وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا...
(من) استفهامية ويقصد بها الانكار اي لا يوجد في الناس أظلم ممن منع مساجد الله. والظلم وضع الشيء في غير موضعه. واللغويون وان ذكروا هذا المعنى في قبال ما يضاد النور، ولكن لا يبعد ان يكون الاصل هو المعنى الثاني، واطلاقه على المعنى الاول باعتبار انه تصرف في الظلام، ولذلك يقع في غير موضعه غالبا. وبناءا على ذلك قلنا بأن الظلم لا يتوقف صدقه على وجود مظلوم. وهنا ايضا يمكن ان يعتبر الظلم واقعا على الناس او على المساجد او على أنفسهم او على المجتمع البشري او يكون من دون متعلق.
وقوله (ان يذكر فيها اسمه)، يمكن أن يكون بدلا عن (مساجد الله) اي منع ان يذكر اسم الله في المساجد، ويمكن ان يكون مفعولا لاجله اي يمنع الناس من مساجد الله مخافة ان يذكر فيها اسمه او لئلا يذكر فيها اسمه تعالى. والحاصل أن الاهتمام في الآية بمنع الصلاة في المساجد ومنع ذكره تعالى لا نفس الحضور.
والسعي هو المشي السريع، ويكنى به عن بذل الجهد في سبيل الوصول الى هدف مّا. والمراد بالخراب قد يكون المعنى الواقعي اي هدم المساجد، وقد يكون نتيجة منع المصلين والذاكرين فيبقى المسجد خاليا من الرواد وينتهي الى الخراب.
ولكن الظاهر ان المراد المنع من الصلاة وذكر الله تعالى، فانه خراب لها لانها لم تستخدم فيما صنعت له ووقفت عليه؛ فهو خراب في المعنى وان لم ينهدم البناء، كما ان عمران المساجد في قوله تعالى (إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ..)[1] فسّر بكثرة ارتياد المساجد والحضور فيها.
ويدل على ارادة هذا المعنى، عطفه على المنع من ذكر اسم الله تعالى في المساجد، فانه يصدق على منع الورود، ويصدق على منع الصلاة، كما لو سمحوا للناس بدخول المساجد من دون ان يصلوا فيها. والظاهر – كما أشرنا اليه – أن هذا هو المراد بالآية الكريمة لأن الاهتمام بالمنع من ذكره تعالى في المساجد، وبذلك يتحدد معنى الخراب ايضا.
والسؤال هنا، أن هذا التعبير ورد في عدة موارد في الكتاب العزيز، منها قوله تعالى (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ..)[2] ، ومنها (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ..)[3]، وبمعناه آيات كثيرة ومنها (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا..)[4]، وربما يبدو تناقض بين الآيات فأيّ من هؤلاء هو الاظلم؟ ومثل ذلك ما ورد في الروايات من ان افضل الاعمال كذا وكذا.
ويمكن الجواب بأن هؤلاء بأجمعهم أظلم الناس ولا يمنع ذلك من أن يكونوا في درجة واحدة وكذلك الافضلية في الاعمال الحسنة.
واختلف المفسرون في من هو المراد بهذه الآية؛ فقيل انهم الروم لأنهم غزوا بيت المقدس وسعوا في خرابه الى ان اخرجهم المسلمون. وقيل هو نبوخذ نصر الذي هدم بيت المقدس. قيل وأعانه عليه النصارى. وقيل المراد مشركو العرب. وفي مجمع البيان (روي عن أبي عبد الله عليه السلام أنهم قريش حين منعوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دخول مكة والمسجد الحرام).
والظاهر أن الاخير هو الصحيح حتى لو لم تثبت الرواية، ولا وجه للتعرض لما سبق على الاسلام ولا مناسبة تدعو الى ذلك، وانما ذكرهم بعض المفسرين لأنهم رأوا أن الآيات السابقة تتعرض لمساوئ اليهود والنصارى، فافترضوا أن تكون هذه الاية ايضا في نفس المعنى، فبحثوا عمّن ينطبق عليه هذا العنوان منهم، مع أنه لا توجد قرينة في الآية على ذلك. بل القرينة على خلافه وهي ما أشرنا اليه من أن مورد الآية المنع من الصلاة وذكر الله تعالى، لا تخريب بناء المسجد ولا منع ورود الناس فيه. وهذا هو الذي ينطبق على ما فعله المشركون في عهد حضور النبي صلى الله عليه وآله وسلم في مكة.
اما مناسبة التعرض لمنع المشركين مساجد الله فهي ما مر من أن سياق الايات هنا تمهّد للتعرض الى مسالة نسخ القبلة، وتهيّء الاجواء لقبوله. وحيث ان القبلة الجديدة هي الكعبة، فالتعرض لمن منع المسجد الحرام ان يذكر فيه اسمه تعالى ولفت الانظار الى عظمة المسجد وحرمة كل مسجد اقرب شيء الى المحور الذي تقصده الآيات.
