وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (148)
الوجهة على ما في معجم المقاييس كل موضع استقبلته فالمراد بها هنا القبلة. والضمير المنفصل يعود الى الله تعالى اي ولكل فرقة ودين قبلة يعينها الله تعالى ويولّيهم اليها فالضمير المتصل في قوله (موليها) هو المفعول الثاني للتولية. والمفعول الاول هم اصحاب كل دين فهو يوليهم تلك الوجهة. والتولية تشريعية كما كانت في قوله تعالى (فلنولينك قبلة ترضاها) وليس المراد أنه تعالى يولي احدا الى جهة قسرا وقهرا كما هو واضح.
والغرض من هذه الجملة أن اختلاف الاديان والشرايع في القبلة كاختلافهم في سائر الاحكام ليس الا اختلافا اعتباريا حسب مصالح كل فرقة وكما يراه الله تعالى اصلح لحالهم وليس اختلافا في امر جوهري مهم فلا ينبغي الاهتمام به اكثر من ذلك.
ويلاحظ انه تعالى في الايات السابقة أكد على الاهتمام بشأن القبلة واعتباره شعارا للدين فالغرض هنا ليس نفي هذا الامر ليكون تناقضا بل الغرض الاشارة الى ان الامر يتبع الاعتبار الشرعي وليس حقيقة خارجية فلو كان الله تعالى يعتبر بيت المقدس قبلة المسلمين كان الواجب متابعته ولكنه راى الاصلح تغييرها الى الكعبة.
وبذلك يردّ على اقاويل اليهود وغيرهم بأن الله تعالى كيف يغير الاحكام؟! ويردّ على المؤمنين الذين يتوهمون أنهم تضرروا قبل التغيير او بعده او ان الذين ماتوا قبل التغيير لم ينالوا ثواب هذه القبلة فقد لحقهم الضرر بذلك.
فهذه الآية تشبه في مضمونها قوله تعالى (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ)[1] وكذلك قوله تعالى (قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)[2] واوضح منهما قوله تعالى (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ..).[3]
ولذلك عقّب هذه الجملة بقوله (فاستبقوا الخيرات). والاستباق: التسابق اي ليحاول كل احد ان يكون سبّاقا الى فعل الخير. والخيرات منصوب بنزع الخافض اي تسابقوا الى الخيرات. وهي جمع خَيرة. والخير كل ما يرغب فيه الانسان بطبيعته والمراد هنا - بقرينة السياق - العمل الصالح الذي ينتهي بالانسان الى رضوان الله تعالى.
وقيل المراد نفس التوجه الى القبلة اي تسابقوا في هذا التوجه فهو من اعمال الخير. ولكنه بعيد اذ لا وجه للتعبير بالخيرات وهو جمع.
ثم عقّبه ايضا بالاشارة الى يوم القيامة حيث يجتمع البشر على اختلاف اجيالهم واديانهم ومسالكهم في الحياة فينال كل انسان نتيجة عمله. وقوله (اينما تكونوا يأت بكم الله جميعا) لبيان أن نتيجة المسابقة تتبين ذلك اليوم فالله تعالى يجمع البشر من الاولين والاخرين ومن مختلف الاديان والمذاهب والمسالك فيتبين الاسبق فالاسبق منهم الى الخيرات.
وهذا التعقيب يدل على أن الامر باستباق الخيرات متوجه الى جميع البشر لا خصوص المسلمين كما يقال وذلك لان نتيجة هذه المسابقة المترتبة على توجيه كل فرقة الى قبلتها تتبين يوم القيامة فالمراد ان اختلاف القبلة لا ينبغي ان يوقف تسابقكم الى الخيرات لانه هو مناط السعادة وتحصيل رضا الله يوم القيامة فيظهر ان الامر بالاستباق متوجه الى الجميع الا أن أهم ما يجب ان يتسابقوا فيه من الخير هو الايمان بالله وبرسله وكتبه وشرايعه.
