا يصدق اليقين الا باستقرار النفس وزوال كل احتمال مخالف حتى لو لم يكن بمقدار يهتمّ به العقلاء في شؤونهم الخاصة.

والاصل فيه - على ما يبدو - استقرار الماء لان اللغة توضع ابتداءا للامور المحسوسة ثم تستعمل في المعقولات وقد ورد في بعض كتب اللغة قولهم (يقن الماء في الحوض اذا استقر فيه)[61] وفي بعضها (يقن الماء في الحوض اذا استقر ودام)[62] وفي بعضها (يقال يقن الماء: سكن وظهر ما تحته).[63]

ولكن العلامة رحمه الله فسّر اليقين بانه لا يجتمع مع النسيان وعلل بذلك التعبير هنا بالايقان بدلا عن الايمان واستدل على ذلك بقوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ)[64] حيث يدل على ان الايمان بالآخرة لا يكفي لحصول التقوى بل لا بد من اليقين الذي لا يجتمع مع النسيان فالمتّقي يكون دائما على ذُكر والتفات بالنسبة للآخرة. والايمان لا يستلزم عدم النسيان.

هذا ولكن الظاهر عدم الفرق بين اليقين والايمان من هذه الجهة فلعل اختيار هذا التعبير للتفنن وعدم تكرار كلمة الايمان فان اليقين ايضا يجتمع مع النسيان وانما هو بمعنى إزالة الشك فالذي يحتاج اليه المتقي هو عدم الشك في الآخرة والمراد بالنسيان في الآية الكريمة عدم الاعتناء بيوم الحساب فيكون كأنه ناس له ومن هنا ورد اسناده الى الله تعالى كما قال (فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا..).[65] فالمعنى أنه تعالى لا يعتني بهم كما لم يعتنوا بلقائهم ربهم يوم الحساب.

هذا مع ان الاحتمال ايضا كاف في ترتب الخوف والتقوى الا أنّ مقاومة الغضب والغرائز لِمَن يشكّ في الآخرة امر صعب وانما يقاومها المتيقن بها وذلك لان الانسان اذا أراد شيئا فانه يحسب الاضرار والمنافع المترتبة ارتكازيا ولا شعوريا وقد يكون بسرعة فائقة قبيل العمل ويوازن بين اهمية المحتمل وقوة الاحتمال ثم يختار الفعل او الترك.

والضمير في قوله (هم يوقنون) لتأكيد إسناد اليقين اليهم ولا يفيد الحصر كما توهم.

 

أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ...

اسم الاشارة يعود الى المتقين الموصوفين بالاوصاف السابقة وهم المهتدون بالقرآن الكريم فهنا يعود ويؤكد على كونهم مهتدين بهدايته تعالى المتمثلة في هذا الكتاب العظيم.

والاتيان بحرف الاستعلاء في قوله (على هدى) يستبطن تشبيه الهداية بالطريق الذي يعلوه الانسان فيوصله الى مقصده وذلك بسبب ان الطريق يكون عادة اعلى من سائر الاماكن او تشبيهها بالمركوب الذي يوصله كما يقوله المفسرون والادباء.

ولكن لعل الطريق اولى بالتشبيه ومثله العلم والبصيرة والبينة قال تعالى (وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)[66] وقال (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي..)[67] وقال (قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي..)[68] وهكذا نظائرها كاليقين في قولك (انا على يقين من امري).

والمراد بالهداية التي هم عليها ما يستفيدونه من القرآن الكريم. والتنكير في قوله (هدى) للتعظيم اي هداية أيّما هداية فهذه الهداية هي الثانية التي تحصل لهم بمتابعة القرآن بعد اهتدائهم الى الاسلام والايمان بالله ورسوله.

ولذلك وصف الهداية بكونها من ربهم. وكل شيء من الرب الا ان التعبير يدل على عناية زائدة ولطف خاص بهم فهي ليست من الهدايات العامة. والتعبير بالرب يوحي بأن هذه الهداية دخيلة في تربيتهم ليبلغوا الكمال المطلوب بناءا على أن الرب بمعنى المربي.