وليس المراد منع المسلمين في قصة الحديبية كما يتوهم، بل المراد منعهم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين من الصلاة فيه ايام حضورهم في مكة وبعد الهجرة، فان استئثارهم بالمسجد الحرام كان مستمرا والمؤمنون وهم اولى به كانوا محرومين منه.
ولعل بعض الناس في المدينة كانوا يستبعدون احتمال جعل الكعبة قبلة، لانها بيد المشركين وفيها اصنامهم؛ فأراد الله تعالى بهذه الآية أن يبين أنهم يجب ان يمنعوا من المسجد، وان لا يدخلوه الا خائفين فالكعبة والمسجد الحرام للمؤمنين وقد صرح بذلك في موضع اخر.
قال تعالى (وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ)[5] وهذه الآية تصرّح ايضا بأنهم كانوا يمنعون الناس اي المؤمنين من المسجد الحرام. ومن هنا يتبين ايضا ان المراد بالخراب ليس تخريب العمارة بل منع المسجد من استعماله فيما هو له. والاعظم منه استعماله في عبادة الاصنام.
أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ...
اختلفوا ايضا في المراد بهذه الجملة مع انها واضحة، وانما اُغلق عليهم فهمها لأنهم فسروا الجملة السابقة بغير مشركي قريش؛ واما مع هذا التفسير فالمعنى واضح، وهو أن المسجد يجب أن يؤخذ منهم وان يخرجوا منه ولا يدخلوه الا خفية وخوفا من المؤمنين، لا كما هم عليه الآن من دعوى سدانة المسجد ومنع المؤمنين منه وهذا الحكم عام لجميع المساجد.
وربما يقال انه لو كان المراد خصوص المسجد الحرام لكانت الجملة أن يدخلوه؟
والجواب واضح فهذا حكم عام يشمل جميع المساجد في جميع الاعصار، واراد تطبيقه على المسجد الحرام كما هو الحال في سائر الموارد في الكتاب العزيز، حيث يذكر الحكم العام ويقصد تطبيقه على المورد الذي نزلت فيه الآية، ولذلك يقال ان المورد لا يخصص الآية.
وقد تحقق ما أراده الله تعالى وتحقق ما أخبر به، فأخزى الله المشركين في الدنيا وأذلهم ولهم في الآخرة عذاب النار الحريق وهو عذاب عظيم.
وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ...
المشرق جهة طلوع الشمس والمغرب جهة غروبها، فهما اسمان لجهتين من جهات الافق في قبال الشمال والجنوب وفروعها. والجهات كلها لله تعالى لان الكون كله له وانما ذكر المشرق والمغرب خاصة، لان الانسان يمكنه معرفتهما على الطبيعة بشروق الشمس وغروبها من دون التوسل بالآلات المحددة للجهات. ويعرف سائر الجهات بهما ولذلك رتب على معرفتهما التولي الى مطلق الجهات لا اليهما فحسب.
وهذه الجملة مقدمة للجملة الثانية، وهي أن الانسان اينما يولّي وجهه فهو يواجه الله تعالى فالجزاء في الواقع هو هذا المعنى. وقوله (فثم وجه الله) قائم مقام الجزاء لانه السبب.
و(ثَمَّ) ظرف مكان بمعنى (هناك) ومعنى الآية على ما يبدو واضح، وهو أن الله تعالى ليس في جهة لانه ليس جسما ولا يحويه مكان ولا يغيب عن مكان فالجهات، كلها لله تعالى واينما تولوا وجوهكم فهناك وجه الله تعالى.
والمراد بالوجه هو هذا المعنى الواضح، مع ان الله ليس له وجه فهو كناية عن المواجهة حيث ان الانسان اذا اراد ان يقابل احدا ويكلمه ويناجيه فهو يواجهه، اي يجعل وجهه قبال وجهه ومن هنا كانت المواجهة بمعنى المقابلة، فاذا اردتم مقابلة ربكم للصلاة او الدعاء او المناجاة فلا فرق بين الجهات اينما تولوا وجوهكم وتذكروا الله تعالى فهو مقابلكم وجها لوجه.
هذا هو المعنى الظاهر من الاية، والتعليل ايضا يناسبه (ان الله واسع عليم)، والمراد بالسعة أن وجوده تعالى ليس محدودا بحد ولا يحصره مكان، وبكونه عليما أنه يعلم بمواجهتكم اينما كنتم والى اي جهة توجّهتم.
ولكن حيث كان بظاهره يقتضي عدم وجوب مواجهة القبلة في الصلاة، وهو امر مخالف لاجماع المسلمين اختلف المفسرون في تأويلها.
