يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153)
هذه مجموعة من الآيات يبدو أنها نزلت مجتمعة بشأن موضوع واحد والعلامة الطباطبائي قدس سره يرى أنها نزلت قبل الامر بالجهاد. والقصد منها تهيئة الجو الاجتماعي لتحمل الشدائد الناتجة من الحرب. ويقال انها نزلت قبل غزوة بدر. ويقال ان تحويل القبلة الى الكعبة كان قبل غزوة بدر ايضا قال الزمخشري (وقيل: كان ذلك في رجب بعد زوال الشمس قبل قتال بدر بشهرين).
ولكن مرت بنا رواية رواها الشيخ الطوسي قدس سره بسنده عن معاوية بن عمار عن أبي عبد الله عليه السلام قال (قلت له: متى صرف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى الكعبة؟ فقال: بعد رجوعه من بدر).[1]
وعليه فيمكن ان تكون هذه الآيات لتسلية خاطر المسلمين بسبب ما جرى في بدر وان كان الجو العام جو سرور لانهم انتصروا فيه ولكن استشهد جمع منهم. وفي الآيات ايضا حثّ على الجهاد واستعداد لتحمل كارثة مستقبلية ولعل المراد بها غزوة احد.
والامر بالاستعانة بالصبر والصلاة ورد ايضا في الاية 45 من هذه السورة المباركة خطابا لبني اسرائيل ولكن الحكم عام لانه من سنن الله تعالى في الكون.
والاستعانة طلب المعونة من الآخرين فيما لا يستطيع الانسان انجازه لوحده. وهذه الاية تنبه الانسان على ان الافضل ان لا يعتمد على غيره ما لم يكن ضروريا كما لو احتاج الى خبرة وعلم او قدرة جسمية يفقدها ولكن في غير ذلك يمكنه انجازها بنفسه مع الاعتماد على النفس والتوكل على الله تعالى.
والصبر في الاصل على ما في معجم المقاييس هوالحبس والمراد به هنا حبس النفس على ما تكره في مقاومة عدوّ في الحرب او مقاومة نفسه في شهوة او غضب او طمع، او لالزامها على طاعة وعبادة، او ترك معصية، او في تحمّل مصاب لا يمكنه دفعه كفقدان عزيز وتلف مال بأن لا يجزع ولا يتكلم بما لا ينبغي.
والاساس في الصبر اعتماد الانسان على نفسه وليس بمعنى تحمله لما نزل به فانه امر لا مفر منه بل الصابر الممدوح على صبره هو الذي يقاوم ويتحمل الاذى ويرضى بحالته التي هو عليها ولا يبدي سخطا ولا يشكو حاله الى احد الا اذا توقف الحل عليه وهذا هو الذي يوجب تكامل النفس الانسانية.
وفي القرآن آيات كثيرة حول الصبر واهميته في حياة الانسان بوجه عام منها قوله تعالى ضمن بيان حِكَم لقمان (يَابُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ).[2]
والظاهر ان اسم الاشارة يعود الى الصبر ومثله قوله تعالى (وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ)[3] وقوله (وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ)[4] والعزم: القطع. وهو مصدر بمعنى المفعول والاضافة الى الامور من اضافة الصفة الى الموصوف اي ان ذلك من الامور التي يجب العزم فيها والقطع بها وعدم التردد ولهذا عد من خصائص الرسل في قوله تعالى (فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ).[5]
وليس المراد بهم اصحاب الشرايع كما يقال بل المراد اصحاب الجد وتحمل المشاكل ولا يبعد ان تكون (من) بيانية فان الرسل كلهم كانوا كذلك الا ان جمعا منهم ابتلوا بمشاكل في الحياة اكثر من غيرهم من الرسل.
ولعل أشد الصبر ما يكون في ظرف ارادة المعصية فان الانسان يضعف غالبا في هذا الحال ويختلف البشر في نوع المعصية التي يضعف عندها فبعض الناس يضعف في مجال الشهوة ولعله الاكثر خصوصا في الشباب وبعضهم في مجال المال او في مجال السلطة والشهرة وغير ذلك من مغريات الدنيا.
