مكتب سماحة السيد مرتضى المهري

وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ...

عطف على قوله (واذ قال ابراهيم) وظرف لفعل مقدر اي (واذكر)، إمّا بمعنى التذكّر والانتباه إيذانا بأهمّية هذا الحادث، وإمّا بمعنى ذكره للناس لينتبهوا الى ما هو مقدمة للحكم بتغيير القبلة، والكلام هنا مسوق للاهتمام بشخص ابراهيم عليه السلام وهو من كان يفتخر به كل أتباع الاديان السماوية، كما كان العرب وخصوصا قريش واهل مكة والجزيرة العربية يفتخرون به ويدعي كل قوم انهم يتبعونه عليه السلام.

ومن المعروف ان بعض سننه كانت باقية حتى بين المشركين، فالقران الكريم يحثّهم على متابعة هذا الرجل العظيم في أهمّ ما كان يدعو اليه وهو التوحيد واجتناب عبادة الاصنام، وحيث انّ العرب وخصوصا اهل مكة كانوا يتباهون بالبيت الحرام ويعتبرونه مجدا وفخرا لهم، فالقران ينبههم ان باني هذا البيت العتيق هو ابراهيم عليه السلام، كما أنه بذكر هذا التاريخ ينبه بني اسرائيل بعظمة هذا البيت وبارتباطه بمجد ابراهيم ابيهم الاقدم الذي يفتخرون بالانتساب اليه وذلك مقدمة لتغيير القبلة.

وقوله (يرفع) حكاية حال ماضية، اي اذكره حين كان يرفع القواعد وانما يعبر بهذه الطريقة لتصوير تلك الحالة وذلك التاريخ القديم، بحيث يتجلى للسامع وكأنه يرى نفس الحدث باقيا على مر الدهور حيا متحركا وكأنه عليه السلام يبني البيت في زمان الخطاب.

والقواعد جمع قاعدة وهي أساس البناء سمي بها للصوقه بالارض كمن هو قاعد. والرفع في الواقع يتعلق بنفس البناء لا بالقواعد، فانها تبقى على حالها ولكنه انما عبّر بذلك للاشارة الى أنه عليه السلام وضع اساس البيت ورفع البناء عليه فلم تكن هناك قواعد قبله.

ولكن في بعض التفاسير استدل بهذا التعبير على أن القواعد كانت موجودة وابراهيم عليه السلام رفعها بالبناء عليها، وأن هذا يدل على أنه ليس اول من بنى البيت وانما جدّد بناءه كما ورد في الروايات أن آدم عليه السلام هو اول من بناه بل في بعضها ان الملائكة بنته قبله.

أمّا هذه الآية فلا تدلّ على ذلك، لان رفع القواعد بمعنى بنائها لا البناء عليها، وتبين بما ذكرناه أن التعبير يدل على العكس وأنه عليه السلام هو الذي وضع القواعد، والا لكان الاولى ان يقال واذ يرفع الجدران او البناء لان القواعد لا ترفع وانما تطلق القاعدة على الجزء اللاصق بالارض من البناء.

وأما أصل تقدم بناء الكعبة فقد ورد في عدة من الروايات، منها ما في الخطبة القاصعة لامير المؤمنين عليه السلام:

(أَلَا تَرَوْنَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ اخْتَبَرَ الْأَوَّلِينَ مِنْ لَدُنْ آدَمَ – صلوات الله عليه – إِلَى الْآخِرِينَ مِنْ هَذَا الْعَالَمِ بِأَحْجَارٍ لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ وَلَا تُبْصِرُ وَلَا تَسْمَعُ فَجَعَلَهَا بَيْتَهُ الْحَرَامَ الَّذِي جَعَلَهُ لِلنَّاسِ قِيَاماً ثُمَّ وَضَعَهُ بِأَوْعَرِ بِقَاعِ الْأَرْضِ حَجَراً وَأَقَلِّ نَتَائِقِ الدُّنْيَا مَدَراً وَأَضْيَقِ بُطُونِ الْأَوْدِيَةِ قُطْراً بَيْنَ جِبَالٍ خَشِنَةٍ وَرِمَالٍ دَمِثَةٍ وَعُيُونٍ وَشِلَةٍ وَقُرًى مُنْقَطِعَةٍ لَا يَزْكُو بِهَا خُفٌّ وَلَا حَافِرٌ وَلَا ظِلْفٌ ثُمَّ أَمَرَ آدَمَ – عليه السلام – وَوُلْدَهُ أَنْ يَثْنُوا أَعْطَافَهُمْ نَحْوَهُ فَصَارَ مَثَابَةً لِمُنْتَجَعِ أَسْفَارِهِمْ وَغَايَةً لِمُلْقَى رِحَالِهِمْ..).[1]