فقال بعضهم ان المراد بالمشرق والمغرب، ليس الجهات بل الامكنة، ويصحّ التعبير عن البلاد والامكنة بالمشرق والمغرب، بل هو تعبير متعارف فالمعنى أنّ الارض كلها لله فاينما تذهبوا وتصلوا تصح صلاتكم وذكركم ودعاؤكم، فمعنى (تولّوا) اي تذهبوا. وهذا في الواقع تسلية للمؤمنين حيث منعوا من دخول المسجد الحرام فاعلمهم الله تعالى أن الارض كلها لله واينما تذهبوا وتذكروه فثم وجهه تعالى.
ويؤيد ذلك ما ورد في الحديث (جعلت لي الارض مسجدا وطهورا) وهذا بخلاف أتباع الاديان السابقة حيث كانوا ولا زالوا لا يعبدون الله الا في معابدهم.
وهذا التاويل غير صحيح، اذ لا وجه لتغيير العبارة، فلو اراد هذا المعنى لقال فاينما تصلوا صحت صلاتكم والتولي لا يعبّر به عن هذا المعنى، بل هو واضح في ارادة التوجّه، كما انه لا يبقى وجه لقوله فثم وجه الله، وهذا لا يناسب الا التوجّه الى جهة خاصة.
وقيل انها منسوخة بآية القبلة، وان الحكم كان قبله مطلقا في التوجه في الصلاة. وهو ايضا غير صحيح، اولا لعدم الاطلاق في التوجه قبل ذلك، بل كان الى قبلة اخرى، وثانيا لان هذه الآية لا تقبل النسخ، والسبب فيه وجود هذا التعليل الذي سبق الحكم، حيث قال (ولله المشرق والمغرب) وهذا امر تكويني لا يتغير، وفرع عليه الحكم المذكور اي جواز التوجه الى اي جهة من الجهات فهو ايضا لا يمكن ان يتغير.
وقيل ان هذه الآية عامة لجميع الصلوات، ومخصصة بما ورد من وجوب التوجه الى القبلة في الفرائض فتبقى خاصة بالنوافل، ويجوز التوجه فيها الى كل الجهات ولذلك يجوز الاتيان بها في حال المشي والركوب. وورد ذلك في بعض الروايات.
روى الصدوق رحمه الله عن جعفر بن محمد بن مسرور عن الحسين بن محمد بن عامر عن عمه عبد الله بن عامر عن محمد بن أبي عمير عن حماد عن الحلبي عن أبي عبد الله عليه السلام قال (سألته عن الرجل يقرأ السجدة وهو على ظهر دابته قال يسجد حيث توجهت به فان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يصلي على ناقته وهو مستقبل المدينة يقول الله تعالى (فأينما تولوا فثم وجه الله).[6]
وسند الرواية فيه مجهول وهو جعفر بن محمد بن مسرور وهناك روايات مرسلة في تفسير العياشي وفي مجمع البيان وغيرهما تدل على انها تختص بالنوافل.
وهذا ايضا غير صحيح، اولا لان الحكم المذكور في النوافل لا يستلزم جواز الاتيان بها الى غير القبلة مطلقا، حتى في غير حال المشي والركوب، كما هو الفتوى او الاحتياط؛ وثانيا لان هذه الآية غير قابلة للتخصيص بنفس الدليل المذكور آنفا لمنع نسخها.
واما الروايات، حتى لو صحّ سندها فانّها لا تدلّ على التخصيص وانما تدلّ على انّ مفاد الآية هو الاصل في التوجه الى الله تعالى، فلو لم يرد دليل خاصّ في مورد خاصّ كالفريضة او الذّبح ونحوهما بلزوم التوجّه الى القبلة فالاصل يقتضي عدم الاشتراط بمقتضى هذه الآية.
وقيل الآية خاصّة بحالة التباس القبلة وعدم التمكّن من معرفة الجهة، وهذا المعنى ايضا ورد في بعض الروايات؛ فقد روى الشيخ رحمه الله بسنده عن الحسين بن سعيد عن محمد بن الحصين قال كتبت إلى العبد الصالح عليه السلام، الرجل يصلي في يوم غيم في فلاة من الأرض ولا يعرف القبلة فيصلي حتى إذا فرغ من صلاته بدت له الشمس، فإذا هو قد صلى لغير القبلة أيعتد بصلاته أم يعيدها؟ فكتب يعيدها ما لم يفته الوقت أولم يعلم أن الله تعالى يقول – وقوله الحق – فأينما تولوا فثم وجه الله).[7]
والشاهد في الحديث، ان الامام عليه السلام استدل بالاية الكريمة على عدم وجوب الاعادة اذا علم بالقبلة بعد الوقت، فمعناه اختصاص الاية بحالة التباس القبلة وعدم تعيينها الا بعد الوقت.
ولكن من الواضح أن الاية لا تفرق بينه وبين التعيين في الوقت، فلو صح التعليل لكان اللازم الحكم بعدم وجوب الاعادة في الفرضين، والاية كما قلنا لا يمكن تخصيصها بحال دون حال.
ولكنّ الرواية غير معتبرة سندا، ويأتي فيها ايضا ما مر من احتمال ان يكون المراد كون هذا الامر اي عدم لزوم التقيد بالقبلة هو الاصل، وانّما يخرج منه في الموارد الخاصّة بادلّة خاصّة.