ومثل هذه الآية في توجيه الخطاب الى المسلمين واهل الكتاب والامر باستباق الخيرات قوله تعالى (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ).[4]
وهذا الجمع المشار اليه بقوله (يأت بكم الله جميعا) مما ورد في موارد عديدة من الكتاب العزيز كقوله (قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ..)[5] وقوله (الى يوم القيامة) يدل على الجمع باختلاف الازمان كما انه هنا باختلاف الامكنة.
ومثله قوله تعالى (هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ)[6] وفي هذه الآية جمع بين الفصل والجمع فهو يجمع الاولين والاخرين ويفصل بينهم حسب مراتبهم في هذا السباق.
وكقوله تعالى (يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ)[7] وفي هذه الاية اشارة الى ما ورد هنا من التسابق فالظاهر أن التغابن باعتبار ان الانسان يظهر له في ذلك الجمع انه خاسر ومغبون. الى غير ذلك من الآيات وهي كثيرة.
وبما ذكرنا يظهر ضعف ما ذكره المفسرون في تأويل هذه الآية والسر في التنبيه على كونهم في اماكن مختلفة.
وحيث كان هذا الجمع غريبا جدا حيث يجتمع فيه هذا الحشد العظيم من البشر الذين وجدوا على هذا الكوكب طيلة القرون المتمادية ويتبين نتيجة سباقهم للجميع ايضا وهذا مما لا يمكن لنا تصوره عقّب ذلك بقوله (ان الله على كل شيء قدير). وقد مر تفسير هذه الجملة في تفسير الاية 20 من هذه السورة.
ومما يستفاد من هذه الآية انه ينبغي الاسراع في الخير قبل ان يسبقك اليه الاخرون فهذا هو ميدان السباق الالهي وقد دلت آيات عديدة على أن السبق له مزيته فقد امر به تعالى في عدة موارد :
منها قوله تعالى (سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ..).[8] ومثله قوله تعالى (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ).[9] ويظهر من الايتين ان الاسراع بنفسه غير كاف بل المطلوب التسابق ومحاولة السبق على الاقران في مقابلة تسابق اهل الدنيا في جمع المال والتلذذ بالشهوات.
ومنها قوله تعالى (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ).[10]
ومنها قوله تعالى (أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ)[11] وهذا يذكره تعالى بعد ذكر عدة صفات خاصة بالمؤمنين المخلصين ويصفهم في هذه الاية انهم يسارعون ويحاولون الوصول الى الخير بسرعة وهم بذلك يسبقون غيرهم. وغيرها من الايات.
وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (149)
(حيث) اسم مكان مبهم ومعناه اي موضع وعليه فمعنى الجملة (ومن اي موضع خرجت فول وجهك..) والمراد الخروج من وطنك او محل اقامتك الى سفر في البر او البحر ولعل اختيار هذا التعبير لدفع توهم ان الامر يختص بالسفر من المدينة.
والظاهر أن الغرض منه التأكيد على عدم تغيير القبلة وعدم المسامحة فيها في السفر فانه محل توهم أن يقال يجوز التسامح فيها فيتوجه اينما شاء في البر او البحر كما وجب الافطار فيه وقصر الصلاة فأراد الله تعالى بهذه الجملة وبتكرارها اعلام انه لا يتسامح في القبلة حتى في السفر فلا بد من البحث عنها اينما كنت.
وهذا الامر يدل على شدة اهتمام الشرع بالقبلة باعتبار انها شعار الدين ولعل السر في ذلك محاولة اليهود التشكيك فيها وبث الشكوك في صفوف المسلمين وفيهم سماعون لهم من المنافقين والذين في قلوبهم مرض.
ولذلك تأكد هذا الحكم وتكرر في عدة آيات وتكرر الامر بتولية الوجه شطر المسجد الحرام خمس مرات بفاصل قليل اُمر فيها الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ثلاث مرات وسائر المسلمين مرتين.
