مكتب سماحة السيد مرتضى المهري

وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ...

هذه الآية من الآيات المعقّدة في الكتاب العزيز حتى قيل ان الاحتمالات في تفسيرها تجاوزت المليون ولكن أكثر هذه المحتملات ضعيفة ولا تستند الى وجه معتبر إلا أن الآية في حد ذاتها وبقطع النظر عن الاحتمالات مبهمة وهناك آيات كثيرة في القرآن مبهمة لنا.

والسر في ذلك أن القرآن ليس كتاب تاريخ أو قصة فلا يتعرض لذكر تفاصيل الحقائق سواء كانت تاريخية او علمية إلا بمقدار ما يتوقف عليه بيان المقصود ففي الواقع القرآن ليس مبهما فيما يريد ايصاله الينا ولكنا نحبّ ان نطّلع على حقيقة الامر الذي لم يهتمّ به القرآن.

وهنا ايضا لم يتعلق الاهتمام بتوضيح المراد مما كانت الشياطين تتلوه ولا المراد بالملكين ببابل وقصتهما ولا بالمراد بنفس المكان اي بابل ولا بما نشراه بين الناس وكثير من هذه الملابسات في مضمون الآية.

وانما الذي تعلق به القصد – على ما يبدو – هو بيان انتشار السحر والخرافة في اوساط علماء اليهود. وذلك لتنبيه الناس على الخطر الكامن في الارتباط بهم واخذ المعلومات عنهم فان العرب كانوا معجبين بهم وبعلومهم ويتوهمون ان كل ما يقولونه انما هو في التوراة وربما كان ذلك مانعا من ايمان بعض العرب كما نجد اليوم كثيرا من الناس يتأثرون بما يسمعونه من بعض علماء الفيزياء مثلا من الأفكار الإلحادية.

فأراد الله تعالى بهذا البيان الاشارة الى انهم نبذوا التوراة وراء ظهورهم واتبعوا السحر الذي ورثوه من آبائهم لئلا تعجب العرب علومهم الغريبة.

ومجمل معنى الاية ان علماء اليهود الذين أنكروا رسالة الرسول صلى الله عليه واله وسلم ولم يعترفوا بوجود علاماته في كتبهم ونبذوا كتاب الله اي التوراة وراء ظهورهم كانوا يتبعون السحرة ويستخدمون السحر الذي تعلموه وتوارثوه عن آبائهم من الشياطين في عهد سليمان عليه السلام حيث كانوا يسمعون تلاوة الشياطين للسحر او متابعتهم له وكانوا متقاربين معهم ومعاشرين لهم لكونهم من بني اسرائيل والشياطين كانوا جزءا من جيشه عليه السلام.

وكانوا يتهمون سليمان عليه السلام انه كان يستخدم هذا السحر لتسخير الجن والطير والوحش والريح وغير ذلك لتبرير عملهم ولعل اتّهامهم كان تبعا لاتّهام الشياطين.

وكذلك كانوا يتبعون السحر الذي انتقل إليهم عن طريق الملكين الذين ارسلهما الله في بابل في المدة الطويلة التي كانوا اُسراء هناك بعد ان اسرهم نبوخذ نصر ونقلهم الى بلاده واعتبروا وساطة الملائكة في وصول السحر إليهم مبررا لعملهم ايضا.

والله تعالى يرد مزاعمهم بأن سليمان لم يستخدم السحر لأنه كفر وهو رسول ولا يمكن أن يكفر وانما الكفر كان من الشياطين واما الملكين فكانا يحذّران كل من يتعلم منهما السحر ان استخدامه للاضرار بالناس كفر وينهونه عنه فلا يكون مبررا لكم.

والضمير في قوله تعالى (واتبعوا) يعود الى اليهود المعاصرين للرسالة لان هذه الاية معطوفة على الاية السابقة وهم المعنيون بها قطعا حيث قال تعالى (وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ..).

ومن الواضح ان المراد بهم من عاصروا الرسالة لان المراد بالرسول الذي جاءهم هو النبي الاكرم صلى الله عليه وآله وسلم ولكن لا بد من الشمول لمن قبلهم ايضا لان هؤلاء لم يعاصروا سليمان عليه السلام ولا سمعوا من الملكين وانما توارثوا ما يزعمونه من السحر ممن قبلهم.

وفي قوله (تتلو الشياطين على ملك سليمان) احتمالان:

الاحتمال الاول: أن المراد به ما كانت الشياطين تتلوه اي تقرأه او تتبعه من السحر في عهد سليمان فتكون (على) بمعنى (في) وتُقدّر كلمة (عهد) اي في عهد ملك سليمان. وسيأتي بيان ما يدل على أن المراد بما يتلونه في الآية الكريمة هو السحر.

ولكن يبقى السؤال في انه ما هي خصوصية ملك سليمان عليه السلام في نشر الشياطين للسحر؟ وما هي علاقته عليه السلام بهذا الامر؟ فالشياطين دائما ومن عهد آدم عليه السلام ينشرون الشر بين الناس. والسحر ايضا ليس مما اخترع في عصره عليه السلام وسحر سحرة فرعون معروف.  

ولعل هذا السؤال هو السبب فيما قيل من ان المراد من قوله (على ملك سليمان) اي بعد عهده مباشرة واستندوا الى روايات غير معتمدة تدل على ذلك نذكر منها واحدة.

روى الطبري حديثا عن الربيع وفيه (وإن الشياطين عمدوا إلى كتاب فكتبوا فيه السحر والكهانة وما شاء الله من ذلك، فدفنوه تحت مجلس سليمان وكان سليمان لا يعلم الغيب. فلما فارق سليمان الدنيا استخرجوا ذلك السحر وخدعوا به الناس، وقالوا: هذا علم كان سليمان يكتمه ويحسد الناس عليه).

وعليه فقوله تعالى (على ملك سليمان) اي قريبا من عهده وقرب العهد ربما يصحح هذا التعبير الا انه لا يوجد دليل على ما ذكروه الا هذه الروايات التي لا تسند الى معصوم فضلا عن اعتبارها والوثوق بها ولم يرد في العهد القديم ايضا ما يدل عليه مع انه غير معتمد ايضا.

وهناك روايات لا تتصل بالمعصوم ايضا تدل على ان الشياطين كانوا يمارسون السحر في عهده عليه السلام وينشرونه بين الناس:

روى الطبري بسنده عن ابن عباس انه قال (انطلقت الشياطين في الأيام التي ابتلي فيها سليمان، فكتبت فيها كتبا فيها سحر وكفر، ثم دفنوها تحت كرسي سليمان، ثم أخرجوها فقرأوها على الناس). وروى غيرها ايضا.

ولكن الظاهر ان هذه القصص مختلقة من اجل تاويل الآيات ولا اساس لها لا في التاريخ ولا في الحديث.

والمراد بالايام التي ابتلي فيها ما رووه في تفسير قوله تعالى (وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ)[1] من القصص الخرافية التي اندسّت الى أخبارهم من الاسرائيليات او صنعها وضّاع الأحاديث من ان الجسد هو شيطان وسُمّيَ في بعضها بصخر وانه تسلط على ملك سليمان عليه السلام بلبسه خاتمه لان ملكه كان في خاتمه وانه عليه السلام بقي اياما لا يستطيع الوصول الى ملكه الى ان اعيد اليه الخاتم!!!

والجواب عن السؤال المذكور ان الشياطين كما أشرنا اليه كانوا يختلطون بالبشر في عهد سليمان عليه السلام حيث كانوا يشكّلون جزءا من جيشه كما قال تعالى (وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ).[2]

وكانوا ايضا يمارسون في عهده عليه السلام اعمالا غريبة فقد ورد ذلك في قصته مع ملكة سبأ حيث قال تعالى (قَالَ يَاأَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ * قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ).[3]

وكانوا يصنعون له عليه السلام مباني عظيمة وامورا اخرى غير معتادة للبشر كالصرح الزجاجي كما يظهر من قوله تعالى (قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ..).[4]

وايضا من قوله تعالى (فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ * وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ * وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ).[5]

وقوله (وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ * يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ).[6]

فلا يبعد انهم كانوا يعملون له عليه السلام اشياء اخرى ايضا بصورة غير طبيعية كما لا يبعد أن تكون بعض المباني العظيمة التي يستغرب الانسان المعاصر من كيفية بنائها في تلك العصور التي لم يصل الانسان فيها الى التقنيات الحديثة لرفع الاثقال صنعت بالاستعانة بالجن.

ومن هنا يمكن القول بان خصوصية ملك سليمان عليه السلام انما هي باعتبار ما كان لشياطين الجن في عصره من الحضور في الملأ وفي حاشية السلطان مما يستوجب ارتباطهم نوعا ما بسائر الناس وتمكنهم من تعليم السحر ونشره.

ويظهر ذلك بوضوح في اقتراح العفريت بان ياتي بعرش ملكة سبأ قبل ان يقوم سليمان عليه السلام من مقامه مما يدل على حضوره في المجلس بصورة لا نعلمها.

وذلك لان الشياطين بصورة عامة وان كانت توسوس في صدور الناس وتلقي في قلوبهم الميل الى الشر ولكنهم لا يرتبطون بهم مباشرة بحيث يعلمونهم السحر ونحوه ولكن لعلهم في عصره عليه السلام حيث كان يستخدم الشياطين لاعمال البناء والغوص والصنايع كما ورد في القرآن تمكنوا من الارتباط بالناس ولو بالظهور في صورة انسان وتعليمهم السحر.

ومن هنا يتبين الوجه في التعبير بملك سليمان ولم يقل على عهد سليمان اذ لا يتبين حينئذ وجه الارتباط بذلك العهد فخصوصية الملك والسلطان ملحوظة في ذلك.

ومن جهة اخرى يبدو أن اليهود كانوا يبررون عملهم بالسحر بانهم يتبعون في ذلك سليمان عليه السلام فاراد الله بهذه الاية الرد عليهم بان ملكه الذي لم يتحقق لاحد من بعده انما هو معجز وهبه الله له ولا علاقة له بالسحر كما يظنون.

الاحتمال الثاني: ان المراد بتلاوة الشياطين كذبهم على ملكه عليه السلام ولا يراد بقوله (على) الظرفية بل المراد التقوّل عليه حيث كانوا يتهمونه بانه انما تمكّن من تسخير الجن والانس والطير والريح وغيرها بالسحر.

قال الشيخ الطوسي قدس سره (وقال قوم إنما قال تتلو على ملك.. لأنهم كذبوا عليه بعد وفاته كما قال (وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ) وقال (أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ). ونسب الطبرسي هذا القول الى ابي مسلم.

