مكتب سماحة السيد مرتضى المهري

سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (142)

من هنا يبدأ الكلام حول تغيير القبلة من بيت المقدس الى الكعبة والرد على ما قاله أعداء الاسلام بهذا الشأن وقد مرّ أن مجموعة كبيرة من الآيات قبل هذه الآية ناظرة الى هذا الموضوع ومقدمة لذكره.

وقد أخبر الله سبحانه في هذه الآية أن السفهاء سيعترضون على تغيير القبلة وقد وقع ما أخبر به. الا أن الكلام في موقع هذه الآية فربما يقال ان ترتيب مضمون الآيات يقتضي أن تكون هذه الآية نزلت بعد قوله تعالى (قد نرى تقلب وجهك..) لانها الآية التي نسخت حكم القبلة ولكنها وردت في المصحف بعد آيتين.

ويحتمل أن يكون السبب في تقديم هذه الآية أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كان يطلب تبديل القبلة كما هو واضح من قوله (قد نرى تقلب وجهك..) ولعله كان موضع اهتمام في اوساط المسلمين ايضا فهذا التقديم للاشارة الى ما سوف يحدثه هذا الحكم من الاستياء لدى المناوئين قدّمه الله تعالى ليكون المجتمع على اهبة الاستعداد لمواجهته.  

وقد مر الكلام في معنى السفاهة وقلنا انها خلاف الحلم وأن الاصل فيها الخفة وتطلق على خفة العقل وقلة الادراك.

ووقع الكلام في من هو المراد بالسفهاء هل هم اليهود او مطلق اهل الكتاب كما يقتضيه سياق الايات السابقة ام يشمل المشركين والمنافقين باعتبار أنهم ايضا كانوا يعترضون على تبدل الاحكام وتاخيرها بل ربما كانوا يطمعون بسبب ذلك ان يتنازل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم عن بعض ما يصرّ عليه من المواقف او يترك دينه ويعود الى دين الاباء؟

الجواب أن تعبير الآية عام يشمل كل من يعترض على حكم تغيير القبلة ولكن ظاهر الآيات التالية والتعرض لعدم متابعة اهل الكتاب بعضهم لقبلة بعض أن المراد هم هؤلاء او خصوص اليهود واما المشركون والمنافقون فلم تكن لهم قبلة خاصة.

وربما يسأل عن الوجه في توصيفهم بالسفهاء دون الكفار او الاعداء او المعاندين او الظلمة او الذين لا يعلمون وامثال ذلك مما ورد في سائر موارد القرآن الكريم؟

لعل الوجه فيه تحقيرهم حتى يضعف تأثيرهم في قلوب المؤمنين فلو كان يصفهم بالظلم والعناد ما كان التعبير مؤثرا في التحقير وعدم الاهتمام وحيث كان التشكيك في الامر مما ينال القبول نوعا ما في المجتمع كان اللازم التضعيف من تاثيره النفسي قبل الرد عليه.

ومن هنا ايضا اعتبرهم السفهاء من الناس فلعل وجه التقييد بالناس التأكيد على هذا التحقير فان هذا التعبير يفهم منه حصر السفهاء من بين الناس جميعا فيهم كأنه لا يوجد في جميع البشر سفهاء غيرهم. ولكن بعض المفسرين[1] فهم من هذا التقييد ان المراد بهم المشركون لان القران يعبر عنهم بالناس في كثير من الموارد.

وهذا غير صحيح فالتعبير بالناس لا يختص بهم كقوله تعالى (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ..)[2] وقوله (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ)[3] بل اكثره لا يختص بهم ولم اجد وجها لهذا التوهم.

وقوله (ما ولّاهم..) استفهام انكاري من العدو وان كان موضع السؤال عندهم الامر الذي تسبب في ترك القبلة ولكن القصد من هذا التعبير استنكار العمل لأن القبلة من شعائر الدين فتغييرها ليس امرا هيّنا ومرد كلامهم: أن القبلة لو كانت في الواقع هي الكعبة فلماذا صلوا الى بيت المقدس طيلة هذه المدة وان كانت القبلة السابقة صحيحة فلماذا أعرضوا عنها؟

و(ولّاهم) من التولية. والتولية تفعيل من ولي اي اتى الشيء بعد الشيء تباعا واذا تع–دى ب– (عن) أفاد الاعراض. والتولية من باب التفعيل والمراد بها فعل ما يوجب الاعراض فقوله (ما ولاهم) اي ما هو الذي جعلهم يعرضون عن القبلة التي كانوا عليها؟

والقبلة فِعلة من المقابلة كالوجهة من المواجهة ومنه قوله تعالى (وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً..)[4] اي متقابلة. واطلقت القبلة على الجهة التي يقابلها المصلي في صلاته

والمراد بالقبلة التي كانوا عليها بيت المقدس واضافتها الى المسلمين مع أن الظاهر انها قبلة اليهود قبلهم من جهة أن الاستغراب لا يكون الا عن اعراضهم عن قبلتهم لا عن قبلة غيرهم.

و(على) في قولهم (كانوا عليها) بمعنى كونهم دائبين عليها وملتزمين بها فلم يكن توجههم اليها خاصا بوقت او حالة خاصة فهي مثل قوله تعالى (إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)[5] تشبيها للصراط المستقيم وهو امر معنوي بالجادة التي يكون الانسان عليها وملازما لها لئلا يحيد عن الطريق الموصل الى الغرض المنشود. ولا بد من ذكر هذا الوصف للقبلة ليتم الاستغراب والتنديد ولو كانوا يتوجهون اليها في بعض الحالات لم يكن وجه للاستنكار.

ولم يتبين لنا التزام اليهود في صلاتهم بالتوجه الى بيت المقدس وهو مما بناه سليمان عليه السلام ولا شك أن التوجه اليه لم يكن مما ورد في اصل دينهم الذي جاء به موسى عليه السلام لان بناءه متأخر عنه كثيرا. ولكن الوارد في العهد القديم أن سليمان عليه السلام بعد ان بناه قال في دعائه مخاطبا ربه:

(وإن انكسر شعبك إسرائيل أمام العدو لكونهم أخطأوا إليك ثم رجعوا واعترفوا باسمك وصلوا وتضرعوا أمامك نحو هذا البيت فاسمع أنت من السماء..).[6]

ففي هذا الدعاء ورد التعبير بالصلاة نحوه وان امكن ان يراد به الدعاء. والقبلة لا تختص بما يصلى اليه بل ما يتوجه اليه للدعاء والتضرع قبلة ايضا.

ومن المعروف ان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كان يصلي متوجها الى بيت المقدس في مكة وكذلك بعد الهجرة في المدينة الى ان نزل الامر بتغيير القبلة الى الكعبة وهناك اختلاف في زمان هذا النسخ حسب الروايات.

روى الكليني بسند معتبر عن الحلبي عن أبي عبد الله عليه السلام قال (سألته هل كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصلي إلى بيت المقدس؟ قال: نعم، فقلت: أكان يجعل الكعبة خلف ظهره؟ فقال: أما إذا كان بمكة فلا وأما إذا هاجر إلى المدينة فنعم حتى حول إلى الكعبة).[7]

وكان اليهود يعتبرون توجه المسلمين الى بيت المقدس في صلاتهم نوعا من الانحياز الى دينهم وعقائدهم ويرون السر في ذلك أن دينهم هو الاصل في الاديان السماوية ولعل بعضهم كان يعيب على المسلمين متابعتهم في القبلة لدينهم مما يؤثر على عامة الناس فيشكون الى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فكان يتوقع من الله تعالى تغيير القبلة.

ولماذا الاهتمام بالقبلة؟

الانسان يحب أن يتوجه الى امر محسوس في عبادته ودعائه لان المشاعر الكامنة تثقل على قلبه وروحه ولا يكفي التوجه الى الغيب لشعوره بالراحة ومع انه بفطرته مشدود الى الغيب ويعلم أن الله تعالى لا يحيط به مكان ولا تختص به جهة وأن الانسان اينما توجه الى الله فثمّ وجهه تعالى ولكنه يشعر بارتياح شديد اذا واجه امرا محسوسا يكون رمزا للغيب الذي يعظمه ويبجله.

ومن هنا انحرف الانسان الى صنع رموز لعبادته اما في الطبيعة كالشمس والقمر واما بما صنعه بيده كالاصنام والله تعالى اصلح هذا الخطأ وأمره بأن لا يعبد شيئا الا الله وأن يتوجه الى القبلة للصلاة ويحضر في بيت الله او امامه او يحضر عند الرسول صلى الله عليه وآله وسلم او في اماكن خاصة كعرفات للدعاء والتوبة والاستغفار ومنعه من ان يختلق لنفسه رموزا للعبادة مما لم ينزل الله بها من سلطان ولم يشرعه الله تعالى ولم يأمر بالتوجه اليه في العبادة حتى لو كانت العبادة له تعالى.   

وهذا الامر بالطبع يتبع مصلحة الناس فالله تعالى جعل القبلة فيما مضى بيت المقدس لمصلحة ثم ابدلها الى الكعبة لمصلحة ايضا وسياتي في الآية التالية وجه الحكمة في الامر بالتوجه الى بيت المقدس في أوائل البعثة وذلك في قوله تعالى (وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ..).