وحيث إنّ قوله تعالى (فلنولينك قبلة ترضاها) يوهم أن الحكم تغيّر لإرضاء الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أكد بقوله (وإنه للحق من ربك) أن الحكم من الله تعالى وليس من اجل إرضائك وأكّد الامر باستخدام (إنّ) ولام القسم فهو حكم ثابت من الله تعالى لا يتغير. ولعل هذا التعبير يدل ايضا على أنه مما لا ينسخ.
والجملة الاخيرة تحذير شديد (وما الله بغافل عمّا تعملون) ولعله يدلّ على أنه كان هناك بعض أتباع الاهواء يحاولون الاستخفاف بالحكم ويظهرون أنه مؤقت كما كانت القبلة السابقة مؤقتة. ولعل بعضهم كان يتوهم أن الانسان مخير بين القبلتين وكل ذلك إرضاءا لحلفائهم اليهود او متابعة لنفاقهم وكفرهم.
وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ...
الجملة الاولى تكرار لما مر للتأكيد على الحكم ولكي يتبعه بالحكم العام. والجملة الثانية تعمم الحكم على المسلمين جميعا ومن جهة اخرى تعممه من حيث الاماكن برا وبحرا وجوا وفي البلدان العامرة في جميع بقاع الارض او غيرها من الكواكب في اي مكان من الكون يجب التوجه الى الكعبة المعظمة للصلاة ولامور اخرى والحكم مجمل من هذه الجهة.
لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (150)
ثلاثة اسباب لهذا التغيير:
الاول أن لا يكون للناس عليكم حجة. واللام في قوله (لئلا) متعلقة بما يفيده الامر بقوله (فولوا) وهو تغيير القبلة تشريعا الى الكعبة المعظمة اي ان هذا التعيين من الله تعالى من اجل ان لا يكون للناس عليكم حجة سواء عمل به المسلمون ام لم يعملوا وليس متعلقا بنفس التولية اي فعل المكلفين كما ربما يتوهم بل عدم الحجة للناس عليهم بسبب تشريع الحكم اذ لو كانوا يولون وجوههم الى الكعبة من دون امر الهي لبقيت الحجة عليهم.
هذا مضافا الى ان عطف اتمام النعمة والهداية يقتضي ذلك اذ يترتبان على امره تعالى وتشريعه لا على عملهم وسيأتي تتمة للكلام ان شاء الله تعالى.
والمراد بالناس غير المؤمنين فيشمل اليهود والنصارى والمشركين والمنافقين والظاهر أنهم كانوا يحتجون على ضعف هذا الدين باستقبالهم لبيت المقدس وكأنهم يعتبرون ذلك نوعا من التبعية لدين اليهود. وبعد تغيير القبلة الى الكعبة المعظمة لم تبق لهم حجة.
والمعروف بين المفسرين أن حجتهم كانت مبتنية على ما وجدوه في كتبهم أن هذا النبي يصلي الى الكعبة فلما وجدوا الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يصلي الى قبلتهم اعتبروا ذلك دليلا على أنه ليس هو النبي المبشر به فبهذا التغيير انتزعت هذه الحجة من ايديهم.
وقد مر في تفسير قوله تعالى (وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ) أن ما ذكره المفسرون من اشتمال كتبهم على هذا الامر غير ثابت اذ لا يوجد في العهد القديم الذي بايدينا وان كان ذلك لا يدل على الانتفاء في الكتاب الموجود في ذلك العهد لاحتمال التحريف ولكن لا دليل على ذلك ودعوى المفسرين لا تستند الى دليل.
واما استثناء الذين ظلموا فلا يبعد ان يكون منقطعا ومعناه انه لا يحتج احد منهم عليكم الا من اراد الظلم لانه يعلم أن كلامه باطل فان بعض الناس لا ينفع معهم اي دليل وحجة حتى انهم يخالفون ما يرونه باعينهم كما نشاهده من جميع الفرق الضالة.
