مكتب سماحة السيد مرتضى المهري

وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ...

الجملة تنحل الى جملتين، اي قال اليهود (كونوا هودا تهتدوا) وقال النصارى (كونوا نصارى تهتدوا)، لان كل فريق منهم يرفض الاخر، والغرض أن كلا من الفريقين يرى ان الهداية خاصة به فيطلبون من المسلمين ايضا ان يتبعوا دينهم، كما هم يدعون ذلك في هذا العصر ايضا. وقوله (تهتدوا) مجزوم لانه جواب الامر، وفي التقدير ان تكونوا هودا او نصارى تهتدوا.

ومثل ذلك ورد في قوله تعالى (وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى..)[1] وقد مر الكلام حوله، ويختلف الجواب هنا عن الجواب هناك، حيث قال في ردهم ان هدى الله هو الهدى، وهنا يأخذ بما يدعون انه الدين الصحيح وهو ملة ابراهيم عليه السلام، فيقول نتبع ملة ابراهيم وأنتم تعترفون بأنه حق وهو لم يكن يهوديا ولا نصرانيا لانه كان قبل ظهور هذه الاديان.

والوجه في التغيير هو أن الحديث هنا عن دعواهم متابعة دين ابراهيم عليه السلام، ومع ذلك فكل فريق يدعي انه يتبع دينه مع كل ما بينهم من الاختلاف. ومن جهة اخرى، فعقائدهم امتزجت بالشرك لمتابعتهم احبارهم ورهبانهم واتخاذهم اربابا يعبدونهم من دون الله عبادة الاطاعة العمياء، ولقولهم المسيح ابن الله او عزير ابن الله. وابراهيم عليه السلام امام الموحدين وملته لا تشتمل على شيء من الشرك.

وقوله (بل ملَّةَ ابراهيم) اي نتّبع ملته. وحنيفا، حال من ابراهيم، وهو من الحَنَف، وهو ميل وانحراف في الرجل، وأطلقت الحنيفية على ملّة ابراهيم عليه السلام، لانّه ترك دين قومه ومال الى التوحيد. وتوصيفه بانه ما كان من المشركين للتعريض باليهود والنصارى ومشركي العرب، فانهم بأجمعهم انحرفوا عن التوحيد الكامل كما كان يدعو اليه ابراهيم عليه السلام.

 

قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ...

هذا القول في مقابل قولهم كونوا هودا او نصارى، والمراد أن الحق هو الايمان بكل شرايع السماء وبكل ما انزله الله تعالى، فالدين واحد وان اختلفت الشرايع حسب الظروف الخاصة بكل زمان ومكان، كما قال تعالى (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ..).[2]

والمراد من الامر بالقول، لزوم الايمان القلبي بهذا المضمون، فالمعنى آمنوا بكل ما أنزله الله تعالى على رسله وأنبيائه، كما قال (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ..)[3]، وأما مجرد التلفظ بذلك من دون ايمان به فهو شأن النفاق. وانما ورد بصيغة الامر بالقول، لان المراد مواجهة قولهم كونوا هودا.

وذكر الايمان بالله منفصلا عن الايمان بما انزل على الرسل، لان الايمان به تعالى لا يتبع رسالة او شريعة، وانما هو امر تدعو اليه الفطرة ويدعو اليه العقل البشري. وقدّم الايمان بما انزل الى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم مع أنه آخر الرسالات للتنبيه على أن الايمان به هو الاصل، وهو الذي يدعو الى الايمان بكل الرسالات.

والتعبير عن بعضها بالانزال وعن بعضها بالايتاء لم يظهر له وجه خاص، فالظاهر أنه من باب التفنن في التعبير وهو كثير في القرآن، وذكر له وجه في بعض التفاسير ولكنه غير مقنع.

والمراد بما انزل، كل ما اوحي إليهم من ربهم ولا يختص ذلك بالشريعة، فان بعضهم ليس صاحب شريعة وبعضهم ليس لدينا من شريعتهم شيء كابراهيم عليه السلام، الا بعض الجمل المنقولة في القرآن من صحف ابراهيم في سورة الاعلى.