واختاره العلامة الطباطبائي قدس سره في الميزان ولكنه فسّر الاية بان المراد بها التنديد باليهود في عصر الرسالة حيث اتّبعوا السحر المنقول إليهم من الشياطين. فكان عليه رحمه الله ان يحمل التلاوة على القراءة او المتابعة واما إذا فُسّرت التلاوة بالاتهام فمعنى الاية ان اليهود ايضا كانوا يتهمون سليمان عليه السلام بذلك متابعة للشياطين ولا يفيد انهم كانوا يمارسون السحر تبعا لهم.

والحاصل أن هناك تنافيا في تفسيره رحمه الله حيث اعتبر التلاوة بمعنى الوضع والاتهام واعتبر متابعة اليهود للشياطين في نفس اعمال السحر وتلاوتها.

واستدل عليه في الميزان بأن هذا المعنى هو الذي يتعدى بحرف (على) اي كذبوا على ملك سليمان عليه السلام واتهموه بانه كان يستخدم السحر.

ولكن التلاوة بمعنى الوضع والكذب لم ترد في كتب اللغة ولا بمعنى القول ليكون تعديه بحرف (على) قرينة على ارادة الوضع والاتهام وانما هي بمعنى المتابعة وانما تطلق على القراءة لان القارئ يتبع النص حرفا بحرف. والتتالي: التتابع.

قال في العين (تلا الشيء تبعه) وقال في الجمهرة (تلوت الشيء اتلوه تَلوا إذا اتبعته وتلوت القران إذا قراته كأنك اتبعت آية في إثر آية). وفي المفردات (تلاه تبعه متابعة ليس بینهم ما لیس منها..). بل الظاهر ان الاصل فيه هو التأخر روى الازهري في تهذيب اللغة عن الاصمعي وابن السكيت (تلا اي تاخر) وروى عن ابن الاعرابي (ان العرب تقول ليس هوادي الخيل كالتوالي فهواديها اعناقها وتواليها مآخرها..).

نعم هذا الاتهام لعله اساس ما كان الشياطين ينشرونه بين الناس بمعنى انهم كانوا ينشرون السحر بزعم أن هذه الاوراد والطلاسم هي اساس ملك سليمان عليه السلام وتسخيره للانس والجن وغيرهما فتلقّى اليهود ذلك بالقبول تبعا لهذا الزعم وتلقّاه سائر الناس ايضا ولعل بعض من يمارسون السحر منذ ذلك العصر الى زماننا يزعمون ذلك.

وربما يقال بان هذا الاحتمال اولى وانسب لانه اتى بفعل المضارع اي (تتلو) مما يدل على انه مستمر الى عهد نزول القران والمستمر ليس الا هذا الاتهام اما اذا اريد من قوله (على) الظرفية فيجب ان ياتي بفعل الماضي ويقول (ما تلت الشياطين).

 والجواب ان المضارع انما ورد باعتبار انه حكاية حال الماضي او بتقدير (كانت) اي واتبعوا ما كانت الشياطين تتلو... ليدل على استمرارهم في نشر السحر في ذلك العهد.

ثم ان عطف هذه الاية على الاية السابقة يثير سؤالا وهو انه: ما هي العلاقة بين نبذ فريق من اليهود كتاب الله سواء اريد به القرآن ام التوراة وبين متابعتهم للسحر؟

ولذلك نجد بعض المفسرين يعبّرون عن هذا التنديد بأنهم تركوا العمل بكتاب الله واستندوا الى السحر الذي هو من عمل الشياطين او انه من الخرافات. ولعل هذا السؤال او الاشكال هو السبب ايضا في بعض ما ورد من الاحتمالات البعيدة في تأويل الآية الكريمة.

قال الالوسي (روي عن السدي أنه قال: لما جاءهم محمد صلى الله تعالى عليه وسلم عارضوه بالتوراة فاتفقت التوراة والفرقان فنبذوا التوراة وأخذوا بكتاب آصف وسحر هاروت وماروت فلم توافق القرآن..). فيتبين من هذا النقل ان الوجه في المقابلة هو محاولتهم التهرب من الايمان بالقران فلما لم يجدوا ما يعارضه في التوراة تمسكوا بما لديهم من كتب السحر حيث انها لا توافق القران بالطبع.

ولكن هذا النقل غير ثابت وليس له سند مضافا الى استبعاد مقارنة القرآن بكتب السحر اذ لا سنخية بينهما وهناك كثير من الروايات في التفسير يبدو عليها انها وضعت من اجل تأويل الآيات.

ولعل الصحيح كما اشرنا اليه هو تنبيه العرب بأن علم هؤلاء لا يستند الى التوراة فهم قد نبذوها وراء ظهورهم حيث لم يتبعوا ما جاء فيها من علامات الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وانما اتبعوا السحرة واستقوا علومهم منهم.

ويمكن ان لا تكون علاقة بين الآيتين بل يكون المراد عدّ مساوئ اليهود او فريق منهم وهم احبارهم الذين انكروا الرسالة مع انهم وجدوا اوصاف الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في كتبهم فمن مساوئهم متابعتهم للسحر.

 

وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ...

هذه الجملة قرينة على ان المراد بما تتلو الشياطين هو السحر. وهي جملة معترضة جيء بها للردّ على اليهود وعلى اتهامهم سيدنا سليمان عليه السلام بالسحر وما بعد هذه الجملة معطوف على ما قبلها. والمراد بالكفر هو السحر بقرينة تفسيره في قوله تعالى (يعلمون الناس السحر) حيث ورد من دون عطف مما يظهر منه تفسير كفر الشياطين به.

هذا هو الظاهر من سياق الآية ولكن في المنار وغيره ان قوله (يعلمون الناس السحر) مرتبط بقوله (واتبعوا ما تتلو الشياطين) فالضمير في قوله (يعلمون) يعود الى اليهود وهذا خلاف الظاهر كما هو واضح وانما ارتكبه من قال به لاستبعاده تعليم الشياطين السحر للناس وقد مر بيان الوجه في ذلك بما يرفع الاستبعاد.

وهناك من يقول ان المراد بالشياطين المتمردون من الانس وان الشيطان يصدق على كل متمرد ويستشهد بقوله تعالى (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ..)[7] ويقول بعضهم انه لا بد من حمل الآية على ذلك لان الشيطان الذي يمكنه ان يعلم الناس السحر هو شيطان الانس لا الجن لعدم ارتباطه بالبشر.

وبما ذكرناه يتبين انه لا موجب لهذا التأويل وان المراد بالشياطين معناه الظاهر اي شياطين الجن وانهم كانوا يرتبطون بالناس في عهد سليمان عليه السلام ولو كان المراد شياطين الانس لم يكن موجب للتخصيص بعهده عليه السلام فهم يعلمون الناس الشر ومنه السحر في كل الازمنة.

ومهما كان فالجواب عن توهم اليهود واتهامهم لسليمان عليه السلام هو انه لم يكن ساحرا بل كان نبيا وان السحر انما كان من الشياطين. وقد حكي في بعض الروايات ان الشياطين اتهموه به او ان ذلك من ابليس نفسه في قصص غريبة وردت في روايات لا تصل الى معصوم.

ويبدو أن بعض اليهود ايضا كانوا يتهمونه عليه السلام بذلك تبعا للشياطين وقد روى الطبري حديثا عن ابن اسحاق وفيه (فلما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيما نزل عليه من الله، سليمان بن داود وعدّه فيمن عدّه من المرسلين، قال من كان بالمدينة من يهود: ألا تعجبون لمحمد! يزعم أن سليمان بن داود كان نبيا! والله ما كان إلا ساحرا!).[8]

ولعل هذا كان اعتقاد اليهود المعاصرين للرسالة في سليمان عليه السلام وانه لم يكن الا ساحرا تغلّب على الانس والجن بسحره ويستخدم الريح لاسفاره بالسحر وغير ذلك فلم يكونوا ينسبون هذه الامور الى الله تعالى وأنها لكرامته عنده.

ولا يبعد ايضا ان يكون هذا معتقد كثير من عامتهم في عصره عليه السلام وبعده مع كثرة ما كانوا يرون من معاجز الانبياء عليهم السلام ويسمعون من معاجز موسى عليه السلام ولعل كثيرا منهم يعتبرون كل ذلك من السحر. وهذا حال من كان يظهر الايمان منهم فكيف بكفارهم؟! والسبب في كل ذلك نفاقهم كما هو الحال فيمن اظهر الاسلام من منافقي العرب.

واما العهد القديم فهو متناقض في شانه عليه السلام فقد ورد في سفر الايام حكاية كلام ابيه داود عليه السلام انه قال ضمن كلام طويل:

(الرب أعطاني بنين كثيرين إنما اختار سليمان ابني ليجلس على كرسي مملكة الرب على إسرائيل وقال لي إن سليمان ابنك هو يبني بيتي ودياري لأني اخترته لي ابنا وأنا أكون له أبا وأثبت مملكته إلى الأبد إذا تشدد للعمل حسب وصاياي وأحكامي كهذا اليوم..) [9]

وفيه ايضا في ولادته عليه السلام (فولدت (امراة داود عليه السلام) ابنا فدعا اسمه سليمان والرب أحبه وأرسل بيد ناثان النبي ودعا اسمه يديديا[10] من أجل الرب).[11]

ومع ذلك فهناك موارد فيه اتهم فيها بالكفر فمنها ما ورد في سفر الملوك:

(وكان في زمان شيخوخة سليمان أن نساءه أملن قلبه وراء آلهة أخرى ولم يكن قلبه كاملا مع الرب إلهه كقلب داود أبيه فذهب سليمان وراء عشتورث إلاهة الصيدونيين وملكوم رجس العمونيين وعمل سليمان الشر في عيني الرب ولم يتبع الرب تماما كداود أبيه حينئذ بنى سليمان مرتفعة بكموش رجس الموآبيين على الجبل الذي تجاه أورشليم ولمولك رجس بني عمون وهكذا فعل لجميع نسائه الغريبات اللواتي كن يوقدن ويذبحن لآلهتهن فغضب
الرب على سليمان لأن قلبه مال عن الرب إله إسرائيل الذي تراءى له مرتين وأوصاه في هذا الأمر أن لا يتبع آلهة أخرى فلم يحفظ ما أوصى به الرب فقال الرب لسليمان من أجل أن ذلك عندك ولم تحفظ عهدي وفرائضي التي أوصيتك بها فإني أمزق المملكة عنك تمزيقا وأعطيها لعبدك...).[12]

ولا شك ان هذه الاكاذيب انما صنعها بعض بني اسرائيل للنيل من مقامه عليه السلام وذلك لأنهم قبائل مختلفة ومتخالفة يحاول كل منهم ان ينال من الآخر.

