يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ...
هذه أول آية في المصحف الشريف ورد فيها هذا الخطاب، وتعرض المفسرون للمراد بالذين آمنوا، والمعنى واضح اي الذين أظهروا الايمان بالرسالة الجديدة. ويشمل هذا الخطاب المنافقين أيضا، لأنهم آمنوا ظاهرا كما قال تعالى (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا).[1]
ولذلك ايضا ورد الامر بالايمان خطابا للذين آمنوا، كما في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ..)[2] مما يدل على أن ايمانهم ربما يكون ظاهريا وليس عن جدّ. ومثله قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ..).[3]
وورد ايضا التنديد ببعض اعمال الذين آمنوا وصفاتهم في موارد عديدة، ومنها ما يدل على وجود الصفة في كثير منهم، كقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ).[4]
وهذه الآية لا تختص بالمنافقين، فهناك من المؤمنين واقعا من كان على هذه الصفة وهو امر طبيعي، لان المؤمنين ليسوا بدرجة واحدة من الايمان، فهناك كثير منهم يرفضون بذل المال في سبيل الله حتى بالمقدار الواجب فضلا عن بذل النفس الذي هو موضوع هذه الآية، فامتناعهم من النفر الى الجهاد ليس امرا مستغربا وكذلك اقتناعهم بالدنيا عن الآخرة.
ولكن العلامة الطباطبائي – قدس سره – أصرّ على أن المراد بهذا الخطاب السابقون الاولون من المهاجرين والانصار، واستشهد بآيات لا تدلّ على ما اراد ولا حاجة الى التعقيب.
والآية نزلت بالنهي عن قول (راعنا) خطابا للرسول صلى الله عليه وآله وسلم، ويبدو أن المؤمنين كانوا يطلبون بذلك ان يراعيهم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، اي يراعي ضعفهم وسذاجتهم، فاذا أراد أن يقرأ عليهم آية او حكما شرعيا يحاول تفهيمهم. وهو طلب متعارف.
وقيل إنه من قولهم (أرعني سمعك) اي اسمع كلامي. قال ابن دريد في الجمهرة (ارعيته سمعي اي اصغيت اليه) وهو ايضا من الرعي اي جعلت سمعي يرعاه. وحيث ان الكلمة من باب المفاعلة، فمعناها في الآية، أنهم كانوا يطلبون بذلك أن يتحمل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ضعف منطقهم، فيستمع الى أقوالهم بدقة كما هم يصغون اليه والى اقواله صلى الله عليه وآله وسلم. واستشهد القائل بقوله تعالى بعد ذلك (واسمعوا) فيكون هذا في مقابل طلبهم الاستماع منه صلى الله عليه وآله وسلم.
واختلف المفسرون في سبب النهي عن ذلك، فقيل سببه أنّ فيه قلة ادب مع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ولذلك امروا بعد ذلك بالسماع لاوامره، فالمفروض أنهم يستمعون اليه لا أنهم يقولون وهو يسمع لهم. وقيل غير ذلك.
ولا حاجة الى التطويل فان القرآن يفسر نفسه، وقد ورد مثل ذلك في قوله تعالى: (مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا).[5]
ومما لا شك فيه، أن السياق مستمر في ذكر مساوئ اليهود والتحذير من عدائهم للاسلام والمسلمين، وفي آية سورة النساء ينسب اليهم أنهم يقولون (راعنا) ولكنهم يلوون ألسنتهم لكي تفيد الكلمة معنى آخر، ويقصدون بذلك الطعن في الدين. ويقول في النهاية ايضا أن الصحيح أن يقولوا: "سمعنا وأطعنا واسمع وانظرنا.." فالآية تشبه هذه الآية من جهة التنديد بقولهم (راعنا) ومن جهة الامر بقول (انظرنا).
وهذا يؤيد ما ورد في بعض الروايات في تفسير الآية، ففي مجمع البيان (قال الباقر عليه السلام هذه الكلمة سبّ بالعبرانية إليه كانوا يذهبون). ويقال بان ما كانوا يتلفظون به مأخوذ من الرعونة اي الحمق. ولم يتبين كيف كانوا يلوون السنتهم لتصحيف الكلمة الى ما يدل على الرعونة.
وفي الدر المنثور (وَأخرج أَبُو نعيم فِي الدَّلَائِل عَن ابْن عَبَّاس قَالَ {رَاعنا} بِلِسَان الْيَهُود السب الْقَبِيح فَكَانَ الْيَهُود يَقُولُونَ لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سرا فَلَمَّا سمعُوا أَصْحَابه يَقُولُونَ أعْلنُوا بهَا فَكَانُوا يَقُولُونَ ذَلِك وَيضْحَكُونَ فِيمَا بَينهم فَأنْزل الله الْآيَة).
ومهما كان، فالله تعالى منع من ذلك لئلا ينتهز اليهود هذه الفرصة للسبّ والانتقاص كما هو ديدنهم، ويقال ان بعض الصحابة هددهم بان من يقول هذه الكلمة سيقتله.
وأبدل الله تعالى الكلمة، بان يقول المسلمون (انظرنا)، وهو من النظر بمعنى انظر الينا نظر عطف ورحمة. وقيل بمعنى انتظرنا، فيكون نفس معنى المراعاة. وقرئت بالهمزة (أنظرنا) فيكون بمعنى الامهال.
واما قوله تعالى: (واسمعوا)، فان كان المراد بقولهم (راعنا) الاستماع اليهم او رعاية حالهم حين قراءة القران من حيث ضعفهم في الحفظ والفهم، فالمراد بهذا الامر ان الواجب عليهم هو الدقة في الاستماع الى كلامه صلى الله عليه وآله وسلم لا مطالبته بالاستماع اليهم او بالتكرار.
وان كان المراد بقولهم (راعنا) طلب الرعاية والعطف، فقوله (اسمعوا) امر مستقل لا علاقة له بكلامهم، والقصد منه واضح وهو وجوب اطاعته صلى الله عليه وآله وسلم وهو المتبادر من الامر بالسماع.