وهناك من الناس من يبتعد عن بعض مجالات الحياة الاجتماعية لئلا يبتلى بالمغريات ويرى ان هذا هو الطريق الامثل لتجنب المعاصي وتحصيل التقوى.
وهذا غير صحيح فالمتقي هو من يحافظ على ايمانه وعلى نفسه في خِضَمّ الحوادث وفي مجال المعصية واما تجنب المعاصي بالابتعاد عن المغريات فليس من التقوى في شيء وان كان لا باس به لمن يضعف في مواجهتها الا انه ربما يبتلى ببلاء اشد واقوى في المجال الذي يراه بعيدا عن الشهوات والمعاصي كالتصرف في الاموال المشتبهة وكتبرير ما يعمله بوجوه من التشريع الباطل وكالاعجاب بالنفس والغرور وكالرياء في العمل الصالح وكالتكبر على الناس لجهلهم او فقرهم وغير ذلك من الموبقات التي يستخف بها الانسان وهي اعظم بكثير من متابعة الشهوات والفساد الخلقي الذي يستعظمه المتدينون.
فالانسان لا بد له من تقوية نفسه في اي مجال كان ولا يتهرب من مغريات الدنيا فكل ما في هذه الحياة يغري الانسان ويستهويه وانما ينفعه تحصيل التقوى بالصبر وكبح جماح النفس ولذلك تكرر في القران الجمع بين الامر بالصبر والتقوى.
منها قوله تعالى (وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا)[6] وقوله (إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ)[7] وغير ذلك بل في بعض الايات اعتبر الصبر بنفسه مما يقرب الى الله تعالى كقوله (وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ)[8] وقوله (وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ).[9]
واما الاستعانة بالصلاة فاساسها التوكل على الله تعالى لانه القادر على كل شيء فاذا اخلص الانسان قلبه لربه ووثق به وتوكل عليه فهو يكفيه كما قال تعالى (أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ)[10] وقال ايضا (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ).[11]
والتوكل على الله تعالى لا ينافي الاعتماد على النفس فالانسان انما يعتمد على نفسه في مقابل غيره من البشر فلا يعتمد عليهم ولا بدّ له من قوة ذاتية حتى لا يضطرب في مواجهة مشاكل الحياة وهذا ينفعه ماديا حتى لو لم يتوكل على الله تعالى فالانسان الكافر ايضا ربما يعتمد على نفسه وقواه الذاتية وبذلك يحصل على كثير من مقاصده ولكنه لا يحظى بالتوفيق من الله تعالى بخلاف المؤمن المتوكل على ربه.
والانسان غالبا لا يعلم كل ما يجب ان يفعل او يترك لكي يحقق مقصده فلا بد له من الدعاء والتوكل على الله تعالى مضافا الى ان المؤمن مرتاح نفسيا حتى لو لم ينل ما يريد فهناك موانع كثيرة تمنع من تحقق رغبات الانسان والمؤمن لا تضعف عزيمته بذلك ولا يشعر بالخيبة والخسران لانه واثق من أنّ ربه لا يأتيه بامر الا ما هو الاصلح لحاله.
وقوله تعالى (ان الله مع الصابرين) تعليل للامر بالاستعانة بالصبر لانه الاهم في هذا المقام وهو مقام الحث على الجهاد ومقاومة العدو وكونه تعالى معهم بمعنى انه ينصرهم ويؤيدهم وليس بمعنى المعية المذكورة في قوله تعالى (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ)[12] لان هذه المعية بمعنى احاطته تعالى بكل شيء.
والوجه في كونه تعالى مع الصابرين ان الصبر والمقاومة ينتهيان الى النجاح بصورة طبيعية في الغالب وان كان العدو اقوى واكثر قال تعالى (كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ)[13] والذي يخسر المعركة هو الذي لا يتمكن من مقاومة العدو بل يضعف امامه وهذه النتيجة الطبيعية تستند الى الله تعالى كغيرها مما نراه في الطبيعة.
وهناك من الناس من يستغرب من انه تعالى يامر الذين امنوا بالاستعانة بالصبر بل يامر رسله بذلك مع أنه قادر على نصرهم من دون استعانة بالصبر بل تكفيهم الصلاة والتوجه الى الله تعالى وطلب النصر منه.