واما التغيير الى الكعبة فوجهه واضح من سياق الآيات السابقة حيث تعرضت لاهمية الكعبة في تاريخ الاديان وكيفية بنائها على يد ابراهيم واسماعيل عليهما السلام وأنها اول بيت وضع للناس وأن الله تعالى امر بتطهيرها ورجوع الناس اليها كل عام للحج وامر بكونها امنا للناس فكل هذه الاعتبارات تقتضي ان تكون هي القبلة.

ومثل ذلك يلاحظ في جميع الاحكام الشرعية وأن المصلحة في كلها هي امتحان الانسان ليتبين من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه لان الله تعالى لا يرضى من الانسان الايمان في الظاهر ان لم يوافقه الباطن فيبتليه بمثل هذه الامور ليتبين من هو المؤمن واقعا.

وهذا الابتلاء تارة يكون شخصيا كما يبتلى الانسان بالمرض والفقر وغيرهما من مشاكل الحياة ليتبين درجة ايمانه بالله وكثيرا ما نجد من المؤمنين من يعترض على الله تعالى بما مني به من البلاء وكأن له التطاول عليه تعالى والمنة وكأنه يقول من في هذا الكون اعبد مني لك واطوع فلماذا تبتليني بهذه الامور ولا تستجيب دعائي وتضرعي؟ وربما يقول اكثر من ذلك في قلبه من الكفر والشك وان لم يتفوه به. وهذا وان لم يعتبر كفرا الا انه يظهر ضعف ايمانه ويؤثر في درجته يوم القيامة من القرب لدى الله تعالى.

وتارة يكون الابتلاء جماعيا كتغيير القبلة فان نفس هذا التغيير يظهر بواطن الناس ويتبين المؤمن الحقيقي من المنافق وممن في قلبه مرض ومن هو ضعيف الايمان. ومثل ذلك ايضا ما ورد في رؤيا الرسول صلى الله عليه وآله وسلم المشار اليه في قوله تعالى (لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آَمِنِينَ مُحَلِّقِينَ..).[8]

وذلك حيث رأى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في منامه أنه دخل المسجد الحرام مع أصحابه وطافوا بالبيت فأخبرهم بذلك ففرحوا واستبشروا ولما خرجوا الى مكة ووصلوا الحديبية ومنعهم المشركون من دخول الحرم شك بعضهم وابرزوا دفائن نفوسهم وسخروا من وعد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وكذّبوه في الرؤيا التي أخبرهم بها.

قال الآلوسي في روح المعاني (قال على طريق الاعتراض عبد اللّه بن أبي وعبد اللّه بن نفيل ورفاعة بن الحرث: واللّه ما حلقنا ولا قصرنا ولا رأينا المسجد الحرام فنزلت. وقد روي عن عمر رضي اللّه تعالى عنه أنه قال نحوه على طريق الاستكشاف ليزداد يقينه..)!!! فلما سألوا الرسول صلى الله عليه وآله وسلم عن ذلك قال لهم ما معناه: ما أخبرتكم انه يقع هذا العام. 

وهكذا تشريع الاحكام فان المصلحة في كلها هو امتحان الناس ليتبين من يتعبد بها ومن يرفض قبولها الا اذا راى فيها نفعا لدنياه. ولذلك ورد في الحديث أن السر في تشريع الطهارات هو امتحان الناس ففي صحيحة زرارة ومحمد بن مسلم  عن أبي جعفر عليه السلام قال (إنما الوضوء حدّ من حدود الله ليعلم الله من يطيعه ومن يعصيه وإن المؤمن لا ينجسه شيء إنما يكفيه مثل الدهن).[9]  

وبالطبع فان الاحكام مناسبة لموضوعاتها فما يحكم بنجاسته مثلا فيه نوع من الحزازة  وايجاب التنفر ولكن ليس ذلك من قبيل العلة بحيث يدور مداره الحكم فهناك امور كثيرة توجب التنفر ولم يحكم بنجاستها بل ان هناك ما حكم بنجاسته لمصلحة تنفير الطباع منه وان لم يكن هو بذاته موجبا للتنفر كالخمر.

وهناك وجه اخر لاهمية القبلة وهو انها موجبة لاتحاد المسلمين ونلاحظ في عصرنا ان المسلمين على اختلاف مذاهبهم وفرقهم يجتمعون في امور واهمها وحدة القبلة واهميتها من جهة انها امر واضح يتظاهر بها كل مسلم فهي من شعائر المسلمين.

كما انها ايضا موجبة لامتيازهم عن سائر الاديان والفرق. وهذا امر يهتم به الشرع ايضا ومن هنا ورد المنع عن التشبه بالكفار لئلا يختلطوا بهم ويشتبه بينهم. ومع الاسف فان المسلمين يتسابقون في التشبه بهم، بل سبقوهم فيما احدثوه من البدع في ثيابهم وازيائهم وفي زينتهم وفي عاداتهم وفي انحاء القص من شعورهم وفي اللحى والشوارب وفي كثير مما ابتدعوه.

وبعد تغيير القبلة الى الكعبة اعترض اليهود على المسلمين بأن تغيير الحكم لا يمكن ان يكون من الله تعالى فهو لا يبدل حكمه وسنته لان الصحيح لو كان التوجه الى بيت المقدس فلا يجوز العدول عنه وان كانت القبلة الجديدة هي الصحيحة فصلواتكم الى اليوم باطلة.

وجاءهم الردّ (قل لله المشرق والمغرب). ومعنى ذلك أن التوجه الى الجهات ليس له أثر ذاتي ومصلحة تكوينية فالله تعالى ليس في جهة وكل الجهات له تعالى وهو خالقها. وانما ذكر في الآية المشرق والمغرب بالخصوص ولم تذكر سائر الجهات لانهما مما يمكن للبشر معرفتهما بصورة تقريبية بالنظر الى الطبيعة من دون استخدام جهاز بخلاف سائر الجهات الاصلية والفرعية حيث انها لا تتبين الا باستخدام البوصلة.

وحاصل هذا الجواب أن الامر في الواقع ليس الا امرا اعتباريا تابعا للجعل والتشريع والا فلا فرق بين الجهات في التوجه الى الله تعالى وهو نفس ما مر في قوله تعالى (اينما تولوا فثم وجه الله) وانما تختص جهة من الجهات بالتوجه اذا امر الله بها وجعلها رمزا للتوجه اليه في الصلاة والدعاء ونحوهما.

وقد مر بعض الكلام حول هذه الجملة اي لله المشرق والمغرب في تفسير قوله تعالى (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ..).[10]

والحاصل أن تعيين القبلة كسائر الاحكام التشريعية يتبع التشريع الالهي ولا مصلحة في الشيء قبل التشريع والله تعالى يجعل لكل امة وفي كل زمان حسبما يراه من المصلحة قبلة او يشرع حكما. ولذلك اتى بالصراط المستقيم نكرة في الجملة الاخيرة (يهدي من يشاء الى صراط مستقيم) فكل ما يعينه للقبلة صراط مستقيم مع انها تختلف في الاديان والشرائع وحتى في الشريعة الواحدة تختلف بحسب الازمنة كما حدث في بدء الشريعة الاسلامية.

ونظير ذلك ما ورد في قوله تعالى (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ)[11] والمنسك قد يكون بمعنى مكان الذبح كما قاله كثير من المفسرين وقد يكون مصدرا بمعنى الطريقة للذبح. ومعنى الآية أن تعدد الشرائع والمناسك في الامم لا ينافي كونهم جميعا يتبعون الها واحدا.

وجملة (يهدي من يشاء..) استينافية لاكمال الجواب عن الاستفهام الانكاري والصراط المستقيم اي الطريق الموصل الى الهدف من تشريع الاحكام. وفي قوله (من يشاء) اشارة الى ان الامر بيده تعالى فلا وجه لاي اعتراض على ما يشرعه.

 

وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا...

اختلفوا في ما هو المراد بالاشارة في قوله (كذلك) فقيل انه اشارة الى قوله (يهدي من يشاء) في الاية السابقة فيكون المعنى (كما يهدي من يشاء الى صراط مستقيم كذلك جعلناكم امة وسطا).

ولكن الظاهر أنّه إشارة الى الجعل المذكور بعده اي مثل ذلك الجعل العجيب جعلناكم.. فالمشبه والمشبه به واحد. ومثل هذا التعبير متعارف، كقوله تعالى (كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)[12] اذ ليس في ما قبل هذه الآية شيء يشبّه به الوحي فالصحيح أنه تشبيه بنفس هذا الوحي ويراد به أنّ هذا الشيء نسيج وحده فلا يشبهه شيء، وإن أردت أن تشبّهه فلا تجد له مثيلا فيلزمك أن تشبّهه بنفسه. وهكذا الجعل هنا.

ولا يبعد أن يكون الغرض من هذه الآية تثبيت ايمان المسلمين لان تغيير القبلة كان امرا مهما ومثيرا للشكوك ولذلك قال تعالى في هذه الآية (وان كانت لكبيرة الا على الذين هدى الله) واليهود كانوا يبثّون ما يزيد الشك في صفوف المؤمنين.