ويحتمل ان يكون المراد بالكافرين في ذيل الآية، اليهود الذين ينتهزون الفرصة لايذاء الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والنيل من كرامته. كما يحتمل ان يكون المراد بهم من كرر التعبير المنهي عنه اي قولهم (راعنا)، لانه بعد تبين الحال يعتبر هتكا لمقامه صلى الله عليه وآله وسلم، فيكون كفرا وارتدادا لا يصدر من مؤمن بل من منافق كافر في باطنه. وهذا الاحتمال يؤيد ما قلنا من شمول يا ايها الذين آمنوا للمنافقين.
مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ...
من هنا تبدأ الآيات بتهيئة الجو المناسب لتشريع الحكم بتغيير القبلة، فيلاحظ ان الآيات في هذا المقطع تحاول إبراز عدة امور تتعلق بهذا الموضوع مع تخلل امور اخرى غير مرتبطة بالغرض المذكور، فيتبين أن الغرض هو تهيئة الجوّ من دون تصريح.
ففي هذه الآية يخبر المؤمنين بالحقد الدفين الذي يحمله الكفار من اليهود وغيرهم ضد المسلمين، فلا يرضون لهم ان تنزل عليهم آية او حكم شرعي او نعمة من الله تعالى في امر الدنيا او الآخرة. وفي الآية التالية تبين أن النسخ امر معقول، وليس مما يمكن ان يعترض به على هذه الشريعة، وبهذا الصدد تشرح الآية الحكمة في النسخ وهذه مقدمة لنسخ حكم القبلة السابقة.
واستتباعا للامر يبين أن ما يحاوله اليهود من بث روح الشك في قلوب المؤمنين، انما هو بسبب تأثرهم من اسلافهم الذين آذوا موسى عليه السلام، فليحذر المؤمنون من متابعتهم. ثم يعود للتحذير من مؤامراتهم ضد المؤمنين ومحاولة صدّهم عن الايمان بالرسالة، وان ذلك انما ينشأ من حسدهم وانهم يعتقدون ان الجنة لهم خاصة ولا يدخلها غيرهم، مع انهم مختلفون فيما بينهم وكل فرقة منهم يتهم الآخرين بأنهم ليسوا على شيء.
ثم يتابع ويؤكد الاهتمام بالصلاة والمساجد والتنديد بمن سعى في خرابها، والغرض تكريم المسجد الحرام، ثم يتعرض بصورة اجمالية لمسالة التوجه الى القبلة وان المشرق والمغرب لله وهذا هو صلب الموضوع يتعرض له هنا باختصار.
ثم ياتي بعد ذلك التنديد بعنصرية اليهود والنصارى، وانهم لا يرضون من النبي صلى الله عليه وآله وسلم الا ان يتبع ملتهم، فليس اعتراضهم على تغيير القبلة إبداءا لرأي جزئي في قضية خاصة، وانما هم يتبعون هدفا اساسيا لاقتلاع الدين من اساسه.
ثم تتعرض الآيات بالتفصيل لتكريم البيت العتيق، الذي بناه ابراهيم واسماعيل عليهما السلام. ويبدأ بذكر شيء من فضائلهما مقدمة لذلك. ويذكر دعاءهما لاهل هذه المنطقة وببعث الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فيهم. وفي ذكر ابراهيم تعريض بهم حيث يتركون سنته وفي ذكر اسماعيل تشجيع للمسلمين – لكونهم عربا – أن يتمسكوا بسيرته.
فيتبين من ذلك بوضوح، ان سياق الايات بصدد التقديم لبيان ان تغيير القبلة ليس امرا غريبا في شريعة السماء، وان من يعترض على ذلك فهو سفيه. ويبدو من اهتمام الايات بذلك ان الاعداء ربما تمكنوا من التأثير على نفوس المؤمنين، وزرع الشك في قلوب ضعاف الايمان، حيث كانوا يقولون ان القبلة الاولى ان كانت خطأ فصلواتكم باطلة وان كانت صحيحة فالتغيير خطأ.
ومثل هذا التشكيك، يقوله الجاهلون في كل تغيير في الاحكام، وحيث ان الاسلام بدأ في نشر احكامه في مجتمع متخلف بعيد عن شرائع السماء، فكان لابد من التدرج في بيان الاحكام واعلامها للناس، ومثل هذه الشبهة كانت تجد آذانا صاغية في ذلك المجتمع.
نعود الى تفسير الآية المباركة:
يقول سبحانه وتعالى ان الكفار لا فرق بينهم، سواء كانوا اهل كتاب ام مشركين، فحيث كفروا بالرسالة فهم في شقاق مع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والذين آمنوا معه، ولذلك فهم لا يريدون لكم خيرا، فاذا اعترضوا على تبديل القبلة فليس ذلك للنصيحة والارشاد.
والودّ ياتي بمعنى الحب، ومنه المودة والوداد، وياتي بمعنى التمني. وهنا بمعنى الحب اي يكرهون ان ينزل عليكم خير من ربكم. والاتيان بالفعل المبني للمجهول يدل على ان كراهتهم لا تختص بانزال الخير من الله تعالى، فان ذلك يدل على عناية خاصة بل يكرهون ان ينزّل الخير ولو بصورة طبيعية فضلا عن الخير الخاص. والتنكير في الخير يدل على انهم لا يريدون لكم اقل شيء من الخير. و(من) زائدة وكما قلنا مرارا تفيد التأكيد كأنه يقوله حتى جزءا من الخير.
والمراد بالخير الذي لا يودّون ان ينزل عليكم من الله تعالى، هو هذه الاحكام والشرايع. وهي لا شك أنها خير للبشرية وخير لذلك المجتمع المتخلف، حيث تغيرت شؤونهم وثقافتهم راسا على عقب.
ولكن المفسرين غالبا فسروه بالوحي والنبوة، ويبدو انهم افترضوا ان المراد باهل الكتاب خصوص اليهود، لأنهم هم الذين حسدوا الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لنزول الوحي والرسالة عليه، وهم قد تجمّعوا في تلك المنطقة وكل فرقة منهم يظن ان الرسول المبعوث يبعث من بينهم، فلما رأوه من أولاد اسماعيل عليه السلام رفضوا التسليم له حسدا وكبرا.