وقد تكرر في القران الاشارة الى ان الله تعالى يهدي المتقين والصالحين كما انه يضل الفاسقين والظالمين كقوله تعالى (يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)[69] وقوله تعالى (وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ).[70] وسيأتي هنا ايضا مقابلة هذه الهداية بالختم على قلوب الذين كفروا وأسماعهم. فالهداية الثانية جزاء للصلاح والتقوى. والختم ايضا جزاء للعناد.

وكرر اسم الاشارة ليدل على ان هاتين نتيجتان مختلفتان وان كانتا متلازمتين فهم على هدى من ربهم في الحياة الدنيا لا يَضلّون الطريق وهم المفلحون في الآخرة. والضمير مع الالف واللام في قوله (هم المفلحون) يدل على الحصر وانه لا فلاح الا بذلك.

واختلف اهل اللغة في معنى الفلاح فقيل انه بمعنى البقاء في الخير كما في العين وحكي عن ابن السكيت انه بمعنى البقاء وفي مجموعة من الكتب انه بمعنى الفوز والبقاء. والظاهر أنه في الاصل بمعنى الشَقّ ومنه الافلح لمن كان في شفته السفلى شَقّ. ومنه ايضا الفلّاح لانه يشقّ الارض لكي يزرع. والمراد به هنا الفوز بغاية ما يتمناه الانسان فكأنّه شقّ الموانع ووصل الى بغيته.

 

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ...

من هنا يبدأ بالتعرض لمن لم يهتد بالقرآن والاشارة الى السبب في ذلك وجعلهم قسمين قسم اعلن كفره وجحوده وقسم تظاهر بالايمان وهم المنافقون.

والكفر في الاصل بمعنى الستر روى الازهري في تهذيب اللغة عن ابن السكّيت انه قال (اذا لبس الرجل فوق درعه ثوبا فهو كافر وقد كفر فوق درعه وكل ما غطّى شيئا فقد كفره ومنه قيل للّيل كافر لانه ستر كل شيء بظلمته وغطّاه (الى ان قال) ومنه سمّي الكافر كافرا لانه ستر نعم الله).

والمراد بالذين كفروا المصرّون على الكفر ورفض الاهتداء بما أنزل الله لا كلّ من كان كافرا فان الذين اسلموا كانوا كافرين قبل ذلك فالمراد جمع خاص منهم وهم المعاندون وذلك بقرينة الحكم عليهم بأنهم لا يؤمنون سواء أنذرتهم ام لم تنذرهم وليس كذلك كل الكافرين والا لم يكن معنى للرسالة.

وربما يقال ان قريشا واهل مكة كلهم أسلموا في النهاية حتى المعاندين بل دخلوا في صحبة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فهل المراد خصوص من مات منهم على الكفر مع انهم لو كانوا باقين الى زمان الفتح لكانوا من المؤمنين بل الصحابة؟!

وصريح قوله تعالى (لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ)[71] أن أكثرهم لم يؤمنوا حتى بعد الفتح وانما أسلموا واستسلموا حفاظا على انفسهم وبقوا على كفرهم ونفاقهم يكيدون بالمؤمنين وينتهزون الفرص حتى انهم قتلوا اهل بيت الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لمّا سنحت لهم الفرصة وقال قائلهم في ذلك لعنه الله (نعب الغراب فقلت صح او لا تصح * فلقد قضيت من النبي ديوني).  

والحاصل أن المراد بالذين كفروا بقرينة الحكم قسم خاص منهم ولكن لا وجه لتخصيصه بجماعة خاصة كما هو دأب بعض المفسرين بل الحكم في القرآن عادة على العناوين العامة بل يصح ان يقال ان الكفر والايمان امران نسبيان فكثير من المؤمنين فيهم شائبة من الكفر خصوصا اذا عممنا الكفر لما يشمل كفر النعم كما ورد في بعض الروايات[72] وكثير من الكفار في قلوبهم نسبة ضعيفة من الايمان.