والظاهر ان المنافقين ايضا كان لهم دور في تضعيف ايمان الناس لانهم ما كانوا يتركون فرصة مثل هذه. والقائد في كل ثورة او دين جديد اذا اراد تغيير بعض المبادئ فانه يقع في حرج من ذلك ولا بدّ له من تقديم ما يهيّء الاجواء كما لا بد له من تعقيب ذلك بما يبعث الطمأنينة في المجتمع.

والقبلة كما قلنا تعتبر من شعائر الدين ومن مميزات الفرقة فلها دور كبير في تكوين المجتمع الجديد وفي قوة تماسكه والتفافه حول القيادة فتغييرها بحاجة الى مقدمات وقد مضت في الآيات السابقة وبحاجة الى طمأنينة تتعقبه وهذه الآية كفيلة بذلك حيث تشير الى دور المسلمين في المجتمع البشري.

والوسط في الاصل معناه معروف وفي المفردات ما له طرفان متساويا القدر ولكن يؤتى به كناية عن الالتزام بالحد الوسط بين امرين وهو العدل والانصاف، وعدم المغالاة والتقصير، والافراط والتفريط.

وظاهر الآية أن الصفة للامة وليست للشريعة والطريقة وهو مقتضى وحدة شرائع السماء فلا يمكن تمييز شريعة من بينها بالعدل اذ يستلزم توصيف غيرها بالافراط والتفريط ولا يمكن ان تكون شريعة السماء باحد الوصفين.

وعليه فالجعل هنا تكويني لا تشريعي بمعنى أن الله تعالى جعل هذه الامة بأشخاصها عدولا لا يميلون الى جانبي الافراط والتفريط وهو توصيف غريب لا يمكن أن توصف به امة بأجمعها وفيهم بطبيعة الحال المفرطون والمقصرون.    

وفي تفسير الآية عدة آراء يمكن تلخيصها فيما يلي:

التفسير الاول: ان المراد بكون هذه الامة وسطا انهم عدول وأن الله تعالى جعل المسلمين عدولا لتقبل شهادتهم على الناس. روى الطبري في ذلك عدة روايات عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صرح فيها بان المراد بالوسط العدل.

وقالوا ان المراد بالشهادة شهادتهم يوم القيامة وفي ذلك ايضا روايات في البخاري وتفسير الطبري والدر المنثور وغيرهما ونحن نروي رواية عن البخاري:

فقد روى بسنده عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، قَالَ: (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَجِيءُ نُوحٌ وَأُمَّتُهُ، فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى، هَلْ بَلَّغْتَ؟ فَيَقُولُ نَعَمْ أَيْ رَبِّ، فَيَقُولُ لِأُمَّتِهِ: هَلْ بَلَّغَكُمْ؟ فَيَقُولُونَ لاَ مَا جَاءَنَا مِنْ نَبِيٍّ، فَيَقُولُ لِنُوحٍ: مَنْ يَشْهَدُ لَكَ؟ فَيَقُولُ: مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُمَّتُهُ، فَنَشْهَدُ أَنَّهُ قَدْ بَلَّغَ، وَهُوَ قَوْلُهُ جَلَّ ذِكْرُهُ: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَالوَسَطُ العَدْلُ)[13]

وروى الطبري بسنده عن جابر بن عبد الله: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إني وأمتي لعلى كَوْمٍ يومَ القيامة، مُشرفين على الخلائق. ما أحدٌ من الأمم إلا ودَّ أنه منها أيَّتُها الأمة، ومَا من نبيّ كذّبه قومُه إلا نحن شُهداؤه يومَ القيامة أنه قد بلَّغ رسالات ربه ونصحَ لهُم. قال: ويكونَ الرسول عليكم شَهيدًا).

وتدل بعض رواياتهم أن المراد بشهادة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم شهادته يوم القيامة بصحة شهادة امته وفي بعضها ان امم الانبياء السابقين يعترضون على شهاده هذه الامة بانكم لم تدركونا فكيف تشهدون؟! فيقولون ان رسولنا اخبرنا بذلك فيشهد لهم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.

وقد اعترض الشيخ الطوسي قدس سره على هذا القول بأن الامة فيهم من يحكم بفسقه بل بكفره فكيف تقبل شهادتهم يوم القيامة. والاعتراض واضح ولكن بعضهم كالفخر الرازي اجاب بأن العادل هو مجموع الامة لا كل واحد ولذلك كان اجماعهم حجة. فان قيل: ان الامة لم تجتمع على شيء وهم مختلفون في الاصول والفروع أجابوا بأن لا عبرة بمن خرج عن الجماعة كالرافضة والخوارج.

ويردّ هذا القول أن القرآن يصرّح بأنّ الرسل يوم القيامة هم الشهداء على اممهم قال تعالى (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا)[14] فاذا كان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم شهيدا على هذه الامة فالشهيد في كل امة رسولها. ومثله قوله تعالى (وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ..).[15]  

وقال تعالى بشأن سيدنا عيسى عليه السلام (وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا).[16]

مضافا الى ان الانسان يوم القيامة تشهد عليه اعضاؤه وتشهد الارض والملائكة ولا حاجة الى شهادة هذه الامة بما فيها من الظلمة والفسقة قال تعالى (حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)[17] وقال (إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا * وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا * يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا)[18] وقال ايضا (وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ).[19]

ومن جهة اخرى صرح القرآن بأن كل امة تشهد على نفسها فكيف يمكن ان تكذب شهادة غيرها كما في هذه الاحاديث الموضوعة؟!

قال تعالى (يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ).[20] وقال ايضا (حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ).[21]

والمتأخرون من مفسري العامة حاولوا تعديل النظرية بحيث يبقى الوسط بمعنى كون الامة خيارا وعدولا لورود التفسير في الحديث الصحيح على رايهم فلا تجوز مخالفته ولكنهم عدّلوا معنى الشهادة لتكون شهادة في هذه الحياة وتكون بمعنى كون المسلمين اسوة للعالمين ولسائر الطوائف والاديان وشهداء على الطريق الصحيح والصراط المستقيم.  

قال في المنار: (انَّ الْمُسْلِمِينَ خِيَارٌ وَعُدُولٌ لِأَنَّهُمْ وَسَطٌ، لَيْسُوا مِنْ أَرْبَابِ الْغُلُوِّ فِي الدِّينِ الْمُفْرِطِينَ، وَلَا مِنْ أَرْبَابِ التَّعْطِيلِ الْمُفَرِّطِينَ، فَهُمْ كَذَلِكَ فِي الْعَقَائِدِ وَالْأَخْلَاقِ وَالْأَعْمَالِ. ذَلِكَ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا قَبْلَ ظُهُورِ الْإِسْلَامِ عَلَى قِسْمَيْنِ: قِسْمٌ تَقْضِي عَلَيْهِ تَقَالِيدُهُ بِالْمَادِّيَّةِ الْمَحْضَةِ، فَلَا هَمَّ لَهُ إِلَّا الْحُظُوظَ الْجَسَدِيَّةَ كَالْيَهُودِ وَالْمُشْرِكِينَ، وَقِسْمٌ تَحْكُمُ عَلَيْهِ تَقَالِيدُهُ بِالرُّوحَانِيَّةِ الْخَالِصَةِ وَتَرْكِ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا مِنَ اللَّذَّاتِ الْجُسْمَانِيَّةِ، كَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ وَطَوَائِفَ مِنْ وَثَنِيِّي الْهِنْدِ أَصْحَابِ الرِّيَاضَاتِ. وَأَمَّا الْأُمَّةُ الْإِسْلَامِيَّةُ فَقَدْ جَمَعَ اللهُ لَهَا فِي دِينِهَا بَيْنَ الْحَقَّيْنِ: حَقِّ الرُّوحِ، وَحَقِّ الْجَسَدِ، فَهِيَ رُوحَانِيَّةٌ جسْمَانِيَّةٌ..).

ويلاحظ على هذا التفسير أولا أنه مخالف لما يعتبرونه حديثا صحيحا بل للاحاديث الكثيرة الواردة في تفسير الآية الكريمة في كتبهم حيث ورد فيها أن المراد بالشهادة شهادتهم يوم القيامة بتبليغ الانبياء. ولم أجد في المنار وغيره توجيها لهذه الاحاديث.

وثانيا أن الاساس في هذا التفسير أن الدين الاسلامي والشريعة الاسلامية لاحظ كلا من الجهتين في الانسان اي الروحانية والجسمانية بينما غفلت عن الجمع بينهما شريعة اليهود والنصارى ولكن الآية تقول ان الله تعالى جعل هذه الامة وسطا وهذا لا يعني ان شريعتهم تمتاز بالوسطية ولذلك هم فسروا الوسطية بأنهم خيار وعدول وهذه صفة المسلمين لا صفة الشريعة بينما المقارنة لم تقع بين الجماعتين وانما وقعت بين الطريقتين ولم يتمكن التفسير من اثبات أن هذه الامة بأشخاصها وسط وخيار وعدول بين المجموعتين من الناس ليكونوا شهداء.