وربما يستفاد ذلك من قوله تعالى (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ)[2] لاستبعاد ان لا يكون قبل ابراهيم عليه السلام بيت عبادة وهو المراد على ما يبدو من البيت الذي وضع للناس، فيجب ان تكون الكعبة أقدم من عهده عليه السلام.

و(من) في قوله من البيت تبعيضية، لان القواعد جزء منه فان البيت اسم لمجموع البناء والعرصة. وقيل انها بيانية لان البيت اسم للجدران مع أنه فسر في اللغة بالمسكن والمأوى والانسان لا يسكن الجدار.

و(اسماعيل) عطف على ابراهيم عليهما السلام، وانما أخّر ذكره للاشارة الى أن أصل البناء كان من الاب والابن كان مساعدا له، واسماعيل هو الابن الاكبر لابراهيم عليهما السلام من امته هاجر وهي كانت أمة لسارة على ما قيل فوهبته له.  

 

رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ...

اي وهما يقولان.. ويتجلى جمال التعبير في حذف هذا المقدر بل عدم التوجه اليه، لان البيان يهدف الى استحضار حالتهما حين البناء وكأنه تصوير وتمثيل، ولا يذكر في تمثيل حالتهما حين البناء تعبهما ولا فرحهما وابتهاجهما بما أنجزاه، ولا ما كانا يتوقعان من الآثار المترتبة على هذا العمل في الدنيا وفي المجتمع البشري وفي التاريخ، ولا ما ينتظرانه من الثواب في الآخرة، بل يستحضر ما كانا يقولانه من الدعاء والتوجه الى الله تعالى في العمل، لانه هو روح العمل وجوهره ولا يطلبان منه تعالى الا قبوله.

ولعل هذا الدعاء ليس مقولا لفظيا، بل هو ما كان يتغلغل في نفسهما من الانجذاب الى الله تعالى وهما يستصغران العمل فلا يذكرانه ولا يشيران اليه، بل يطلبان منه تعالى القبول فقط. ويشهد لذلك استبعاد أن يقولا معا كلاما واحدا فلا يبعد ان يكون هذا حكاية عن حديث النفس. 

واختارا لفظ الرب في الدعاء قلبا او لسانا للاشعار بأن هذا العمل جزء من التربية الالهية التي حظيا بها. والتقبل والقبول واحد، ولذلك قال تعالى (فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ..)[3] ولم يقل بتقبل حسن، ولكن يقوى في الظن ان يكون هناك فرق بينهما ولم اجد في كتب اللغة ما يدل عليه الا ما في مفردات الراغب حيث قال (التقبل قبول الشيء على وجه يقتضي ثوابا كالهدية ونحوها) واستشهد بقوله تعالى (أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا..).[4]

والتعليل بانه تعالى هو السميع العليم حصرا كما هو معنى الضميرين معا مع الالف واللام (إنك انت السميع العليم)، اي لا يوجد غيرك من يسمع ويعلم، بلحاظ أن استجابة هذا الدعاء تتوقف على سماع الدعاء والعلم بمناط القبول وهو النية الخالصة في العمل، ولا أحد غيره تعالى يسمع كل الدعوات وكل الاصوات ولا أحد غيره يعلم بالنيات ودرجة الخلوص فيها.

 

رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ...