وأما القرآن الكريم فقد مدحه في مواضع عديدة:

منها قوله تعالى (وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ).[13] وقوله تعالى (وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ).[14]

وعدّه عليه السلام من الانبياء والمرسلين في قوله تعالى (إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا).[15]

وفي قوله تعالى (وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ).[16]

وسليمان هو ابن داود عليهما السلام يقال انه ولد قبل المسيح باكثر من الف سنة وانه كان صغيرا حين ورث الملك من ابيه والله العالم.

واما التعبير عن السحر في الآية الكريمة بالكفر ففيه ثلاث وجوه:

الاول: من جهة معتقد الساحر حيث انه كثيرا مّا يعتقد انه يتمكن من الغلبة على العوامل الغيبية ويأتي بما لا يتمكن احد من البشر عليه فهو يعارض الله والرسل والرسالات وربما يتصور بعضهم انه يتمكن من التصرف في الكون بالاستقلال.

ومن الواضح ان هذا الوجه لا يقتضي الحكم بكفر الساحر الا في موارد خاصة حيث يكون معتقده مستلزما للكفر وليس بقول مطلق.

الثاني: كفر بعضهم في مرحلة العمل حيث كانوا يثيرون الشكوك في الناس ويظهرون ان ما جاء به الرسل من المعجزات ليس الا سحرا واننا نستطيع ان نجاريهم في ذلك كما فعل سحرة فرعون ابتداءا ونسمع في زماننا من بعض من له نوع من القوى الخارقة للعادة بسبب الرياضات ان ما جاء به الانبياء من المعجزات من هذا القبيل.

وهذا الوجه ايضا لا يقتضي الحكم بكون الساحر كافرا بصورة مطلقة.

الثالث: ان السحر بذاته كفر عملي بمعنى انه عمل محرم بشدة يقرب من الكفر.

بل هناك موارد في القران الكريم يظهر منها التعبير بالكفر عن ترك الواجب كقوله تعالى (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ).[17] كما ورد التعبير عن ترك الصلاة بالكفر في روايات متعددة.

وكذلك قوله تعالى (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ).[18] حيث تدل الاية على ان مجرد عدم الحكم بما نزل من عند الله يعتبر كفرا فضلا عن الحكم بخلافه وهذا ليس الا تركا للواجب.

وايضا قوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ * قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ)[19] فان المراد بالآية السؤال عن بعض الاحكام التي لم يرد فيها تكليف من الله تعالى كما يظهر من قوله عفا الله عنها فقوله اصبحوا بها كافرين اي لم يعملوا بها.

وسيأتي هذا التعبير في الحديث عن الامام الرضا عليه السلام في قصة هاروت وماروت حيث قال عليه السلام (فكفر قوم باستعمالهم لما امروا بالاحتراز منه..). فعبر عن نفس العمل بالكفر.

وعليه فالمراد بالكفر هنا ليس انكار التوحيد او النبوة ولا يوجب ارتدادا عن الدين في حد ذاته نعم ربما يكون الساحر كافرا في معتقده كما تبين من الوجهين الاولين ولكن ليس ذلك صفة عامة لكل من يمارس السحر.

الا ان الملاحظ أن فقهاءنا رضوان الله عليهم حكموا عليه بالقتل ولعله متفق عليه وان كان للنظر فيه مجال من حيث الاعتماد على ما اعتمدوه من الروايات خصوصا في الحكم بالقتل وبملاحظة الشك والاختلاف في معنى السحر والساحر.

واما العامة فيحكمون بالقتل ايضا واختلفوا في قبول توبته وافتى بعضهم بعدم القبول لما ورد في بعض رواياتهم وهو امر غريب فان توبة المشرك مقبولة ولا ذنب اعظم منه.

وهذا الوجه شامل لجميع موارد السحر المحرم ولكن يجب تحديده. فالكلام هنا في معنى السحر الذي اعتبر كفرا والذي نزّه الله تعالى نبيه سليمان عليه السلام منه ووصفه بانه عمل الشياطين وانهم كانوا يعلمونه للناس.

ويلاحظ الاختلاف الشديد في تفسير السحر في كتب اللغة والتفسير وفي الفقه ايضا وكذلك الاختلاف في كونه حقيقة او تخييلا.

اما في اصل اللغة فقد ورد في كتاب العين تفسيره بامور ثلاثة: اولها كل ما كان من الشيطان فيه معونة والثاني الاُخذة التي تأخذ العين والثالث البيان في الفطنة.

وهذا ليس تفسيرا لغويا للكلمة بل هو ذكر لبعض مصاديقه وأن السحر يشمل كل الاعمال التي تتحقق بالاستمداد من الشياطين ويشمل ايضا ما يكتب من الرقى للتأثير في الانسان كما فسر به الاُخذة في نفس الكتاب كما يشمل البيان المؤثر ببلاغته في ارادة الانسان في اشارة الى الحديث النبوي (ان من البيان لسحرا).

ولا شك ان كل ما كان للشيطان فيه معونة لا يعتبر سحرا بالمعنى الذي نبحث عنه والا لصح اتهام سليمان عليه السلام بالسحر لانه كان يستمدّ منهم في البناء والغوص وغيرهما. كما انه لا يصح اعتبار كل ما يكتب من الرقى سحرا بالمعنى المعروف حتى لو كان دعاءا ماثورا او آيات قرآنية يستمد بها لعلاج مريض.

ولكن الازهري في تهذيب اللغة نقل عن كتاب العين تعبيرا اخر عن المعنى الثاني قال (ومن السحر الاخذة التي تاخذ العين حتى تظن أنّ الامر كما ترى وليس الاصل كما ترى). مع ان الاُخذة في كتاب العين فسّرت بالرقية تأخذ العين ونحوها وقال (ورجل مؤخّذ عن النساء كأنّه حبس عن إيتائهن كالعنّين ونحوه).

وقال الازهري ايضا (وأصل السحر صرف الشيء عن حقيقته الى غيره) وهذا يدل على انه لا يصدق على مجرد الخداع والتخييل ولكن التعبير الوارد في قوله تعالى (سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ)[20] وقوله (فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى)[21]  يدلّ على انه قد يكون متعلقا بالعين والتخييل لا بالحقيقة الخارجية.

وقال الجوهري في الصحاح (انه كل ما لطف مأخذه ودقّ). وهذا يدل على انه يرى ان السحر امر حقيقي ولكن السبب فيه لطيف ودقيق لا ينتبه اليه الناس غالبا. وهذا ايضا ليس تفسيرا دقيقا ولا يمكن ان يقال كل ما لطف مأخذه فهو سحر.

وفسره ابن فارس في معجم المقاييس بانه خداع وشبهه. ولكنه ايضا ليس تفسيرا دقيقا للكلمة مع انه حاول ان يبحث عن جذور اللغة اذ لا يطلق السحر على كل خداع فالانسان يمكنه ان يصنع كثيرا من الاشياء بطريقة يتوهم الانسان الساذج ابتداءا انه امر اخر وليس هذا من السحر نظير الصرح الذي توهمته ملكة سبأ لجة من الماء فكشفت عن ساقيها.

ولا يبعد ان يكون السحر في اصل اللغة بمعنى التأثير في الانسان تاثيرا غير مباشر وغير طبيعي وكأنه تاثير غيبي ولذلك ورد في الحديث النبوي (ان من البيان لسحرا وان من الشعر لحكمة) فالظاهر ان المراد تاثير بعض انحاء البيان في نفس السامع بصورة غير طبيعية وغير متعارفة فان الانسان عادة انما يتاثر من المعاني الملقاة بواسطة الالفاظ اما تاثير نفس البيان بحيث ينصاع له الانسان ويتاثر بعمق فليس امرا متعارفا وطبيعيا ولذلك عبر عنه بالسحر.

واما الفقهاء فقد اختلفوا ايضا اختلافا شديدا في تعريفه وبيان موارده فمنهم من خصّه بما يكون تخييلا وقال انه ليس امرا واقعيا ومنهم السيد الخوئي قدس سره حيث فسره في المنهاج بانه ما يوجب الوقوع في الوهم بالغلبة على البصر او السمع او غيرهما مع انه حكم في كتاب الحدود ان ساحر المسلمين يقتل.

 وقال بعضهم انه كلام يتكلم به أو يكتبه أو رقية او عقد او اقسام وعزائم او دخنة او تصفية نفس او نفث اويعمل شيئا يؤثر في بدن المسحور أو قلبه او عقله من غير مباشرة.

وقال بعضهم ان من السحر الاستخدام للملائكة والجن والاستنزال للشياطين في كشف الغائب وعلاج المصاب ومنه الاستحضار بتلبس الروح ببدن منفعل كالصبي والمرأة وكشف الغائب عن لسانه ومنه النيرنجات وهي إظهار غرائب خواص الامتزاجات واسرار النيرين ويلحق به الطلسمات وهي تمزيج القوى العالية الفاعلية بالقوى السافلة المنفعلة ليحدث عنها فعل الغرائب. 

وعن الشهيد الثاني في المسالك ان استخدام الجن من الكهانة وأنها غير السحر قريبة منه.