وبناءا على ذلك فهذا الحكم يشمل المنافقين ايضا بل هو اوضح فيهم والغالب فيهم عدم تأثرهم بالانذار حيث طبع على قلوبهم بسبب النفاق كما قال تعالى (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ).[73]

بل يشمل الحكم كثيرا من الطغاة والظلمة بل كلهم كما يشمل بعض العصاة ايضا فان العصيان بمخالفة اوامر الله تعالى ونواهيه يتسبب كثيرا مّا وبالتدريج الى مرحلة من قساوة القلب بحيث لا يؤثر فيه اي وعظ وإنذار واذا تطوّرت القساوة فربّما يجرّ الانسان الى الكفر والجحود لتسهل عليه متابعة الهوى. قال تعالى (كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ).[74]

وروى الكليني بسند معتبر عن أبي بصير قال سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول (إذا أذنب الرجل خرج في قلبه نكتة سوداء فإن تاب انمحت وإن زاد زادت حتى تغلب على قلبه فلا يفلح بعدها أبدا).[75]  

و(سواء) اي متساويان وهو اسم مصدر بمعنى الاستواء ولذلك يستوي فيه المذكر والمؤنث، والمفرد والجمع قال تعالى (تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ..)[76] وقال (ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ..)[77] اي متساوون.

وهمزة الاستفهام في قوله (أأنذرتهم) تفيد مع (أم) التسوية ويأولان مع مدخولهما الى مصدر وهو مبتدأ و(سواء) خبره اي سواء عليهم إنذارك وعدم إنذارك والجملة خبر (إنّ). وقوله (لا يؤمنون) جملة مستأنفة كأنها تبين النتيجة. والانذار: الابلاغ بتخويف.

والحاصل أن الآية تخفف التكليف عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وتسلّيه بأنّ عدم ايمان المعاندين لا يستند الى تقصير منه فهم بلغوا مرتبة من العناد بحيث لا يختلف عندهم الانذار وعدمه وكأنّهم لم يسمعوا شيئا. وهكذا كانوا يقولون ويصرّحون كما قال تعالى (وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ..).[78] 

 

خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ...

الجملة وردت من دون عطف ليفيد انها تكمل مضمون الآية السابقة فكأنّ سائلا يسأل: ما بال هؤلاء تساوى في حقهم الانذار وعدمه فهذه الآية تبين السبب وهو الختم.

ويطلق الختم على الطبع كما قال تعالى (أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ..).[79] وهو في الاصل غلق الشيء والاستيثاق من غلقه وقفله بوضع طين وشبهه على الغلق وطبع كتابة عليه بحيث لا يمكن رفع الطين الا بازالة الكتابة لئلا يتمكّن أحد من فتحه وهذا يعمل به في الاشياء الثمينة وفي الكتب والمستندات.

ومنه الخاتم بفتح التاء اي ما يختم به حيث كانوا يحفرون الاسم او الرمز في حجر ونحوه لختم المستندات ونحوها ويجعلون ذلك في أصابعهم فانتقل اللفظ الى كل ما يجعل في الاصبع ولو للزينة. وكل هذا الوزن بهذا المعنى كالقالَب اي ما يقلب به. والمراد هنا أن الله تعالى أقفل قلوبهم فلا يدخل فيها الهدى والحكمة ولا يدركون شيئا عن عالم الغيب وختم على هذا القفل فلا يمكن لاحد غيره تعالى فتحه.

وهناك اختلاف بين اللغويين في أنّ الاصل في الختم هل هو الطبع كما في العين ثم يطلق على بلوغ النهاية من باب أن الطبع لا يكون الّا في نهاية المطاف او الامر بالعكس وان الختم هو بلوغ النهاية كما في الجمهرة ومعجم المقاييس فيكون إطلاقه على الطبع بمناسبة أنه لا يكون الا بعد بلوغها.

واما القلب فيمكن ان يكون المراد به العقل اي ما يدرك الانسان به حقائق الاشياء ولذلك قال تعالى (لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا).[80] والفقه: الفهم. ويمكن ان يكون المراد بالقلب القوة الشاعرة وقوة الاحساس فان الانسان قد يفهم شيئا ويعلم به علم اليقين ولكنه بقلبه لا يدركه ولا يشعر به. ولا يتنافى العلم مع عدم الاحساس بالقلب.