لا شك أن المراد بالاسلام هنا ليس هو اعتناق دين الله تعالى في الظاهر، بل المراد الاسلام بالمعنى الحقيقي اي التسليم لامر الله تعالى كما سيأتي في الآيات التالية من أمره بالاسلام، قال تعالى (إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ * وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَابَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ).[5]

والمراد بطلب هذا الجعل منه تعالى التوفيق له لان التسليم لامره تعالى فعل اختياري للانسان، ولكنه لا يمكن ان يعمل خيرا الا بتوفيقه تعالى ولذلك طلب منه ايضا التوفيق للصلاة حيث قال (رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي..).[6]  

ولو كان المراد به اعتناق دين الله تعالى في الظاهر لعمّم دعاءه لجميع الذرية، وانما طلب هذا الاسلام لامة خاصة من ذريته لعلمه بأنه يتوقف على عناية خاصة من الله تعالى لا ينعم بها كل أحد.

وتكرار ذكر النداء (ربنا) لمزيد من التوجه الى الله تعالى والتضرع لديه، ولانهما بدءا بطلب آخر ولذلك ايضا اتى بحرف العطف. و(من) تبعيضية اي واجعل من ذريتنا امة مسلمة. ويظهر من اضافة الذرية اليهما اختصاص الدعاء بمن يكون من ذرية اسماعيل عليهم السلام ليكون مشتركا بينهما فلايشمل الدعاء بني اسرائيل ويدل على ذلك ما ورد بعده من الدعاء بان يبعث فيهم ومنهم رسولا صفته كذا وكذا مما لا ينطبق الا على الرسول الاكرم صلى الله عليه وآله وسلم.

وقد اختلفت كلمات اللغويين في معنى الامة، ففسرها بعضهم بالجماعة مطلقا وبعضهم بالدين وربما تستعمل بمعنى الحين والزمان كقوله تعالى (وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ..)[7] ولكن لم يذكر الاكثر مناط استعمالها في الجماعة. وأحسن ما رايت ما في المفردات حيث قال (الامة كل جماعة يجمعهم أمر مّا، إمّا دين واحد او مكان واحد سواء كان ذلك الامر الجامع تسخيرا او اختيارا).

واستجاب الله دعاءهما فجعل من ذريتهما امّة مسلمة ولكن من هم؟

هل المراد كل من اظهر الاسلام وان كان منافقا كما ربما يتوهم؟ او كل من يُدعى مسلما وان جد واجتهد لطمس آثار الاسلام، كما فعله المتسلطون المدعون انهم اولياء المسلمين طيلة التاريخ الاسلامي؟ او كل من اعتنق هذا الدين وان لم يسلم وجهه لله تعالى ولم يتق الله في حياته ولم يتورع عن محارم الله تعالى ولم يتبع سنة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم؟!

لا شكّ أن هؤلاء وهم السواد الاعظم والاكثرية الساحقة من المسلمين والعرب خاصة، ليسوا من تلك الامة التي تمنّى ابراهيم عليه السلام ان تكون من ذريته. مضافا الى أن كل المسلمين ليسوا من ذريته، حتى من كان منهم في عصر الرسالة وحتى العرب منهم. فالامة المسلمة التي تمناها، هم فئة خاصة ممن اتبعوا الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأسلموا امرهم الى الله تعالى، وهم الائمة الطاهرون عليهم السلام على ما في بعض الروايات.[8]

 

وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ...

المناسك جمع منسك وهو مصدر ميمي من النُّسْك بمعنى العبادة والمراد ما يتعبد به اي طريقة العبادة الصحيحة؛ انما الكلام في التعبير بالاراءة فقيل إنّ (أرنا) من الرؤية بمعنى التعريف، اي عرّفنا مناسكنا ولكن الظاهر أن الرؤية تأتي بمعنى الابصار بالعين، ويعبّر بها ايضا عن العلم لا المعرفة، تقول رايت زيدا كريما، فالجملة بحاجة الى مفعول اخر، ولكن نسب الى الزمخشري والراغب انها تأتي بمعنى المعرفة ايضا، فلا حاجة الى مفعول اخر ولم يستشهدا بشيء.