وثالثا أن المقارنة بين شريعتنا وشريعة اهل الكتاب تصطدم بحقيقة كون الشرايع كلها من الله تعالى بل كون الشريعة واحدة في الجميع باصولها كما قال تعالى (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ..)[22] فالذي لا يمكن الترديد فيه أن الشريعة الالهية التي نزلت من السماء كانت في كل العصور وفي كل الامم تلاحظ الجهتين الروحانية والجسمانية في الانسان وانما انحرفت الاديان عن شريعة السماء بتحريف الكتاب ومخالفة احكام الله تعالى عمليا والمخالفة العملية كما وقعت فيهم وقعت فينا وان لم يحرف كتابنا ولله الحمد.

ورابعا يبقى عليه الاعتراض السابق وهو أنه لا يمكن توصيف المسلمين جميعا بأنهم خيار عدول حتى من كان في عصر الرسالة فقد كان فيهم المنافقون والذين في قلوبهم مرض وضعفاء الايمان وأما بعد عصر الرسالة فحدّث ولا حرج فقد تسلط النفاق والكفر على بلاد المسلمين ولم يبق من الاسلام الا اسمه وبعض شعائره.

ولا يمكن القول بأن المراد المجموع فان الاكثر فيهم كانوا مع السلطة الجائرة طيلة التاريخ الاسلامي وهم الى عصرنا هذا يتبعون نفس الطريقة ويعتقدون بأن هذا هو الحق.

واما الشيعة فيفسرون الآية على أن المراد بالامة الوسط الائمة الطاهرون عليهم السلام كما ورد في عدة روايات عنهم منها ما هو صحيح سندا:

روى الكليني قدس سره بسند صحيح عن بريد العجلي قال (قلت لأبي جعفر عليه السلام قول الله تبارك وتعالى "وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا" قال: نحن الأمة الوسط ونحن شهداء الله تبارك وتعالى على خلقه، وحججه في أرضه...الحديث).[23]

فالامة الوسط الذين هم شهداء على الناس وجعلهم الله تعالى اسوة وائمة يهدون الى الحق هم المعصومون من ذرية الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.

ويمكن الاعتراض على هذا التفسير بأنه كيف يمكن الخطاب للامة بأجمعها ويقصد جماعة خاصة منهم؟! ولذلك عمد بعض المتأخرين الى تعميم الخطاب ليشمل الصالحين من الامة والعلماء والمصلحين.

ولكن الحديث الشريف يرد على هذا التعميم مضافا الى أنه لا يمكن اعتبار كل العلماء والمصلحين من الامة شهداء.

وهذا يبتني على توضيح معنى الشهادة:

قال في معجم المقاييس (اصل يدل على حضور وعلم واعلام).

ومن هنا يقال شهد فلان اذا حضر لتحمل الشهادة. ويقال ايضا شهد فلان اذا حضر لدى القاضي وشهد بما راى. فالاول من الحضور والعلم. والثاني من الحضور والاعلام.

وتطلق الشهادة مجازا على حضور من يكون عمله اسوة للاخرين فهو شاهد على صحة عملهم اذا وافق سيرته، وبطلانه اذا لم يوافق. ومن هنا يطلق الشهيد على من قتل في سبيل الله تعالى وان اختلف اللغويون في وجه الاطلاق ولكن الصحيح انه من جهة كونه اسوة للاخرين وحجة عليهم فالله تعالى يحتج على من يتخلفون عن الجهاد في سبيله بالشهداء. ولذلك يعبر عنه بانه استُشهد بالبناء للمجهول يعني اعتبره الله تعالى شاهدا.

ومن هنا ايضا اطلق الشاهد في القران على الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قال تعالى (إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا)[24] فالشهادة هنا يمكن ان تحمل على ثلاث وجوه:

الاول ان يكون مراقبا لاعمال امته في الظاهر كما يراقب كل زعيم امته ولعل من هذا الباب قوله تعالى (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ..)[25] بناءا على ان رؤية المؤمنين للعمل ليست الا رؤية ظاهرية فلا بد من حمل الرؤية في الآية على هذا المعنى.

نعم اذا فسر المؤمنون بالائمة عليهم السلام كما ورد في بعض الروايات[26] صح أن يقال إن الرؤية في هذه الآية من الشهادة بالمعنى الثاني.

الثاني ان يكون الرسول مطلعا على حقائق الاعمال عن طريق ابلاغه ذلك بواسطة الملائكة وهذا وارد في الروايات المشار اليها آنفا ومنها ما يدل على أنه يطلع على اعمال امته حتى بعد وفاته.

وهو ما رواه الكليني قدس سره بسنده عن سماعة عن أبي عبد الله عليه السلام قال (سمعته يقول ما لكم تسوءون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟! فقال رجل: كيف نسوءه؟ فقال: أما تعلمون أن أعمالكم تعرض عليه فإذا رأى فيها معصية ساءه ذلك فلا تسوءوا رسول الله وسرّوه صلى الله عليه وآله وسلم).[27]  

والثالث أن يكون بمعنى كونه اسوة للناس فيلاحظ عملهم بالمقارنة مع عمل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وكذلك الامام في كل عصر. ولعله لذلك قال تعالى (يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا)[28] فان الفاء في قوله (فمن اوتي) تدلّ على ترتب ذلك كالنتيجة على مقارنة عمل كل اناس بعمل امامهم. ومن هنا قلنا ان المراد به الامام الحق خلافا للعلامة الطباطبائي رحمه الله.

ومن هنا فان الشهداء هم الذين يجب ان يُتأسّى بهم وهم المعصومون من الاحياء فحسب نعم يُتأسّى بمن ضحّى بنفسه في سبيل الله تعالى في التضحية فحسب. وبناءا عليه فشهادة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم على هؤلاء الشهداء هي أنه الاسوة لهم.

ويلاحظ أن الآية الكريمة دلّت على ترتب الشهادتين على كون الامة وسطا حيث أتى بلام التعليل ومعنى ذلك أن هؤلاء المتصفون بالعدالة والوسطية اسوة لغيرهم لانهم وسط وعدول ويفهم من قوله تعالى (جعلناكم) أن الله هو الذي جعلهم عدولا مما يدل على أن عصمتهم ليست بالاكتساب بل تنشأ من أمر في ذاتهم وفطرتهم.

وأما ترتب شهادة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم على كون الامة عدولا فلعله بمعنى أنهم يتبعونه صلى الله عليه وآله وسلم بدقة تامّة لا يميلون عن سنته وسيرته قيد انملة.

وبعد كل هذا نعود الى اصل الاشكال وهو أنه كيف يمكن مخاطبة الامة كما هو ظاهر الآية الكريمة ويراد جماعة خاصة منهم؟

والجواب أن هذا من قبيل توجيه الخطاب الى بني اسرائيل بأن الله فضلهم على العالمين مع انه تعالى فضل قسما منهم وهم الانبياء. وكذلك قوله تعالى (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا..)[29] ولا شك ان في كل عصر كان منهم ملك واحد ولا يمكن ان يكونوا باجمعهم ملوكا.

ومن هذا القبيل ايضا قوله تعالى خطابا لهذه الامة (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ..)[30] ولا شك أن الآمرين بالمعروف بعض الامة وليسوا كلهم ولا يمكن ان يكونوا باجمعهم كذلك بل اكثرهم ممن يتركون المعروف ويرتكبون المنكر فيامرهم وينهاهم هؤلاء الجماعة.

ومن اللطيف انه تعالى قال قبل هذه الاية ببضع ايات (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)[31] فالامة التي تامر وتنهى امة من هذه الامة وليسوا كلهم.

وقد اختلف المفسرون في هذه الآية ايضا. والصحيح أن الائمة عليهم السلام هم الذين يدعون الى الخير ويامرون بالمعروف وينهون عن المنكر وهم خير امة اخرجت للناس ومع ذلك يصح خطاب الامة باجمعهم بانهم كذلك باعتبار ان هؤلاء من ضمن هذه الامة.

ومثل هذه الآية قوله تعالى (وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ).[32]

فالخطاب لكل الامة ولكن ابراهيم عليه السلام ليس ابا لهذه الامة جمعاء حتى الحاضرين حين نزول الاية ومن جهة اخرى فان التسمية بالمسلمين اشارة الى ما ورد في قوله تعالى (وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ..)[33] وهناك ايضا طلب من الله تعالى ان تكون الامة المسلمة من ذريته وذرية اسماعيل عليهما السلام وهذا لا ينطبق على كل المسلمين كما هو واضح.

فيتبين بذلك أن المراد بهم جماعة خاصة من المسلمين وهم الشهداء على الناس. ومع ذلك فالآية الكريمة تخاطب جميع المسلمين وتعتبر ذلك ميزة لهم جميعا.

 

وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ...

