مجموعة آيات تتعرض لبعض خصائص اهل الكتاب وهي في نفس السياق المذكور اي تهيئة الجو للرد على اعتراضهم في نسخ القبلة.
وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ...
هذه الاية مرتبطة بما قبلها حيث حذّرت الآية السابقة من تبدل ايمانهم الى الكفر بسؤالهم من الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كما سئل موسى عليه السلام، ففي هذه الآية يحذّرهم بأنّ محاولات اليهود في إلقاء الشبهات بالنسبة لنسخ القبلة وتاخير بيان الاحكام، انما يقصد بها ارتداد المسلمين الى الشرك، مع أنهم يظهرون الايمان بالله وبالرسالات فالمفروض ان يكون الشرك مبغوضا عندهم فان الاسلام أقرب إليهم من الشرك ولكن الحسد يدعوهم الى ذلك.
ومن هذا القبيل ايضا قوله تعالى (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا)[1]
ونسبه الى كثير منهم لا الى جميعهم بل ولا الى أكثرهم وهذا من انصاف القرآن ويدل على وجود طائفة منهم لا يحملون هذا الحقد والحسد بالنسبة للمسلمين. وهذا الانصاف ملحوظ في موارد كثيرة حتى بالنسبة للمشركين فلا ينسب الامر المذموم الى الجميع بل الى الكثير او الاكثر كما ورد في عدة آيات أن أكثرهم لا يعقلون او لا يعلمون ونحو ذلك.
و(لو) في قوله (لو يردّونكم) تفيد التمني وهي مصدرية اي تأوّل مع مدخولها الى المصدر فالمعنى يودّون ويتمنّون ارتدادكم من بعد الايمان كفّارا، وحيث كان كفرهم السابق شركا ولم يكونوا من اهل الكتاب، فهم يودّون أن يرجع المؤمنون مشركين. وقوله (يردّونكم) متضمّن معنى الصيرورة، فله مفعولان و(كفّارا) مفعوله الثاني.
وقوله (حسدا) مفعول لاجله. اي أن هذه الصفة هي المنشأ لهذا التمني والسر في هذا الحسد هو ما اشير اليه في الآية بقوله تعالى (من بعد ما تبيّن لهم الحقّ)، فحيث علموا ان ما جاء به الرسول صلى الله عليه وآله وسلم حقّ وانه هو الدين الخاتم الذي بشّر به الأنبياء، حسدوا المسلمين حيث كانوا يتوقّعون ان يكون هذا الدين وهذه الرسالة منهم وفيهم.
والحسد المبغوض، ان يطلب الحاسد زوال النعمة عن شخص، واما لو كان يطلب نزول النعمة على نفسه لم يكن مبغوضا، بل هو ناشئ من غريزة بشرية تدعو الانسان الى التقدم في شتى المجالات وهو امر مستحسن، وانما يقبح تمني زوال النعمة عن المحسود، كما كان من اليهود حيث تمنوا ارتداد المسلمين ورجوعهم الى الشرك.
ووقع الخلاف في معنى التقييد في قوله تعالى (من عند أنفسهم)، فان الحسد لا يكون الا من عندهم. فقيل انه ليس قيدا احترازيا، بل هو توضيح للتاكيد كما يقال رايته بعيني. وقيل انه متعلق بقوله (ودّ)، بمعنى أن هذا الامر لم يكن مقتضى دينهم وانما نشأ من اهوائهم، ولكنه بعيد من جهة الفصل. وقيل انه متعلق بقوله حسدا، اي ان هذا الحسد لم ينشأ من امر خارجي وانما كان ناشئا من ذواتهم وطبيعتهم. وهذا اقرب الى القبول.
ثم أمرهم بالعفو والصفح عنهم، مع أنهم أظهروا غاية البغض والعداء فان الايمان للمؤمن اغلى ما يملكه وهم حاولوا انتزاعه منهم. والعفو هو الترك. والصفح هو الاعراض عنهم، ماخوذ من صفحة الوجه، فانك اذا اعرضت عن احد تُولّيه صفحة وجهك وتتركه فهذه مرحلة بعد العفو، لان الانسان قد يعفو عن احد ويترك مؤاخذته، ولكنه يلومه فاذا تركه تماما فهو الصفح.