ولكن حكي عن العلامة الحلي قدس سره أن ما يقال من العزم على المصروع بزعم أنه يجمع الجن فيأمرها لتطيعه فهو عندي باطل لاحقيقة له وانما هو من الخرافات. [22]

وقال فخر المحققين في الايضاح أنه استحداث الخوارق بمجرد التأثيرات النفسانية أو بالاستعانة بالفلكيات فقط أو على تمزيج القوى السماوية بالقوى الارضية أو على سبيل الاستعانة بالارواح الساذجة وهو العزائم وقد خص اهل المعقول الاول باسم السحر والثاني بدعوة الكواكب والثالث بالطلسمات والرابع بالعزائم وكل ذلك محرم في شريعة الاسلام ومستحله كافر اما على سبيل الاستعانة بخواص الاجسام السفلية فهو علم الخواص او الاستعانة بالنسب الرياضة وهو علم الحيل وجر الاثقال وهذان النوعان الاخيران ليسا من السحر.[23]

ومن الغريب ما صرح به سيدنا الامام الخميني قدس سره من تعميم السحر حيث قال:

(عمل السحر وتعليمه وتعلمه والتكسب به حرام، والمراد به ما يعمل من كتابة أو تكلم أو دخنة أو تصوير أو نفث أو عقد ونحو ذلك يؤثر في بدن المسحور أو قلبه أو عقله، فيؤثر في إحضاره أو إنامته أو إغمائه أو تحبيبه أو تبغيضه ونحو ذلك. ويلحق بذلك استخدام الملائكة وإحضار الجن وتسخيرهم وإحضار الارواح وتسخيرها وأمثال ذلك، بل يلحق به أو يكون منه الشعبدة وهي إراءة غير الواقع واقعا بسبب الحركة السريعة، وكذلك الكهانة، وهي تعاطي الاخبار عن الكائنات في مستقبل الزمان بزعم أنه يلقي إليه الاخبار عنها بعض الجان، أو بزعم أنه يعرف الامور بمقدمات وأسباب يستدل بها على موقعها، والقيافة، وهي الاستناد الى علامات خاصة في إلحاق بعض الناس ببعض وسلب بعض عن بعض على خلاف ما جعله الشارع ميزانا للالحاق وعدمه من الفراش وعدمه، والتنجيم، وهو الاخبار على البت والجزم عن حوادث الكون من الرخص والغلاء والجدب والخصب وكثرة الامطار وقلتها وغير ذلك من الخير والشر والنفع والضرر مستندا الى الحركات الفلكية والنظرات والاتصالات الكوكبية معتقدا بتأثيرها في هذا العالم على نحو الاستقلال أو الاشتراك مع الله تعالى عما يقول الظالمون، دون مطلق التأثير ولو باعطاء الله تعالى إياها إذا كان عن دليل قطعي).[24]

فشمول الحكم للشعبدة مطلقا حتى لو لم تترتب عليه مفسدة بل ربما يكون لبيان أنّ ما يراه الناس ليس امرا واقعيا غريب جدا مع أنّ التلفزيون الايراني في عصره رضوان الله عليه كان ينشر الشعبدة بكثرة ولم يصدر منه منع فلعله رجع عن رايه او ما كان قاصدا التعميم.

وكذلك الحاق الكهانة به مطلقا حتى اذا كانت بالاسباب التي يستدل بها او القيافة او التنجيم خصوصا بملاحظة انه حكم على الساحر بالقتل من دون تفصيل.

قال رحمه الله في كتاب الحدود: (من عمل بالسحر يقتل إن كان مسلما، ويؤدب إن كان كافرا).[25]

واخيرا ما هو السحر؟

الذي يتبين من موارد استعمال كلمة السحر انها تطلق تارة ويقصد بها الشعوذة او الشعودة اوالشعبدة اوالشعبذة والمراد بها ما يخدع به الناس عن طريق خفة اليد والسرعة في العمل.

والاصل في الكلمة شعذ وهي من الاستعمالات المحدثة في اللغة العربية وليست اصيلة ولكنها ليست فارسية ايضا وقال بعضهم ان الاصل فيها الاحتيال ولكن يبدو من كتب اللغة ان الاصل فيها السرعة ولذلك يطلق الشعوذي على البريد.

قال الخليل على ما في العين (خفة في اليد واخذ كالسحر يرى غير ما عليه الاصل من عجائب يفعلها كالسحر في رأي العين والشعوذي اظن اشتقاقه منه لسرعته وهو الرسول على البريد لامير).

وقال في معجم المقاييس (قال الخليل الشعوذة ليست من كلام اهل البادية وهي خفة في اليدين واخذة كالسحر).

وهذا لا دليل على حرمته شرعا فضلا عن استيجابه للكفر او القتل فهو ليس سحرا بالمعنى المعروف واذا قلنا بان السحر مطلق الخداع فانه ليس بقول مطلق حراما. وانما يوجب هذا العمل الانخداع من جهة ان الناظر يخطئ في ادراك ما يفعله فيتوهم امرا اخر كما انه ربما يخطئ من دون ان يقصد الفاعل اخفاء الحقيقة. وربما يوهم للناس انه ساحر وهذا ايضا لا يوجب الحرمة بذاته. نعم ربما تترتب عليه مفسدة فيحرم بسببها.

ويمكن إسراء حكم الشعوذة على بعض ما يفعله المشاغبون في هذا العصر باستخدام التكنولوجيا الحديثة بصنع الافلام والصور غير الواقعية وتغيير صور الاشخاص واتهامهم بما لم يفعلوه مما يستوجب هتك حرمات الناس والاضرار بهم ضررا بليغا يقرب من القتل بل اعظم منه وربما يترتب عليه القتل ايضا.

ولا شك أن هذه جريمة نكراء يعاقب عليها صاحبها ومن المؤلم انه يتمكن من الافلات من تطبيق العدالة لعدم التمكن من القبض عليه غالبا.

وربما ينطبق على بعض انحاء الشعوذة عنوان الكفر اذا استخدمت في مواجهة الرسالات وتمكن المشعوذ من اغفال البسطاء من الناس بانه رسول او انه ياتي بالمعاجز كما ياتي بها الرسل.  

ولكن لا شك أن ما كان الشياطين يعلّمونه الناس وكفروا بذلك ليس من قبيل الشعوذة والحيل المشابهة اذ لا تترتب عليها المفاسد المرجوّة لهم غالبا.

وتارة يقال السحر ويراد به اعمال طبيعية تستند الى علم خاص لا يعلمه اكثر الناس ولو علموه لتبين لهم انه امر طبيعي وليس من الغرائب ولا شك ان كثيرا مما نستعمله اليوم ونراه طبيعيا من الصنائع التي توصّل اليها الانسان بعلمه كالسيارات والطائرات والصواريخ والقنابل والبنادق والهواتف والاجهزة الالكترونية وغيرها مما نستخدمها ولا نرى فيها ما يوجب العجب والدهشة لو كان البشر يرون شيئا من ذلك فجأة قبل قرون لكانوا يعتبرونه سحرا عظيما.

ويقال ان ما صنعه سحرة فرعون انما كان باستخدام الزئبق في حبالهم وعصيهم وانها كانت تتحرك بسبب حرارة الشمس المحركة للزئبق. ولعل اكثر ما كانت السحرة تظهرها للناس انما كانت من هذا القبيل والسر في ذلك ان العلم كان حكرا على جماعة خاصة وما كان العلماء ينشرون ما توصلوا اليه من اكتشاف الحقائق في الفيزياء والكيمياء وانما كانوا يتداولونها فيما بينهم ويستخدمونها في اهداف شخصية او طلبا للمال من السلطات التي تستخدمها لاغراضها السياسية كما فعل فرعون.

فالسحر بهذا المعنى امر واقعي وليس مجرد تخييل ولكنه يوجب تخييل امر اخر ولعل هذا الاعتبار يصحح اطلاق السحر عليه قال تعالى في قصة سحرة فرعون (قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ)[26] فهو من جهة يعبر عن عملهم بانهم سحروا اعين الناس اي خدعوهم ولم يكن امرا واقعيا ومع ذلك وصفه بانه سحر عظيم.

ولعل الوجه في ذلك يظهر من قوله تعالى (قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى)[27] فما صنعوه وان كان امرا حقيقيا الا انه كان يوجب تخييلا ايضا وهو اراءة العصيّ والحبال كأنّها تتحرك بنفسها حركة إرادية مما يوهم انها افاعي مع ان الحركة ما كانت من نفس الحبال بل مما كان موجودا فيها ويقال انه الزئبق. وهذا نظير دوران الكهرباء في المصابيح فيخيل الى الانسان ان المصابيح هي التي تدور.

ومثل هذه الاعمال لا يمكن القول بانها محرمة بقول مطلق ولا يصدق عليها السحر غالبا بعد العلم بالواقع وانما كانوا يعبرون عنها بالسحر قبل الاطلاع على حقيقتها وما ورد في القران من اعتبار ما قام به سحرة فرعون سحرا لعله من جهة ما احدثه عملهم من تخييل كما صرح به في الاية المذكورة آنفا فلو كان عملهم خاليا من تخييل حركة العصي والحبال ما كان سحرا.

ولا شك أن هذا النوع يحكم عليها بالحرمة اذا استعمل في مواجهة الرسالات كما صنعه فرعون وكذلك اذا استعمل بدعوى الرسالة وأنها اعجاز من الله تعالى ونحو ذلك من المقاصد غير المشروعة بل يعتبر حينئذ كفرا ومحاربة للرسالات. وبصورة عامة حرمة هذا النوع ايضا تستند الى امر آخر خارج عن ذات الفعل ومرتبط بما يترتب عليه من المفاسد.

وهذا النوع ايضا خارج عن مورد تعليم الشياطين ومتابعة اليهود لهم واتهام سليمان عليه السلام به من اجل التسلط على الجن والانس والطير ونحو ذلك.

وهناك امر اخر ربما يشبه السحر او يشتبه به وهو استخدام الانسان لقواه العجيبة التي يحصل عليها عن طريق الرياضات النفسانية نظير التركيز الذهني على امر واحد مدة طويلة وكذا غيرها من الرياضات النفسية فانها تبعث في روح الانسان قوى غريبة يتمكن بها من اعمال خارقة للعادة على ما يقال.

وربما يخبر عن الغيب وما يحدث في مناطق بعيدة او يحرك شيئا من دون استخدام يد او جهاز وربما يجبر انسانا اخر على الجلوس او اي حركة اخرى.

ولعل من هذا القبيل ما يقال له التخاطر بمعنى انه ينقل فكرا الى انسان اخر او يرتبط به من بعيد من دون وسيلة مباشرة. وهو ما عرف باسم (تليباثي) (telepathy).

كل هذا مما يدّعى وليس على اثباتها دليل.

ولعل منها ايضا التنويم المغناطيسي الذي يستفاد منه في معالجة امراض نفسية ويقال انه يفيد في الكشف عن امور في اماكن اخرى ولعل منها ايضا تحضير الارواح لو فرض صحته كما لا يبعد حسبما ينقل.

ولا يمكن انكار هذه القوى النفسية لبعض البشر وان لم تثبت اكثر هذه الدعاوي ولكن بعض ما نسمعه من الثقات من مشاهداتهم لا يمكن انكارها وما نسمعه من انكار بعض الناس انما يرجع الى انكار الروح الانسانية فانهم لا يعتقدون ان للانسان روحا وراء هذا الجسم. ونحن لا يسعنا انكار الروح فان القران الكريم مصرح به.

ومما يدل عليه بوضوح المنامات الصادقة وقد رايت بنفسي في المنام امرا وقع بعد ما قمت ومضى دقائق ولم يكن من الامور المتكررة بل لم اجد مثله لا قبله ولا بعده.