هذا جواب عما يعتري الاذهان من الاشكال في جعل القبلة الاولى اي بيت المقدس وربما كان ذلك يختلج في نفوس المؤمنين ايضا وكذلك في كل حكم منسوخ فيُسأل: لماذا لم تعيّن الكعبة قبلة من البدو حتى لا يحدث هذا الاضطراب ولا يعترض اليهود وغيرهم علينا؟

والجواب أن الحكمة في ذلك امتحان الناس ليتبين من يتبع التشريع الالهي الذي يبلغه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ومن يرتد عن دينه ويشك في الرسالة. ولم يذكر في الآية من يؤمن بالله او بالشريعة وتمييزه عن المرتد بل من يتبع الرسول فالهدف هو تبيّن المؤمن بالرسالة وتميّزه عمّن يشكّ فيها.

ولكنه لم يات بضمير الخطاب اي من يتبعك لان متابعته كقائد سياسي ليس هو المقصود بل متابعته كرسول من قبله تعالى. والحاصل ان الايمان المطلوب لا يتحقق بقبول الشريعة فحسب كما يقول بعض الناس بل لا بد من الالتفاف حول الرسول والائتمار باوامره ولكن لا بما انه قائد محنك او شخصية فذّة او زعيم سياسي او محور تجتمع عليه الامة الموحدة ونحو ذلك بل بما انه رسول من الله تعالى.

ولعلّ الهدف لا يختص بمعرفة من يعلن تشكيكه وارتداده بل كان هناك في المسلمين من كان ضعيف الايمان يتزلزل ايمانه بالرسالة بأقل موجب للشك والله تعالى لا يرضى من الناس بالايمان الظاهري وان كان ذلك هو مناط الاحكام الخاصة بالمسلمين الا ان الجنة لا يدخلها الا من كان يصلح لها فلا بد من غربلة الناس وتمحيصهم ليتبين المنافق من المؤمن. قال تعالى (وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ..).[34]

والمراد بالقبلة التي كنت عليها اي ملتزما بها بيت المقدس لا الكعبة كما توهم حيث ورد أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان في مكة يتوجه الى الكعبة ثم توجه الى بيت المقدس في المدينة ثم عاد الى الكعبة فيكون الحكم قد نسخ مرتين.

والظاهر انه غير صحيح وانما كان صلى الله عليه وآله وسلم يتوجه الى بيت المقدس في مكة الا انه كان لا يستدبر الكعبة فيصلي بحيث تكون بينه وبين القبلة.

وقد مرت رواية الكليني حيث روى بسند معتبر عن الحلبي عن أبي عبد الله عليه السلام قال (سألته هل كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصلي إلى بيت المقدس؟ قال: نعم، فقلت: أكان يجعل الكعبة خلف ظهره؟ فقال: أما إذا كان بمكة فلا وأما إذا هاجر إلى المدينة فنعم حتى حوّل إلى الكعبة).[35]

وهناك اختلاف ايضا في ان القبلة في الآية مفعول اول والتي كنت عليها مفعول ثان ام العكس والظاهر ان الاختلاف لا وجه له والجعل هنا جعل بسيط لا يحتاج الى مفعولين لان القبلة بنفسها من الموضوعات الشرعية التي تحتاج الى تشريع وجعل فالقبلة في الآية مفعول للجعل وقوله (التي كنت عليها) صفة لها.

ووقع البحث ايضا في توجيه قوله تعالى (لنعلم من يتبع الرسول..) لان الله تعالى لا يخفى عليه شيء فلا حاجة الى الامتحان ليعلم الله من يتبع ومن ينقلب.

فقيل فيه ان المراد علم غيره تعالى كالملائكة وانه لهذا اتى بضمير الجمع كما يتكلم العظماء عنهم مع اتباعهم بالجمع.

وقيل ان المراد تمييز الفريقين والدليل عليه قوله (ممن ينقلب) اي نميز هذا الفريق من ذاك ولو كان المراد العلم بالفريقين لاتى بحرف العطف. وقيل غير ذلك مما هو اضعف.

ويرد الجميع قوله تعالى (وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ)[36] وغيره من الموارد.

والصحيح في الجواب أن العلم بمن هو في الواقع يبقى على ايمانه في موارد الامتحان ومن لا يبقى بل يتزلزل لا اثر له في ترتب الثواب والعقاب وانما يترتب كل ما يترتب على الايمان الفعلي والنفاق الفعلي فلا بد من الامتحان حتى تبرز تلك القابليات وتترتب عليها آثارها كما أن المدرسة لا تعطي الدرجة لمن هو ذكي من التلاميذ مع العلم بانه سيكون الاول من بين التلاميذ وانما تعطيها لمن ينجح في الامتحان بالفعل.

وحيث كان كل من هذين اي متابعة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والارتداد امرين حادثين فالعلم بحدوثهما ايضا حادث وليس من العلم الازلي الذي هو عين ذاته تعالى.

وقوله (ينقلب على عقبيه) كناية عن الارتداد وقد تكرر ذكره في القران. والعقب: مؤخر القدم. والانقلاب: الانصراف والرجوع. والتعبير يشبه هذا الانسان بمن وقف على عقبيه ثم انقلب الى الوراء فيكون قد خالف المسير الاول تماما وليس مجرد انحراف الى اليمين او الشمال بل رجع راسا على عقب. وهذا هو الارتداد عن الدين وانكار كل المعتقدات الدينية.

 

وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ...

الظاهر أن الضمير في قوله (كانت) يعود الى القبلة التي كانوا عليها اي بيت المقدس وتدل الآية على أن المؤمنين كانوا يشعرون بالحرج من اتّجاههم الى قبلة اليهود ولعلهم كانوا يعيّرونهم بذلك ايضا ولذلك كان هذا الحكم شاقا عليهم. والكبيرة بمعنى الثقيلة كما قال تعالى بشأن الصلاة (وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ).[37]

ويحتمل عود الضمير الى القبلة باعتبار النسخ او الى النسخ نفسه بتاويل الردة او التحويلة ليناسب تانيث الضمير فيكون الحرج والمشقة من جهة تحويل القبلة الى غيرها فان النسخ بذاته مما لا تطمئن له النفوس ويعتبره كثير من الناس من ضعف الدين او الاتجاه فلو كان الزعيم السياسي يغير مواقفه يوما بعد يوم يعتبره اتباعه وغيرهم من الضعف وعدم الدقة في انتخاب الموقف فكيف اذا راوا ذلك في شعائر دين ينتسب الى الله تعالى عالم الغيب والشهادة.  

و(إن) مخففة من المثقلة بقرينة ورود لام القسم على الخبر. واسم (إن) ضمير الشأن ولم يصف المستثنين بانهم متقون او صالحون ونحو ذلك بل وصفهم بانهم قد هداهم الله تعالى حتى لا تعجبهم انفسهم ولينتبه الجميع ان كل ذلك من هداية الله تعالى يهدي من يشاء ويضل من يشاء وتدل الجملة مضافا الى ذلك على صعوبة الموقف وأنه لا يسلم منه احد الا من هداه الله تعالى.   

 

وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ(143)

الغالب في التفاسير تأويل الايمان في هذه الاية بالصلاة وفسروا الآية بانها في مقام تسلية المؤمنين باعتبار ان نسخ القبلة يوجب بطلان صلواتهم السابقة وعدم ترتب ثواب عليها وكذلك صلوات من ماتوا قبل هذا التغيير.

وهو في حد ذاته تاويل بعيد اذ لا وجه لتبديل الكلمة فكان من الممكن ان يقال وما كان الله ليضيع اعمالكم او يبطل اعمالكم ولكنه ورد في بعض الروايات عن طريق الفريقين.

وفي الكافي حديث طويل عن ابي عمرو الزبيري عن أبي عبد الله عليه السلام وفيه (ان الله عز وجل لما صرف نبيه صلى الله عليه وآله وسلم إلى الكعبة عن البيت المقدس فأنزل الله عز وجل "وما كان الله ليضيع إيمانكم إن الله بالناس لرؤوف رحيم" فسمى الصلاة إيمانا.. الحديث).[38] ورواه العياشي في تفسيره مرسلا باختلاف يسير. والزبيري مجهول الحال.

ويحتمل مع قطع النظر عن الرواية أن يكون المراد بهذه الجملة احد امرين:

الاول ان تكون في مقام الرد على توهم ان من شق عليه الحكم بالقبلة او نسخها انما كان ذلك بسبب عدم هدايته تعالى ومن لم يشق عليه فبسبب هدايته فالامر خارج عن اختيارهما. فهو نظير ما يتراءى من الاشكال في قوله تعالى يضل من يشاء ويهدي من يشاء. ولذلك ياتي بعده الجواب بانه تعالى لا يضل الا الفاسقين او ما يفيد هذا المعنى. وهنا ايضا ورد الجواب بان هدايته تعالى لهذا الفريق انما هي بسبب ايمانهم وما كان الله ليضيع ايمانهم والفريق الاخر لم يؤمنوا واقعا وان اظهروا الايمان فما استحقوا هداية الله تعالى.

الثاني ان تكون هذه الجملة لتطييب خاطر بعض المؤمنين ممن لا يملكون ايمانا قويا لضعف في نفوسهم او ادراكهم فهم مؤمنون واقعا وليسوا منافقين ولكنهم ضعفاء فيه فخامر نفوسهم الشك حين تغيير القبلة او الحكم بها وهذه الاية تؤيسهم من هداية الله لان القبلة كبرت عليهم فهذه الجملة تبين انه تعالى لا يضيع اجرهم على ايمانهم وان كان ضعيفا. والاول اقوى.