وقال العلامة الطباطبائي رحمه الله (واعلم أنّ هذا توسعة في القبلة من حيث الجهة لا من حيث المكان). ويقصد بذلك ان المراد بالآية، عدم اختلاف المشرق والمغرب في تحديد القبلة وهي الكعبة فالمكان لا يتغير وانما تتغير الجهة حسب مكان المكلّف سواء توجّه الى الشّرق ام الغرب ام غيرهما من الجهات.
وقال في المنار (وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ يَلْتَزِمُونَ فِي صَلَاتِهِمْ جِهَةً مُعَيَّنَةً كَالْتِزَامِ النَّصَارَى جِهَةَ الْمَشْرِقِ، وَأَنَّ اسْتِقْبَالَ الْمُسْلِمِينَ الْكَعْبَةَ يَقْتَضِي أَنْ يُصَلِّيَ أَهْلُ كُلِّ قُطْرٍ إِلَى جِهَةٍ مِنَ الْجِهَاتِ الْأَرْبَعِ فَهُمْ يُصَلُّونَ إِلَى جَمِيعِ الْجِهَاتِ، وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ تَوَجُّهَهَمْ إِلَى اللهِ تَعَالَى).
وهذا التأويل ايضا غير صحيح، اذ لا يبقى فائدة في مضمون الآية، فاللازم هو التوجه الى الكعبة اينما كنت وهذا قد يستلزم التوجه الى الشرق وقد يستلزم غيره ولا وجه حينئذ للتعليل بقوله، ولله المشرق والمغرب لان السبب هو انّك اينما توجّهت تتوجّه الى الكعبة لا انّك تتوجّه الى وجه الله تعالى. والواقع انّ هذا أضعف الوجوه.
والصحيح أنّ الآية كما هي بظاهرها لا حاجة الى تأويلها، والغرض منها كما مرّ التمهيد للردّ على من اعترض على نسخ القبلة بأنّ هذا التغيير يفوّت على الناس مصلحة إمّا قبل التغيير او بعده.
والجواب الذي يظهر من الآية أن التوجّه الى القبلة، لا يحمل مصلحة واقعية فالهدف التوجّه الى الله تعالى وهو لا يحدّه حدّ ولا جهة، فاينما تولّوا فثمّ وجه الله، وانما حدّدت القبلة في موارد خاصة كالصلاة والذبح والدفن وغيرها، لامتحان الانسان هل يطيع ربّه ام لا كما هو الحال في سائر احكام الشرع.
قال تعالى (وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ..).[8] وقد ورد نفس التعبير في قوله تعالى (سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ..).[9]
وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ...
وقع الكلام في ان الضمير في (وقالوا) يعود الى اليهود حيث قال بعضهم العزير ابن الله او الى النصارى حيث قالوا المسيح ابن الله او الى المشركين حيث قالوا الملائكة بنات الله تعالى. والظاهر عوده الى جميعهم لانه تعالى اشار الى تماثلهم في الافكار والعقائد في قوله (كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ) وسيأتي ايضا قوله تعالى (تشابهت قلوبهم).
وهناك فرق بين اثبات الولد له تعالى كما في قوله (سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ)[10] وبين اتخاذه ولدا فالاول بمعنى ان يتكون منه شيء هو مثله كما في كل حيوان ونبات وهو مستحيل عقلا لانه تعالى ليس جسما ولانه لا مثل له.
واما اتخاذ الولد فهو بمعنى انه تعالى اعتبر انسانا او ملكا ولدا له كما يحدث في البشر بالتبني وكما اتخذ الله ابراهيم عليه السلام خليلا ويتبين الفرق بملاحظة قوله تعالى (إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا)[11] حيث يظهر منه ان كونه عدوا مغاير لاتخاذه عدوا فالامر هنا باتخاذه عدوا بمعنى ان الانسان لا يوالي الشيطان ولا يتبع خطواته ولا يطيعه.
ولكن المفسرين غالبا لم يفرقوا بينهما ويبدو من كثير منهم ان المراد باتخاذ الولد ان يكون له ولد ويبدو من بعضهم التفريق ولكن لا يمتنع عندهم اتخاذ الولد تشريفا وانما منعه الله تعالى لأنهم يقولون به من دون دليل كما يبدو من قوله تعالى (قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ)[12] ونظائره وسيأتي بعض الكلام حول هذه الآية.
والاغرب منه أن كثيرا من المفسرين او كلهم فرقوا بين تفسير الآيتين في سورة البقرة وفي سورة يونس فلم يذكروا هنا ان الآية تردّ على التبنّي بل فسروا اتّخاذ الولد باسناد الولد اليه تعالى حقيقة ولكنهم في سورة يونس فسّروا الآية بالتبنّي وفي روح المعاني أن هذه الآية صريحة في التبنّي مع أن التعبير في الآيتين واحد.