والحاصل أن الغرض من هذه الآية رفض التعصب لبعض الاديان والشرايع الالهية بحجة اختصاص قوم بها، كما يظهر من بني اسرائيل بالنسبة لشريعة موسى عليه السلام، فالصحيح هو أن كل ما نزل من الله تعالى هو الحق.

والاسباط جمع سبط، والاصل فيه الامتداد، ولذلك يطلق على الحفيد سواء كان من ابن أم بنت كما في كثير من كتب اللغة، وفي الفروق ان أكثر ما يستعمل في ابن البنت، ومنه اطلاقه على الحسن والحسين عليهما الصلاة والسلام.

وهناك بحث في أن اولاد يعقوب عليه السلام هل كانوا انبياء باجمعهم كما هو ظاهر الاية بناءا على انهم المراد بالاسباط، فالتزم بذلك بعض المفسرين مع انهم ارتكبوا جريمة بحق يوسف عليه السلام والنبي معصوم.

وهنا ينشأ الاشكال في تفسير الآية وكذلك في قوله تعالى (قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ..)[4] وقوله تعالى (إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا).[5]

وروى العياشي في تفسير الاية عن حنان بن سدير عن أبيه عن أبي جعفر عليه السلام قال (قلت له كان ولد يعقوب أنبياء؟ قال: لا ولكنهم كانوا أسباط أولاد الأنبياء ولم يكونوا يفارقوا الدنيا إلا سعداء تابوا وتذكروا ما صنعوا).

والظاهر أن المراد بالاسباط الجماعة من الناس؛ ويقال ان الاسباط في بني اسرائيل كالقبيلة في العرب كما ورد في كتاب العين، واستدل بعضهم على ذلك بقوله تعالى (وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا)[6]، فالاسباط بمعنى الفرقة او القبيلة.

وعلى هذا فالمراد بالانزال على الاسباط، الانزال على انبياء القوم، كما أن المراد بقوله (ما انزل الينا) خصوص ما نزل على الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، اذ لم ينزل على غيره شيء من الوحي.  

وذكر ابراهيم واسماعيل واسحاق ويعقوب عليهم السلام، للتنبيه على أن الايمان بالانبياء لا يستلزم الايمان باليهودية او النصرانية كما يقول اهل الكتاب، لان هؤلاء وهم من الانبياء العظام كانوا قبل ظهور هذه الاديان.

ثم ذكر موسى وعيسى عليهما السلام، لاظهار اننا لا نتعصب لما نزل علينا كما أنتم تتعصبون، بل نؤمن بهذين الرسولين وبما اوتيا من الكتاب والشريعة، وفي ذلك تعريض بأن الذي نؤمن به هو نفس ما نزل على الرسل لا ما تنسبونه إليهم.

ثم عطف على المذكورين كل النبيين، للتنبيه على أن المناط ليس الاشخاص بل رسالات السماء، لانها كلها من الله تعالى وكل ذلك فرع الايمان به.

وقوله (لا نفرق بين أحد منهم)، يؤكد على أن الايمان بكل الرسالات بوتيرة واحدة لا نفرق بينها ولا نميز أحدها بايمان أكثر، حتى الرسالة التي تخصنا فهي ايضا من ضمن رسالات السماء، وكلها تدعو الى دين واحد وهو الاسلام وهو دين الله تعالى؛ وفي هذا تعريض باليهود والنصارى حيث إنهم يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض.

و(أحد) في الاصل وحد، وهو صفة مشبهة بمعنى واحد ويختلفان في موارد الاستعمال.

ويبدو هنا اشكال في اضافة كلمة (بين) الى أحد، وأجاب في الكشاف بقوله (وأَحَدٍ في معنى الجماعة ولذلك صح دخول بين عليه).