والظاهر أن الاراءة هنا بمعنى الرؤية البصرية، وهي المعنى الحقيقي للرؤية وانما عبّر النبيان عليهما السلام بها للتأكيد على ايضاحه وبيان كل جزئياته كأنهم يرونها بالعين، وهذا دعاء مهم علّمنا ابراهيم عليه السلام أن نهتمّ بطريقة العبادة التي يحدّدها الله تعالى، فالانسان يمكنه ان يعبد ربّه بأي طريقة يتوصل اليها بعقله او ذوقه، ولكنه عليه السلام يعلم أن البشر لا يمكنه ان يصل الى ما هو الانسب للتعبّد به أمام الربّ فهو بحاجة الى ان يعلّمه الله تعالى.

وهناك من الناس من يقول لا حاجة الى الفقه ولا الى تعيين طريقة الصلاة، لان الله تعالى لم يحدد لها طريقة في القرآن الكريم وانما أمر بها بقول مطلق، ومعنى ذلك أنه يجوز ان نصلي باي طريقة شئنا، فاللازم ان يصدق على ما نفعله أنه صلاة كيفما كان. وهذه الآية ترد على هذا التفكير الخاطئ وتبين للانسان أنه يجب أن يتبع في مناسكه الشرع.

والطلب الآخر منهما عليهما السلام التوبة من الله تعالى. والتوبة هي الرجوع وحيث تعدّت بـ (على) فمعناها رجوعه تعالى على الانسان باللطف والرحمة. ورحمته دائمة مستمرة وانما يطلب رجوعه لان الانسان ربما يبعد عن الله بتوجهه الى الدنيا ومتطلبات الحياة فيها فيغفل عن ربه ولا تشمله الرحمة فلا بدّ له من التوبة الى الله تعالى ولا يمكنه الا بتوفيق منه ولذلك كانت توبة العبد دائما مسبوقة بتوبة منه تعالى كما قال (ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ).[9]  

وما ذكرناه يتبين بوضوح من ملاحظة التعليل الوارد في الدعاء بأنه تعالى توّاب اي كثير التوبة والرجوع على العبد، وانما يكثر من الرجوع لكثرة ابتعاد العبد وهو امر طبيعي وايضا بأنه رحيم ليحدّد معنى الرجوع وأنه تعالى يرجع على عبده بالرحمة. ورحمته كما قلنا مستمرة دائما الا ان العبد يبتعد عنها فيرجع الله عليه برحمته ويكتنفه بعنايته.

والاتيان بضمير الفصل وبالوصفين مع الالف واللام يدل على حصرهما فيه تعالى.

 

رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ...

أعادا ذكر الربّ لمزيد من التوسل والاهتمام بهذا الدعاء، فانه بالنسبة لهدفهما يعتبر أهم شيء وهو استمرار التوحيد ونشر الدعوة، فطلبا أن يبعث الله تعالى في تلك الامة المسلمة رسولا يعلمهم ويزكيهم.

وذكرا في توصيف امنيتهما ان يكون الرسول مبعوثا فيهم اي من بينهم، ولا يأتيهم من خارج بيئتهم وان يكون منهم اي من نفس القوم لا من الوافدين إليهم، والضمير يعود الى الامة المسلمة التي هي من ذريتهما عليهما السلام. والسر في هذا الطلب هو أن يكون الرسول معروفا عندهم بصفاته واخلاقه الكريمة فتسهل عليهم متابعته والايمان به.

وطلبا ايضا أن يتلو الرسول عليهم آيات الله تعالى، ومن الواضح أن المراد بالآيات المتلوّة ما ينزل على الرسول من الوحي الالهي فهو دعاء ضمني بإنزال الكتاب. والتلاوة وان كانت في الاصل بمعنى المتابعة، الا ان المراد هنا وفي كل موارد تعلقها بالقران ونحوه هو القراءة، باعتبار ان القارئ يقرأ آية تلو آية فهو يتتبع الآيات. وعليه فيبعد حمل الآيات على الآيات الكونية التي تدل على ربوبيته تعالى.