ومهما كان فالصحيح أن اتّخاذ الولد ايضا مستحيل على الله تعالى كما أنه لا يمكن أن يكون له ولد حقيقة. والتبنّي ليس كاتخاذ الخليل فان الخُلّة بمعنى المودة والمحبة الخالصة فاعتبار ابراهيم عليه السلام خليلا لغاية اخلاصه وحبه لله تعالى واما التبني فلا يمكن الا فيمن يكون مثل المتبني ولذلك لا يتبنى الانسان حيوانا.
ولا يتبنى ايضا الا من يأمل فيه ان ينوبه ويقوم مقامه فلا يتبنى انسانا كبيرا في السن بل يتبنى طفلا بمعنى انه يعتبره كولد له يرث منه ويضفي عليه كل ما يستحقه الولد في العرف والقانون. كما قال تعالى في قصة يوسف عليه السلام (وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا..)[13] وفي قصة موسى عليه السلام (وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا..).[14]
ولا يصدق التبني بمجرد كفالة طفل يتيم مثلا وهذا الاعتبار لا يمكن في الله بالنسبة الى اي احد لانه لا يمكن ان يكون مثله فهو نظير اتخاذ الشريك في الربوبية وقد قال الله تعالى (وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا)[15] فالشركة في الربوبية مستحيلة حتى بنحو الاتخاذ لان الرب محيط بكل شيء وقائم على كل نفس بل كل شيء متعلق في كيانه ووجوده بالرب تعالى وهذا الامر لا يمكن ان يتحقق في غيره حتى بالاعتبار ولذلك كان دعوى بنوة عيسى لله تعالى مستلزما لعبادته واعتباره اقنوما من اقانيم الربوبية وهو كفر محض.
ولذلك ايضا اعتبر اتخاذ الولد كاتخاذ شريك لله في الربوبية في قوله تعالى (مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ)[16] فقوله تعالى (اذا لذهب كل اله بما خلق...) يرد على الفرضين اتخاذ الولد وان يكون معه تعالى اله آخر ومعنى ذلك أن الله تعالى لو كان له ولد لكان الها مثله وهذا هو ما يعتقده النصارى في المسيح عليه السلام.
ولذلك ايضا قال تعالى (قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ)[17] فان الاقرب في معناه أنه تعالى يامر رسوله صلى الله عليه وآله وسلم ان يردّ على دعوى وجود ولد له تعالى بانه لو كان له ولد فانا كنت اول من يعبده لان الاله لا يلد الا الها.
ومن هذا الباب ايضا قوله تعالى (وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا)[18] حيث اعتبر اتخاذ الولد في عداد اعتبار شريك له في الملك لان الولد حتى لو كان بالتبني يشارك اباه في الملك وايضا كاتخاذ الولي من الذل فاتخاذ الولي قد يكون بمعنى اعتبار احد تابعا او محبا وقد يكون بمعنى كونه يتولى اموره لعجزه عن المباشرة في بعض الموارد وهذا هو الولي من الذل اي بسبب الذل والحاجة والله هو الغني لا يمكن ان يتولى احد امرا نيابة عنه.
وقد ورد الرد على اتخاذ الولد في القران في عدة مواضع منها قوله تعالى (قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ).[19] فالاساس في الرد على هذا التوهم في هذه الآية ان اتخاذ الولد لا يكون الا لحاجة والله هو الغني اي لا غني سواه فكل موجود له حاجة وليس له تعالى حاجة الى شيء والتبني لا يكون الا لحاجة وليس كاتخاذ الخليل.
ومنها قوله تعالى (وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا * إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا)[20] وفي هذه الاية يبتني الجواب على وحدة النسبة الى الله تعالى في جميع الخلق وان كانوا مختلفين فيما بينهم الا انهم باجمعهم عباد للرحمن جل وعلا فلا يمكن ان يكون لاحدهم نسبة قرابة اليه تعالى بذاته وانما يتقرب اليه من يتقرب باخلاصه في العبودية.
ويبدو أن الامرين واردان في عقائد بعض اهل الكتاب حيث ان بعض العامة من النصارى يعتقدون في المسيح انه ابن الله كما في قوله تعالى (وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ..).[21]
وهناك منهم حتى الان من يقول بان التعبير بالولد ليس بالمعنى الحقيقي بل بمعنى أنه ابنه بالتشرف فان كان القصد منه التبني فهو كفر ايضا كما تبين وكما ورد في آيات عديدة وان قصد منه مجرد تعبير أدبي فهو تعبير خاطئ نظير ما ورد عنهم في قوله تعالى (وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ..).[22]
والظاهر أنّ الذي أدّى الى ذلك في عقائد اهل الكتاب هو احترام انبيائهم والاعتقاد بقداستهم وعلو مقامهم وعدم التشابه بينهم وبين عامّة الناس وكلّ ذلك حقّ ولكنّ الافراط والغلو فيه هو الذي أدى بهم الى الكفر والشرك كما أن بعض المسلمين ايضا يغالون في تقديس اولياء الله تعالى.