ولكن الصحيح انه ليس بمعنى الجماعة، وانما يفيد العموم بلحاظ ورود النفي عليه، والعموم لا يعني الجماعة بل هو بمعنى الشمول لكل فرد فرد. ويمكن ان يكون المصحح لدخول (بين) هو تقدير كلمة معادلة بعد ذلك، اي لا فرق بين أحد منهم وآخر مثلا.

وقوله (ونحن له مسلمون)، بمعنى التسليم لامر الله تعالى وهذه الجملة بمنزلة التعليل لعدم التفريق بين الرسالات وأنه ينشأ من التسليم له تعالى.

 

فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ...

الظاهر أن هذه جملة معترضة، فيها تعقيب على صيغة الايمان المطلوب، والآية التالية تكمل صيغة الايمان. وهذا اعلان يقابل اعلانهم بأن الهداية تنحصر في متابعة مذهبهم (كونوا هودا او نصارى تهتدوا) وهو واضح، فان الهداية الى دين الله لا تتبع ما استحدثه الناس من البدع والفرق، بل تتبع ما أنزله الله تعالى على رسله طيلة التاريخ البشري، ونحن نعلن ايماننا بكل تلك الهدايات فمن آمن بمثل ذلك فقد اهتدى الى الحق.

ووقع الكلام في التفاسير قديما وحديثا في تأويل قوله تعالى (بمثل ما آمنتم به)، وقيل بأن الايمان الصحيح يجب أن يكون بنفس ما آمنا به، لا بمثله؛ وروى الطبري عن ابن عباس انه قال (لا تقولوا "فإن آمنوا بمثل مَا آمنتم به فقد اهتدوا" فإنه ليس لله مثل ولكن قولوا "فإن آمنوا بالذي آمنتم به فَقد اهتدوا" أو قال "فإن آمنوا بما آمنتم به).

وهو بعيد جدا عن مثله، فان المراد ان يكون ايمانهم مثل ايمانكم بأن يكون متعلقا بالله تعالى وما انزله على رسله، لا ان يتعلق ايمانهم بمثل ما تؤمنون به، فالتمثيل بين الايمانين بلحاظ وحدة المتعلق لا بين متعلق الايمان ليقال ان الله ليس له مثل، ولو كان كذلك لم يصح في غيره ايضا، فالذي انزل على الرسل عليهم السلام امر واحد نؤمن به جميعا، لا ان كل واحد منا يؤمن بشيء مماثل لما آمن به غيرنا حتى اتباع الدين الواحد، فهذه الشبهة لا ينبغي ان يعتنى بها اصلا.

والتولّي بمعنى الإدبار، وهو كناية عن الرفض. والشقاق: الخلاف. والمراد أنهم لا يتبعون برهانا لاصرارهم على طريقتهم ومذهبهم، وليسوا ممن طلب الحق فأخطأه، بل انما هم يريدون العناد مع الحق تعصبا لدينهم وان علموا انه ليس بحق.  

والشقاق في تلك الظروف ينتهي الى الحرب عادة، فأخبر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين بأنهم لا يستطيعون مواجهتكم في الحرب لان الله معكم ويكفيكم شرهم. فقوله (فسيكفيكهم) اي سيكفيك شرهم، والمعنى أنك لا تحتاج في دفع شرهم الى الاستعانة بأحد، فالله تعالى يضمن لك من النصرة ما يكفيك.

وهو في نفس الوقت تهديد بليغ لهم وإضعاف لعزائمهم، لأنهم كانوا يعلمون في باطن أمرهم أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم على حق وأنه رسول من الله تعالى، فهذا التعبير يبعث في نفوسهم الخوف والرهبة لأنهم يعلمون بذلك أن خصمهم في الدنيا هو الله تعالى والانسان يهتم بعاجله أكثر مما يهتم بآجله وآخرته لجهله بحقائق الامور.