ولعل بعض اصحاب الرسل ايضا كانوا يتوقعون ذلك ومن هنا كانوا يشعرون باليأس اذا تأخر النصر من الله تعالى كما قال (وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ)[14] بل بلغ الامر بهم ان دخل الشك في قلوبهم كما قال تعالى (حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا..).[15]
والواقع أنه تعالى يبتلي عباده المؤمنين ويبتلي رسله واولياءه ايضا لان الجنة لا تعطى الا لمن يصلح لها ولا يصلح لها من لا يصبر في سبيله تعالى كما قال (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ)[16] ولا يكفي علمه تعالى بمن يصبر لو وقع في حرب مع العدو او في غيره من مشاكل الحياة بل المناط في الاستحقاق الصبر والثبات في الواقع الخارجي فهو الذي يوجب تكامل النفس البشرية.
وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ (154)
ان كانت هذه الآيات نزلت بعد غزوة بدر كما هو صريح الحديث السابق فلعل الآية تشير الى ما كانوا يقولون او يعتقدون حول شهداء بدر والا فالمراد النهي عن هذا التعبير او الاعتقاد بالنسبة لشهداء المستقبل فتكون الآية في مقام الحث على الجهاد والتطلع للاستشهاد في سبيل الله تعالى ونيل مقام الشهادة.
واللام في قوله (لمن يقتل) لام التعليل اي لا تعبروا عنهم بذلك وليست للتعدية كما تقول عن خطابك لاحد (قلت له) اذ لا يخاطبون بذلك. وقوله (اموات) خبر مبتدأ محذوف اي هم اموات. وكذلك قوله (أحياء) اي بل هم احياء ولكن لا تشعرون.
والقول المنهي قد يكون بمعنى الاعتقاد فالمراد بيان هذه الحقيقة أنهم أحياء وقد يكون بمعنى نفس التلفظ والتعبير عنهم بالاموات فتكون الآية مضافا الى بيان تلك الحقيقة تدعو الى رعاية الأدب في التعبير عن المقتولين في سبيل الله فلا يعبّر عنهم بالأموات وهذا ما نلاحظه في الأدب المتعارف في تعابير المسلمين فلا يعبر عن وفاة الشهيد الا بالاستشهاد.
وهناك بحث في التفاسير حول المراد بهذه الحياة وربّما يسأل عن وجه تخصيص هذا الاعتقاد بمن يقتل في سبيل الله مع أنّ الانسان مطلقا لا يفنى بالموت بل يبقى روحه حيّا فلماذا اختصّ الحكم في الآية بالشهداء.
وفي تعيين المراد بهذه الحياة عدّة اقوال:
القول الاول: ذهب بعض المفسرين الى أنّ أرواح الشهداء تختلف عن غيرهم في أنّها ترجع الى نفس هذه الاجسام الدنيوية فتحيا وتعيش بأمره تعالى.
وهذا مجرّد وهم وخيال ومن الواضح أنّ اجسام الشهداء كاجسام غيرهم من الموتى تدفن وتبلى في الارض بل ربما لا يبقى لهم جسم حين الاستشهاد بل يتلاشى بالتفجير.
القول الثاني: ان المراد بالحياة الهداية وقد ورد التعبير عنها بالحياة في القرآن الكريم كقوله تعالى (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا..)[17] وقوله تعالى (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ).[18]
وهذا ايضا واضح الفساد فالله تعالى يصرح في آية اخرى انهم أحياء يرزقون قال تعالى (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ).[19] مضافا الى انه لا يقول احد عن الشهداء انهم ضالّون وانما يقال انهم اموات.
القول الثالث: انهم أحياء في ضمير الامة وأن ذكراهم حية في تاريخ الشعوب كما قال امير المؤمنين عليه السلام (يَا كُمَيْلُ هَلَكَ خُزَّانُ الْأَمْوَالِ وَهُمْ أَحْيَاءٌ وَالْعُلَمَاءُ بَاقُونَ مَا بَقِيَ الدَّهْرُ أَعْيَانُهُمْ مَفْقُودَةٌ وَأَمْثَالُهُمْ فِي الْقُلُوبِ مَوْجُودَةٌ). [20]
ومن الواضح ان هذا ليس هو المراد لانه تعالى يقول (ولكن لا تشعرون) مع ان الحياة بهذا المعنى نشعر بها ومضافا الى ما مر آنفا من انه تعالى اخبر انهم احياء عند ربهم يرزقون.