ويحتمل أن الخطأ في البداية نشأ من سوء التعبير حيث قصد به تقديس النبي وبيان شدة قربه وعلاقته بالله تعالى من دون الناس وبسبب التأكيد عليه وتكرر التعبير به نشأ الخلط بين التعبير الادبي عن هذه العلاقة والتولد الحقيقي او اتخاذ الولد وهناك فرق بين التعبير عن شرافة الانسان بانه ابن الله وبين اتخاذ الله ولدا مع ان هذا التعبير ايضا خاطئ كما مر.
ويمكن ان يكون العكس بان كان المتداول بينهم التعبير عن الله تعالى بالاب إمّا احتراما او لبيان الحب وشدة الارتباط وحدث بعد ذلك هذا التصور انه تعالى ربما يلد شيئا انسانا او ملكا ونحن حتى الآن نجد تعبيرهم عن الله تعالى بالاب كما ورد في مواضع من العهدين.
ومن هنا يتبين الجواب عن سؤال يبدو للباحث وهو انه ما هو السبب في اهتمام القرآن بهذا الموضوع اي اسناد الولد الى الله تعالى او اتخاذه ولدا حيث نجد أنّ القرآن تعرّض للردّ على ذلك واستهجانه في مواضع عديدة مع أنّ العقائد الفاسدة لدى الناس كثيرة ومتنوعة فالسبب هو أن هذا القول يوجب نقصا في معرفة الناس بربهم.
ومثله ايضا كثرة تعرض القرآن لاعتبار الملائكة إناثا في عقائد المشركين فانه ايضا يستلزم القول بانه تعالى اتخذ ولدا مضافا الى الجهل بمقام الملائكة وتوهم انهم كالانسان والحيوان يمكن ان يكونوا اناثا او ذكورا.
وهنا يردّ عليهم بقوله تعالى (سبحانه بل له ما في السماوات والارض كل له قانتون) وهذا تنزيه له تعالى من ان يكون له ولد وهو في نفس الوقت انشاء للتعجب ايضا حيث يقال للتعجب (سبحان الله) والعجب هنا من جرأة الانسان على ربّه حيث ينسب اليه الولد او اتّخاذ الولد.
وفي المراد بقوله (بل له ما في السماوات والارض) احتمالات ثلاثة:
الاول: أنّ كل ما في الكون له اي ملكه بالملك الحقيقي بمعنى انّ الموجودات باجمعها من دون استثناء متقومة في وجودها وكيانها بارادته تعالى. والسماوات والارض تعبير عن الكون باكمله سواء عالم الطبيعة وما وراءها ولذلك لم يقل (من في السماوات..) ويتفرّع عليه أنّ نسبة الاشياء اليه نسبة واحدة سواء البشر وغيرهم وسواء القدّيسون والمرسلون وغيرهم.
الثاني: ان يكون المراد بهذه الجملة الاشارة الى غناه المطلق كما في قوله تعالى (هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ)[23] حيث أتى بمثل هذه الجملة بعد قوله هو الغني بدون عطف مما يفيد كونها تفسيرا له فالمراد أنه غني عن اتّخاذ الولد لان كل شيء له وانما يتّخذ الولد من هو محتاج الى من يعينه او ينوبه فمن ينسب الى الله اتخاذ الولد يجهل صفة الغنى فيه تعالى ويتصور أنه كخلقه بحاجة الى من يساعده.
ومثله قوله تعالى (مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)[24] ومعناه ان اتّخاذ الولد انما يكون لسدّ حاجة من المتبنّي والله تعالى لا يحتاج الى شيء ولا الى مقدمات لتحقيق ما يريد ولا الى مساعدة احد فاذا اراد شيئا تحقّق بمجرّد ارادته تعالى وهو ما يعبّر عنه بقوله (كن) وليس هناك قول ولا خطاب كما سيأتي ان شاء الله تعالى.
الثالث: ان تكون هذه الجملة ردا على توهم ان يكون له تعالى ولد حقيقة لا على اتّخاذه ولدا كما هو اعتقاد بعض اهل الكتاب فانه تعالى قال (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ..).[25]
ولعل معناه أن القول بان له ولدا يستلزم تكوّن شيء منه اي يتفرّع منه ويتجزّأ لانّ الولد جزء من الانسان او الحيوان او النبات فيتربّى الى ان يكون مثل والده وكل ما في الوجود له تعالى وليس فيها شيء نتج منه فالتعبير بكون الوجود كله له في مقابل توهم ان يكون شيء منه فالاهتمام هنا بحرف اللام. والمعنى ان نسبة الاشياء بأجمعها اليه تعالى نسبة واحدة وهي نسبة الملكية بمعنى أنها متقومة بارادته وليس شيء منها اقرب من شيء.