وتعبير الاية يدل على ان اضاعة الايمان لا يمكن ان تنسب الى الله تعالى فهذا الامر لا يناسب رحمته تعالى ورأفته بالناس. وخبر (كان) مقدر اي ما كان الله مريدا ليضيع ايمانكم واللام في قوله ليضيع متعلق بالخبر.

والجملة الاخيرة تعليل لما قبلها فالله تعالى لا يضيع ايمانكم لانه رؤوف بالناس ورحيم بهم ولم يقل (بكم رؤوف رحيم) ليدل على أن رافته ورحمته تشمل جميع عباده فتشملكم ايضا بل بطريق اولى وهو واضح فان نعمه تعالى عامة لجميع العباد.  

وهناك اختلاف في التفاسير في الفرق بين الرأفة والرحمة فقيل ان الرأفة أشد الرحمة. وهذا ورد في صحاح اللغة ايضا.

وعلى هذا ينشأ اشكال وهو أنه لا يناسب ذكر الوصف الاشد قبل الاضعف. فالانسب ان يقال رحيم رؤوف.

واجاب بعضهم بان ذلك انما اتى مراعاة للسجع في اواخر الآيات. ومما لا شك فيه ان السجع ملحوظ في القران فلا وجه للتنديد بهذا الجواب كما في المنار نقلا عن الشيخ محمد عبده الا انه مع ذلك يستبعد ذكر الاشد قبل الاضعف. مع ان التعبير قد تكرر في القرآن واكثر اللغويين لم يذكروا فرقا بينهما فالقول بأنه أشد لا دليل عليه.

وقيل ان الرحمة تصدق في ما اذا أضر الراحم بالمرحوم لمصلحته. والرأفة لا تصدق في ذلك.

وهذا صحيح حسب المتعارف من موارد الاستعمال فيصح ان يقال ان الطبيب قطع رجل المريض رحمة به لئلا ينتشر المرض ولا يقال رأفة به بل بالعكس يصح أن يقال في ما اذا لم يقطع رجله مع الحاجة الى قطعها انه انما ترك ذلك رأفة به وان لم تكن لمصلحته كما يلاحظ كثيرا في رأفة الابوين. ولكن الظاهر أن المراد بهما هنا امر واحد.

 

قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ...

كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتوجه الى بيت المقدس في مكة وكذلك في بدايات الهجرة واختلف في مقدار الزمان الذي بقي متوجها الى بيت المقدس في المدينة هل كان سبعة اشهر او ستة عشر شهرا او غيرهما ثم نسخت القبلة الى الكعبة.

روى الشيخ الطوسي قدس سره بسنده عن معاوية بن عمار عن أبي عبد الله عليه السلام قال (قلت له: متى صرف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى الكعبة؟ فقال: بعد رجوعه من بدر).[39]

ونقل في وسائل الشيعة في ذيل هذا الحديث من كتاب (ازاحة العلة) تكملة وهي (وكان يصلي في المدينة إلى بيت المقدس سبعة عشر شهرا ثم أعيد إلى الكعبة).[40]

وكان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يتشوق الى هذا التغيير لان الكعبة قبلة ابيه ابراهيم عليه السلام على ما في التفاسير وكذلك المؤمنون من حوله نظرا الى انتقاد اليهود لهم بأنهم يتبعون قبلتهم مضافا الى أنهم كانوا يرغبون في تعظيم الكعبة التي هي من مفاخر العرب ومن تراث سيدنا ابراهيم عليه السلام.

ويبدو من الآية انه صلى الله عليه وآله وسلم ما كان يطلب التغيير بصراحة تأدبا ولان الرسل لا يبدون رأيا في الحكم الشرعي وانما ينتظرون تشريع ربهم فكان يظهر رغبته بهذه الطريقة اي تقليب وجهه في السماء. والمراد بتقلّب الوجه تردّده في السماء كأنه يبحث عن شيء فيها وهو كناية عن انتظار التشريع الالهي.

وربما يقال بأنّ (قد) اذا وردت على المضارع تدل على التقليل وحاول بعضهم التأويل فقيل انه مضارع بمعنى الماضي وفي الكشاف انه بمعنى التكثير هنا كما ان (ربما) ايضا قد ياتي للتكثير.

ويبدو أن الذي استوجب هذا التاويل هو ان الفعل مسند الى الله تعالى والرؤية اذا اسندت اليه تأول بالعلم وعلمه تعالى لا يمكن فيه التقليل. ونفس هذا التاويل يذكر في موارد اخرى من الكتاب وردت (قد) على العلم كقوله تعالى (قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ..).[41]

ولكن الظاهر انها هنا لا تحتاج الى تأويل بل الرؤية بمعناها الحقيقي وان لم تكن رؤيته تعالى بالبصر. والتقليل من جهة قلة تحقق التقلب لا من جهة قلة الرؤية.

والفاء في قوله (فلنولينك) تدل على ترتب ذلك على اظهاره التشوق الى التغيير. والمعنى أننا استجبنا طلبك الذي اظهرته بتقليب الوجه فلنولينك قبلة ترضاها. واللام لام القسم وفي التقدير فوالله لنولينك.. والتولية صرف الوجه الى جهة اي نعين لك القبلة التي ترضاها لتتوجه اليها.

وتوصيف القبلة الجديدة برضاه صلى الله عليه وآله وسلم لا يعني انه لم يرض بالقبلة السابقة فهذا مستحيل عليه وهو يرضى بكل ما يحكم به الله تعالى بل هذا التوصيف بلحاظ ذات الشيء. وبعبارة اخرى المؤمن يرضى بكل ما يحكم به الله بما أنه من تشريعه تعالى وهذا لا ينافي انه لا يرضى به بذاته بل هو من غاية التذلل ان يرضى الانسان بعد التشريع بما لا يرضى به قبله.

وكذلك الفاء في قوله (فولّ) فان هذه التولية مترتبة على تلك التولية. والمراد بالوجه مقاديم الجسم لا خصوص الوجه وانما عبر عنه بالوجه لان الانسان في الحالة الطبيعية اذا قابل شيئا بجسمه قابله بوجهه. و(شطر) مفعول ثان للتولية كما تقول ولّاه دبرَه.

والشطر في الاصل بمعنى النصف على ما في كتب اللغة قالوا والمراد به هنا جهته وسمته ويمكن ان يكون الوجه في التعبير عن الجهة بالشطر بلحاظ تقسيم الافق الى اجزاء فالامر بالتوجه الى شطر المسجد الحرام اي ذلك الجزء من الافق الذي بمواجهته تقابل المسجد الحرام وعليه فيكون الشطر بمعنى الجزء لا النصف وانما يختص بالنصف اذا قيل شطره شطرين او ما يفيد هذا المعنى.

وقيل المراد بشطر المسجد الحرام جزءه وهو الكعبة فانها القبلة واقعا لا كل المسجد ولذا لا تصح الصلاة باستقبال جزء من المسجد سواء من داخله او خارجه. وقيل المراد بالمسجد الحرام الكعبة والعرب تعبر عن المكان باسم جزئه.

ولكن حيث ورد الامر بتولية الوجه الى المسجد الحرام في المدينة ثم في سائر البلاد فالظاهر انه لا حاجة الى هذه التاويلات لان المسجد الحرام بكامله يكون في مرأى الانسان من بعيد بمقدار نقطة صغيرة لا يمكن التوجه الى جزئه فالتوجه اليه هو التوجه الى الكعبة نعم من كان قريبا منها سواء في المسجد او خارجه يمكنه التوجه الى الكعبة بالخصوص.

ولا شك أن القبلة هي عين الكعبة لا المسجد الحرام وهذا من ضروريات المسلمين وورد في بعض الادعية (والكعبة قبلتي).[42] والمراد بها موضعها الى السماء فلا يجب على من كان على السطح ان يتوجه الى الارض كما ان القبلة لا تتغير بتغيير بناء الكعبة ولا بهدمها فلو فرض انهدامها باي سبب كان فان موضعها هو القبلة.

والمسجد الحرام معروف وانما وصف بالحرام لحرمة القتال فيه وحوله وحرمة امور اخرى حوله كالصيد. والمسجد اسم مكان من السجود والمراد به الصلاة تسمية للكل باسم جزئه والظاهر ان المسجد مصطلح اسلامي والعرب قبل الاسلام ما كانوا يصلون ولا يسمون المكان حول الكعبة مسجدا وانما كانوا يعبرون عن الكعبة بالبَنِيَّة على وزن هديّة والظاهر انه لم يكن حولها بناء وانما كانت هناك ساحة حولها للطواف.  

وقوله (وحيث ما كنتم..) تعميم للحكم على جميع المسلمين لئلا يتوهم اختصاص الحكم بالرسول صلى الله عليه وآله وسلم وتعميم ايضا من حيث البلاد لئلا يتوهم اختصاصه بالمدينة المنورة. و(حيثما) ظرف تفيد معنى الشرطية وقوله (فولوا) جزاؤه.