ولكنه اشار الى ان هذا العفو مؤقت الى أن يأتي الله بأمره، والمشهور أن المراد به زمان يأتي فيه الامر من الله تعالى للمسلمين بمحاربتهم وإخراجهم من بيوتهم، كما تحقق ذلك ولم يبق لليهود مأمن بعده في الجزيرة العربية.
ويمكن أن يراد بالامر، امره تعالى في التكوين بان يريد إذلالهم وينصر المؤمنين عليهم وهو أنسب بالتعليل بالقدرة. فيكون معنى الآية على هذا الاحتمال، اتركوهم الى ان يأتي الموعد المناسب لاذلالهم وانتصاركم عليهم وهو قدير على ذلك.
واما على القول الاول فقد ذكروا وجوها في التعليل بالقدرة كلها مستبعدة.
قال في مجمع البيان (وقوله «إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» فيه ثلاثة أقوال أحدها: أنه قدير على عقابهم إذ هو على كل شيء قدير عن أبي علي. وثانيها: أنه قدير على أن يدعو إلى دينه بما أحب مما هو الأليق بالحكمة فيأمر بالصفح تارة وبالعقاب أخرى على حسب المصلحة عن الزجاج. وثالثها: أنه لمّا أمر بالإمهال والتأخير في قوله «فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا» قال إن الله قادر على عقوبتهم بأن يأمركم بقتالهم ويعاقبهم في الآخرة بنفسه).
وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ...
يمكن ان تكون مناسبة هذا الامر هنا، الاشارة الى موجبات تقوية المؤمنين ليتمكنوا من الانتصار على أعدائهم، وذلك بإقامة الصلاة ليتقوى ايمانهم وعزائمهم وبإيتاء الزكاة وازالة الفقر من المجتمع، فان التماسك الاجتماعي من أهم الامور في مواجهة الأعداء، مضافا الى أن المحتاج الى قوت يومه لا يمكن ان يدعى الى الصلاة فضلا عن الجهاد.
ويمكن أن يكون المراد بيان أنه يكفي في هذا الظرف حيث لم ينزل الامر بالقتال او لم يأت الوقت المناسب له، ان تعملوا بسائر احكام الله تعالى. فهذا نظير قوله تعالى (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً..).[2]
وكذلك قوله تعالى (أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ).[3]
وقد مر الكلام حول معنى اقامة الصلاة في بداية تفسير هذه السورة وحول ايتاء الزكاة في تفسير الاية 43 منها.
والجملة التالية تحث على الصلاة والزكاة فانهما من فعل الخير ولمصلحة الانسان نفسه فهما باقيان عند الله والله لا يضيع اجر العاملين.
والتقديم للنفس بمعنى ارسال العمل الى الآخرة حيث الحياة الابدية قبل ان يذهب الانسان بنفسه. ومعنى تجدوه عند الله ان الانسان يواجه نفس العمل بصورة أخرى، في تلك الحياة كما قال تعالى (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ..)[4]، او بمعنى أنه يجد الجزاء الاوفى فكأنه وجد العمل بنفسه.
وقوله (ان الله بما تعملون بصير) تعليل لقوله تجدوه عند الله. وقد مرّ غير مرّة أنّ في كثير من التفاسير تأويل توصيفه تعالى بالسمع والبصر بالعلم بالمسموعات والمبصرات، وقلنا ان هذا التاويل غير صحيح فان مفهوم السمع والبصر يختلف عن مفهوم العلم، ونحن نفرق عندنا بين العلم بالشيء وإبصاره وان كانت الحقيقة عند الله تعالى واحدة ولكن المفهوم مختلف.
والغرض من هذا التعبير، التأثير في المخاطب بأنه تعالى ليس عالما باعمالكم فحسب بل هو مشرف عليها ويبصرها مهما كانت صغيرة ام كبيرة، فالانسان إذا استشعر ذلك كان مؤثرا بعمق في عزمه وايمانه وتقواه وتورعه عن المحارم، فاذا أقام الصلاة او آتى الزكاة يبتهج بأن ذلك بعين الله تعالى، واذا ابتلي بمواجهة المعصية فانه يتورع عنها لانه يرى ربه مشرفا عليه وأنّه يراه.
وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ...
الضمير في قوله (قالوا) يعود الى اهل الكتاب، والمراد بهم اليهود والنصارى. وهذه المقولة منقولة باختصار فهي في الواقع جملتان: (لن يدخل الجنة الا من كان يهوديا) وهي كلام اليهود و(لن يدخل الجنة الا من كان نصرانيا) وهي كلام النصارى، فادمجت الجملتان في جملة واحدة للامن من الاشتباه، وذلك من جهة وضوح عداء كل واحد من الفريقين للاخر وسيأتي في سياق الآيات. و(لن) لتأكيد النفي او للتأبيد كما قيل.
وقوله (هودا) يحتمل ان يكون جمع هائد، وهو اسم فاعل من هاد يهود، اي تاب. قال تعالى في حكاية دعاء سيدنا موسى عليه السلام (إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ..)[5]. ويحتمل ان يكون مخفف يهود وهو اسم ماخوذ من يهوذا وهو احد اولاد يعقوب عليه السلام الاثني عشر، ولعل وجه التخصيص به لانه جد الانبياء عيسى وداود وسليمان عليهم السلام على ما قيل.
والنصارى هم من يدّعون انهم اتباع المسيح عليه السلام، ويسمون بذلك لان أحد القاب المسيح (الناصري)، لانه من الناصرة وهي بلدة في فلسطين، ويقال انها وطن امه مريم عليها السلام. واما المسيح فقد ولد في بيت لحم على ما يقال والله العالم.
والامانيّ جمع اُمنيّة وهي ما يتمنّاه الانسان، وقد مر في تفسير قوله تعالى (وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ..)[6]، أن الاصل في هذه المادة التقدير وذلك لان الانسان يقدّر لنفسه مستقبله حسبما يحبه ويهواه. ومنه قولهم (منى الله لك ما يسرّك) اي قدّر لك.
والمعنى أن ما ذكر امنية اهل الكتاب. ومثل ذلك موجود فينا ايضا وكتب المسلمين مليئة بمثل هذه الدعاوى الفارغة، كالقول باننا الامة المرحومة، وان الله قد خصنا بكثير من المزايا لا توجد في سائر الأمم، وان الشفاعة تنجينا من النار مهما كثرت الذنوب، بل نجد في كلمات العامة مكررا ان احدا من هذه الامة لا يخلّد في النار مهما فعل، مع أن في هذه الامة من الطواغيت والظلمة من قلّ نظيره في السابقين.
ومثله ايضا ما نمنّي نحن الشيعة أنفسنا به من المزايا دون سائر الناس. فلطم الصدور وحضور مجالس العزاء يغني بعض الجهلة من الصلاة ومن الالتزام باحكام الله تعالى وربما نسمع من بعض الخطباء ما يشجّعهم على ذلك.
وهكذا كان الاحبار وعلماء اليهود ينشرون بين العامة انهم اولاد الانبياء وانهم شعب الله المختار وان النار لن تمسهم الا اياما معدودة ونحو ذلك. وكذلك النصارى فهم الى يومنا هذا يخيّل إليهم أنّ الله تعالى بعث ابنه ليضحّي بنفسه ويكون فداءا لاتباعه، وهم بذلك لا يجب عليهم الالتزام باي حكم من احكام الله تعالى، والله تعالى لا يدخلهم النار مهما فعلوا. ولذلك تجد الاباحية منتشرة فيهم.
والله تعالى يقول (لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا * وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا).[7]
وقد حاول بعض المسلمين ايضا ان ينشروا الاباحية بنفس الطريقة. ومن هؤلاء من ادّعى التقرب باهل البيت عليهم السلام كابي الخطّاب واتباعه، فكانوا ينشرون افكارا مفادها ان اركان الدين من الصلاة والزكاة والحج وغيرها كنايات عن الولاء للامام المعصوم، فاذا احببته فلا يجب ان تلتزم باي ركن من الدين، وان المنكرات باجمعها كناية عن أعدائه فاذا عاديتهم وأبغضتهم، فلا حرج عليك فيما تفعل من المنكرات وهذا هو بنفسه ما توصّلت اليه النصارى.