والقنوت: الطاعة. والظاهر انه بمعنى الطاعة مع الخضوع وفي كتب اللغة ان الاصل فيه الطاعة ولكنه يطلق على الدعاء ايضا كما في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (قلت فأيّ الصلاة أفضل؟ قال طول القنوت..).[26]
والظاهر انّ المراد به في الآية هو المعنى الاصل اي الطاعة او الخضوع والمراد بهما الطاعة والخضوع تكوينا ولا إراديا لانّ قوله (ما في السماوات والارض) يشمل كل شيء فكلّ شيء خاضع له تعالى ومطيع لارادته شاء ام ابى فلا حاجة له الى التبنّي ولا موجب له مع انّه بذاته مستحيل كما مر.
بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ...
لعل المراد بالبديع المبدع كما ورد في خطبة امير المؤمنين عليه السلام حيث قال (لَا يُقَالُ كَانَ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ فَتَجْرِيَ عَلَيْهِ الصِّفَاتُ الْمُحْدَثَاتُ وَلَا يَكُونُ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ فَصْلٌ وَلَا لَهُ عَلَيْهَا فَضْلٌ فَيَسْتَوِيَ الصَّانِعُ وَالْمَصْنُوعُ وَيَتَكَافَأَ الْمُبْتَدَعُ وَالْبَدِيع)[27] الا أنه ورد في نسخة اخرى ويتكافأ المُبدِع والبديع فيكون البديع على هذه النسخة بمعنى اسم المفعول.
ويمكن أن يكون البديع فعيل بمعنى اسم الفاعل من بدع لا أبدع وبنفس المعنى حيث ورد في كتاب العين (البَدْع: إحداث شيء لم يكن له من قبل خلق ولا ذكر ولا معرفة) وقال في تهذيب اللغة (يجوز أن يكون من بدع الخلق اي بدأه ويجوز ان يكون بمعنى مُبدِع).
والابداع بمعنى اختراع شيء من غير مثال فالانسان تارة يصنع شيئا باحتذاء مثال ونموذج وتارة يصنعه من دون تقليد لما يشابهه فهو في الثاني مبدِع على ما في كتب اللغة وحيث انّ المراد بالسماوات والارض كل الكون فمعناه انّه تعالى خلق الكون لا من شيء فلم يكن هناك شيء خلق الله منه او على مثاله هذا الكون العظيم وهو اعظم بكثير مما نراه او ندركه من الافلاك والمجرّات والنجوم لانه يشمل ماوراء الطبيعة ايضا.
وهذه الجملة استدلال اخر على عدم امكان نسبة الولد او اتّخاذ الولد اليه تعالى لان كلّ ما في الكون داخل في هذا العنوان اي السماوات والارض فهو مما خلقه الله تعالى ابداعا او يستند بصورة طبيعية الى ما خلقه الله ابداعا فلا يوجد في الكون شيء وجد منه تعالى فليس له ولد وان لم يكن له ولد فلا يمكن ان يتّخذ ولدا ايضا كما مر.
وقيل ان (بديع) فعيل من بدع ولا يصح ان يكون بمعنى مُبدِع بل هو بمعنى من لا نظير له في السماوات والاض اي في الكون. والاستدلال يبتني على نفي النظير فلا يمكن ان يكون له ولد لان الولد نظير والده ومن جنسه ونوعه.
وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ...
وهذا ايضا دليل على انه تعالى لا يمكن ان يكون له ولد ولذلك لا يمكن ان يتّخذ ولدا كما مرّت الاشارة اليه وذلك لانه اذا أراد شيئا وقضى أن يكون فيكون بمجرد ارادته وليس بين ارادته وتحقّق ما يريد فاصل زمني مع انّ الولادة تتبع قوانين خاصة ليتولّد الشيء من والده ولا تتبع الولادة ارادة الاصل الذي يتولّد منه الشيء سواء كان حيوانا او انسانا او نباتا او غيرها.
والقضاء يأتي بعدة معان في اللغة ولعل الجامع بينها الاتمام والانهاء والمراد به هنا الارادة الحتمية اي اذا أراد ان يوجد شيئا فلا حاجة الى تهيئة مقدمات واسباب بل يتحقّق ما أراده فورا وقد عبّر عن هذه الفورية بتوجيه الامر اليه اي كلمة (كن) فلا محالة يكون ذلك الشيء وهو في الواقع ليس امرا ولا قولا ولا ايّ عمل آخر وانما هو تعبير عن تعلّق الارادة به لانه ليس موجودا ليقال له (كن).