القول الرابع: انها حياة معنوية خاصة بالشهداء وليست امرا ماديا. ولكنه ضعيف ايضا لمنافاته لما ورد من انهم عند ربهم يرزقون ولانها لا تختص بالشهداء ايضا.
القول الخامس: ان المراد انهم سيحيون في الاخرة. وهذا خطا واضح فالله تعالى يخبر انهم الآن احياء ويمنع من التعبير عنهم بالاموات مضافا الى ان الحياة في الاخرة لا تختص بهم بل هي لجميع البشر.
القول السادس: أن أرواحهم تنتقل الى أجسام طيور خضر تتنعم من الجنة تبعا لما ورد في بعض روايات العامة من أنّ أرواحهم في أجساد طيور خضر فقد روى في الدر المنثور عدة روايات في ذلك منها قوله (وَأخرج مَالك وَأحمد وَالتِّرْمِذِيّ وَصَححهُ وَالنَّسَائِيّ وَابْن ماجة عَن كَعْب بن مَالك أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: إِن أَرْوَاح الشُّهَدَاء فِي أَجْوَاف طير خضر تعلق (تعلق من ثَمَر الْجنَّة: ترعى من أَعْلَاهُ) من ثَمَر الْجنَّة أَو شجر الْجنَّة).
وفي قبال ذلك ورد في رواياتنا تكذيب هذه الروايات:
فمنها ما رواه الكليني قدس سره بسند صحيح عن أبي بصير قال قلت لأبي عبد الله عليه السلام (إنا نتحدث عن أرواح المؤمنين أنها في حواصل طيور خضر ترعى في الجنة وتأوي إلى قناديل تحت العرش فقال: لا، إذا ما هي في حواصل طير قلت: فأين هي؟ قال: في روضة كهيئة الأجساد في الجنة).[21]
وروى الشيخ الطوسي قدس سره بسنده عن يونس بن ظبيان قال (كنت عند أبي عبد الله عليه السلام جالسا فقال: ما يقول الناس في أرواح المؤمنين؟ قلت يقولون تكون في حواصل طيور خضر في قناديل تحت العرش فقال أبو عبد الله عليه السلام: سبحان الله المؤمن أكرم على الله من ذلك أن يجعل روحه في حوصلة طائر اخضر يا يونس المؤمن إذا قبضه الله تعالى صيّر روحه في قالب كقالبه في الدنيا فيأكلون ويشربون فإذا قدم عليهم القادم عرفوه بتلك الصورة التي كانت في الدنيا).
وبسند معتبر عن أبي بصير قال (سألت أبا عبد الله عليه السلام عن أرواح المؤمنين فقال: في الجنة على صور أبدانهم لو رأيته لقلت فلان). [22] وغيرها من الروايات.