ولذلك نجد كثيرا من الناس لا يؤمنون بالله مع انهم يعدّون من العلماء بل ربما ينسب بعضهم الى الدين ايضا. والايمان لا يلازم العلم. ومن هنا فانّ الناس غالبا يخافون الميت ولا يبيتون عنده ويخافون الظلام ويخافون الدخول في المقابر ليلا لِما سمعوا عنها من اساطير وهم يعلمون انها اكاذيب ولكنهم لا يؤمنون ولا تطمئن قلوبهم. كذلك العكس فهناك من لا يعلم الادلة والبراهين ولكنه يؤمن بالله كأنه يراه.

وهناك من يقول ان المراد بالقلب هذا العضو الذي يضخّ الدم في الجسم ويستدل على ذلك بأنه يتأثر بالعواطف والمشاعر والحب والبغض والخوف والابتهاج والحزن العميق ونحو ذلك مما يعرض على الانسان فان الاثر يظهر على قلبه وربما يتوقف ويموت الانسان او يبتلى بسكتة قلبية لها آثارها.

وهذا غير صحيح وانما هو من تأثير الروح على الجسم ولا يختص بالقلب بل تتأثر بهذه العواطف والاحاسيس كل اعضائه خصوصا المعدة والامعاء والكبد بل ربما تؤثر على اعضائه الخارجية كالرجل واليد والوجه.

فالمراد بالقلب في هذه الآيات مركز الاحاسيس في الروح فان الانسان ربما يعلم شيئا عن طريق الفكر وبمقدمات عقلية ولكنه لا يتأثر به تأثرا مباشرا ولا يصل اليه ولا يدركه بحواسه الظاهرة ولا الباطنة ولكنه يعلم بوجوده وهذا لا يؤثر في ايمانه ولا في عمله ولا يوجب له التقوى وانما يتأثر الانسان بما يصل اليه بحواسّه إمّا في الظاهر كالبصر والسمع وإمّا في الباطن كما يشعر بالانجذاب الى الشيء عاطفيا.

ومن هنا نجد أن القران مع انه يدعو الانسان الى التعقل والفهم لكي يمنعه من متابعة العواطف من دون ادراك وبصيرة وينهاه عن متابعة الآباء والكبراء ولكنه يخاطب قلبه اكثر مما يخاطب عقله قال تعالى (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ).[81]

ويعبّر عن عدم اتّعاظ الناس بمواعظ ربهم بأنّ قلوبهم في أكنّة لا عقولهم قال تعالى (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ..)[82] بل يعبر عن نزول القران على الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بانه ينزل على قلبه قال تعالى (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ..).[83]

وقوله (وعلى سمعهم) عطف على قوله (على قلوبهم). واحتمل بعضهم ان يكون مبدأ الجملة الثانية فتكون الغشاوة على السمع والبصر.

ولكنه بعيد فالتعبير بالغشاء والغطاء يناسب البصر دون السمع ومثله قوله تعالى (وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً).[84] واما الختم والطبع فيناسب كل ذلك كما في الآية التي مرت آنفا (طبع الله على قلوبهم وسمعهم وابصارهم).

وبهذه الآية يتبين ضعف ما في المنار نقلا عن شيخه بان الختم انما يكون على شيء مستور كالعقل والسمع. والغشاوة على البصر لانه واضح.

والختم على القلوب على حقيقته بمعنى أنهم لا يدركون حقائق الغيب واقعا ولا يشعرون بها واما الختم على السمع فانما هو تعبير بعناية لانهم يسمعون الصوت ولكنه عبّر عن عدم تأثّرهم بما يسمعون بالختم على أسماعهم فكأنّهم لا يسمعون شيئا.

وقد مرت آنفا الآية التي تنقل كلامهم حيث يعترفون بعدم سمعهم (وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ..). وما أكثر من نراهم على هذه الصفة؟! وكذلك التجوّز في غشاوة الابصار فانهم يرون حقيقة ولكنهم يتغافلون.

وقوله (وعلى ابصارهم) خبر مبتدؤه غشاوة وهي الغطاء. والأبصار جمع بصر ومعناه العين كما في العين وغيره. واما السمع فهو مصدر ولا يجمع وهذا هو السر في ان السمع أتى بصيغة المفرد في كل موارد استعماله في القرآن وانما جمعت كلمة البصر لانه اسم للعضو.