ومما لا شك فيه ايضا ان هناك بعض الصالحين يخبرون عن الغيب ويؤثرون من بعيد وهذا ايضا من المشاهدات المتكررة التي لا يمكن انكارها ولكن يمكن ان لا تستند كل ذلك الى الرياضات النفسية بل تكون من قبيل الكرامات التي انعم الله بها عليهم.   

ومهما كان فكثيرا ما تشتبه على عامة الناس ما يصدر من المرتاضين بمعجزات الانبياء عليهم السلام وبذلك يتمكن بعضهم من التشكيك في صحة الرسالات بدعوى انهم ايضا مرتاضون.

والذي يرد على هذا التوهم ان من الواضح لدى الناس ان النبي لم يتعلم السحر وهو يعيش بين اظهرهم ويعرفونه بكل شؤونه ويعلمون انه ليس مرتاضا ولم تمر عليه ظروف خاصة تجعله في عدادهم.

وهذا هو الفرق الاساس بين السحر والاعجاز فالساحر يتعلم طريقة اظهار السحر باي معنى من المعاني المذكورة والنبي لا يتعلم السحر ولا يُعلّمه ولا يمكنه ان يُعلّم احدا طريقة الاعجاز لانه في الواقع ليس طريقة ولا علما وانما هو امر من الله تعالى يجري على يدي الرسول ولا ينتقل منه الى احد والقران يؤكد على هذا المعنى في ايات عديدة كقوله تعالى (وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ).[28]   

وحرمة هذا النوع ايضا كالصورة السابقة تتبع المفاسد المترتبة على العمل واما اذا لم تترتب عليه مفسدة بل ربما كانت فيه مصلحة فلا موجب للقول بحرمته.

الا ان هذا النوع ربما يستخدم في التاثير على النفوس الضعيفة وايجاد الحب والبغض وغيرهما كما انه ربما يستخدم في تسخير الجن وتحضير الارواح فمن الممكن ان يكون تنزيه سليمان عليه السلام عن السحر يشمل استخدام هذه القوى النفسية في تسخير الانس والجن والطير كما ان تعليم الشياطين ربما يشمل امورا من هذا القبيل.

وتارة يراد بالسحر التشبث ببعض الاوراد والطلسمات والعقد ونحوها مما يعتقد انها تؤثر في تبديل الحقائق والتاثير على النفوس والعقول بطريقة غير مباشرة وكأنها تأثير غيبي ويقال ان بعضهم كان يتوسل بهذه الاوراد والطلسمات في تسخير الجن والشياطين وانهم كانوا يؤثرون على الناس بواسطتهم.

ولذلك ورد في كتاب العين كما مر تفسير السحر بنوعين حيث قال (السحر كل ما كان من الشيطان فيه معونة والسحر الاُخذة التي تأخذ العين) وهذان النوعان هما الشعوذة والتاثير النفسي المزعوم.

والذي ينبغي ان يبحث عنه هو هذا القسم الاخير وانه هل هو حقيقة ام خيال؟

اما اذا كان على اساس التوسل بالجن والشياطين للتاثير على الانسان او تغيير بعض الحقائق فهو غير بعيد في حد ذاته. ولا شك أن لهم قدرات مخفية علينا وقد مر الكلام حول ذلك باجمال وليس هذا من السحر. ولكن التاثير على الجن للاستخدام ربما يستند الى اعمال خاصة فيكون ذلك سحرا بهذا الاعتبار.

وهناك شواهد تدل على صحة ذلك جزئيا منها ما سمعناه من بعض الثقات ان رجلا من الصالحين كان يكتب الرقية والعوذة لبعض المرضى وخصوصا مرضى الصرع وكان يُحذّر من وضعه في مكان بعيد عن حضور الناس وان بعضهم أخطأ في ذلك ففقدوها بسرعة.

انما الكلام في تأثير نفس هذه الطلاسم والاعمال الغريبة في الانسان بنحو التاثير الغيبي من دون استخدام الجن وهو امر ممكن في حد ذاته. والتاثير من بعيد ومن دون مواجهة ليس امرا مستحيلا وان لم نجد له شواهد محسوسة لنا ولكن لو صح ما يقال من امكان استخدام الجن فهو ايضا من قبيل التاثير في البعيد.

ومهما كان فلو صح فهو امر نادر جدا وقليل من يتمكنون من استخدام الجن او معرفة ما يؤثر في الانسان من بعيد ولا شك في ان اكثر ما يدعى من ذلك في هذا العصر اوهام وخرافات او تأثر نفسي من الالقاء والتلقين.

وربما يستدل على تاثير السحر بهذا المعنى بما ورد في بعض الروايات الضعيفة بل استدل بعضهم بقوله تعالى (وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ).[29] وقد مر الكلام فيها وقلنا بان ما قالوه في تفسيرها لا اساس له وأن المراد لا يصح ان يكون عمل الساحرات كما قالوا.

كما يستدل بنفس هذه الآية التي نحاول تفسيرها حيث تدل على تاثير السحر في التفريق بين الزوجين وسياتي الكلام حوله ان شاء الله تعالى.

واما رواية سحر لبيد بن اعصم اليهودي للرسول صلى الله عليه وآله وسلم على ما ورد في صحاح القوم وتبعهم بعض مفسرينا فهي باطلة قطعا على ما اوضحناه في تفسير سورة الفلق.

ومهما كان فان ما يدعى في هذا العصر من كثرة انتشار السحر وتأثيره في الناس ليس الا من نسج الخيال او من ارعاب المدعين للسحر للناس البسطاء لابتزاز اموالهم. ولو كان هذا الساحر المسكين قادرا على شيء لجلب لنفسه المنفعة او دفع عنها الضرر وهو لا يحس بالشرطة الذين جاءوا للقبض عليه واكثر ما نجد السحرة يعيشون عيش المتسكعين فلو تمكن لخلص نفسه من الفقر والتسوّل.

ولكن يمكن ان يكون هناك بعض الامور التي تؤثر بطريقة مجهولة لنا فليس ذلك بمستحيل وان كان مستبعدا كما أن التوسل بالجن في الوصول الى بعض الاهداف من خير او شر امر ممكن بل واقع كما نقل عن الثقات وقد مرت الاشارة اليه.

 

وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ...

الظاهر انه عطف على (ما تتلو الشياطين) اي ان اليهود اتبعوا السحر الذي كانت الشياطين تعلمه الناس في عهد سليمان عليه السلام واتبعوا ايضا ما انزل على الملكين ويبدو من سياق الآية انه ايضا نوع من السحر.

وفي المنار ان هذا عطف على السحر في الجملة السابقة اي يعلمون الناس السحر وما انزل... فيدل العطف على التغاير وأن ما انزل عليهما لم يكن من قبيل السحر.

وهو بعيد لان الجملة السابقة تدل على ان الشياطين هم الذين يعلمون الناس السحر بقرينة ان الجملة اتت بدون عاطف فهي تفسر كفر الشياطين وهم لا علاقة لهم بالملكين ليعلموا ما انزل اليهما والا لكانت النتيجة أن ما اُنزل اليهما يستلزم الكفر ايضا.

وهذا الامر اي نزول السحر على ملكين ببابل امر غريب في حد ذاته ولذلك حاول المفسرون تأويل الآية بما يناسب ذوقهم واختلق الاقدمون روايات غريبة في مضامينها لتوجيه ما في الآية كما أن بعض القراءات التي لا تستند الى حجة صدرت لتغيير ظاهر الآية الى معنى يقبلها المعترضون.

فهناك من قرأ الملِكين بكسر اللام تفاديا من نزول السحر على الملَكين بالفتح ونشرهما له بين الناس وهذا مما لا يناسب مقام الملَك كما ان النزول بمعنى الوحي لا يناسب السحر.

ونحن لا نتبع القراءات الشاذة ولا نعتمد عليها كما امر به ائمتنا عليهم السلام.

وقال بعضهم انهما كانا رجلين صالحين او يبدو عليهما الصلاح والوقار فشبّها بالملَك كما ورد تشبيه سيدنا يوسف عليه السلام به في قول نساء مصر (مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ).[30] وقيل بل كان الرجلان ذوي عزة ومنعة ومال وجاه فشبها بالملِكين بكسر اللام.

وفي المنار انه لا يبعد ان يكون التعبير بالملك تبعا لاعتقاد الناس فهما كانا بشرين ولكن الناس كانوا يعتقدون انهما ملكان فالله تعالى عبر بالملك حسب تصور الناس.

ومن الواضح ان كل ذلك خلاف ظاهر الاية وانما يرتكبها المأولون لعدم فهمهم لمعنى الاية وعدم قبولهم لظاهرها. ولا شك ان المقام ليس موردا للتعبير المجازي ولا يقاس بما قالته نساء مصر في يوسف عليه السلام لمّا شاهدن على ذلك الوجه المعصوم من نور واشراق فشبهنه بالملك.

ونقل الطبري عن بعضهم ان (ما) في الآية نافية وان الجملة معطوفة على قوله (وما كفر سليمان) ليكون المعنى أن الآية تريد اثبات ان السحر من الشياطين لا من سليمان عليه السلام ولا من الملكين.

وقد فنّد الطبري هذا القول بشدّة ومن الواضح انه قول باطل اذ لا يبقى معنى لقوله تعالى (وما يعلمان من احد..). وانما قالوا به فرارا من نسبة السحر وتعليمه الى الملائكة.

ومع ذلك فهذا أهون مما صنعه آخرون حيث اتّهموا ملائكة الله تعالى وهم معصومون ذاتا بالفسق والفجور بل الشرك وعبادة الصنم وقتل النفس بالاستناد الى روايات موضوعة.