وقوله تعالى (وهو السميع العليم) يؤكد هذا الترهيب والتحذير، لأن الانسان لا يهتم بما يقال له من أن الله تعالى يعلم بما في الضمائر حتى لو آمن به، ولكنه إذا علم أنه تعالى يسمع كلامه ويراه كما يراه الناس فانه يحسب لذلك حسابا آخر، ولذلك فالله تعالى ينبّه في مثل هذه الآيات على انه يسمع ويبصر، وكذلك في مواضع تقوية عزائم الرسل والمؤمنين كما قال تعالى خطابا لموسى وهارون عليهما السلام حينما أبديا خوفهما من بطش فرعون (قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى).

ومن هنا يتبين أن تفسير السمع والبصر إذا اسندا الى الله تعالى بالعلم ليس على ما ينبغي، فهناك فرق في التأثير النفسي بينهما وبين العلم بالمسموعات والمبصرات.

ولكنه هنا وصفه تعالى بالسميع العليم ولم يصفه بالبصير، لان الكلام في مضمون ايمانهم وهو شهادة لفظية يجب ان تسمع، والتوصيف بالعليم للاشارة الى انه تعالى يعلم ما تخفيه قلوبهم، فان لم توافق شهادتهم ما في قلوبهم فلا أثر لهذا الاظهار بل يوصمون بالنفاق.

ويلاحظ في الآية أن الجملة الاولى التي تحدّد صيغة الايمان المطلوب وردت خطابا للمؤمنين، والجملة الثانية التي تبين شقاقهم وتحذّرهم من الاستمرار فيه وردت خطابا للرسول صلى الله عليه وآله وسلم.

ولعل الوجه فيه أن صيغة الايمان تعمّ الجميع ومن يتخلف عنها فهو إمّا كافر وإمّا منافق، ولا يمكن مطالبتهم بالايمان بما يؤمن به الرسول صلى الله عليه وآله وسلم للفرق بين معرفته ومعرفة سائر المؤمنين لحقائق الغيب، وأما شقاق اليهود وعداؤهم فانما كان بالذات مع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وعداؤهم للمؤمنين كان بالتبع فكان المناسب ان يخاطب به الرسول بشخصه. 

 

صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ...

صبغة مصدر وتفيد معنى هيئة الصبغ كجلسة وقعدة من الجلوس والقعود. والصبغ هو تلوين الطعام والثياب.

والكلام هنا في وجه انتصاب هذا المصدر وأنه يعود الى أي جزء مما سبق، فقيل إنه مفعول مطلق لفعل مقدر اي صبغنا أنفسنا صبغة الله وهذا يقوله المؤمنون بعد قولهم آمنا بالله وما اُنزل الينا...، وقيل المقدر فعل امر للمخاطبين من اهل الكتاب اي اصطبغوا صبغة الله، وقيل انه صفة لقوله تعالى بل ملة ابراهيم...، وقيل هو وصف للايمان المقدر مفعولا مطلقا لقوله آمنّا اي آمنا ايمانا صبغة الله ونسب هذا الى سيبويه.

والظاهر كما تبين مما مرّ آنفا أن هذه الجملة مكملة لصيغة الايمان فهو من جملة كلام المؤمنين بالرسالة ولذلك اضيف اليه قوله (ونحن له عابدون)، فالاوفق من الاقوال المذكورة القول الاول والاخير.

والظاهر أن الغرض منه الدعوة الى توحيد ظاهر اتباع شريعة السماء، بأن تبدو عليهم صبغة واحدة من الله تعالى يصبغ بها جميع المؤمنين، وهي الايمان بالله وجميع ما نزل من السماء فهو كقوله تعالى (قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا..).[7] وعليه فاضافة الصبغة الى الله تعالى اضافة الى الفاعل.

وقوله (ومن أحسن من الله صبغة) لحثّهم على التسليم لهذا الاقتراح، فإنهم بذلك يصبغون أنفسهم صبغة الهية، ولعل توصيف هذا الايمان بالصبغة الالهية باعتبار أنه موافق للفطرة التي فطر الناس عليها، لان هذا التوصيف يدل على أنه ليس شيئا مصطنعا ولا تبديلا لحقيقة الانسان بل ولا لظاهره، وانما هو عود الى طبيعته وخلقته، ففي هذه الجملة استدلال كامن وهو أن الصبغة التي يصطبغ بها الانسان ان كان من الله تعالى فهي تعود الى أصل خلقته وفطرته فهي أحسن صبغة للبشرية. وقوله (صبغة) في هذه الجملة تمييز.