وفي المنار ان البصر ايضا مصدر فلا يصح الجمع وانما صح الجمع هنا لان المبصرات كثيرة متشعبة كالمعقولات بخلاف المسموعات فان كلها من جنس الصوت.

وهذا ضعيف جدا فان الغشاوة هنا ليست لمبصراتهم بل لابصارهم.

واعتبر العلامة الطباطبائي قدس سره قوله (وعلى ابصارهم غشاوة) جملة حالية ليكون المفاد ان الله تعالى ختم على قلوبهم وسمعهم في حال انهم على ابصارهم غشاوة فلا يرون الحق وهذه الغشاوة من صنعهم ومن سوء اعمالهم.

ويلاحظ عليه أنه تعالى نسب كل ذلك الى نفسه في قوله (أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ..).[85] وكذلك في قوله (وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً).[86]

وقد تكرر هذا المعنى في القرآن الكريم بعبارات مختلفة وفي بعضها ما يدل على ان المعاند هو بنفسه يشعر أنه لا يرى ولا يسمع ولا يفهم ما يتلى عليه كقوله تعالى (وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ..).[87]

ومثله كلام اليهود في قوله تعالى (وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا)[88] والغلف جمع أغلف وهو كل ما يوضع في غلاف كالسيف.

وفي هذه الآية اشارة الى سبب الختم وانه الكفر والمراد به الاصرار عليه بعد تبين الحق ومثله قوله تعالى (وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ في‏ طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُون‏).[89]

وسبب الختم مختلف حسب الايات فمنها العناد كما ذكر.

ومنها متابعة الهوى الى درجة العبادة كما قال تعالى (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ).[90]

ومنها مخالفة الوعد والعهد مع الله قال تعالى (فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ).[91]

ومنها الارتداد عن الدين قال تعالى (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ).[92]

ومنها المعاصي كما قال تعالى (كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)[93] والرين اصله الصدأ ثم اطلق على كل ما يغطّي شيئا. ومثله قوله تعالى (وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ)[94] وايضا قوله (وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ).[95] والآيات في هذا الباب كثيرة جدا ومتنوعة.

ومن بديع التعبير عن هذا الامر قوله تعالى (إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ * وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ * وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ). [96]

فان هذه الآيات تصور المعاندين كأنهم طوّقت أعناقهم بالأغلال، وأنّ الاغلال كثيرة عريضة بلغت أذقانهم فبقيت رؤوسهم مرفوعة. وقوله (مقمحون) اي مرفوعة رؤوسهم. ورفع الرأس حالة من يتأبّى عن قبول الحقّ مع علمه به. ومع ذلك فان الذي اضطرهم الى رفع الراس والإقماح هو الاغلال التي وضعت في اعناقهم. 

وهذه الأغلال كناية عن ما يمنعهم من الإيمان والانصياع للحق كالحسد والكبر والطغيان والعزّة بالاثم ومتابعة الهوى وجشع المال وحب الرئاسة وغير ذلك مما يبتلى به الإنسان نتيجة عناده ورفضه لقبول الحق أوّل مرّة مع إذعانه له. فهذه الأغلال تحيط به وبعنقه وتمنعه من رؤية الحق مرّة أخرى فهي معلولة للعناد الأول وعلّة للعناد المستمر وحيث إنّ تكوّن هذه الاغلال نتيجة طبيعية للعناد الاول فهو منسوب الى الله تعالى خالق الطبيعة ومدبرها.

والآية التالية تصوّرهم بين سدّين من الامام والخلف فلا يرون الا انفسهم ولعل الفرق بين التصويرين ان الموانع في الاول نفسية وفي الثاني خارجية فهي عبارة عن الشهوات والملذات التي تستهويهم وتعمي أبصارهم.

ثم إن هذه الآية ونظائرها - مما تدل على ان الله تعالى طبع وختم على قلوبهم وسمعهم وابصارهم او جعل على قلوبهم أكنّة أن يفقهوا القرآن - اصبحت مثار شبهة استلزام ذلك للجبر ووقع التراشق بين المعتزلة والاشاعرة لهذا السبب.