وهذا خلاف ظاهر الآية، حيث انها تنفي ان يكونوا يريدون الخير للمؤمنين لا للرسول صلى الله عليه وآله وسلم خاصة كما كانت عليه اليهود.
ويلاحظ هنا أن ذكر المشركين مع كفار اهل الكتاب لغرض التنقيص من شأن اهل الكتاب، ولعل بعض المؤمنين كانوا يرونهم أقرب إليهم، وانه لا بأس بموادّتهم في مقابلة المشركين، ومن هنا كانوا يؤثرون على كثير من ذوي العقول الساذجة ويبثّون سمومهم في المجتمع الإسلامي، فأراد الله تعالى بذكرهم مع المشركين الاشارة الى انه لا فرق بين الفريقين في الحقد عليكم وان اختلفا في امور اخرى. و(من) في قوله (من اهل الكتاب) للبيان لا للتبعيض فانهم كلهم كفرة.
وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ...
هذا ردّ على كراهتهم لما ينزّل الله تعالى على المسلمين من الخير، فهو تعالى لا يستشير احدا فيما ينزل من رحمة وخير على عباده وانما يفعل ما يشاء. وهو لا يشاء أمرا الا ما تقتضيه حكمته. ورحمته وسعت كل شيء ولكنه يختص ببعض أنحاء الرحمة والفضل بعضا من الناس لسبب فيهم او لمصلحة عامة.
والفضل بمعنى الزيادة فكل ما تدفعه لاحد لا يستحقه فهو فضل منك. وحيث ان الله تعالى لا يستحق احد عليه شيئا، فكل ما يمنحه فهو فضل. وفضله على الناس عظيم، لان كل ما على الارض من النعم فهو فضل من الله تعالى.
مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا...
الظاهر أنّ هذه الآية تردّ – كما أشرنا اليه – على ما كان اليهود والمشركون يبثّونه في أوساط المؤمنين من الاعتراض على نسخ القبلة وغيرها، وعلى التأخير في تشريع الاحكام فكان لهم إعتراضان:
الاول ان النسخ لا وجه له لأنّ القبلة واقعا إن كانت بيت المقدس فلماذا التغيير، وان كانت الكعبة فلماذا أمرتم باتّخاذ بيت المقدس قبلة الى هذا الزمان. فان كانت هناك مصالح في الاتجاه الى بيت المقدس فقد حُرمتم منها اليوم وإن كانت المصالح في الاتّجاه الى الكعبة فقد حُرمتم منها طيلة هذه المدّة. ولعل بعضهم يعترض على نسخ الشريعة بشريعة اخرى ايضا.
والثاني ان الاحكام الشرعية لماذا لا تنزل مرّة واحدة، فانّ هذا التاخير يوجب تفويت المصالح المترتبة على هذه الاحكام مدة طويلة على الناس؟!
ومن موارد نقل اعتراض المشركين على نسخ الاحكام ما ورد في قوله تعالى (وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ)[6]. وبالنسبة للتاخير ما ورد في قوله تعالى (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا).[7]
والاعتراضان قويّان حسب الظاهر، فلا شكّ في أنهما يجدان آذانا صاغية لدى عامة الناس خصوصا لدى البسطاء منهم. فنزلت الآية المباركة تردّ عليهم.
والنسخ في اللغة له عدة استعمالات منها ازالة شيء واقامة شيء اخر مكانه كالحكم ينسخ ما قبله وكالشمس تنسخ الظل وبالعكس. ومنها تحويل شيء الى شيء كاستنساخ الكتاب تماما الى كتاب اخر. ومنها تناسخ الورثة وهذا يقال فيما إذا مات الورثة قبل تقسيم المال فانتقل الى ورثتهم. ومنها تخلية خلية النحل من العسل ووقع الخلاف فيما هو الاصل من معانيها.
ونسخ الآية يتصور على ثلاثة أوجه: نسخ اللفظ والحكم معا ونسخ أحدهما فقط. ولا اشكال في وقوع نسخ الحكم فقط. اما نسخ التلاوة سواء مع الحكم او بدونه ففيه اختلاف، والشيخ الطوسي قدس سره ذهب الى إمكانه، بل الى وقوع نسخ التلاوة فقط، وتردد في وقوع نسخهما معا قال:
(وقالت فرقة رابعة يجوز نسخ التلاوة وحدها والحكم وحده ونسخهما معاً وهو الصحيح وقد دلّلنا على ذلك وأفسدنا سائر الأقسام في العدة في اصول الفقه. وذلك ان سبيل النسخ سبيل سائر ما تعبد اللَّه تعالى به وشرّعه على حسب ما يعلم من المصلحة فيه فإذا زال الوقت الذي تكون المصلحة مقرونة به زال بزواله – الى ان قال – وقد جاءت اخبار متظافرة بانه كانت أشياء في القرآن نسخت تلاوتها فمنها ما روي عن أبي موسى انهم كانوا يقرأون "لو ان لابن آدم واديين من مال لابتغى اليهما ثالث، لا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، ويتوب اللَّه على من تاب" ثم رفع. وروي عن قتادة قال حدثنا انس بن مالك أن السبعين من الأنصار الذين قتلوا ببئر معونة قرأنا فيهم كتابا "بلّغوا عنّا قومنا انا لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا" ثم ان ذلك رفع. ومنها الشيخ والشيخة... وهي مشهورة. ومنها ما روي عن أبي بكر انه قال كنا نقرأ "لا ترغبوا عن آبائكم فانه كفر" ومنها ما حكي ان سورة الأحزاب كانت تعادل سورة البقرة في الطول. وغير ذلك من الاخبار المشهورة بين اهل النقل...).[8]
وهو غريب جدا وخصوصا الاستشهاد بما رواه القوم من الاراجيف التي نسبوها الى الكتاب العزيز الذي لا ياتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه مع انها مما لا يمكن اسناده الى اقل الناس علما وادبا!!!