والائمة عليهم السلام لعنوا هؤلاء و أعلنوا البراءة منهم ومن أفكارهم، بل أعلنوا في مواقف عديدة أن شفاعتهم لا تنال مستخفا بصلاته حتى لو كان مصليا مزكيا فكيف بتاركها.
وربما يسأل لماذا أتى بالاماني بصيغة الجمع مع أنها امنية واحدة؟
و اجيب عنه بوجوه عديدة:
منها أن هذه احدى الاماني ولديهم امنيات اخرى كلها باطلة.
ومنها ان كل واحد منهم لديه هذه الامنية فتكون لهم جميعا امانيّ.
ومنها أن الجمع يؤتى به للتأكيد على الامر كما في حاشية الكشاف فالتعبير عن الامنية الواحدة بالاماني لبيان شدة تعلقهم بهذه الامنية وكأنّ كل أمانيهم داخلة فيه.
والواقع أن الامنية من شؤون النفس وليست واحدة بالوحدة الشخصية، فاذا كان الانسان يتمنى امرا لمستقبله مثلا، فان صورة هذه الامنية متمثلة دائما وبصورة متكررة وبوجوه عديدة في ذهنه، وهو يكرّر تصوّرها ويبني عليه آمالا أخرى، فالتعبير عنه بالجمع اولى من الافراد في كل موارده ويلاحظ انه تعبير متعارف في سائر اللغات ايضا.
وحيث كان هذا الكلام او هذه العقيدة تحدّيا لمن يعتنق الدين الجديد، امر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وآله وسلم ان يرد عليهم ردا منطقيا ويطالبهم بدليل وحجة تثبت اختصاص الجنة بهم، حيث بنوا على هذه الدعوى أمانيّهم وخدعوا عوامهم وجهالهم ان كانوا صادقين في دعواهم ولم يكن الهدف مجرد خداع لعامة الناس.
و(هاتوا) من المهاتاة كما في العين بمعنى الاعطاء اي اعطونا. وقيل معناه (قرّبوا لنا). وقيل انه اسم فعل بمعنى أحضروا. وقيل ان الهاء همزة في الاصل فهو من الاتيان اي آتوا برهانكم وآتى برهانه اي اتى به وربما يفيد معنى الإعطاء واستعماله بهذا المعنى كثير في القرآن. وقد مرّ آنفا قوله تعالى (وَآتُوا الزَّكَاةَ).
والبرهان: الحجة الواضحة او ايضاح الحجة. قيل إنّه مأخوذ من بَرَهَ. وأنّ الاصل فيه البياض. ولكنه غير واضح في كتب اللغة. ولم أجد من كشف عن الاصل فيه بوضوح.
والبشر وان كان بطبعه يتأثر من الاحاسيس والمشاعر أكثر من تأثره بالعقل والمنطق الا ان القرآن يدعو في آيات كثيرة الى التعقل وعدم الاعتماد على ما يثير العواطف من دون دليل.
والقرآن يرفض نشر الجهالات بين عامة الناس وإبقائهم على بساطتهم واُمّيّتهم. والرسول صلى الله عليه وآله وسلم كان يحثّ امته على العلم والمعرفة، ويحثّ من كان يجيد القراءة والكتابة على تعليم المسلمين. والقرآن ليس حُكرا على قوم كما هو المتعارف بين اهل الكتاب في تلك العصور، بل كان يُنشر بين عامة الناس يتداولون آياته فيما بينهم ويحفظونها وينشرونها.
وانتهز صاحب المنار هذه العبارة للهجوم على التقليد حتى في الاحكام، وقال إنه لا يجوز قبول الفتوى من أحد الا بالدليل. ولكن الصحيح أن مورد الآية الاعتقاد، وأما الاحكام فاستخراجها من مصادرها في الشريعة يتوقف على تخصّصات عديدة في التفسير والادب العربي والحديث والرجال وغيرها، ولا يتمكن العامي من ذلك فلا بد له من التقليد وهو الطريق العقلائي في كل ما يتوقف على تخصّص في امور الدنيا ايضا.
بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ...
(بلى) أداة جواب ترد على النفي وتثبت خلافه، فحيث كانت الدعوى نفي دخول الجنة لغير اليهود والنصارى فقوله (بلى) في الجواب معناه أنه ليس كما تتوهمون وليست لاحد قرابة مع الله تعالى ولا يتقرب لديه الا المتقون ولا يوجد لديه شعب مقرب بذاتهم ولم يرسل أحدا ليضحي بنفسه ويكون بذلك فداءا لاتباعه فيسلكوا سبيل الاباحية كما يتوهم النصارى.
واسلام الوجه لله تعالى ليس بمعنى اعتناق الدين الاسلامي بل بمعنى التسليم لامره تعالى، والوجه كناية عن الذات. والسر في هذا التعبير ان تمايز البشر بالوجوه. وهذا من عجائب خلقة الانسان حيث لا يوجد وجهان متماثلان تماما بين المليارات من البشر على ما قيل.
ولذلك فان وجه الانسان يعكس ذاته، وبهذا الاعتبار يعبر به عن الذات حتى فيمن لا وجه له، كما قال تعالى (وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ)[8]، ومن هنا أتى بالوصف موافقا للوجه في الاعراب، لا للرب لان وجه الرب هو الرب بالذات جلّ وعلا.
ومعنى تسليم الذات لله تعالى ان يرضى برضاه، سواء كان حكما شرعيا او قضاءا وقدرا. فلا يكفي ان يكون الانسان مسلما او مؤمنا بالله تعالى حتى يرضى بكل ما قدّر وقضى وبكل ما حكم به من اوامر ونواهي. وقلّ من تجد مسلّما لقضاء الله تعالى إذا ضاقت به سبل المعيشة. وقلّ من يرضى بحكم الشريعة إذا لم يتوافق مع هواه، فتجد الانسان عاكفا على الصلاة والصوم وغيرهما من العبادات والمستحبات ولكنه يرفض وجوب الزكاة او الخمس او بذل المال في سبيل الله تعالى فضلا عن التضحية بالنفس.
ويعتبر في تسليم الوجه لله، الاخلاص ونفي الشرك. فمن كان يسلم وجهه للطاغوت او لأهوائه، لا يمكن ان يسلم وجهه لله أيضا، فلا تقبل منه صلاة ولا طاعة. ولذلك قال ابراهيم عليه السلام امام الموحدين (إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ).[9]
والحاصل ان المناط ليس هو متابعة اليهود او النصارى بل المناط في دخول الجنة حسب هذه الآية أمران:
الاول: التسليم لامر الله تعالى وتختلف درجات المؤمنين في ذلك، وكلما كان الانسان أوسع تسليما واقوى طمأنينة لامره تعالى زاد درجة وقربا لديه.
والثاني: أن يكون محسنا والاحسان يتم باعماله الصالحة. وفي ذلك ايضا تختلف الدرجات حسب ذات الاعمال كما هو واضح، وحسب خلوص النية فيها. وقوله (وهو محسن) جملة حالية، اي يسلم وجهه لله تعالى حال كونه محسنا، فالتسليم يحكي عن درجة ايمانه والاحسان عن اعماله الصالحة. والنجاة لا تتم الا بهما معا.
وقوله (فله اجره عند ربه) جزاء الشرط، لان (مَن) وان كانت موصولة الا انها تفيد معنى الشرط. والمعروف في التفاسير أن تنكير الاجر للاشارة الى عظمته بحيث لا يمكن توصيفه وبيانه. ولكن الظاهر انه للاشارة الى ان الاجر يختلف حسب اختلاف درجة التسليم وحسب اختلاف الاعمال، فمعنى الآية أن لكل عامل اجره الخاص به.
والناس يوم القيامة في خوف مما يستقبلهم من انواع العذاب وحزن عميق لما فاتهم من الفرصة في الدنيا حيث لم يعملوا ما يفيدهم هناك، واما هؤلاء فلا موجب للخوف عليهم اذ ليس امامهم الا النعيم الدائم ورضوان الله تعالى. ولا هم يحزنون على ماضيهم فقد صرفوا قوتهم ونشاطهم وعمرهم في الاعمال الصالحة مع تسليم الوجه لله وحده.