القول السابع: ما ورد في تفسير المنار حيث قال (قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ بَعْدَ ذِكْرِ الْخِلَافِ: وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ الْبَاحِثِينَ فِي الرُّوحِ إِنَّ الرُّوحَ إِنَّمَا تَقُومُ بِجِسْمٍ لَطِيفٍ أَثِيرِيٍّ فِي صُورَةِ هَذَا الْجِسْمِ الْمُرَكِّبِ الَّذِي يَكُونُ عَلَيْهِ الْإِنْسَانُ فِي الدُّنْيَا، وَبِوَاسِطَةِ ذَلِكَ الْجِسْمِ الْأَثِيرِيِّ تَجُولُ الرُّوحُ فِي هَذَا الْجِسْمِ الْمَادِّيِّ، فَإِذَا مَاتَ الْمَرْءُ وَخَرَجَتْ رُوحُهُ فَإِنَّمَا تَخْرُجُ بِالْجِسْمِ الْأَثِيرِيِّ وَتَبْقَى مَعَهُ وَهُوَ جِسْمٌ لَا يَتَغَيَّرُ وَلَا يَتَبَدَّلُ وَلَا يَتَحَلَّلُ، وَأَمَّا هَذَا الْجِسْمُ الْمَحْسُوسُ فَإِنَّهُ يَتَحَلَّلُ وَيَتَبَدَّلُ فِي كُلِّ بِضْعِ سِنِينَ (الى ان قال) وَإِذَا كَانَ مِنْ خَوَاصِّ الْأَثِيرِ النُّفُوذُ فِي الْأَجْسَامِ اللَّطِيفَةِ وَالْكَثِيفَةِ كَمَا يَقُولُونَ حَتَّى إِنَّهُ هُوَ الَّذِي يَنْقِلُ النُّورَ مِنَ الشَّمْسِ إِلَى طَبَقَةِ الْهَوَاءِ فَلَا مَانِعَ أَنْ تَتَعَلَّقَ بِهِ الرُّوحُ الْمُطْلَقَةُ فِي الْآخِرَةِ، ثُمَّ هُوَ يَحُلُّ بِهَا جِسْمًا آخَرَ تَنْعَمُ بِهِ وَتُرْزَقُ سَوَاءٌ كَانَ جِسْمَ طَيْرٍ أَوْ غَيْرِهِ... وَهَذَا الْقَوْلُ يُقَرِّبُ مَعْنَى الْآيَةِ مِنَ الْعِلْمِ).
ونحن لا نعلم لهذا القول مستندا علميا والعلم الحديث لا يعترف بالروح اساسا ولا يقبل بوجود امر اخر وراء هذا الجسم.
القول الثامن: أن الارواح حية باقية بعد الموت في عالم اخر الى يوم القيامة وهذا ما سمي في القران بالبرزخ قال تعالى (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ).[23]
والبرزخ على ما في كتب اللغة الحائل بين شيئين وهناك اختلاف في تفسير الاية الا ان ما يدل على العالم المتوسط بين الموت والقيامة لا يختص بهذه الاية فمنها نفس هذه الاية التي نفسرها فهي واضحة الدلالة على ان الشهداء في حياة لا يشعر بها الناس مع انهم ماتوا.
وربما يقال ان الخطاب للمؤمنين وهم يعلمون ان الانسان لا يفنى بموته فكيف يخاطبهم بانهم لا يشعرون بهذه الحياة؟
والجواب ان عدم الاحساس بها لا ينافي العلم بها عن طريق الوحي على افتراض انهم يعلمون ذلك لان كثيرا من الناس يأولون الايات ولا ياخذون بهذا المدلول وحتى من يعلم بها لا يشعر بها.
ومنها قوله تعالى (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ)[24] فهذه الايات تثبت بصراحة صفات وافعال للشهداء في هذه الفترة والدلالة واضحة.
ومنها قوله تعالى (قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ)[25] والظاهر أنّ المراد بالاماتة مرّتين والاحياء مرّتين إماتتهم من الحياة الدنيا وإحياؤهم بالحياة البرزخية، ثم إماتتهم من تلك الحياة وبعثهم بحياة اُخرى يوم القيامة. وقد مر بعض الكلام حول هذه الآية في تفسير قوله تعالى (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)[26]
ومنها قوله تعالى (وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ * النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ)[27]
والاية تدل بوضوح على أن آل فرعون معذبون بعد موتهم بالعرض على النار في عالم آخر قبل أن تقوم الساعة حيث يدخلون اشد العذاب. ويبدو أنّ عذاب البرزخ ليس لكل الناس، بل خاص بأمثال آل فرعون حيث يعرضون على النار. وأمّا عامّة الناس فيرون أنّهم انما بقوا بين الموت والحشر مدة قليلة كما تدل عليه آيات كثيرة كقوله تعالى (كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا).[28]
ومنها الايات الكثيرة الدالة على قصر المدة التي تمضي على الانسان بعد موته الى يوم البعث كقوله تعالى (يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا).[29]
وقوله (يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا * يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا * نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا).[30]
وقوله (قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ * قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ).[31]
وقوله (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ * وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ)[32]
وقوله (وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ..)[33] و قوله تعالى (كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا).[34]
وورد في الكافي عدة احاديث بعضها معتبرة سندا بهذا المضمون (لَا يُسْأَلُ فِي الْقَبْرِ إِلَّا مَنْ مَحَضَ الْإِيمَانَ مَحْضاً أَوْ مَحَضَ الْكُفْرَ مَحْضاً والآخَرُونَ يُلْهَى عَنْهُمْ).[35] فالظاهر ان من لا يشعر بطول المدة هم الذين يلهى عنهم.