وانما التزم القوم بنسخ التلاوة لتوجيه ما ورد من هذه الدعاوى الباطلة، واسناد آيات الى القرآن خلافا لما يرويه عامة المسلمين، وقد رفض الصحابة درج هذه الجمل السخيفة في القرآن. وقد حكي عن عمر انه كان مصرّا الى اخر ايام حياته انه قرأ آية الرجم والرواية مروية في كتب كثيرة ففي موطأ مالك نقلا عن خطبته في المدينة:
(إِيَّاكُمْ أَنْ تَهْلِكُوا عَنْ آيَةِ الرَّجْمِ أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ لا نَجِدُ حَدَّيْنِ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَقَدْ رَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَجَمْنَا وَإِنِّي وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْلا أَنْ يَقُولَ النَّاسُ زَادَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فِي كِتَابِ اللَّهِ لَكَتَبْتُهَا «الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ إِذَا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا أَلْبَتَّةَ» فَإِنَّا قَدْ قَرَأْنَاهَا. قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ: فَمَا انْسَلَخَ ذُو الْحِجَّةِ حَتَّى قُتِلَ عُمَرُ).[9]
وفي صحيح البخاري حديث طويل يروي فيه ضمن خطبة عمر:
(إِنَّ اللَّهَ بَعَثَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالحَقِّ، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ الكِتَابَ، فَكَانَ مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ آيَةُ الرَّجْمِ، فَقَرَأْنَاهَا وَعَقَلْنَاهَا وَوَعَيْنَاهَا، رَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَجَمْنَا بَعْدَهُ، فَأَخْشَى إِنْ طَالَ بِالنَّاسِ زَمَانٌ أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ: وَاللَّهِ مَا نَجِدُ آيَةَ الرَّجْمِ فِي كِتَابِ اللَّهِ، فَيَضِلُّوا بِتَرْكِ فَرِيضَةٍ أَنْزَلَهَا اللَّهُ، وَالرَّجْمُ فِي كِتَابِ اللَّهِ حَقٌّ عَلَى مَنْ زَنَى إِذَا أُحْصِنَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، إِذَا قَامَتِ البَيِّنَةُ، أَوْ كَانَ الحَبَلُ أَوِ الِاعْتِرَافُ، ثُمَّ إِنَّا كُنَّا نَقْرَأُ فِيمَا نَقْرَأُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ: أَنْ لاَ تَرْغَبُوا عَنْ آبَائِكُمْ، فَإِنَّهُ كُفْرٌ بِكُمْ أَنْ تَرْغَبُوا عَنْ آبَائِكُمْ، أَوْ إِنَّ كُفْرًا بِكُمْ أَنْ تَرْغَبُوا عَنْ آبَائِكُمْ..).[10]
ومن الغريب ان القوم رفضوا القول بالبداء وتبديل القضاء، واعتبروا ذلك من اسناد الندم والجهل الى الله تعالى ولكنهم لم يتورعوا من اسناد نسخ التلاوة اليه سبحانه، مع انهما من باب واحد، بل القول بالبداء لا يستلزم ذلك، وقد قال تعالى (يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ)[11]. فتبديل القضاء بيده ويداه ليستا مغلولتين كما ظن اليهود (وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ...)[12]، بمعنى انه ليس ملزما بمتابعة ما جعله من سنن وان كان لا يبدّل سنته (وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا)[13]، الا ان الامر يتبع مشيئته وهو يمحو ما يشاء ويثبت، وليس ذلك عن تبدّل في الرأي لان امّ الكتاب عنده ولا يبدّل ما فيه والمراد علم الغيب الذي استأثر به فلا يعلم به احد غيره.
وقد ورد في رواية صحيحة عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال في هذه الآية "يمحو الله ما يشاء ويثبت" (وهل يمحى إلا ما كان ثابتا وهل يثبت إلا ما لم يكن؟!).
وفي صحيحة اخرى عنه عليه السلام قال (ما بعث الله نبيا حتى يأخذ عليه ثلاث خصال: الاقرار له بالعبودية، وخلع الأنداد، وأن الله يقدم ما يشاء ويؤخر ما يشاء).
وفي صحيحة ثالثة عنه عليه السلام (ما بدا لله في شيء إلا كان في علمه قبل أن يبدو له).[14]
واما نسخ التلاوة، فهو يختلف عن البداء في القضاء والقدر، حيث ان هذه الامور التكوينية تتبع الظروف والعلل الطبيعية والغيبية. واما اعتبار آية جزءا من الكتاب العزيز، فهو لا يتبع شيئا الا ارادته تعالى، واعتباره هذه الجملة جزءا من الكتاب المعجز. فان لم نقل إنّ التبدّل في ذلك مستحيل، وانه لا ينشأ الا من التبدّل في الرأي – تعالى الله عن ذلك – فلا اقل من استبعاده وليس كنسخ الحكم فإنّه يبتني على انتهاء أمد الحكم بسبب تبدّل اوضاع المجتمع.
هذا مضافا الى انه حتى مع افتراض امكانه فانه لا يمكن اثباته، فان أنسى الله تعالى الآية وأزالها عن الاذهان – كما يقول القوم وسيأتي البحث عنه – فلا يبقى شيء يدل عليها ليثبت وجودها قبل الانساء، وان لم تزل عن الاذهان فليس لنا طريق لاثبات نسخ تلاوتها، اذ ليس في الكتاب ما يدل على أن آية انزلها الله بدلا عن آية، وما يدل على ذلك من السنّة اخبار آحاد غير معتبرة لا يصح الاعتماد عليها.
مضافا الى أن هذه الاخبار لا تدلّ على النسخ، وانما تدل على أن بعض الصحابة رووا نزول آية في الكتاب ورفض المسلمون اضافتها الى المصحف الشريف، وهذا الرفض كما يحتمل ان يكون مستندا الى نسخ التلاوة كما يدّعى، يحتمل ان يستند الى تكذيب الراوي او اسناد الخطأ اليه، ويحتمل ايضا ان يستند الى كون ما سمعه حديثا من الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وان كان نقلا للوحي الا انه ليس من القرآن.