ومن اللطيف، تغيير العبارة فاتى بضمير المفرد تارة ثم أبدله الى ضمير الجمع في الجملة الأخيرة، فالافراد باعتبار لفظ (من) والجمع باعتبار المعنى وتعدد الافراد.
وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ...
قوله تعالى (ليست على شيء)، بمعنى أنهم لا يستندون الى حجة في دينهم، فاليهود يعتقدون الى يومنا هذا – على ما يقال – أن المسيح سيظهر ويعيد مجد بني إسرائيل، ولكنهم يعتقدون ان عيسى عليه السلام ليس هو المسيح الموعود فالنصارى يستندون في دينهم على دجل وليس نبيهم نبيا في الحقيقة.
والنصارى يعتقدون أن شريعة عيسى نسخت شريعة موسى عليهما السلام وان اليهود يجب ان يؤمنوا جميعا بالرسول الجديد والشريعة الجديدة، وهم لم يؤمنوا بل قتلوا الرسول الجديد فهم ليسوا على حق.
يقول كل منهم ذلك وهم يتلون كتاب الله، فالتوراة بشّرت بظهور عيسى عليه السلام وهم كانوا يجدون صفات الرسول المبشّر به فيه ويرون معجزاته الواضحة من إحياء الموتى وإبراء الاكمه والابرص وغيرذلك، ولكنهم رفضوا الايمان به تعصبا لعقائدهم او لقومياتهم المتشتتة.
والنصارى يقرأون في كتابهم أن شريعة عيسى عليه السلام لم تنسخ كل احكام الناموس اي التوراة، وان عليهم ان يعملوا بما فيها، ولكنهم لا يعملون به ولا يلتزم علماؤهم بما فيها من احكام، ولذلك يشربون الخمر بل يعتبرونه من طقوسهم الدينية وياكلون لحم الخنزير بشراهة وهما محرمان في التوراة.
ولعل الغرض من التنبيه على هذا التنافر بينهم، التقليل من شأنهم ومن تكذيبهم للرسالة، فان العرب كانوا يرون انهم علماء ولديهم الكتاب السماوي، فاذا لم يؤمنوا بالرسالة فهم يستندون الى دليل ولعل هذا كان من الموانع لاعتناق بعضهم الدين الحنيف.
ومن جهة أخرى، وفي سياق الرد على إلقائهم للشبهة في نسخ القبلة وغيرها وفي تاخير الاحكام، فان هذا التراشق بينهم مع انهم يتلون الكتاب يؤثر في رؤية العرب لهم كعلماء واهل خبرة بالاديان السماوية ولا يهتمون بشبهاتهم.
كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ...
المراد بالذين لا يعلمون المشركون في الجزيرة العربية، اي لا فرق بينهم وبين هؤلاء الجهلة مع أنهم ليسوا من اهل الكتاب ولا يعلمون شيئا من تعاليم السماء ومع ذلك فهم ايضا يقولون مثل ذلك بالنسبة لكل شرايع الله تعالى. ولعل المراد قولهم (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ..)[10] فهم يرون أنّ كل أتباع الشرايع ليسوا على شيء.
والحاصل أن في الآية توبيخ لاهل الكتاب على هذا النوع من العقيدة والمقال، حيث انه يشبه افكار المشركين.
وحيث كان هذا التراشق وتبادل التكذيب ينشأ من اختلافهم في العقيدة، فالله تعالى يبين أن كل الاختلافات تزول يوم القيامة، ومعنى حكمه تعالى بينهم رفع الاختلاف بتبين الحق، وهو يظهر يوم القيامة كما تظهر كل الحقائق، لان الانسان يكشف عنه الغطاء كما قال تعالى (فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ).[11]
[1] النساء : 51
[2] النساء : 77
[3] المجادلة : 13
[4] ال عمران : 30
[5] الاعراف: 156
[6] البقرة : 78
[7] النساء : 123 – 124
[8] الرحمن : 27
[9] الانعام : 79
[10] الانعام : 91
[11] ق : 22