ولعل الظالمين منهم كانوا يكررون الاقوال السابقة كالقول بان هذا الرسول لا يثبت على شيء او ان الله تعالى لا يمكن ان يغير حكما او انه اذا كانت المصلحة في القبلة السابقة فلا وجه للتغيير وان كانت في هذه فقد فاتتكم طيلة هذه المدة او انه رجع الى قبلة آبائه فسيرجع الى دينهم ايضا او ان اعتبار الكعبة قبلة يبتني على الميول العنصرية والقبلية وامثال ذلك.
ويحتمل أن يكون الاستثناء متصلا اذا قلنا بأن الحجة لا تختص بما يبتني على أساس منطقي صحيح بل كل ما يحتج به فهو حجة وان كان باطلا كما في قوله تعالى (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ..)[12] او يراد بالحجة ما يعم الاحتجاج بالباطل مجازا.
ويترتب على كون احتجاج من يعترض على القبلة باطلا وكونه ظالما عدم الاهتمام بهم فلا ينبغي ان يخاف منهم المؤمنون ولذلك قال تعالى (فلا تخشوهم واخشون) لانهم لضعف كلامهم وحجتهم لا يشكلون خطرا على المجتمع الاسلامي. والخشية هي الخوف.
قال الآلوسي في ذيل تفسير الاية (واستدل بعض أهل السنة بالآية على حرمة التقية التي يقول بها الإمامية).
ويلاحظ على ما قيل أن النهي عن خشية غير الله تعالى ورد في عدة آيات ومع ذلك فالتقية مما اجازه الله تعالى بصراحة كما قال (لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ)[13] فهذه الآية تجيز بصراحة ان يتخذ المؤمن كافرا وليا وصديقا اذا كان يتقي من شره ومع ذلك فهو يعقبه بالتحذير من نفسه بمعنى انه يعلم ما في نفوسكم ويعلم صحة اعتذاركم.
ومن هنا يتبين أن النهي عن خشية غيره تعالى ليس بمعنى أن الانسان لا يتهيأ لمقابلة العدو ولا يحمل السلاح ويقول ما يقول ويظهر ما في قلبه ويتوكل على الله تعالى كما ان بعض الجهلة يزعمون ان التوكل على الله تعالى يكفي حتى في مواجهة الامراض والاوبئة فلا حاجة الى الوقاية واجتناب ما يوجب العدوى فهذا كله باطل.
انما المراد بقوله تعالى فلا تخشوهم واخشون ان لا تخشوهم في مقابل خشية الله تعالى فاذا استلزم الخوف من الناس ان ترتكب امرا يحرمه الله حتى في هذا الحال فلا تخش الناس بل اترك الحرام خشية من الله ولذلك كان النهي عن خشية الناس دائما مع الامر بخشية الله تعالى.
واما اذا كان الخوف من الناس او من اي شيء اخر لا ينافي خشية الله بل ربما يكون موافقا للخشية منه كما في موارد التقية فليس منهيا عنه بل ربما يكون مامورا به فالخشية من الله تعالى تقتضي ان لا يرتكب ما يوجب الضرر عليه او على غيره من المؤمنين.
السبب الثاني لهذا التغيير اتمام النعمة على المسلمين كما قال تعالى (ولاتم نعمتي عليكم) والجملة معطوفة على قوله (لئلا يكون..) والمعنى ان هذا التغيير للقبلة من اجل ان لا يكون للناس عليكم حجة ومن اجل ان اتم نعمتي عليكم فلا حاجة الى ما ذكره الزمخشري من التقدير حيث قال (ومتعلق اللام محذوف، معناه: ولإتمامي النعمة عليكم وإرادتي اهتداءكم أمرتكم بذلك أو يعطف على علة مقدّرة، كأنه قيل: واخشوني لأوفقكم ولأتمّ نعمتي عليكم).
وليس المراد بإتمام النعمة أن هذا الحكم يستتبع نعمة اخرى بل هو بذاته نعمة من الله تعالى كسائر احكامه فكل حكم يشرعه الله نعمة للبشرية فالمعنى أنه تعالى شرّع هذا الحكم ليتم به النعمة عليكم.