ولعل بعض الصحابة كانوا يتصورون ان كل ما يقوله الرسول صلى الله عليه وآله وسلم من الاحكام، انما هي آيات من القرآن. فاذا لم يجدوه في المصحف ظنوا انه مما نسخت تلاوته مع أن الاحكام وان نزلت وحيا عليه صلى الله عليه وآله وسلم الا ان الوحي ليس كله قرانا. فالقرآن وحي خاص يشتمل على إعجاز والرسول صلى الله عليه وآله وسلم كثيرا ما كان يتحدث عن الوحي ويخبر عن نزول جبرئيل عليه السلام، واخباره بالغيب وبالحكم بل ربما يحكي كلاما عن الله تعالى، وهو ما يعبر عنه بالحديث القدسي ولكن لم يكن شيء من ذلك قرآنا.
هذا بالنسبة الى نسخ التلاوة، واما نسخ الحكم فقد وقع بلا ريب، ومنها ما وقع في القرآن نفسه قال تعالى (وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا * وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا).[15]
وقد نسخ الحكمان بقوله تعالى (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ..).[16] ولعل في قوله تعالى (او يجعل الله لهن سبيلا) اشارة الى النسخ.
ومنها قوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ).[17]
ومنها ايضا قوله تعالى (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ * الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ).[18]
فان الآيتين ليستا في مقام الاخبار عن حالة المسلمين، والا لم يكن معنى لقوله (الآن خفف الله عنكم) بل هما حكمان متوجهان الى المسلمين بوجوب المقاومة مع العدو. ولكن في الآية الاولى كان الامر بوجوبها في مقابل عشرة اضعاف فعشرون مقابل مائتين والمائة يواجهون الفا من الذين كفروا، ولكن بعد ان ضعفوا وترهّلوا بسبب رفاه المعيشة والحصول على الغنائم وفتح الجزيرة العربية خفف الله عنهم وامر ان يقاوم المائة مائتين والالف الفين.
ولا شك في ان الآيتين لم تنزلا متواليتين، بل بينهما سنين بلغت الامة فيها مرحلة الترهل والكسل ولكن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم هو الذي كان يأمر بوضع الآيات في مواضعها التي نراها في المصحف الشريف حسبما ورد في الروايات.
وهناك احكام نسخت بالقرآن ولم يرد المنسوخ فيه كنسخ المنع من المواقعة في ليالي شهر رمضان حيث نسخ بقوله تعالى (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ..)[19] فان نفس التعبير يدل على ان الحكم السابق كان هو الحرمة ولكنه لم يرد في القرآن. ومنها نسخ القبلة فان التوجه الى بيت المقدس في الصلاة لم يرد في القرآن.
والحاصل أنّه لا اشكال في نسخ الحكم الشرعي. ومعنى الآية الكريمة بناءا على ان المراد بقوله (من آية) آيات القرآن الكريم أن الله تعالى اذا نسخ آية تحمل حكما فإنه يأتي بحكم آخر مثله في الاشتمال على المصلحة او خير منه ضمن آية اخرى ومعنى النسخ كما مر هو تغيير الحكم لا نسخ التلاوة وهو المراد ايضا من تبديل الآية بآية في سورة النحل.
وهذا لا اشكال فيه انما الاشكال في قوله (او ننسها) فما هو المراد بالنسيان؟
قيل إن الله تعالى كان ينسي الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بعض الآيات بل ينساه الناس ايضا. روى الطبري عن قتادة انه قال (كان الله تعالى ذكره ينسي نبيه صلى الله عليه وسلم ما شاء وينسخ ما شاء). وروى عن مجاهد أنه قال (كان عبيد بن عمير يقول: (ننسها) نرفعها من عندكم). وروى عن الحسن أنه قال في قوله أو ننسها (إن نبيكم صلى الله عليه وسلم أُقرئ قرآنا ثم نسيه).[20] وقد قرئت الكلمة ايضا (او تَنسَها) وايضا (او نُنسِكَها).
وفي الدر المنثور عدة روايات منها قوله (أخرج ابْن أبي حَاتم وَالْحَاكِم فِي الكنى وَابْن عدي وَابْن عَسَاكِر عَن ابْن عَبَّاس قَالَ كَانَ مِمَّا ينزل على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْوَحْي بِاللَّيْلِ وينساه بِالنَّهَارِ فَأنْزل الله مَا ننسخ من آيَة أَو ننسها نأت بِخَير مِنْهَا أَو مثلهَا).
قال (وَأخرج الطَّبَرَانِيّ عَن ابْن عمر قَالَ: قَرَأَ رجلَانِ من الْأَنْصَار سُورَة أقرأها رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَكَانَا يقرآن بهَا فقاما يقرآن ذَات لَيْلَة يصليان فَلم يقدرا مِنْهَا على حرف فأصبحا غاديين على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: إِنَّهَا مِمَّا نُسخ أَو نُسي فالهوا عَنهُ).[21]
وهذا الاحتمال ينافي الاعتقاد بعصمة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ويمنع من الوثوق بالنص القرآني اذ لو أمكن ذلك لم يبق اعتماد على نقله صلى الله عليه وآله وسلم للكتاب العزيز لاحتمال نسيانه لبعض الآيات او لبعض اجزاء الآية مما يؤثر في تغيير المعنى.
فان قيل إن الانساء ان كان من الله تعالى فهو لا يضرّ ومعناه انه تعالى أراد أن يزيل هذه الآية من القرآن وهو يبقي ما يشاء ويزيل ما يشاء.
فالجواب عنه أن هذا رجوع الى القول بنسخ التلاوة.
ويردّه ايضا قوله تعالى (سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى * إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ).[22] واما استثناء المشيئة فلا يدل على أنه تعالى ربما يشاء نسيانه صلى الله عليه وآله وسلم لبعض الآيات بل المراد ان عدم نسيانه ليس من ذاته وانما هو مستند الى مشيئته تعالى. ومثله استثناء المشية في خلود اهل الجنة والنار في قوله تعالى (خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ)[23] وقد وردت في آيتين احداهما في خلود اهل النار والثانية في خلود اهل الجنة.