هذا هو الظاهر من الآية ولكن بعض المفسرين حاول تأويل هذا التعبير بأنه في قبال ما يفعله النصارى من غسل المعمودية، وقال بعضهم انهم يصبغون الماء بلون اصفر، وقال بعضهم ان تسمية الايمان بالله، صبغة، من باب المشاكلة. وكل ذلك تأويل باطل خصوصا بملاحظة ان الخطاب موجه الى بني اسرائيل لا الى النصارى.

ثم ان كان المراد بالصبغة ما يدعو اليه المؤمنون بأن يكون التقدير تعالوا نصطبغ صبغة الله، او اصطبغوا صبغة الله، فقوله (ونحن له عابدون) جملة حالية تبين حال الجميع بعد قبولهم للاقتراح المفترض، اي نصطبغ جميعا بهذا الايمان ونكون جميعا نعبد الله وحده. وحصر العبادة فيه تعالى يتبين من تقديم الجار والمجرور.

وان كان المراد بيان الايمان الذي يختص بنا، وأنه صبغة من الله تعالى كما هو الظاهر على ما مر بيانه، فالمراد بالضمير المؤمنون خاصة، وهذه ايضا قرينة اخرى على ترجيح هذا الاحتمال، لان كون الجملة بيانا لحال الجميع على تقدير قبول الاقتراح بعيد عن ظاهر اللفظ كما هو واضح، وانما يناسب ان تكون حالا للمؤمنين.

 

قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ...

هذه الآية والآية التالية جملة واحدة، والقصد ردّ محاجّتهم حيث قالوا كونوا هودا او نصارى تهتدوا، فأمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وآله وسلم ان يقول لهم بماذا تحاجّوننا في تبرير عدم ايمانكم بالرسالة الجديدة التي بعثها الله تعالى، فان كنتم تحاجّوننا في الله بأنكم أبناء الله وأحبّاؤه وأنكم شعب الله المختار وأنه لا يبعث رسولا الا منكم، فالله ربنا وربكم، بمعنى أنه لا تختلف عنده الشعوب ولا قرابة لاحد عنده بعنصره وقوميته، انما التقرب اليه بالعمل.

فان كنتم تتقربون اليه بأعمالكم، فنحن ايضا نتقرب اليه بالاعمال، وكل انسان مرهون بعمله لنا اعمالنا ولكم اعمالكم، وهذا لا يوجب ميزة لجماعتكم او شعبكم، كل انسان له عمله وانما يتميّز العمل إذا أخلص الانسان لربّه ولم يشرك به أحدا ولم يعبد غيره.

وهذه الميزة فينا، فنحن نخلص له في العمل ولا نعبد غيره ولا نطيع غيره. وفي ذلك تعريض بهم حيث انهم يطيعون أحبارهم إطاعة عمياء، وهذه نحو من العبودية ولذلك قال تعالى (وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ * اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ)[8]

 

أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ...

الظاهر أن (أم) متصلة وأن الآيتين جملة واحدة كما قلنا آنفا.

وقيل إنها منقطعة، وهو بعيد وذلك لأن الامرين يعودان الى وجهين في احتجاج اهل الكتاب؛ الاول يبتني على دعواهم الاختصاص بالله تعالى، والثاني على دعوى أنهم على دين الانبياء السابقين وأن هذا الدين الجديد منحرف عن مسلك الأنبياء؛ فالآيتان للردّ عليهم في الامرين.