والواقع أنه لا يوجد احد من الاشاعرة يقول بالجبر المطلق وينكر اختيار الانسان مطلقا كما لا يوجد في المعتزلة من يقول بان الانسان حر طليق يفعل ما يشاء وأن الله تعالى لا يتدخل في شيء من شؤونه كما لا أظن أن مسلما يرى بان الله تعالى ليس هو الخالق لكل شيء وأظن أن أكثر ما ينسب كل فريق الى خصمه ينشأ من نفس التخاصم وتعصّب كل احد لفرقته والا فالامر باجماله واضح ولكن اذا اريد التدقيق في المسالة فهي من اصعب المسائل.

وقد تبين بما ذكرنا أن الآية الكريمة ونظائرها لا تستلزم الجبر الموجب لعدم استحقاق العقاب وانما تدل على ان الانسان بعمله وعناده يصل الى مرحلة يصعب عليه ان يترك الطريق الذي سلكه ويعود وذلك لانه لم يؤمن بما ثبت له بوضوح انه الحق عنادا او حسدا او كبرا فتحيط به الاغلال التي صنعها بعمله ولا يتمكن من الخلاص عنها بسهولة.

فكل هذه الاغلال والختم والطبع تنشأ بصورة طبيعية نتيجة لعمل الانسان نفسه وعناده الاول بعد ان تبين له الحق كبرا وحسدا ومتابعة للهوى واستنكافا من الخضوع للحق. وكل ما هو طبيعي فهو من الله تعالى. وليس المقصود ان الله يطبع على قلوبهم باعجاز او انهم لا يسمعون كلام الرسول صلى الله عليه وآله وسلم واقعا فيكون في آذانهم وقر حقيقة.

ليس كذلك والاصوات لا تختلف بالنسبة اليهم وانما هو تعبير مجازي وهم ايضا يعبرون به كما قال تعالى (وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ).[97]

كما أن التقوى والملكة التي تحصل للمؤمن بحيث يتمكن بسهولة من تجنب المعاصي والمرور على اللغو مر الكرام دون ان يتاثر بها لم تحصل له باعجاز ولا بتاثير غيبي من ملك او رسول وانما حصل على هذه القوة والقدرة نتيجة تجنبه للمعاصي بارادته وكلما زاد من البعد عن المعاصي زادت نفسه قوة وحصانة.

ومع ذلك فلا هذا المؤمن مجبر على ترك المعصية ولا ذلك الفاسق او الكافر او المنافق مجبر على المعصية بل حتى المعصوم ليس مجبرا على ترك المعصية وكل ذلك يتم باختيار الانسان ولذلك يحاسب المجرم في محاكم الدنيا ايضا على جريمته في كل حالة مادام عاقلا ولا يقبل منه الاعتذار بانه تربّى في بيئة فاسدة او أنّ العوامل الوراثية تدعوه الى ارتكاب الجريمة وان كانت كل هذه العوامل مؤثرة في تحقق الارادة الا انه يشعر في قرارة نفسه بالاختيار والارادة الحرة والتمكن من الاجتناب.

نعم ربما يقال بانه ليس من العدل ان يحاسب الله الانسان الذي تربّى في بيئة مؤمنة كما يحاسب من تربّى في مجتمع كافر ومنذ فتح عينه على العالم لم يجد الا عبادة الصنم او عبادة البقر او لم يجد الا المفاسد والمعاصي.

لا شك في أنّ محاسبة كل انسان تتمّ على حسب ما تمّت له من الحجة سواء بعقله وادراكه او حسبما وصل اليه من الهدايات الالهية وان كان بعضها محرّفا فكما أنّ الانسان يُسأل عن تعامله مع النعم الالهية كذلك يحاسب على تعامله مع هداياته بل الهدايات هي النعم الكبرى وعلى ذلك يحمل قوله تعالى (ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ)[98] كما في بعض الروايات.

 

وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ...

ولهم بعد ذلك عذاب عظيم في الآخرة ويبعد ان يراد به عذاب الدنيا فان الله تعالى لم يعذّب كفار قريش في الدنيا اذا اريد به عذاب الاستئصال الذي هو المناسب للتوصيف بالعظمة واما ما ينال الانسان من السوء في الدنيا فلا يختصّ بالكافر.