منها ما رواه احمد في مسنده قال (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ مُوسَى بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ نَافِعٍ، مَوْلَى عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ سَمِعَ نَبِيَّ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ إِنَّ آدَمَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أَهْبَطَهُ اللهُ تَعَالَى إِلَى الْأَرْضِ، قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ: أَيْ رَبِّ، {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 30] ، قَالُوا: رَبَّنَا نَحْنُ أَطْوَعُ لَكَ مِنْ بَنِي آدَمَ. قَالَ اللهُ تَعَالَى لِلْمَلَائِكَةِ: هَلُمُّوا مَلَكَيْنِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، حَتَّى يُهْبَطَ بِهِمَا إِلَى الْأَرْضِ، فَنَنْظُرَ كَيْفَ يَعْمَلَانِ. قَالُوا: رَبَّنَا، هَارُوتُ وَمَارُوتُ. فَأُهْبِطَا إِلَى الْأَرْضِ، وَمُثِّلَتْ لَهُمَا الزُّهرَةُ امْرَأَةً مِنْ أَحْسَنِ الْبَشَرِ، فَجَاءَتْهُمَا، فَسَأَلَاهَا نَفْسَهَا، فَقَالَتْ: لَا وَاللهِ، حَتَّى تَكَلَّمَا بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ مِنَ الْإِشْرَاكِ. فَقَالَا: وَاللهِ لَانُشْرِكُ بِاللهِ أَبَدًا. فَذَهَبَتْ عَنْهُمَا ثُمَّ رَجَعَتْ بِصَبِيٍّ تَحْمِلُهُ، فَسَأَلَاهَا نَفْسَهَا، فَقَالَتْ: لَا وَاللهِ، حَتَّى تَقْتُلَا هَذَا الصَّبِيَّ، فَقَالَا: وَاللهِ لَا نَقْتُلُهُ أَبَدًا. فَذَهَبَتْ ثُمَّ رَجَعَتْ بِقَدَحِ خَمْرٍ تَحْمِلُهُ فَسَأَلَاهَا نَفْسَهَا، فَقَالَتْ: لَا وَاللهِ، حَتَّى تَشْرَبَا هَذَا الْخَمْرَ. فَشَرِبَا، فَسَكِرَا فَوَقَعَا عَلَيْهَا، وَقَتَلَا الصَّبِيَّ، فَلَمَّا أَفَاقَا، قَالَتِ الْمَرْأَةُ: وَاللهِ مَا تَرَكْتُمَا شَيْئًا مِمَّا أَبَيْتُمَاهُ عَلَيَّ إِلَّا قَدْ فَعَلْتُمَا حِينَ سَكِرْتُمَا، فَخُيِّرَا بَيْنَ عَذَابِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَاخْتَارَا عَذَابَ الدُّنْيَا)[31]

ورواها ابن حبان في صحيحه.[32]

وروى الحاكم في المستدرك عن مُحَمَّدِ بْنِ عُقْبَةَ الشَّيْبَانِيُّ بِالْكُوفَةِ، نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ إِسْحَاقَ الزُّهْرِيُّ، نا يَعْلَى بْنُ عُبَيْدٍ، نا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ عُمَيْرِ بْنِ سَعِيدٍ النَّخَعِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، يُخْبِرُ الْقَوْمَ: " أَنَّ هَذِهِ الزُّهَرَةَ تُسَمِّيهَا الْعَرَبُ الزُّهَرَةَ، وَتُسَمِّيهَا الْعَجَمُ أَنَاهِيدُ، وَكَانَ الْمَلَكَانِ يَحْكُمَانِ بَيْنَ النَّاسِ، فَأَتَتْهُمَا، فَأَرَادَهَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنْ غَيْرِ عِلْمِ صَاحِبِهِ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: يَا أَخِي إِنَّ فِي نَفْسِي بَعْضَ الْأَمْرِ، أُرِيدُ أَنْ أَذْكُرَهُ لَكَ. قَالَ: اذْكُرْهُ يَا أَخِي لَعَلَّ الَّذِي فِي نَفْسِي، مِثْلُ الَّذِي فِي نَفْسِكَ، فَاتَّفَقَا عَلَى أَمْرٍ فِي ذَلِكَ، فَقَالَتْ لَهُمَا الْمَرْأَةُ: أَلَا تُخْبِرَانِي بِمَا تَصْعَدَانِ إِلَى السَّمَاءِ، وَبِمَا تَهْبِطَانِ إِلَى الْأَرْضِ. فَقَالَا: بِاسْمِ اللَّهِ الْأَعْظَمِ بِهِ نَهْبِطُ، وَبِهِ نَصْعَدُ، فَقَالَتْ: مَا أَنَا بِمُؤَاتِيَتِكُمَا الَّذِي تُرِيدَانِ حَتَّى تُعَلِّمَانِيهِ. فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: عَلِّمْهَا إِيَّاهُ. فَقَالَ: كَيْفَ لَنَا بِشِدَّةِ عَذَابِ اللَّهِ؟ قَالَ الْآخَرُ: إِنَّا نَرْجُو سَعَةَ رَحْمَةِ اللَّهِ، فَعَلَّمَهُ إِيَّاهَا، فَتَكَلَّمَتْ بِهِ، فَطَارَتْ إِلَى السَّمَاءِ، فَفَزِعَ مَلَكٌ فِي السَّمَاءِ لِصُعُودِهَا، فَطَأْطَأَ رَأْسَهُ، فَلَمْ يَجْلِسْ بَعْدُ، وَمَسَخَهَا اللَّهُ فَكَانَتْ كَوْكَبًا "

ثم قال (فَحَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ الْحَافِظُ، ثنا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ التَّمِيمِيُّ، أَنْبَأَ يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، أَنْبَأَ سُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: «كَانَتِ الزُّهْرَةُ امْرَأَةً فِي قَوْمِهَا يُقَالُ لَهَا بَيْدَحَةُ» قَالَ الْحَاكِمُ: «الْإِسْنَادَانِ صَحِيحَانِ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ، وَالْغَرَضُ فِي إِخْرَاجِ الْحَدِيثَيْنِ ذِكْرُ هَارُوتَ، وَمَارُوتَ وَمَا سَبَقَ مِنْ قَضَاءِ اللَّهِ فِيهِمَا، وِلِلزُّهْرَةِ». وفي التعليق على الحديثين صححهما الذهبي.[33]

وقال في موضع اخر (أَخْبَرَنَا أَبُو زَكَرِيَّا الْعَنْبَرِيُّ، ثنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ، أَنْبَأَ إِسْحَاقُ، أَنْبَأَ حَكَّامُ بْنُ سَلْمٍ الرَّازِيُّ وَكَانَ ثِقَةً، ثنا أَبُو جَعْفَرٍ الرَّازِيُّ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ قَيْسِ بْنِ عَبَّادٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ} [البقرة: 102] الْآيَةُ. قَالَ: " إِنَّ النَّاسَ بَعْدَ آدَمَ وَقَعُوا فِي الشِّرْكِ اتَّخَذُوا هَذِهِ الْأَصْنَامَ، وَعَبَدُوا غَيْرَ اللَّهِ، قَالَ: فَجَعَلَتِ الْمَلَائِكَةُ يَدْعُونَ عَلَيْهِمْ وَيَقُولُونَ: رَبَّنَا خَلَقْتَ عِبَادَكَ فَأَحْسَنْتَ خَلْقَهُمْ، وَرَزَقْتَهُمْ فَأَحْسَنْتَ رِزْقَهُمْ، فَعَصَوْكَ وَعَبَدُوا غَيْرَكَ اللَّهُمَّ اللَّهُمَّ يَدْعُونَ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ لَهُمُ الرَّبُّ عَزَّ وَجَلَّ: إِنَّهُمْ فِي غَيْبٍ فَجَعَلُوا لَا يَعْذُرُونَهُمْ " فَقَالَ: اخْتَارُوا مِنْكُمُ اثْنَيْنِ أُهْبِطُهُمَا إِلَى الْأَرْضِ، فَآمُرُهُمَا وَأَنْهَاهُمَا " فَاخْتَارُوا هَارُوتَ وَمَارُوتَ – قَالَ: وَذَكَرَ الْحَدِيثَ بِطُولِهِ فِيهِمَا – وَقَالَ فِيهِ: فَلَمَّا شَرِبَا الْخَمْرَ وَانْتَشَيَا وَقَعَا بِالْمَرْأَةِ وَقَتَلَا النَّفْسَ، فَكَثُرَ اللَّغَطُ فِيمَا بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْمَلَائِكَةِ فَنَظَرُوا إِلَيْهِمَا وَمَا يَعْمَلَانِ فَفِي ذَلِكَ أُنْزِلَتْ {وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ، وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ} [الشورى: 5] الْآيَةُ. قَالَ: فَجَعَلَ بَعْدَ ذَلِكَ الْمَلَائِكَةُ يَعْذُرُونَ أَهْلَ الْأَرْضِ وَيَدْعُونَ لَهُمْ «هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ» وفي التعليق ايضا تصحيح الذهبي للحديث.[34]

وفيه غير ذلك ايضا كما ورد بعض الاحاديث من هذا القبيل في سنن البيهقي وغيره وقد جمع السيوطي في الدر المنثور عدة روايات في هذا الباب في تفسير هذه الاية.

وهذه الروايات كلها ضعيفة وباطلة ومروية عن طرق العامة ومخالفة لصريح القران فنرفضها حتى لو كان السند معتبرا فانه تعالى يقول بشأنهم (لَايَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ).[35]

ووردت في كتبنا ايضا روايات من هذا القبيل منها الروايات التي تعدّ المسوخ وان منها كوكب الزهرة وانها المراة التي فتنت هاروت وماروت فمسخها الله كوكبا وهي باجمعها ضعيفة ومردودة ولكن في بعضها اسناد هذه العقيدة الى الناس.

وفي مقابلها ورد في بعض الروايات الرد على هذا الوهم فقد روى الصدوق عن الامام العسكري عن آبائه عن الامام الصادق عليهم السلام في حديث طويل قال فيه (وكان بعد نوح عليه السلام قد كثر السحرة والمموهون فبعث الله عز وجل ملكين الى نبي ذلك الزمان بذكر ما تسحر به السحرة وذكر ما يبطل به سحرهم ويرد به كيدهم فتلقاه النبي عن الملكين واداه الى عباد الله بامر الله عز وجل فامرهم ان يقفوا به على السحر وان يبطلوه..) الى ان يقول:

(قال يوسف بن محمد بن زياد وعلي بن محمد سيار عن ابويهما انهما قالا فقلنا للحسن بن علي عليهما السلام فان قوما عندنا يزعمون ان هاروت وماروت ملكان اختارهما الله من الملائكة لما كثر عصيان بني ادم وانزلهما مع ثالث لهما الى دار الدنيا وانهما افتتنا بالزهرة وارادا الزنا بها وشربا الخمر وقتلا النفس المحترمة وان الله عز وجل يعذبهما ببابل وان السحرة منهما يتعلمون السحر وان الله تعالى مسخ تلك المراة هذا الكوكب الذي هو الزهرة فقال الامام عليه السلام معاذ الله من ذلك! ان ملائكة الله معصومون محفوظون من الكفر والقبائح بالطاف الله تعالى قال الله عز وجل فيهم لا يعصون الله ما امرهم ويفعلون ما يؤمرون وقال الله عز وجل وله من في السماوات والارض ومن عنده – يعني الملائكة – لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون يسبحون الليل والنهار لا يفترون وقال عز وجل في الملائكة ايضا (بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ * لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ)[36].. الحديث[37] 

وفي حديث اخر اجاب الامام الرضا عليه السلام المامون عن سؤاله وفيه (واما هاروت وماروت فكانا ملكين علما الناس السحر ليحترزوا عن سحر السحرة ويبطلوا به كيدهم وما علما احدا من ذلك الا قالا له انما نحن فتنة فلا تكفر فكفر قوم باستعمالهم لما امروا بالاحتراز منه..) الحديث[38]

مضافا الى ان أحاديث القوم لا تحلّ مشكلة ولا تردّ على سؤال بالنسبة للاية بل لا توجد مناسبة بين هذا الاتهام وما ورد في الاية من تعليمهما السحر للناس فان الاية لا تذمهما بل تدل على انهما اُنزلا لامتحان الناس وفتنتهم والسبب في اختلاق هذه الأحاديث التهرب من الاشكال في اسناد تعليم السحر الى الملائكة فارادوا ان ينسبوا إليهم امورا تخرجهم عن العصمة.