ولذلك ورد ايضا بعد بيان حكم التيمم قوله تعالى (مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ)[14] وكذلك في النعم المادية قال تعالى (وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ).[15]
والوجه في اتمام النعمة بتغيير القبلة واضح فان الكعبة المعظمة اول بيت وضع للناس وقد بناه النبيان العظيمان ابراهيم واسماعيل عليهما السلام فهي اولى بأن تكون قبلة وانما امر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بان يصلي باتجاه بيت المقدس قبل ذلك لمصلحة خاصة وهي تبين حال الناس وتمييز من يتبع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ممن ينقلب على عقبيه كما ورد في الاية الكريمة.
والسبب الثالث ايجاد ارضية الهداية للمسلمين الى الصراط المستقيم وكما قلنا في محله ففي كل مجال صراط مستقيم وسبل خاطئة والصراط المستقيم هو ما يعينه الله تعالى. واهتداء الناس انما يتم باطاعتهم لاوامره فكل حكم من الله مجال لامتحان الانسان انه يطيع فيهتدي او يعصي فيضل الطريق.
والتعبير بقوله (لعلكم) كما قلنا سابقا يفيد ايجاد الارضية الصالحة للهداية. فهذه المصلحة ايضا تترتب على نفس انشاء الحكم لا على العمل به ولذلك يتم اعتبار الاهتداء ايضا من الحِكَم المترتبة على نفس التشريع.
كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151)
تشبيه لنعمة الرسالة وهي اعظم نعمة من الله تعالى على البشر باتمام النعمة في تغيير القبلة وفي هذا التشبيه تعظيم للقبلة لا يوجد له مثيل في القران حيث شبه نعمة القبلة بنعمة الرسالة. وانما أتى بذكر الرسول نكرة لانه يريد ان يصفه بالصفات التالية فالتنكير بذاته لا يشير الى خصوصية كما يقال انه للتعظيم.
ثم بيّن تفاصيل هذه النعمة وفي كل ذلك تعظيم للقبلة وقد وردت هذه التفاصيل في دعاء ابراهيم عليه السلام كما قال تعالى (رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)[16] وقد مر تفسير الآية.
وقد منّ الله تعالى على المؤمنين بهذه النعمة العظيمة في قوله (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ)[17] وفي قوله تعالى (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ)[18] وايضا في قوله (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ)[19] وغيرها من الايات.
ويبدو من كل هذا التاكيد في شأن القبلة والاهتمام بها بل والتحذير من التهاون في شانها - كما في قوله تعالى قبل آيتين (وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) - أن بعض المنافقين كانوا يحاولون التشكيك في امر القبلة او يستخفّون بها.
وهذا غريب جدا فان تغيير القبلة الى الكعبة كان مجدا للعرب وفخرا ولكن الامر كان شاقّا على اليهود فلعلهم كانوا يحاولون عن طريق حلفائهم من المنافقين بثّ ما يوجب الاستهانة بالامر.
وفي بيان هذه النعمة اشار أوّلا مخاطبا المسلمين في ذلك العصر المجيد بأنّ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بُعث فيكم فلم يأتكم من خارج مجتمعكم ولم يكن غريبا عنكم.
وثانيا انه منكم اي من نفس القوم واللغة فهو عربي مثلكم ويتكلم بلغتكم وتعرفون اصله وقومه ونسبه الشريف وسوابقه الاجتماعية وادبه ورفعة مكانه.
وثالثا يتلو عليكم آيات الله تعالى طيلة عمره الرسالي الشريف. والاتيان بفعل المضارع للدلالة على الاستمرار. والمراد بالآيات القرآن الكريم.
والآية: العلامة. وهناك اختلاف في كتب اللغة في معناها فالغالب فسرها بالعلامة وعن الاصمعي: آية الرجل شخصه. وعن الخليل خرج القوم بآيتهم اي بجماعتهم. وقيل إن إطلاق الآية على آيات القرآن باعتبار أنها مجموعة كلمات.