قال العلامة الطباطبائي رحمه الله (وتخصيص رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالحكم أولا بقوله فَوَلِّ وَجْهَكَ.. ثم تعميم الحكم له ولغيره من المؤمنين بقوله وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ.. يؤيّد أنّ القبلة حُوّلت، ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قائم يصلي في المسجد - والمسلمون معه - فاختصّ الأمر به أوّلا في شخص صلاته ثم عقّب الحكم العام الشامل له ولغيره ولجميع الأوقات والأماكن).  

وهذا تأويل بعيد جدا وكيف يوجّه الخطاب للمأمومين وهم في الصلاة وانما خصّ الحكم به صلى الله عليه وآله وسلم اوّلا لأنه جواب لطلبه وتقلب وجهه في السماء ثم عمّمه لجميع المسلمين وفي جميع الاقطار ولا علاقة للحكم بالصلاة الواحدة وهذه القصة ليس لها سند وانما ورد في حديث ان القصة وقعت لبني عبد الاشهل.

روى الشيخ قدس سره في التهذيب بسند فيه ضعف عن ابي بصير عن احدهما عليهما السلام وقال في ذيله (ان بني عبد الأشهل أتوهم وهم في الصلاة وقد صلوا ركعتين إلى بيت المقدس فقيل لهم إن نبيكم قد صرف إلى الكعبة فتحول النساء مكان الرجال والرجال مكان النساء وجعلوا الركعتين الباقيتين إلى الكعبة فصلوا صلاة واحدة إلى قبلتين فلذلك سمي مسجدهم مسجد القبلتين).[43]

وهناك كلام للصدوق رحمه الله اشتبه على بعضهم فظنه حديثا ورد فيه هذا الامر وهو ليس بحديث بقرينة قوله في اخره (وقد أخرجت الخبر في ذلك على وجهه في كتاب النبوة).[44]

نعم ورد ذلك في بعض كتب العامة نقلا عن الواقدي وهم ايضا يرفضون هذا الحديث ولذلك قال الالوسي (وهذا - كما قال الإمام السيوطي - تحريف للحديث، فإن قصة بني سلمة لم يكن فيها النبي صلى الله عليه وسلم إماماً ولا هو الذي تحول في الصلاة..).

 

وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144)

هذه الجملة تفضح اهل الكتاب وتبين سوء سريرتهم وتنزل من قدرهم عند عامة الناس وتأثيرهم عليهم حيث كانوا معجبين بعلمهم وكتبهم فيبين الله تعالى للمسلمين أن هؤلاء لخبث ذواتهم يخفون ما يعلمونه من الحق.

ومن الملفت التعبير عنهم في هذه الاية وتاليتها بالذين اوتوا الكتاب ولم يعبر عنهم باهل الكتاب كما هو الغالب ولعل السر فيه أن كلمة الاهل تدل على نحو اختصاص لهم بالكتاب وكأنهم يستحقونه بجدارة واما هذا التعبير فلا يدل الا على ان الكتاب نزل في مجتمعهم وهم قد ورثوه من اجدادهم فهو نظير قوله تعالى (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا..).[45]

ويتبين من هذه الجملة ان اكثر من كان يعترض على تغيير القبلة هم اهل الكتاب لا المشركون والمنافقون كما توهم والمراد بهم اليهود لكثرتهم في المنطقة واهتمامهم بمسالة القبلة لان بيت المقدس كان قبلة لهم.

والمراد بما هو الحق من ربهم تغيير القبلة الى الكعبة انما الكلام في سبب علمهم بذلك ففي غالب التفاسير أن الوارد في كتبهم هو أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يصلي الى القبلتين.

ولكن لا يوجد في العهد القديم الذي بايدينا ما يدل على ذلك وان كان من المحتمل وجوده سابقا في كتبهم وانهم حذفوه او غيروا شيئا منه كما أن ظاهر قوله تعالى (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ..)[46] أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم مذكور في الكتابين بوضوح وليس كذلك في المطبوع منهما حاليا.

وهذا يدل على استمرار التحريف والتبديل في كتبهم من عصر الرسالة الى يومنا هذا وكذلك قوله تعالى (وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ..)[47] يدل على ذكر هذا الاسم في الانجيل وهم قد غيّروا اللفظ.

ويحتمل أن يكون المراد علمهم بأن هذا الرسول هو الرسول الذي وردت به البشارات لما كانوا يجدون فيه من العلامات ولكنهم اخفوا ذلك حقدا وحسدا ولذلك كانوا يعلمون أن ما جاء به هو الحق من ربهم ومنه تغيير القبلة.

والجملة الاخيرة تتضمن تهديدا واضحا لهم وتسكينا لقلوب المؤمنين فالله تعالى لا يخفى عليه شيء وسوف يحاسبهم ويعاقبهم على اخفاء الحق.

 

وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ...

اللام في (لئن) لام القسم يؤتى بها للتاكيد وكأن هنا قسما مقدرا. والمراد بالذين اوتوا الكتاب اليهود والنصارى معا بقرينة انه نفى متابعة بعضهم لقبلة بعض. وقد مرّ أن التعبير بأنهم اوتوا الكتاب تعريض بهم وبأنهم ليسوا من أهله. والمراد بالآية الحجة والدليل على إثبات أن اتخاذ الكعبة قبلة حق. وقوله (بكل آية) اي بكل ما يمكن ان يكون دليلا على ذلك.  

فالمعنى أنك لو أتيتهم بأي دليل يثبت أن الكعبة المعظمة اولى بأن تكون قبلة للتوجه الى الله تعالى فانهم يرفضونه ولا يتبعون قبلتك. والسر في ذلك هو أن القبلة من شعائر الدين فهم يتعصبون لها كما أنك ايضا لن تتبع قبلتهم وهم ايضا لا يتبع بعضهم قبلة بعض.

وقد مر الكلام في قبلة اليهود وأن بيت المقدس لا يمكن ان يكون قبلة شريعة موسى عليه السلام لانه بني بعده بقرون وبناه سيدنا سليمان عليه السلام ونقل في بعض المواقع عن كتاب سعيد الفيومي وهو حاخام مصري قوله في كتابه (وأي راكب بحر أو نهر أو سفينة أو مركب ليس يعرف القبلة فليقصد ربه ويصلّي أمام وجهه أينما كان فإن عرف بيت المقدس منه فليستقبله من جميع آفاق العالم..).[48]

واما النصارى فالمعروف ان قبلتهم المشرق ولكن الظاهر انهم لا يلتزمون بها دائما وورد في بعض المواقع جواب عن السؤال عن القبلة هذه العبارة (نحن لا نصلي لقبلة نحن نصلي للمسيح الذي يسمع ويستجيب كل صلاة في أي وقت وأي مكان والى أي اتجاه "متى الأصحاح 18 العدد 20" لأَنَّهُ حَيْثُمَا اجْتَمَعَ اثْنَانِ أَوْ ثَلاَثَةٌ بِاسْمِي فَهُنَاكَ أَكُونُ فِي وَسَطِهِمْ» - وفيه ايضا - ولكن تقليدياً نحن نصلي تجاه الشرق وكنائسنا التقليدية القديمة تتجه للشرق وهذا لعدة أسباب أولها أن السيد المسيح هو شمس البر. والشمس تشرق من جهة الشرق وهو لا يغيب أبداً بل دائماً معنا وبوجوده يحينا وثانيها أن السيد المسيح عندما صعد بجسده صعد تجاه الشرق وعند عودته ليدين الأحياء والأموات سيعود للأرض بمجده من جهة الشرق وهذا أيضاً يجعلنا نتجه لهذا الاتجاه راجين عودته ليأخذنا معه وليكون بركة).[49]

ويمكن أن يكون الغرض من هذه الآية التأكيد على الالتزام بالقبلة وعدم الاهتمام بما يبثّه الاعداء من الحثّ على الرجوع الى القبلة السابقة اي بيت المقدس.

ولعل في صفوف المسلمين من كان ينتابه الشك في التعصب لهذه القبلة ويتوهم ان في البقاء على القبلة السابقة ترغيب لليهود في الدين الجديد ولا اقل من جلب مودتهم وكان في بعض اهل المدينة علاقات وثيقة بهم وكان بعضهم حلفاء لهم في الجاهلية فلا يبعد بقاء بعض الرواسب الاجتماعية التي تدعو الى التقارب اليهم فأراد الله تعالى بهذه الآية التنبيه على أن القبلة من شعائر الدين وأن من اللازم الاهتمام بها وحفظ كيانها.

ولذلك ابتدأ بهم وبيّن تعصبهم لقبلتهم بحيث لو ثبت لهم بالآيات الواضحة أن الكعبة المعظمة اولى بأن تكون قبلة لجميع الاديان فهي اول بيت وضع للناس وهي مما بناه او جدد بناءه الرسول العظيم ابراهيم عليه السلام والذي يعتز بالانتساب اليه جميع اتباع الاديان السماوية مع ذلك لا يمكن أن يترك اهل الكتاب قبلتهم ويتبعون هذه القبلة كما أنك ايضا لن تعود وتتبع قبلتهم ولا ينبغي لك ان تعود وكما أنهم ايضا لا يتبعون قبلة غيرهم من اهل الكتاب وهذا يدل على كون القبلة من أهم الشعائر الدينية فلا ينبغي التساهل والتسامح بشأنها.