ومر بعض الكلام حول بعض هذه الآيات في تفسيرها وخصوصا في اية سورة الاحقاف.
واما الروايات الدالة على الحياة البرزخية فهي كثيرة ومتنوعة منها ما مر ذكره في الجواب عن القول السادس مما يدل على أن ارواح المؤمنين بعد الموت في روضة كهيئة الأجساد في الجنة او انها في الجنة على صور أبدانهم لو رأيته لقلت فلان وغير ذلك ومنها ما ورد في زيارة الميت لاهله وهي ايضا متعددة.
منها ما رواه الكليني قدس سره بسند معتبر عن حفص بن البختري عن أبي عبد الله عليه السلام قال (إن المؤمن ليزور أهله فيرى ما يحب ويستر عنه ما يكره وإن الكافر ليزور أهله فيرى ما يكره ويستر عنه ما يحب قال: ومنهم من يزور كل جمعة ومنهم من يزور على قدر عمله).[36]
والحاصل أن الحياة البرزخية لا تختص بالشهداء بل الانسان مهما كان لا يفنى بالموت وانما الموت انتقال من حياة الدنيا الى حياة اخرى وهو يشبه النوم كما قال تعالى (اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى..)[37] فالفارق بين النوم والموت ان الله تعالى يرسل الروح في النوم اي يطلقها اذا لم يقض عليها الموت ويمسكها اذا قضى عليها واما الميت فلا يرسل روحه الا في حالات نادرة ولكنه تعالى يتوفى الروح او النفس البشرية في كلتا الحالتين ومعنى التوفي اخذ الشيء بكامله ومنه توفي الدين واستيفاؤه اي استرداده بتمامه.
واما الوجه في ذكر الشهداء هنا بالخصوص هو انهم احياء يرزقون وهناك من يحيا حياة بعذاب مستمر كآل فرعون - وما اكثر الفراعنة – واكثر الناس لا يشعرون بهذه الحياة بل يرون انهم لم يلبثوا الا عشية او ضحاها ولكن النعيم في هذه الحياة لا يختص بمن قتل في سبيل الله تعالى كما يظهر من بعض الايات والروايات وانما خصهم بالذكر لان الغرض متعلق بالتنبيه على انهم احياء يرزقون للحثّ على طلب الشهادة.
ومن الايات التي ربما تدل على ان الصالحين باجمعهم يعيشون حياة طيبة في عالم البرزخ قوله تعالى (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)[38] وظاهرها انهم يدخلون الجنة بمجرد الموت فإمّا أنهم جمع خاص من المتقين او المراد بالجنة جنة خاصة كما ورد في بعض الاحاديث التي مر ذكرها.
كما أن جمعا من الكافرين ايضا تستقبلهم الملائكة حين الموت بالضرب قال تعالى (وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ)[39] وقال ايضا (فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ).[40]
ومن هذا القبيل ايضا اخر ايات سورة الواقعة حيث يقول (فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ * تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ * فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ * وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ * فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ * وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ)[41] فان الآيات السابقة تشرح حالة الموت ثم تفصل في بيان اختلاف حال الانسان حين موته.
والايات كثيرة جدا مما تدل على حياة للانسان بعد موته مباشرة الى يوم القيامة.
وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155)
اللام للقسم وتدل على قسم مقدر والنون المشددة في (ولنبلونكم) للتأكيد والغرض أن هذا الامر كائن لا محالة وهو الابتلاء وامتحان المؤمنين بالمشاكل الحاصلة من الحرب مع أعداء الاسلام.