واما تعليم الكتاب، فالظاهر ان المراد به كتاب الله ايضا وهو القرآن، ويختلف التعليم عن التلاوة بأن التعليم بمعنى تفسير مقاصده وبيان احكامه وحدودها وما يخفى على الناس من المفاهيم التي يتضمنها وهي كثيرة وقد قال الله تعالى (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ..).[10]

ومن هنا فإنّ وظيفة الرسول هي بيان الاحكام والمعارف التي يشتمل عليها القرآن الكريم او اي كتاب سماوي آخر، وليس الرسول كما يتوهم مجرد وسيط يبلغنا الالفاظ ونحن نتفهم المعاني؛ فأخطأ من توهم أن حسبنا كتاب الله، وأخطأ من قال من أتباعه بأن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إذا فسر الآية بما نراه مخالفا لما نفهمه منها فعلينا ان نتبع ما فهمناه.

ولكن بعضهم قال ان المراد من تعليم الكتاب تعليمهم طريقة الكتابة فالكتاب مصدر. وهذا غير صحيح لان تعليم الكتابة وان كان مما يهتم به كل زعيم للامة، ولكنه ليس من أهداف الرسالة الالهية ليذكره الرسولان عليهما السلام في دعائهما، وانما اضطر القائل بذلك لانه فسّر الآيات بالقرآن فرآه تكرارا، وبعضهم اضطر الى تفسير الآيات بالآيات الكونية فرارا من لزوم التكرار، وبما ذكرناه يتبين انه لا يلزم التكرار.

ويمكن ان يكون المراد بالكتاب مجموعة الاحكام والشريعة، سواء كانت في القرآن او لم تكن، والاصل في الكتاب كل مجموعة من المعارف؛ و(كتب) بمعنى جمع والاول أظهر.

وأمّا الحكمة فهي في الاصل بمعنى المنع، يقال حكمت الدابّة اي ألجمتها، والانسان الحكيم من يمتنع بذاته من ارتكاب الجهالات والسفاهات، ولهذا تطلق على المواعظ والاخلاق الفاضلة وتنطبق ايضا على الاحكام الشرعية ولذلك قال تعالى بعد ذكر مجموعة من الآيات التي تشتمل على الاحكام الشرعية والمواعظ الاخلاقية (ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ).[11]

وأما التزكية فهي من الزكاة وهي بمعنيين: النماء والطهارة؛ ولا يبعد أن يكون الاصل فيها النماء والزيادة كما في معجم المقاييس، ولكنها تستعمل كثيرا في الطهارة، ولعلها المراد هنا بمعنى تطهيرهم من الشرك والمعاصي والقبائح الخلقية والاجتماعية، وذلك بالوعظ والارشاد ومتابعة احوالهم وبالسيرة العملية كما كان يفعله الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.

والتعليل بالاسمين الكريمين، لعله من جهة ان عزته تعالى وهي بمعنى الغلبة تقتضي أن لا يؤثر فيه شيء، فهو قادر على ما يريد ولا يمنع من تأثير ارادته شيء على الاطلاق؛ ومن جهة أنه إذا لم يفعل بعض ما يرجى منه فهو لحكمة في عدم الاستجابة يجهلها الانسان، او باعتبار أن الحكمة ايضا بمعنى المنعة وأنه بقدرته يمنع من ان يغلب على ارادته اي مانع.

 


[1] نهج البلاغة الخطبة 192 /  الكافي ج4 ص 198 باب ابتلاء الخلق واختبارهم بالكعبة

[2] ال عمران : 96

[3] ال عمران : 37

[4] الاحقاف : 16

[5] البقرة 131 – 132

[6] ابراهيم : 40

[7] يوسف : 45

[8] راجع تفسير العياشي في تفسير هذه الاية

[9] التوبة : 118

[10] النحل: 44

[11] الاسراء : 39