وفي المفردات أن الآية تطلق على كل جملة من القرآن دالة على حكم سورة كانت او فصولا او فصلا من سورة وقد يقال لكل كلام منه منفصل بفصل لفظي آية. واختلفوا ايضا في اصلها وانه أيي او أوي.
ورابعا يزكيكم ويطهركم من الشرك والكفر والرذائل والعادات السيئة والمعاصي والقبائح الخلقية. والتزكية بمعنيين: التطهير والتنمية. فهو ايضا ينمّي باستمرار نفوسكم ويربيها تربية صالحة فكان ان جعل من هذا القوم الذي يقتل بعضهم بعضا رجالا اقوياء تمكنوا من السيطرة على جبابرة الارض وارغام انوفهم.
وخامسا يعلمكم الكتاب والحكمة وقد مر سابقا ان المراد بالكتاب القران الكريم. والفرق بين التلاوة والتعليم ان التلاوة هي قراءة النص القراني على مسامعهم ليحفظوه ويتداولوه واما التعليم فهو بيان معانيه وحقائقه.
والحكمة بمعنى الاخلاق والفضائل الانسانية وما ينبغي ان يفعله الانسان وما لا يفعله ليبلغ ذروة الكمال البشري وينال رضوان الله تعالى ويحظى بالقرب لديه. والاصل في الحكمة المنع ويطلق على الاخلاق الرفيعة لانها تمنع من السفاهات وقد عبر الله تعالى عنها بالحكمة في قوله (ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ..)[20] وذلك بعد ذكر مجموعة من الاوامر والنواهي ابتدأها بالمنع عن الشرك في الآية 22 من سورة الاسراء.
ولعل المراد بالحكمة هنا ليس بيان نفس الاعمال والاخلاق فليس الرسول صلى الله عليه وآله وسلم معلم اخلاق يبين لكم ما ينبغي ان تفعلوه او تتركوه فحسب بل يعلمكم الحكمة عمليا بسجاياه واخلاقه الكريمة وتعامله مع الناس على اختلاف مراتبهم الاجتماعية ويربيكم بحيث تتحول نفوسكم من السفاهة الى الحكمة. وهكذا كان صلى الله عليه وآله وسلم.
واخيرا يعلمكم ما لم تكونوا تعلمون ولم يقل (ما لم تعلموا) ليفيد ان ما علمكم كان مما لا يمكنكم تعلمه والوصول اليه.
ومن هنا يتبين ان المراد ليس هو التقدم في الحضارة البشرية وما يحتاجه الانسان في دنياه من الطب والعلوم المادية وان كان الرسل يعلّمون الناس شيئا من ذلك ايضا الا ان هذا خارج عن اطار الرسالة وانما الاهتمام في التعليم الرسالي بما لا يمكن للبشر الوصول اليه ومعرفته الا عن طريق الوحي وهو ما يرتبط بالغيب ومعرفة الله تعالى وصفاته واحكامه الشرعية وما يرتبط بالحياة الاخرة وشؤونها.
فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ (152)
الفاء لتفريع هذا الامر على بيان النعم الالهية التي سبق ذكرها والتي ينعم بها المسلمون على يد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم مضافا الى تغيير القبلة الى الكعبة المعظمة وهو امنية المسلمين فالله تعالى بعد بيان النعم يأمرهم ان يذكروه بانعمه ويشكروه ليزيدهم لطفا وانعاما.
والذكر استحضار الانسان ما نسيه وذهب عن باله وهو ذكر بالقلب. ويطلق ايضا على الذكر باللسان. والامر بذكر الله يشملهما فالواجب على المؤمن ان يكون دائما مستذكرا لربه وخصوصا في حالة كونه في معرض معصية او ترك طاعة.
والمراد بذكره تعالى ذكر عظمته ورحمته وانعامه علينا ووجوب اطاعته وقبح معصيته وشدة عقابه ونحو ذلك وليس المراد ذكره بذاته كما هو واضح.