ولكن الكلام في أنه ما هو مدّعاهم، هل كانوا يعتقدون أن الانبياء كانوا يعتنقون نفس مذهب اليهود والنصارى، ويبدو من عبارة العلامة قدس سره في الميزان أنهم كانوا يقولون إن هؤلاء كانوا هودا او نصارى بل يعتقدون أنهم كانوا بعد موسى وعيسى عليهما السلام لانه رحمه الله قال في تفسير قوله تعالى: قل أأنتم أعلم أم الله (فإن الله أخبرنا وأخبركم في الكتاب أن موسى وعيسى وكتابيهما بعد إبراهيم ومن ذكر معه).

وهذا كلام غريب ولا يمكن ان تسند هذه الدعوى الى أحد منهم، فانهم يعلمون باجمعهم انهم من ذرية يعقوب بن اسحاق بن ابراهيم ولعله من سهو القلم.

ومثل ذلك وقع في تفسير ابن عاشور قال (وَذَلِكَ لِمَبْلَغِهِمْ مِنَ الْجَهْلِ بِتَارِيخِ شَرَائِعِهِمْ زَعَمُوا أَنَّ إِبْرَاهِيمَ وَأَبْنَاءَهُ كَانُوا عَلَى الْيَهُودِيَّةِ أَوْ عَلَى النَّصْرَانِيَّةِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ..).

فالصحيح أن اليهود والنصارى في عهد الرسالة كانوا يعتقدون أن دينهم المحرف امتداد لشرائع الانبياء كما ندعيه نحن ايضا في ديننا، فالله تعالى يردّ عليهم بأن الانبياء عليهم السلام ما كانوا على هذه العقائد الفاسدة التي لديكم.

قال تعالى (يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ * هَاأَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ * مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ).[9]

وهذا معنى قوله تعالى (قل أأنتم أعلم أم الله) فالله تعالى هو الاعلم بحقيقة دين الانبياء السابقين وعقائدهم، ويعلم أنهم ما كانوا يتخذون احدا ربا من دون الله، ولا يقولون ان بشرا ابن لله تعالى، ولا يطيعون غير الله اطاعة مطلقة كما تفعلون.

ويتبين من قوله تعالى (ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله) أن أحبارهم ورهبانهم كانوا يلقون بين عامتهم، ما يوحي إليهم أن ما ابتدعوه من الدين هو ما سلكه الانبياء السابقون. وعلى هذا الاساس كانوا يتوهمون أن دين الانبياء هو اليهودية او النصرانية.

وقيل ان المراد كتمانهم علامات النبوة التي وردت في كتبهم مما يجدونه في الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، ولكن هذا الامر وان وردت فيه آيات عديدة الا ان السياق لا يناسبه.

وقوله (من الله) متعلق بالشهادة لا بالكتمان، لأنهم كانوا يكتمون الحقائق من الناس لا من الله تعالى، والمراد الشهادة بالمعلومات التي عنده من الله تعالى اي تلقاها من الله عن طريق الوحي على الرسول ووجودها في الكتاب السماوي.

وقوله تعالى (وما الله بغافل عما تعملون) تحذير شديد عما يغفل عنه الانسان ويتصور أن الله تعالى غافل عن اعماله، خصوصا ان كانت مخفية عن الناس فيتوهم المغفّل أن الله ايضا يخفى عليه امره.

 

تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ...

مرّ تفسير هذه الآية وانما كررت في نهاية هذا المقطع للتأكيد على خطأهم في هذا التصور وهو أن انتماءهم الى الانبياء السابقين ينفعهم وان انحرفوا عن مسارهم، وهذا الخطأ موجود فينا ايضا فيجب ان ننتبه ولا نعوّل على ما لا ينفعنا يوم القيامة.

والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا وحبيبنا محمد واله الطاهرين

الى هنا انتهينا من تفسير الجزء الاول من القرآن الكريم نرجو من الله التوفيق لاكماله انه وليّ ذلك وهو على كل شيء قدير.

 


[1] البقرة : 120

[2] الشورى : 13

[3] البقرة : 285

[4] ال عمران : 84

[5] النساء : 163

[6] الاعراف : 160

[7] ال عمران : 64

[8] التوبة : 30 – 31

[9] ال عمران : 65 – 67