ويمكن أن يقال إنّ الآية تشير الى نوعي الجزاء لعنادهم فجزاء الدنيا هو الختم وجزاء الآخرة عذاب عظيم والتنكير قد يكون للتعظيم ايضا فيكون التوصيف به تأكيدا على عظمته.

ويمكن ان يكون التنكير للاشارة الى انه امر غريب على الانسان ينكره اي لا يعرف له مثيلا في الدنيا فليس من سنخ مصائب الدنيا.

والعذاب معناه واضح لكثرة استعماله الا ان كتب اللغة مختلفة في بيان اصله.

 


[1] النور : 1

[2]  معاني الاخبار ص23

[3] لعله في اصل الحديث (الاية)

[4] آل عمران : 7

[5]  معاني الاخبار ص24

[6] الشعراء: 210- 212

[7] الصافات: 1-3

[8] النساء: 82

[9] الاسراء: 82

[10] البقرة : 24

[11] البقرة : 48

[12] الانفال : 25

[13] ال عمران : 102

[14] الرعد : 34

[15] القصص : 56

[16] ابراهيم : 27

[17] الحديد : 28

[18] محمد : 7

[19] يس : 11

[20] النازعات : 45

[21] محمد : 17

[22] يوسف: 17

[23] البقرة : 260

[24] التوبة : 61

[25] الاعراف : 123

[26] طه : 71  الشعراء : 49

[27] النساء: 136

[28] الكافي ج2 ص53

[29] راجع كنز العمال ج13 ص351

[30] التوبة: 45

[31] الحجر: 14- 15

[32] الاعراف : 201

[33] المائدة : 94

[34] الانبياء :  49

[35] الحديد : 25

[36] الكافي 3: 363

[37] الكافي ج3 ص21 باب مقدار الماء الذي يجزي في الوضوء

[38] ال عمران: 85

[39] المائدة: 67

[40] المائدة: 3

[41] البقرة: 85

[42] نهج البلاغة: باب الحكم: الحكمة 124

[43] الكافي ج2 ص18 باب دعائم الاسلام

[44] تهذيب الاحكام ج 2 ص 237 باب فضل الصلاة ح 5

[45] هود: 6

[46] النساء: 8

[47] غافر : 40

[48] الاسراء : 29

[49] التوبة: 107

[50] البقرة: 285

[51] النساء: 136

[52] العنكبوت: 46

[53] البقرة: 136- 137

[54] الشورى: 13

[55] المائدة: 100

[56] نهج البلاغة الخطبة 201

[57] ال عمران: 81- 82

[58] الصف: 6

[59] المائدة: 3

[60] التكاثر : 5

[61] راجع التعريفات ج1 ص 259 على ما في المكتبة الشاملة

[62] الكليات ج 1 ص 9809 على ما في المكتبة الشاملة

[63] المعجم الاشتقاقي ج 4 ص 1848 على ما في المكتبة الشاملة

[64] ص : 26

[65] الاعراف : 51

[66] الاعراف: 52

[67] يوسف: 108

[68] الانعام: 57

[69] المائدة: 16

[70] البقرة: 26

[71] يس: 7

[72] راجع الكافي ج 2 ص 389 باب وجوه الكفر

[73] المنافقون : 3

[74] المطففين : 14

[75] الكافي ج 2 ص 271 باب الذنوب

[76] ال عمران: 64

[77] الروم: 28

[78] فصلت: 5

[79] النحل: 108

[80] الاعراف: 179

[81] ق : 37

[82] الكهف : 57

[83] الشعراء : 193 - 194

[84] الجاثية: 23

[85] النحل: 108

[86] الجاثية: 23

[87] فصلت: 5

[88] نساء: 155

[89] الانعام 110

[90] جاثية: 23

[91] توبة: 77

[92] منافقين: 3

[93] مطففين: 14

[94] ابراهيم: 27

[95] البقرة: 26

[96] يس: 7- 10

[97] فصلت : 5

[98] التكاثر : 8