قال امير المؤمنين عليه السلام على ما في نهج البلاغة (يَقُولُ لِمَنْ أَرَادَ كَوْنَهُ كُنْ فَيَكُونُ لَا بِصَوْتٍ يَقْرَعُ وَلَا بِنِدَاءٍ يُسْمَعُ وَإِنَّمَا كَلَامُهُ سُبْحَانَهُ فِعْلٌ مِنْهُ أَنْشَأَهُ وَمَثَّلَهُ..)[28]
وفي حديث رواه الكليني والصدوق بسند صحيح عن الامام الرضا عليه السلام قال (وأما من الله تعالى فإرادته إحداثه لا غير ذلك لانه لا يروّي ولا يهمّ ولا يتفكّر، وهذه الصفات منفيّة عنه وهي صفات الخلق، فإرادة الله الفعل لا غير ذلك يقول له كن فيكون بلا لفظ ولا نطق بلسان ولا همّة ولا تفكّر ولا كيف لذلك، كما أنه لا كيف له). [29]
وهناك بحث في تدرج المخلوقات في عالم الطبيعة اذ يلاحظ أنها لا تتحقق بمجرد الارادة بل تتكون تدريجا فالله تعالى خلق السماوات والارض في ستة مراحل عبر عنها في القرآن بالايام كما ان خلق الانسان والحيوان يتم ضمن مراحل تطوّر الجنين وهكذا غيرهما فما هو توجيه هذه الآية ونظائرها.
وأجاب بعضهم بأنّ المراد بالآية أنّ ما أراده تعالى يتكوّن كما أراد فاذا أراد ان يتكوّن فورا تحقّق فورا واذا أراد أن يتكوّن في ستّة مراحل او اكثر تحقّق كما أراد.
وقال العلامة الطباطبائي رحمه الله (ان الذي يفيض منه تعالى لا يقبل مهلة ولا نظرة ولا يتحمّل تبدّلا ولا تغيّرا، ولا يتلبّس بتدريج وما يتراءى في الخلق من هذه الأمور إنما يتأتّى في الأشياء في ناحية نفسها لا من الجهة التي تلي ربها سبحانه وهذا باب ينفتح منه ألف باب).[30]
وقال في تفسير قوله تعالى (إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)[31] (فهذه الموجودات بأجمعها أعم من التدريجي الوجود وغيره مخلوقة لله سبحانه موجودة بأمره الذي هو كلمة كن كما قال تعالى «إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ» يس: 82، وكثير منها تدريجية الوجود إذا قيست حالها إلى أسبابها التدريجية. وأما إذا لوحظ بالقياس إليه تعالى فلا تدريج هناك ولا مهلة كما قال تعالى وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ.. القمر: 50).[32]
ولعله رحمه الله يقصد أن خلق الكائنات من قبله تعالى لا يتوقف على مقدمة ولا مساعدة ولا تفكير ورويّة فبمحض ارادته يبدأ الشيء بالتحقق تكوينا ولكنه امر تدريجي مستمر فمقتضى تدريجيته واستمراره أن تتجمع أجزاؤه في الوجود بعد مدة.
ويمكن ان يقال إن الموجود التدريجي ليس الا عنوانا اعتباريا لمجموعة موجودات متتالية تتحقّق كل واحد منها بارادة خاصّة منه تعالى فالانسان في اوّل مراحل تكوّنه نطفة بارادة الهية وكل حالة وتطور منه يتحقق بارادة اخرى وهذا نظير ما يقال إنّ الحركة ليست الا وجود الشيء في أماكن مختلفة وانتقاله من مكان الى آخر وكل ذلك حوادث متتالية.
ويدل على ذلك التعبير الوارد في خلق الانسان قال تعالى (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ)[33] فكل مرحلة من هذه المراحل خلق من الله تعالى وتتعلق به ارادة خاصة والمراحل اكثر من هذا بكثير وكلها متحقّقة بارادة منه تعالى.
وأما قوله تعالى (إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) فيمكن أن يقال فيه إن خلق عيسى وآدم عليهما السلام لم يكن تدريجيا كسائر البشر بل خلق كل منهما بتمامه وكماله مرة واحدة وهذا ايضا يؤيد ما ذكرناه.
[1] التوبة : 18
[2] البقرة : 140
[3] الانعام : 21
[4] الكهف : 57
[5] الانفال : 34
[6] علل الشرايع ج 2 ص 359
[7] الاستبصار ج1 ص 297
[8] البقرة : 143
[9] البقرة : 142
[10] النساء : 171
[11] فاطر : 6
[12] يونس : 68
[13] يوسف : 21
[14] القصص : 9
[15] الكهف : 26
[16] المؤمنون : 91
[17] الزخرف : 81
[18] الاسراء : 111
[19] يونس : 68
[20] مريم : 92 – 93
[21] التوبة : 30
[22] المائدة : 18
[23] يونس : 68
[24] مريم : 35
[25] النساء : 171
[26] وسائل الشيعة ج 5 ص 248 باب استحباب تحية المسجد
[27] نهج البلاغة الخطبة 186
[28] نهج البلاغة الخطبة 186
[29] الكافي ج1 ص110 عيون اخبار الرضا ع ج1 ص110
[30] الميزان ج 17 ص 116 تفسير الاية 82 من سورة يس
[31] ال عمران : 59
[32] الميزان ج 3 ص 213
[33] المؤمنون : 12 – 14