واغرب ما قيل في الاية قول القرطبي (قوله تعالى: وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ.. مَا نَفْيٌ، وَالْوَاوُ لِلْعَطْفِ عَلَى قَوْلِهِ وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ.. وَذَلِكَ أَنَّ الْيَهُودَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ بِالسِّحْرِ، فَنَفَى اللَّهُ ذَلِكَ. وَفِي الْكَلَامِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، التَّقْدِيرُ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ، فَهَارُوتُ وَمَارُوتُ بَدَلٌ مِنَ الشَّيَاطِينِ فِي قَوْلِهِ:" وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا". هَذَا أَوْلَى مَا حُمِلَتْ عَلَيْهِ الْآيَةُ مِنَ التَّأْوِيلِ وَأَصَحُّ مَا قِيلَ فِيهَا وَلَا يُلْتَفَتُ إِلَى سِوَاهُ).

وأغرب من تأويله الفاسد اعجابه بما قال. ووضوح سخافة كلامه يغنينا عن التعليق.

والظاهر من الآية أن نوعا من السحر انتقل الى الناس عن طريق ملكين ولا بد من انهما تمثّلا بصورة انسان ليتمكنا من التحدث الى الناس.

وأما استغراب التعبير بالانزال الذي يفهم منه انه وحي من الله تعالى فلا وجه له فان كل شيء حدث بامر الله يعبر عنه بالانزال كقوله تعالى (وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ)[39] وقوله (وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ)[40] فالمراد هنا ان الله تعالى الهمهما ذلك او باي طريقة اخرى ونحن لا نعلم كيف تصل اوامره تعالى الى ملائكته ومهما كان فالتعبير خير دليل على انهما لم يقطعا الصلة بالسماء بل كان ما يفعلانه بامره تعالى.

وانما استغرب بعض المفسرين القدماء ذلك لانه تعالى منع من العمل بالسحر بل اعتبره كفرا فكيف يمكن ان يُنزل ملكين وينزل عليهما السحر ليعلما الناس؟!

والجواب بوجهين: احدهما ما ورد في الحديث السابق من انهما نزلا ليعلّما الناس طريقة تخلصهم من السحر ولكنه كان يستلزم معرفتهم باصله.

والثاني وهو ما يظهر من الآية وهو أن الله تعالى انزلهما فتنة وامتحانا للناس فكانا يعلمان السحر وينهيان عن العمل به للاضرار بالناس او مطلقا كما في الآية. والله تعالى كما خلق الخير وجعل له سبلا خلق الشر وجعل له سبلا ولولا ذلك لم يمكن الامتحان والابتلاء.

ويقول بعض المفسرين ان السحرة كثروا في بابل وكانوا يؤذون الناس بسحرهم ويسببون لهم اضرارا فاراد الله تعالى ان ينتشر ذلك في الناس فيتساوون في ذلك ولا يبقى ميزة لجماعة خاصة فيحصل التوازن في المجتمع.

واما بابل فهي مدينة قديمة وآثارها باقية وهي قريبة من الحلة في وسط العراق ويقال ان بابل في الاصل باب ايلو اي بوابة الاله وهي مركز الحضارة البابلية وحكمها الكلدانيون والآشوريون واشهر ملوكها حمورابي وهو واضع اول قانون بشري فيما نعلم ونبوخذ نصر الذي ورد بشانه في القران قوله تعالى (فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا)[41] حيث مزّق مملكة اليهود وقتلهم واسرهم.

وقد مرت الاشارة الى ان السر في ذكر هذه المدينة وارتباطها ببني اسرائيل هو انهم كانوا مستعبدين قرونا طويلة في هذا البلد المعروف بسحرته في ذلك العصر.

واما الاسمان هاروت وماروت فلم اجد مصدرا معتمدا لاصلهما وعلى ما يبدو فهما معربان عن كلمتين من لغة اخرى ولا يبعد ان تكون اللغة الاصلية كلدانية باعتبار ان موضع نزولهما بابل وقيل ان الاصل فيهما هاروكا وانه اسم للقمر وماروداخ وانه اسم للمشتري ولا يوجد لدي مستند يثبت ذلك والله العالم.

ولا يبعد ان يكون اللفظ مخترعا لتسميتهما فليس لكل ملك اسم والتسمية انما هي ثقافة بشرية من مستلزمات النطق وهو من خواص البشر فالواقع انهما ملكان نزلا على الارض بصورة بشر لانفاذ امر الهي ونزول الملك الى الارض ليس بمعنى النزول من فوق بل نزول من سماء الملائكة الى الطبيعة وحيث كان لهما ارتباط بالبشر جعل الله تعالى لهما اسمين.

 

وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ...

حيث تبين من عطف الجملة السابقة على قوله (واتبعوا ما تتلو الشياطين) أن هناك نوعا من السحر انتقل اليهم والى غيرهم من هذين الملكين أتى بهذه الجملة لينفي عنهما الاثم في نشر السحر وتعليمه ولئلا يعتبر اليهود استناد التعليم الى الملك حجة على جواز العمل به.

و(من) زائدة تفيد التأكيد وسبب افادتها انها في الاصل تبعيضية كما هو الاصل في هذه الكلمة الا انها في مثل هذه الموارد تعني ان الحكم يشمل حتى بعض الواحد وهو غير موجود طبعا وانما يقصد بذلك التاكيد اي حتى لو كان هناك جزء من انسان شمله الحكم.

والفتنة في الاصل بمعنى الاحراق قال تعالى (يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ)[42] ويقصد به هنا وفي كثير من الموارد الامتحان والابتلاء الشديد تشبيها لذلك باذابة الذهب والفضة لتخليصهما من الشوائب ولمعرفة صفاء جوهرهما.

وقد مر في الحديث انهما انما قصدا تعليم الناس طريقة تخلصهم من السحر ولكن حيث كان ذلك يستلزم معرفتهم لاصله بان يقولا له اذا فعل كذا فافعل كذا فكان تعليم السحر منهما امرا ثانويا غير مقصود وكان في ذلك مفسدة عملهم بالسحر للاضرار بالناس فكانا يقولان في كل مورد للتعليم ان استعمال ذلك في الاضرار بالناس كفر وينهون المتعلم من ارتكابه.

 

فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ...

اي يتعلم بنو اسرائيل او الناس منهما نوعا من السحر المضر وهو مما يفرّق بين الرجل وزوجته وإلقاء البغض بينهما ولعل ذكر هذا الامر بالخصوص من باب المثال.

وهذا مما نسمع به كثيرا وان كان كثير مما يقال لا حقيقة له وانما هو تلقين نفسي او تبرير الانسان لموقفه بالاستناد الى السحر فربما يكره الرجل زوجته او العكس لامر اخر لا يحب ان يصرح به او لا يحب ان يستند اليه حتى في قرارة نفسه فيبحث عن مبرر يستحسنه الناس والاسرة ويستحسنه هو ايضا ويقنع نفسه بان الانفصال بهذا السبب.

ومع ذلك فالاية الكريمة تدل على ان هناك موارد يلقى في قلوب الزوجين الكراهية حقيقة. ولكن بعض المفسرين أوّل الآية بأنّ المراد أنّهم يتعلمون منهما ما يعتقد أنه يفرّق بينهما ولا تدلّ الآية على أنّ هناك أعمال توجب تحقق التفرقة وانما التزم بهذا التأويل لاستبعاده تأثير هذه الاعمال في الواقع.

وهذا تأويل بعيد جدّا عن اللفظ بل غير صحيح لانه تعالى رتّب على هذا التعلّم تحقّق التفرقة بينهما كما هو ظاهر قوله (يفرّقون به بين المرء وزوجه) ولو كان هذا هو المراد لكان يقول فيتعلمون منهما ما يعتقدون أنه يوجب التفرقة بين المرء وزوجه.

انما الكلام في حقيقة ما كانوا يعلّمونهم هل هو نوع من الكتابة او العقد ونحو ذلك مما مر ذكره في كلام الفقهاء ام انه طريقة لتسخير الجن واستخدامهم في إلقاء البغض بالوسوسة في القلوب كما انهم يوسوسون في صدور الناس في عقائدهم وإيمانهم بالغيب.

لا طريق لنا لترجيح احد الاحتمالين الا بلحاظ ان التاثير الغيبي للكتابة والعقد والدخنة ونحوها مستبعد في حد ذاته فلا يبعد ان يكون ما يفرقون به بينهما هو استخدام الجن والشياطين في القاء الوسوسة وهو امر معقول. وقد مر ذكر بعض ما يشهد له. ومع ذلك فالاحتمال الاخر وارد ايضا.

 

وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ...

الضمير المنفصل يعود الى مرجع الضمير في قوله (فيتعلمون) وهم اما خصوص اليهود او كل من كان الملكان يعلمانه.

والغرض من هذه الجملة الرد على ما يتوهمه بعض السحرة وبعض من يراجعهم حيث يعتقدون الاستقلال في تاثيرهم وحيث انه تاثير غيبي فكانه يتحدى قدرة الله تعالى وكأنّ الله يقدّر امرا وهو يخالفه ويأتي بامر آخر بخلافه. ولعل هذا هو السر في كون هذا العمل كفرا مضافا الى ما مرّ من تحدّي السحرة للانبياء والرسل في العصور المختلفة.