 

وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (145)

وهنا ايضا تأكيد وقسم مقدر في ابتداء الجملة ثم تأكيد بتصدير الجواب بحرف (إنّ) التي هي للتأكيد ايضا ثم الاتيان بلام القسم مرة اخرى على خبر إنّ مع التعبير القاسي بأن الرسول المعصوم صلى الله عليه وآله وسلم سيكون من الظالمين اذا تهاون في الامر.

والظلم كما قلنا مرارا لا يتوقف على وجود مظلوم بل كل شيء لا يوضع في موضعه الصحيح فهو ظلم والتعبير بأنه صلى الله عليه وآله وسلم يكون من الظالمين أقسى من أن يقال تكون ظالما او يكون هذا ظلما لانه بذلك يدخل في سلك الظالمين لا كمن يظلم مرة واحدة.    

وهذه الجملة تبين أن تعصبهم لقبلتهم بل لدينهم ليس من تتبع الحق ومتابعته وانما يتبعون في ذلك أهواءهم فهم يعلمون بما وصل اليهم من العلم وبما يرون من المعجزات والآيات ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو الرسول المنتظر الذي بشرت به الرسل كما أنهم يعلمون بأن الكعبة المعظمة أولى بأن تكون قبلة للتوجه الى الله تعالى ولكنهم يتبعون أهواءهم ولا يتبعون الحق مهما كان واضحا.

وفيه تحذير للرسول صلى الله عليه وآله وسلم من ان يتأثر بأقوالهم او بأقوال من يميلون اليهم وهو أجلّ من أن يؤثر فيه شيء من هذه الاقاويل الا أن الغرض من هذا التحذير بيان أهمية الموضوع وأنه غير قابل للمهادنة والمساومة ليقطع الاعداء أطماعهم وليعلم المؤمنون أنه لا ينبغي لهم التوسط في ذلك وليكون للرسول صلى الله عليه وآله وسلم حجة عليهم اذا طلبوا شيئا من المهادنة مع القوم. ومثل ذلك كل ما ورد في القرآن من هذا القبيل.

ويبدو من الآية والتعبير القاسي فيها أنه كانت هناك محاولات من بعض المسلمين للمهادنة كما نجده دائما وفي كل الاعصار والله تعالى في جميع هذه الموارد يحذّر النبي صلى الله عليه وآله وسلم من متابعة المشركين والمنافقين. وهو بعيد عن ذلك غاية البعد الا ان هذا التشديد يعطيه الحجة في دفعهم.

ومثل ذلك ذكرناه في بداية تفسير سورة الاحزاب حيث قال تعالى (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللّه وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ..)[50] وقلنا في تفسيره أنّ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وإن رفض الانصياع لهم الّا أنّه كان هناك حوله من لا يعجبه ذلك ويرى أنّ السياسة تقتضي أن يهادنهم ويتنازل - نوعا مّا - لمقترحاتهم حتى يهدأ الوضع الإجتماعي. فكان رفض الرسول لمقترحهم بحاجة الى دعم من اللّه تعالى ليكون حجّة وعذرا له أمامهم.

 

الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146)

الظاهر أن الضمير في (يعرفونه) يعود الى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ولكنه كان مخاطبا هناك فالتفت من الخطاب الى الغيبة للاهتمام بشأنه صلى الله عليه وآله وسلم كما أنك اذا كنت تخاطب شخصا معظما وفي الاثناء اردت ان تبين للحاضرين عظمته وفضله فانك تخاطبهم وتتكلم عنه بضمير الغائب مع كونه حاضرا.

والمراد التأكيد على فجورهم حيث لا يعترفون برسالته مع أنهم يعرفونه معرفة تامة كما يعرفون ابناءهم. و(ما) في قوله (كما يعرفون) مصدرية اي يعرفونه معرفة.. و(معرفة) مفعول مطلق اي يعرفونه كمعرفتهم ابناءهم. والتشبيه من جهة قوة المعرفة ووضوحها فان الانسان يعرف ابنه اكثر من اي شخص اخر.  

وقيل ان الضمير في (يعرفونه) يعود الى الكتاب. وهذا غير صحيح اذ لا عناية هنا بتعريفهم أنهم يعرفون كتابهم حق المعرفة فهذا تمجيد لهم في غير موضعه مع أنه لا يناسب تشبيه معرفته بمعرفة الابناء. ومثله القول بأنه يعود الى حكم تغيير القبلة.

ولعل تغيير التعبير من (اوتوا الكتاب) في الايتين السابقتين الى (آتيناهم الكتاب) للاشارة الى ان المراد بهم علماء اهل الكتاب حيث كان الكتاب بايديهم مع أن مفاد اللفظ واحد الا أن في هذا التعبير عناية خاصة واما عامتهم فلا يعرفون الرسول صلى الله عليه وآله وسلم الا بمقدار ما يقوله علماؤهم وهم كانوا يخفون فضائله.

والفريق فعيل من الفَرْق وهو الفصل بين شيئين او اكثر ويطلق على كل مجموعة متميزة من الناس وليس له مفرد كالطائفة والحزب. ومثله الفِرق بكسر الفاء وفي العين ان الجماعة في الفريق اكثر من الفِرق.

وقوله (وهم يعلمون) جملة حالية اي يكتمون الحق وهم يعلمون أنه الحق او وهم يعلمون ما في هذا الكتمان من الظلم وما يترتب عليه من العقاب.

والفريق الذين كانوا يكتمون الحق وهم يعلمون هم أكثر علمائهم بل نادر جدا من آمن منهم ولعل قليلا منهم اعترف ببعض ما ورد بشأنه صلى الله عليه وآله وسلم في كتبهم ثم رجع عنه او انكر ما قال. ولكن التعبير القرآني لا يبخس حق أحد فلا يعبر عنهم بلفظ عام.

 

الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (147)

اي هذا هو الحق الذي نزل اليك من ربك. والحق هو الامر الثابت. والممتري الشاك. وهو اسم فاعل من الامتراء والمرية الشك والاصل فيه المراء وهو الجدال.

والخطاب قد يكون لكل قارئ وسامع والمعنى واضح حينئذ اما لو كان الخطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم كما هو ظاهره فربما يستبعد لانه رسول معصوم لا يمكن أن يشك فيما نزل اليه من ربه خصوصا بملاحظة أن النهي ورد مع التأكيد بالنون المشددة فلا بد من توجيهه بأن المراد تحذير الامة من الشك فيما نزل من عند الله تعالى بتوجيه هذا الخطاب الشديد للنبي المعصوم صلى الله عليه وآله وسلم كما هو الحال في سائر الموارد المشابهة.

 


[1] التحرير والتنوير ج 2 ص 6

[2] البقرة : 125

[3] البقرة : 143

[4] يونس : 87

[5] الزخرف : 43

[6] العهد القديم اخبار الايام الثاني الاصحاح السادس

[7] الكافي ج 3 ص 286 وقت الصلاة في يوم الغيم والريح ومن صلى لغير القبلة

[8] الفتح : 27

[9] الكافي ج3 ص 21 باب المقدار الذي يجزي في الوضوء

[10] البقرة : 115

[11] الحج : 34

[12] الشورى : 3

[13] صحيح البخاري ج 4 ص 134 باب قوله تعالى انا ارسلنا نوحا ورواه ايضا في باب وجعلناكم امة وسطا

[14] النساء : 41

[15] النحل : 89

[16] النساء : 159

[17] فصلت : 20

[18] الزلزلة : 1 - 4

[19] ق : 21

[20] الانعام : 130

[21] الاعراف : 37

[22] الشورى : 13

[23] الكافي ج1 ص 191 باب ان الائمة شهداء الله على خلقه

[24] الفتح : 8

[25] التوبة : 105

[26] راجع الكافي ج1 ص219 باب عرض الاعمال على النبي صلى الله عليه وآله وسلّم

[27] ح 3 من الباب المذكور

[28] الاسراء : 71

[29] المائدة : 20

[30] ال عمران : 110

[31] ال عمران : 104

[32] الحج : 78

[33] البقرة : 128

[34] سبأ : 21

[35] الكافي ج 3 ص 286 وقت الصلاة في يوم الغيم والريح ومن صلى لغير القبلة

[36] العنكبوت : 3

[37] البقرة : 45

[38] الكافي ج 2 ص 37 باب ان الايمان مبثوث لجوارح البدن

[39] تهذيب الاحكام ج 2 ص 43 باب القبلة

[40] وسائل الشيعة ج 4 ص 298 باب ان القبلة هي الكعبة

[41] الانعام : 33

[42] تهذيب الاحكام ج 3 ص 286 باب صلاة العيدين

[43] تهذيب الاحكام ج 2 ص 44 باب القبلة

[44] من لا يحضره الفقيه ج 1 ص 275

[45] الجمعة : 5

[46] الاعراف : 157

[47] الصف : 6

[48] ويكيبيديا الصلاة في اليهودية

[49] منتديات الكنيسة

[50] الاحزاب : 1