وقال العلامة الطباطبائي رحمه الله ما معناه ان الاستثناء لو كان بهذا المعنى المتوهم لم يكن في الآية امتنان على الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ولم تكن له خصوصية فان كل ذكر ونسيان من كل احد انما يتم بمشية الله تعالى وانما اختصه الله بانه لا ينسى ما أقرأه الله تعالى. كما قال ايضا (وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا * إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا).[24]
وقيل ان النسيان قد يستعمل ولو مجازا في الترك والاهمال كقوله تعالى (نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ)[25] والله منزه عن النسيان وايضا قوله تعالى (بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ)[26] وهم لم ينسوه بمعنى عدم الذكر بل بمعنى عدم الاهتمام وغيرهما من الايات فالمراد بالنسيان في هذه الآية الترك وعدم النسخ اي سواء نسخنا ام لم ننسخ.
ولكنّ هذا التوجيه لا ينفع لان الجزاء الوارد في الآية لا يتم الا للفرض الاول وهو النسخ واما مع عدم النسخ وترك الآية فلا معنى للاتيان بخير منها او مثلها مع أنّ الجزاء عائد اليهما.
والظاهر ان الكلمة مخففة من (نُنسئها) اي نؤخرها وقد قرئت بها ايضا كما قرئت (نَنسأها) وهما بمعنى واحد. والنسيء: التأخير ومنه قوله تعالى (انما النسيء زيادة في الكفر) حيث كان المشركون يؤخرون الاشهر الحرم بعض الوقت ليتسنى لهم الاستمرار في الحرب اذا بلغت الاشهر الحرم. ومنه البيع نسيئة اي مما يؤخر فيه دفع الثمن وتتلفظ بالتخفيف ايضا ويقال (البيع نسية).
وبذلك يكون المراد بهذه الكلمة الرد على الاعتراض الثاني من اليهود والمشركين حيث كانوا ينتقدون من تدرّج الاحكام وأنّ ذلك يستلزم حرمان الناس عن المصالح التي يشتمل عليها الحكم فتردّ الآية عليهم بأنّنا اذا أخّرنا الآية فإنّنا نأتي بخير منها او مثلها اي ان الحالة الفعلية ستكون واجدة للمصلحة الفائتة وربما لأحسن منها.
وهذا الجواب صحيح ولكنّ الاشكال من أصله انما نشأ من تفسير كلمة الآية في الآية الشريفة بآيات القرآن مع أنه لو كانت هي المراد بها لم يصح تطبيق الآية على مورد اعتراض اليهود بناءا على أنهم اعترضوا على نسخ حكم القبلة وذلك لأنّ حكم التوجّه الى بيت المقدس لم يرد في القرآن كما مرّ فالنسخ ليس متعلقا بآية قرآنية بل بحكم شرعي.
وعليه فالظاهر أن المراد بالآية كل ما هو آية لله تعالى والآية: العلامة. فتشمل آيات الكتاب لانها بإعجازها علامة كونها من الله تعالى.
وتشمل ايضا كل حكم في الشريعة وان لم يرد ذكره في القرآن لان الاحكام بحكمتها علامة انها من الله تعالى بدليل ان الانسان لا يمكنه أن يأتي بقانون عام شامل قابل للتطبيق قرونا بل حتى سنين ونحن نجد أن المجالس التشريعية مع أنها تتشكل غالبا من النخبة ومعهم خبراء متخصصون في القانون وفي الشؤون الاجتماعية المختلفة ومع ذلك فانّ القانون الذي يشرّعونه يبدو عليه الضعف اذا تغير الوضع الاجتماعي ولا يمكن تطبيقه بحذافيره بعد مدة يسيرة ويحتاج المجتمع الى التغيير او التعديل.
وشريعة السماء نزلت قبل 1400 سنة وفي مجتمع متخلف بعيد عن حضارة عصرهم فضلا عن الحضارة المدهشة في هذا العصر ولم يجتمع من اجل تدوينه نفران بل كل ذلك مما أملاه على المجتمع انسان أُمّي صلى الله عليه وآله وسلم ولم يختصّ القانون بباب دون باب بل تعرّض لوظيفة الانسان مع ربّه ومع والديه ومع زوجته واولاده ومع مجتمعه ومع سائر البشر بل الحيوان ووضع للانسان قانونا منظّما لصلاته ولطهارته ولتزكية نفسه ولحسن خلقه ولزكاة ماله ولتربية اولاده ولتعامله مع الناس في بيعه واجارته واقراضه ومضاربته وغير ذلك وجعل للمجتمع قانون الارث والقصاص والحدود والديات وحدد لهم ما يجوز تناوله وما لا يجوز من الاطعمة والاشربة وغير ذلك من الشؤون الشخصية والاجتماعية والسياسية وغيرها.
ولا اريد هنا ان اقول ان كل ما شرّع لا يمكن لاحد ان يجد فيه نقصا ليزعم زاعم انه مجرّد دعوى بلا بيّنة بل أقصد أنّ تنظيم هذا القانون المعقّد المتشعّب لا يمكن ان يصدر من انسان أُمّي بل حتى من عالم بل حتى من مجموعة من العلماء ولو صدر فلا يمضي زمان حتى يضطرّ الناس الى تغييره حيث لا يمكن تطبيقه اصلا فهذا بذاته دليل وآية وعلامة على انه من الله تعالى عالم الغيب والشهادة العزيز الحكيم.
ولا يغرّنّك عدم تطبيق المسلمين – في انظمتهم المقلّدة للغرب الملحد – لقانون الشريعة فان السر فيه أوّلا تبدل كثير من الاحكام بسبب تفرّق المسلمين عن المحور الذي عيّنه الله تعالى للرجوع اليه فيما يختلفون فيه وهو الامام بعد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وثانيا حاجتهم المادية الى ما تقدّمه لهم الحضارة الغربية الملحدة وإعجابهم بما توصّلوا اليه من التقدم العلمي غفلة منهم عن تخلّفهم عن التقدم المعنوي وتربية الروح وتزكية النفس وطهارة المجتمع.