كما يمكن ان يكون الكفر في خصوص الاضرار بالناس مع ان القتل لم يعتبر كفرا فضلا عن الاضرار الا انه حيث كان هذا الاضرار بصورة غير طبيعية بحيث لا يمكن مواجهته اعتبر جريمة نكراء تقرب من الكفر كما ورد في الحديث السابق عن الامام الرضا عليه السلام حيث قال (فكفر قوم باستعمالهم لما امروا بالاحتراز منه..).[43]

بل يظهر من الحديث ان نفس الاتيان بالمحرم كفر كما ورد في روايات اخرى ايضا ومر بعض الكلام حول ذلك والاستناد الى بعض الايات ايضا. وقوله (من احد) تأكيد على عدم الاستثناء لان (من) وان كانت زائدة كما يقال الا انها تفيد التاكيد كما مر بيانه.

ولا شك أنّ كل مؤثّر في الكون سواء كان طبيعيا ام غيبيا لا يؤثر الا باذنه تعالى وكل حركة وكل سكون باذنه. والغرض الاشارة الى ان ما يفعله الساحر ايضا تحت السيطرة وليس خارجا عن نظام الكون وتاثير العوامل الطبيعية وانما يستخدم الساحر مؤثرات لا يعرفها عامة الناس فيبدو لهم الامر غريبا وكأنه خارج عن قانون الطبيعة ومجموعة العوامل الطبيعية.

وقد ذكرنا بعض الكلام حول اذنه تعالى والفرق بينه وبين الامر في تفسير قوله تعالى (وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ)[44] وقلنا ان الاذن في بعض الموارد بمعنى عدم المنع ومنها هذا المورد فان الله تعالى لا يأمر بالاضرار بالسحر ولكنه ربما لا يمنع لمصلحة.

 

وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ...

اي يتعلم اليهود او الناس عامة من الملكين ما يضرهم ولا ينفعهم فهم في الواقع يخسرون الامتحان الذي أعلنه الملكان حيث انهم يتعلمون السحر ويستخدمونه في الاضرار بالناس فهو يضرهم في الاخرة ولا ينفعهم.

وربما يراد به انه يضرهم في الدنيا ايضا لان الساحر كما نلاحظ انسان منبوذ لا يُعترف بمهنته ولا يُعتبر انسانا سليما ويبتعد عنه الناس وهو خائف دائما من ملاحقة القانون. والساحر كما يلاحظ ايضا فقير لا يتمكن من التوسعة على نفسه ولا بركة في ماله مع انهم غالبا ياخذون الاموال الطائلة في مقابل عملهم الدنيء.

وقوله (ولا ينفعهم) للاشارة الى ان بعض الاعمال تضر وتنفع قال تعالى في الخمر والميسر (قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا)[45] ولكنه في السحر المستخدم للاضرار بالناس ينفي النفع نهائيا مع انه ينفع نفعا ماديا له ولعل الوجه فيه ان ضرره اكبر بكثير في الدنيا والاخرة بحيث لا يعتبر ما ينتفع به نفعا.

 

وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ...    

الجملة مؤكدة بلام القسم او التأكيد في قوله (ولقد) و(قد) ايضا بنفسها تؤكد المضمون ثم أتى باللام ايضا على نفس الجملة (لمن اشتراه). والضمير في قوله (علموا) يرجع الى اليهود وهم علموا ذلك من كتبهم. فقد ورد في العهد القديم:

(متى دخلت الأرض التي يعطيك الرب إلهك لا تتعلم أن تفعل مثل رجس أولئك الأمم لا يوجد فيك من يجيز ابنه أو ابنته في النار ولا من يعرف عرافة ولا
عائف ولا متفائل ولا ساحر ولا من يرقي رقية ولا من يسأل جانّا أو تابعة ولا من
يستشير الموتى لأن كل من يفعل ذلك مكروه عند الرب. وبسبب هذه الأرجاس
الرب إلهك طاردهم من أمامك).[46] 

والاشتراء بمعنى الاستبدال ولعل وجه التعبير به ترك الطريق الطبيعي الذي وضعه الله للوصول الى الاهداف الدنيوية والتمسك بالسحر وفي خصوص اليهود قديكون الوجه أنّهم تركوا كتاب الله تعالى واستبدلوه بمتابعة السحر كما قال تعالى في الآية السابقة (نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ..).

فالمعنى أنّ الذي يتعامل بالسحر من اليهود يعلم بوضوح أنّ من يتعاطاه ليس له في الآخرة من نصيب. والخلاق هو النصيب من الخير وهو مأخوذ من الخلق بمعنى التقدير. والنصيب من الخير ما قدّره الله تعالى للانسان في الدنيا والاخرة.

 

وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ...

اللام تسمى لام القسم وتدل على قسم مقدر اي والله لبئس ما شروا.. ويسميها بعضهم لام التاكيد و(بئس) كلمة تدل على الذم وأن ما بعدها أمر سيّء والشراء هو البيع اي باعوا انفسهم بثمن سيّء لانهم خسروا انفسهم يوم القيامة وحصلوا على قليل من المال في الدنيا فبئس ما باعوا به انفسهم.

وقوله (لو كانوا يعلمون) شرطية وجزاؤها محذوف اي لو كانوا يعلمون خسارتهم في الآخرة لعلموا أنهم بئس ما باعوا به انفسهم.

وهذه الجملة تدل على أنهم لا يعلمون خسارتهم في الآخرة وربما يتوهم أنّ هذا ينافي قوله تعالى (ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق).

والجواب أنه لا منافاة بينهما وذلك لانهم يعلمون أن الذي يمارس السحر ليس له نصيب في الآخرة لو كانت هناك آخرة ولكنه لا يؤمن بالآخرة فالذي لا يعلمونه هو أصل الحياة الآخرة حيث لا يؤمنون بها ولو كانوا يعلمون بها ويؤمنون لعلموا أن الخسارة في الاخرة لا تقاس بخسارة الدنيا وأن ما في الدنيا من المتاع الزائل لا يعتبر نفعا اذا قيس بخسارة الاخرة فهم في النهاية خاسرون حقيقة بل الخاسر في الواقع ليس الا من يخسر الاخرة كما قال تعالى (قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ)[47].

وقد ذكر المفسرون وجوها اخرى لدفع هذا التنافي.

 

وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ...

(لو) شرطية والضمير يعود الى اليهود لانهم هم المعنيون في الآية السابقة وان امكن عوده الى كل من تعلموا السحر واستخدموه في الاضرار بالناس.

وقوله (آمنوا) يدل على كفرهم إما لأن السحر كفر بنفسه اعتقادا او عملا وإما لانه يعود الى اليهود وهم لم يؤمنوا بالرسالة الجديدة ولذلك قوبلت متابعتهم للسحر في الآية بنبذهم كتاب الله وراء ظهورهم في قوله تعالى قبل الاية السابقة (وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ).[48]

وأما عطف التقوى على الايمان لان الايمان بنفسه لا يستتبع الثواب وفيه إشارة الى ان تظاهرهم بالايمان لم ينفعهم لانهم ما كانوا متقين حيث استخدموا السحر في الاضرار بالناس.

وقوله (لمثوبة..) جملة واقعة موقع الجزاء وتقديره لأُثيبوا ثواب الله. واللام للتاكيد وهي لام القسم كما مر والمثوبة والثواب واحد وهو ما يجازى به العمل واصله بمعنى الرجوع وثاب اي رجع ويطلق على الجزاء باعتبار انه بمنزلة رجوع عمله اليه ولا يختص في الاصل بالجزاء الحسن وربما يطلق على جزاء السيئة ايضا كقوله تعالى (قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ..)[49] ولكنه في الغالب يطلق على الجزاء الحسن ويحمل عليه عند الاطلاق.

وقوله (خير) بمعنى ان ثواب الله تعالى خير لهم مما يظنونه منفعة لهم بمتابعة السحر من بلوغ مآربهم الفاسدة ومن المال الذي يحصلون عليه. والتنكير في المثوبة للاشارة الى ان أقلّ شيء من ثواب الله خير لهم مما يحصلون عليه من متاع الدنيا.

وفي قوله (من عند الله) إشارة الى السر في كون هذا الثواب خيرا من كل شيء لانه من عند الله تعالى وهو يعلم ما هو الصالح للانسان وهو الكريم الجواد لا يبخل على عبده المستحق بشيء والمراد به ثواب الاخرة وان كان كل شيء من عنده تعالى.

وقوله (لو كانوا يعلمون) شرطية خبرها مقدر اي لو كانوا يعلمون ذلك لعلموا أنّ متابعة السحر لا مصلحة لهم فيها.

 


[1] ص: 34

[2] النمل : 17

[3] النمل : 38 – 39

[4] النمل : 44

[5] ص : 36 – 38

[6] سبأ : 12 – 13

[7] الانعام : 112

[8] تفسير الطبري ج2 ص 408 على ما في المكتبة الشاملة

[9] العهد القديم اخبار الايام الاول الاصحاح 28

[10] وردت ترجمة الكلمة في بعض كتبهم بانه بمعنى محبوب يهوه اي محبوب الله تعالى

[11] العهد القديم صموئيل الاصحاح 12

[12] العهد القديم سفر الملوك الاول الاصحاح الحادي عشر

[13] ص : 30

[14] ص : 40

[15] النساء : 163

[16] الانعام : 84

[17] ال عمران : 97

[18] المائدة : 44

[19] المائدة : 101 – 102

[20] الاعراف: 116

[21] طه : 66

[22] راجع جواهر الكلام ج 22 ص 79

[23] ايضاح الفوائد ج 1 ص 405

[24] تحرير الوسيلة ج1 ص 498

[25] تحرير الوسيلة ج 2 ص 477

[26] الاعراف : 116

[27] طه : 66

[28] العنكبوت : 50

[29] الفلق : 4

[30] يوسف : 31

[31] مسند احمد ج 10 ص 317 ح 6178 على ما في المكتبة الشاملة

[32] صحيح ابن حبان ج 14 ص 64 على ما في المكتبة الشاملة

[33] المستدرك ج2 ص 392 ح 3051 و3052 على ما في المكتبة الشاملة

[34] المستدرك ج 2 ص 480 ح 3655

[35] التحريم : 6

[36] الانبياء : 26 – 28

[37] عيون اخبار الرضا عليه السلام ج2 ص 241 ح 27

[38] نفس المصدر

[39] الحديد : 25

[40] الزمر : 6

[41] الاسراء : 5

[42] الذاريات : 13

[43] عيون اخبار الرضا عليه السلام ج2 ص 241

[44] التكوير : 29

[45] البقرة : 219

[46] العهد القديم سفر التثنية الاصحاح 18

[47] الزمر : 15

[48] البقرة : 101

[49] المائدة : 60