والذكر في الاصل امر يتعلق بالقلب والذهن واما الذكر باللسان فهو مما يساعد على كون الانسان مستذكرا لربه دائما فهو مطلوب بالتبع.
روى الكليني قدس سره بسنده عن الحسن البزاز قال: قال لي أبو عبد الله عليه السلام (ألا أخبرك بأشد ما فرض الله على خلقه؟ قلت: بلى قال: إنصاف الناس من نفسك ومؤاساتك أخاك وذكر الله في كل موطن، أما إني لا أقول سبحان الله والحمد الله ولا إله إلا الله والله أكبر وإن كان هذا من ذاك ولكن ذكر الله عز وجل في كل موطن، إذا هجمت على طاعة أو على معصية).[21]
والمراد بالهجوم الدخول على الشيء بغتة ولعل الوجه في التخصيص به أن الانسان في هذا الحال لا يملك فرصة للتفكر ومحاسبة ما يقتضيه الموقف فيجب ان يكون له في سريرة نفسه ما يحفظه من معصية الله تعالى وهذا هو معنى الذكر حيث يكون معه باستمرار ولا يغفل عنه في اشد المواقف.
والله تعالى في هذه الآية لا يأمر بالذكر امرا مولويا يستتبع الجزاء بل يطلب من العبد المحتاج في كل شؤونه ان يذكره فيجازيه بذكره تعالى لعبده وهذا غاية اللطف بالعباد وغاية اكرام الانسان ويا له من كرامة للعبد أن يذكره الله تعالى.
ولا شك أن المراد بذكره لعبده انه يعطف عليه ويرحمه وينعم عليه اكثر من ذي قبل ولكن المهم هو التعبير عنه بانه ذكره فهو بنفسه لطف وانعام. والله تعالى لا ينسى شيئا ولا يغفل عن شيء ليذكره فلا شك في أن المراد به شموله برحمة منه وقد ورد في بعض الادعية (اللهم اذكرني برحمتك ولا تذكرني بخطيئتي..).[22]
والذكر والنسيان قد ياتي التعبير بهما مجازا عن الاعتناء بالشيء وعدمه وهذا تعبير متعارف فيقال ان فلانا نسيك حين توزيع المال وهو لم ينسه بل حذفه من القائمة ولكن يعبر عن هذا الترك بالنسيان وقد ورد مكررا في القران منها قوله تعالى (نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ)[23] وقوله تعالى (قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى).[24] فيعبر هنا عن عدم العطف عليه وعدم شمول الرحمة له بالنسيان ولا حاجة الى القول بانه من باب المشاكلة.
وكذلك الذكر وقد ورد في رواية معتبرة عن إسحاق ابن عمار قال (سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: إن في التوراة مكتوبا: يا ابن آدم اذكرني حين تغضب أذكرك عند غضبي فلا أمحقك فيمن أمحق وإذا ظلمت بمظلمة فارض بانتصاري لك فإن انتصاري لك خير من انتصارك لنفسك).[25]
واما ذكره تعالى باللسان فهو أهم شيء في عبادته تعالى. والصلاة مشحونة بذكره تعالى وهي اهم اركان الدين وافضل العبادات بل ذكره روح الصلاة وجوهره. واما قوله تعالى (إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ..)[26] فالمراد بالذكر فيها هو الذكر القلبي فانه اذا كان الانسان ذاكرا لربه بقلبه دائما فهو أدعى للامتناع عن المنكر من الصلاة.
ولكن لا يختص الذكر اللساني بالصلاة فمن المستحب ان يكون الانسان يلهج بذكره تعالى ليلا ونهارا وسرا وجهارا كما قال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا)[27] ولعل المراد بالتسبيح بكرة واصيلا اي دائما كما أن الليل والنهار في قوله تعالى (يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ) يراد بهما الدوام لان الآية في توصيف الملائكة وليس لهم ليل ونهار.