والحاصل أنّ أحد مصاديق الآية الحكم الشرعي سواء ورد في القرآن ام كان مما أُوحي الى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وبيّنه للناس ولم يأمر بجعله ضمن آيات القرآن ومن هذا القبيل حكم القبلة قبل النسخ واحكام كثيرة اخرى سواء ما صرّح الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بجوازه او لم ينه عنه حيث إن تقريره حجة فسكوته يدل على جوازه في الشريعة فاذا نزل النهي عنه يكون نسخا. ومثال ذلك الآية الأسبق حيث ورد النهي عن قول (راعنا) بعد السكوت عنه.
وبناءا على ذلك فمعنى الآية أن اي حكم شرعي إذا نسخ او تأخر تشريعه فان ذلك لا يوجب تفويت مصلحة على الناس بل الحكم الناسخ فيه من المصلحة مثل ما في المنسوخ او خير منه كما أن تأخير التشريع لمصلحة تدرّج الاحكام لا يوجب تفويت مصلحة عليهم فالمصالح كلها بيد الله تعالى وهو يجعل في الحالة السائدة قبل التشريع مصلحة مثل مصلحة الحكم او خيرا منه فان عدم التكليف ايضا فيه مصلحة.
والآية تشمل ايضا أصل الشريعة فانها باجمعها من الله تعالى وهو ينسخ شريعة ويأتي بخير منها او مثلها.
كما أن الآية في قوله تعالى (وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ)[27] يراد بها كل ما هو علامة ارتباط الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بالغيب فيشمل نسخ آيات الكتاب بمعنى نسخ حكمها كما يشمل نسخ الاحكام وان لم ترد في الكتاب.
وورد في المنار ان المراد بالآية في سورة البقرة المعجزات وفي سورة النحل ايات الاحكام واستدل على ذلك بأن هذه الآية ورد في ذيلها (الم تعلم ان الله على كل شيء قدير) مما يدل على أن موردها الامور التكوينية والمعجزات الكونية التي تظهر على يد الرسل واما آية سورة النحل فقد ورد في ذيلها (والله اعلم بما ينزل قالوا انما انت مفتر) وهذا يناسب ايات الاحكام حيث انهم كانوا يتهمون النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد تبديل الحكم بانه يفتري على الله تعالى.
ولكن آية سورة البقرة ايضا تشمل آيات الاحكام بل هي الهدف الاول بمناسبة تغيير القبلة ولا ينافيه هذا التذييل لان تغيير المصالح من قبلة الى قبلة ومن حكم الى حكم امر تكويني لا يتم الا بأمره تعالى وبقدرته.
أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ...
الخطاب في هذه الجملة وتاليتها لمن ينكر النسخ والتاخير ويعترض بانهما يستلزمان تفويت المصلحة او يتأثر بهذه الشبهة. والغرض من هذه الجملة الاستدلال على امكان الاتيان بخير من ذلك الحكم او مثله بانه تعالى قادر على كل شيء فيجعل مثل تلك المصلحة او خيرا منها في الحكم الناسخ كما يرتبها على الحالة السابقة في فرض التأخير.
وذلك لان المصلحة ان كانت ثواب الآخرة فلا شك في ان امره بيد الله تعالى وهو يثيب على ما يشاء ويعاقب على ما يشاء وان كانت امرا تكوينيا مترتبا عليه في الحياة الدنيا فامرها ايضا بيده تعالى وهو القادر على كل شيء.
والاستفهام للتقرير والغرض منه أن هذا امر معلوم عندكم ومعترف به فلا وجه للترديد وإلقاء الشبهة.
أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ...
هذه الجملة لتعليل عموم قدرته تعالى الواردة في الجملة السابقة ولذلك أتى بها بعدها من دون عطف. فعموم قدرته على كل ما يمكن بسبب أنه مالك السماوات والارض. والاستفهام هنا ايضا للتقرير ليتبين أنه لا معنى للتوقف في عموم قدرته تعالى.
وقلنا فيما سبق ان السماوات والارض كناية عن جميع الكون والملكية ليست اعتبارية وجعلية وقانونية بل ملكية حقيقية وذاتية بمعنى ان الكون بجميع اجزائه متعلق ذاتا وكيانا بارادته تعالى فاذا شاء ان يكون شيء كان ولا يمنع من كينونته شيء واذا لم يشأ لم يكن مهما تهيأت الظروف وتحققت الشروط.
والخطاب في الجملة الاخيرة لجميع المؤمنين، حتى من لا ينكر النسخ ولذلك أبدل الضمير المفرد الى الجمع. والظاهر أنها لاثبات انه تعالى يأتي بخير من الآية المنسوخة او مثلها فالجملتان السابقتان لاثبات امكان ذلك وهذه الجملة لاثبات انه فعلا يتحقق لأن كل ما لدينا من خير ونعمة فهو من الله تعالى ولا يوجد غيره ولي ولا نصير لنا فلو لم يأتنا بالخير فمن أين لنا كل هذا الخير؟!
ولا يبعد ان تكون هذه الجملة خطابا للبشرية لا لخصوص المؤمنين، لانه يريد بذلك دفع التوهم عن أذهان من يصغون الى اليهود والمشركين ويتأثرون بهم فالله تعالى يخاطبهم جميعا بل يخاطب الكفار بانفسهم ايضا لأنهم اصحاب الاعتراض.