وربما يتوهم بعض الناس ان الجهر بذكره تعالى يفقد الثواب ولعله لفقد الاخلاص ولكن هناك روايات تدعو الى الجهر بذكره تعالى.
منها ما رواه الكليني قدس سره بسنده عن بشير الدهان عن أبي عبد الله عليه السلام قال (قال الله عز وجل: يا ابن آدم اذكرني في ملأ أذكرك في ملأ خير من ملئك).
وفي رواية اخرى عنه عليه السلام قال (قال الله عز وجل: من ذكرني في ملأ من الناس ذكرته في ملأ من الملائكة).
بل ورد أن ذكره تعالى لا يختص بحال ففي صحيحة ابي حمزة الثمالي عن أبي جعفر عليه السلام قال (مكتوب في التوراة التي لم تغير أن موسى عليه السلام سأل ربه فقال: إلهي إنه يأتي علي مجالس أعزك واجلك أن أذكرك فيها فقال: يا موسى إن ذكري حسن على كل حال).[28]
ومع ذلك فان الذكر المستمر ينبغي ان يكون في النفس ومن دون الجهر كما قال تعالى (وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ).[29]
ثم أمر تعالى بالشكر له على هذه النعم الجليلة ونهى عن الكفر. والنون المكسورة في قوله (ولا تكفرون) تدل على تقدير الياء اي لا تكفروني.
اما الشكر فهو - كما في العين - عرفان الاحسان ونشره وحمد مُوليه. ومُولي الاحسان الذي أولاه اياه اي جعله يليها ويقربها ويتنعم بها. والضمير البشري يحكم بوجوب شكر المنعم وكلما تعاظمت النعمة كان الشكر أوجب ولا شك أنه لا منعم في الوجود الا الله تعالى حتى لو انعم علينا أحد بشيء فهو من لطفه تعالى وعطفه.
والقران الكريم يؤكد كثيرا على وجوب الشكر لله تعالى وورد فيه أنه يوجب زيادة النعمة كما في قوله تعالى (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ).[30]
والشكر كما يكون باللسان ربما يكون بالعمل ففي احسان غيره تعالى افضل الشكر هو مقابلة الاحسان باحسان في مورد آخر والله تعالى غني على الاطلاق فاذا أردنا شكر نعمائه في العمل فلا بد من الاحسان الى عباده.
ومن الشكر ان يستعمل الانسان نعمه تعالى فيما يرضيه ويجتنب استعماله فيما يسخطه وهو يستلزم التقوى بأشد معانيه ومن يلتزم بذلك يجب ان لا يتكلم ولا ينظر ولا يستمع الا مع مجوز شرعي.
واما الكفر المنهي في الآية فليس المراد به انكار وجود الله او انكار ربوبيته تعالى بل المراد كفران نعمه وان تعلق الكفر في الآية به تعالى بالذات والدليل عليه مقابلته للشكر وان الخطاب للمؤمنين. ومثلها الآية المذكورة آنفا عن سورة ابراهيم حيث قوبل الكفر بالشكر.
[1] البقرة : 115
[2] البقرة : 142
[3] البقرة : 177
[4] المائدة : 48
[5] الجاثية : 26
[6] المرسلات : 38
[7] التغابن : 9
[8] الحديد : 21
[9] آل عمران: 133
[10] فاطر : 21
[11] المؤمنون : 61
[12] البقرة : 258
[13] ال عمران : 28
[14] المائدة : 6
[15] النحل : 81
[16] البقرة : 129
[17] ال عمران : 64
[18] التوبة : 128
[19] الجمعة : 2
[20] الاسراء : 39
[21] الكافي ج 2 ص 145 باب الانصاف والعدل
[22] الكافي ج 2 ص 586 باب دعوات موجزات
[23] التوبة : 67
[24] طه : 126
[25] الكافي ج 2 ص 304 باب الغضب
[26] العنكبوت : 45
[27] الاحزاب : 41 - 42
[28] الكافي ج 2 ص 497 باب ذكر الله في كل مجلس
[29] الاعراف : 205
[30] ابراهيم : 7