والوليّ فعيل من الوَلي و أصله بمعنى القرب، فيستعمل بمعنى القرب الحسي تارة والمعنوي أخرى، ويقصد به تارة تولّي الامر وتارة المتابعة، وحينئذ فيأتي الوليّ بمعنى التابع وبمعنى المتبوع كما يأتي بمعنى الناصر والمحب وغيرهما، والمراد به هنا من يتولّى أمر الانسان او اي شيء اخر قال تعالى (وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ).[28]
وقوله تعالى (من دون اللّه) اي بدلا عن اللّه تعالى بحيث يكون في موضع الربوبية. والسبب أنّ كل من يتولى امر الانسان او ينتصر به فهو ايضا مخلوق لله تعالى، داخل تحت سلطانه ولا يعمل الا ما يأذن به الله. وبذلك يتبيّن أنّ نفي ولاية غيره تعالى لا ينافي وجود أولياء تحت ولايته، كولاية الاب والرسول والامام لاننا لا نتخذهم اولياء بدلا عنه وفي مقام الربوبية. و(من) في قوله (من وليّ) زائدة تفيد التأكيد.
والفرق بين الوليّ والنصير من جهتين:
الأولى: أنّ الوليّ يتولّى أمر المولّى عليه حتى لو لم يطلب، بل حتى لو لم يعلم ما هو صالح له، كالاب يتولى امر اطفاله.
والثانية: أنّ الوليّ يكفي المولّى عليه ويغنيه من غيره فلا حاجة الى أن يقوم هو ايضا بالدفاع عن نفسه. والنصير بخلاف ذلك في الامرين فهو أوّلا يجيب استنصاره فقط وثانيا لا يغنيه بل يساعده. فنفي النصير يستلزم نفي الولي بالاولوية دون العكس فالآية تنفي الولي ثم ترتقي فتنفي حتى النصير.
أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ...
هذه الجملة خطاب للمؤمنين الذين يتأثرون بالاعتراض السابق، و (أم) يمكن ان تكون منقطعة فيكون استفهاما جديدا لا علاقة له بالموضوع السابق بل يضرب عن الحديث عنه والاستفهام للاستنكار لان هذا السؤال من الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يستوجب الكفر كما سيأتي، ولكن لا بد من نوع من التناسب في السياق.
ويمكن ان تكون متصلة بالموضوع السابق وان لم تتصل بنفس الجملة، فإنّ المستفاد مما سبق تبيين أنّه لا وجه للتشكيك فيما ينزل على الرسول صلى الله عليه وآله وسلم من احكام ينسخ بعضها بعضا، لان الله تعالى لا يفوّت على المؤمنين مصلحة وانما يجعل المصلحة في الحكم الثاني، فيسأل المنكر للنسخ ألم تعلم أنّ الله على كل شيء قدير، أم أنّك تعلم وأنتم ايضا تعلمون ولكنّكم تريدون بالتشكيك أن تطالبوا الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بمثل ما طلب قوم موسى عليه السلام تعنّتا وعنادا.
ووجه المقابلة بهذا الطلب أنّهم إذا لم يقتنعوا بالنسخ فهم يشكّكون في صدق الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فيما يأتي إليهم من الاحكام وهي آيات من الله تعالى وبسبب ذلك يطلبون آية اخرى ليؤمنوا بالرسالة ولهذا حكم عليهم بأنه كفر.
ويتبين من هذا السياق أنّ هذه الشبهة لقيت قبولا عند جمع من المؤمنين وتسبّبت في إلقاء الشك في قلوبهم.
والسؤال الذي استوجب الكفر من بني إسرائيل، يمكن أن يراد به قولهم (أرنا الله جهرة)، واما قولهم (اجعل لنا الها كما لهم الهة)، كما مثل به المفسرون فيبعد اعتباره مصداقا لهذا الاستفهام، لانه ليس آية على الرسالة. نعم لو كان هذا سؤالا مستأنفا لا علاقة له بما سبق صح القول ولكنه بعيد حتى لو قلنا بأن أم منقطعة لعدم تناسب السياق.
وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ...
حيث كان هذا السؤال يستوجب الكفر بالرسالة، حذرهم الله تعالى بأن هذا ارتداد بعد الايمان، وهو أقبح من الكفر ابتداءا، حيث إنهم آمنوا بالرسول صلى الله عليه وآله وسلم فاذا شككوا في رسالته فقد أبدلوا ايمانهم بالكفر. والتبدّل مطاوعة الابدال اي اخذوا الكفر وتركوا الايمان.
والسواء: الوسط، كما في الجمهرة ومنه قوله تعالى (فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ)[29]. والمراد بسواء السبيل، السبيل الوسط فهو من اضافة الصفة الى الموصوف اي الطريق الذي يوصل الانسان الى المقصود، كما قال امير المؤمنين عليه السلام (الْيَمِينُ وَالشِّمَالُ مَضَلَّةٌ وَالطَّرِيقُ الْوُسْطَى هِيَ الْجَادَّةُ...).[30]
قال بعض المفسرين ان الخطاب في هذه الآية ليس موجها للمؤمنين، اذ لم يحصل فيهم الارتداد، وهناك من قال بأنه عام للمسلمين والكافرين، و كلاهما غريب، وذلك لأن استبدال الكفر بالايمان لا يصدق الا في المؤمنين.
[1] النساء : 137
[2] النساء : 136
[3] الحديد : 28
[4] التوبة : 38
[5] النساء : 46
[6] النحل : 101
[7] الفرقان : 32
[8] التبيان ج1 ص 394
[9] الموطأ ج1 ص 241 على ما في المكتبة الشاملة
[10] صحيح البخاري ج 8 ص 168 باب رجم الحبلى من الزنا على ما في الموسوعة الشاملة
[11] الرعد : 39
[12] المائدة : 64
[13] الاحزاب : 62
[14] الكافي ج 1 ص 146 باب البداء
[15] النساء : 15 – 16
[16] النور : 2
[17] المجادلة : 12 – 13
[18] الانفال : 65 – 66
[19] البقرة : 187
[20] جامع البيان ج2 ص 474
[21] الدر المنثور ج1 ص 254
[22] الاعلى : 6 – 7
[23] هود : 107 – 108
[24] الاسراء : 86 – 87
[25] التوبة : 67
[26] ص : 26
[27] النحل : 101
[28] ال عمران : 68
[29] الصافات : 55
[30] نهج البلاغة الخطبة 16