وفي الصحاح (بلوته بلوا جربته واختبرته). وفي معجم المقاييس أن له اصلين احدهما إخلاق الشيء والثاني نوع من الاختبار. ولكن الراغب في المفردات يرى انهما من باب واحد قال (بلوته اختبرته كأنّي أخلقته من كثرة اختباري له). والإخلاق جعل الشيء خَلِقا باليا.
والابتلاء والامتحان من الله تعالى قد يكون بالنعماء ليتبين كيف يواجه الانسان نعمه تعالى هل يعمل بواجبه تجاهها ام لا وقد يكون بالضراء ليرى هل يصبر ويشكر ام يعترض على ربه ويقول ما لا ينبغي. قال تعالى (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ).[42]
والابتلاء لا بد منه في الحياة فان الانسان انما يتكامل ويتربى بهذه الاختبارات وليست هي مجرد كشف عن حقيقته بل هي السبب في تكامله ورشده ومن جهة اخرى الابتلاء يوجب فعلية ما في ضمير الانسان من السجايا والقابليات وهكذا تترتب الآثار المطلوبة فالشجاع لا تبرز شجاعته الا اذا استعرت الحرب والجواد لا يبرز جوده الا اذا جاءه الفقير والمتورع عن المحارم لا يظهر ورعه الا اذا ابتلي بما يدعوه الى الحرام من مال اوشهوة او جاه ونحوها.
ولكن الآية في نفس الوقت تخفف من البلاء بأنه لا يغمر كل جوانب الحياة وانما يبتلون بشيء من الخوف والجوع ونقص في الاموال والانفس والثمرات. وقوله (نقص) معطوف على (شيء) فيكون مجرورا بالباء او على الخوف اي بشيء من نقص الاموال والمعنى لا يختلف ففي الفرض الاول نفس التنكير يقتضي تقليل النقص.
اما الخوف فهو اشارة الى ما يحدث للناس من الخوف بسبب هجوم الاعداء على مساكنهم وهو امر محتمل في ظروف الحرب ويعلمون أنه لو حدث فانه بلاء عظيم حيث يقتل الرجال وتسبى النساء والاطفال وهذا يدل على ان الامان نعمة عظيمة لا يعرف الانسان قدرها ما لم تسلب منه.
واما الجوع فبسبب ان الحرب بذاتها تستنزف اموال الناس مع ان الاعداء ربما يتسلطون على ممتلكاتهم وينهبونها كما كانت عادتهم في الجاهلية ولا يبقى لهم ما يقتاتون به مع ضعف التخزين في ذلك العصر.
واما نقص الاموال فواضح والمراد بها اموال الناس فانها تنهب وتتلف في الحروب واما نقص الانفس فهو ايضا واضح بسبب القتل واما الثمرات فان اريد بها خصوص ثمرات الزرع فهو داخل في نقص الاموال ولذلك فسر بموت الاطفال وهم ثمرات حياة الانسان وهذا وان كان داخلا في نقص الانفس الا أن المتبادر منه عرفا موت الكبار والمراد هنا بناءا على هذا التاويل موت الاطفال الصغار.
وربما يسأل ان هذه المصائب مستمرة في حياة الانسان وليست امورا حديثة ليخبر الله تعالى عن وقوعها في المستقبل فما هو المراد بهذا التنبيه؟
واجيب عنه بأن اكثر المؤمنين ربما كانوا يتوهمون أن ايمانهم بالله تعالى وبالرسول صلى الله عليه وآله وسلم يحفظهم من هذه المصائب التي اعتادوا عليها في الجاهلية وأن الله تعالى يمنعهم من الاعداء ولا يتمكنون من الاضرار بهم. فالمراد بهذه الآية الاشارة الى ان الامر ليس كما تظنون وأن الله تعالى يبتليكم بهذه المصائب ليتبين من كان ايمانه من اجل الدنيا ومن آمن من اجل الاخرة ولا يتوهم المؤمن ان الجنة التي بشر بها سيعجلها الله تعالى لهم في هذه الحياة ايضا.
ويمكن ان يكون المراد التنبيه على أن نفس الايمان بالرسالة ومخالفة صناديد قريش وزعماء العرب يتسببان في خلق مشاكل اجتماعية وحروب متتالية ليست كما كان يحدث بين القبائل في عصر الجاهلية بل ربما يجتمعون ويتكاتفون ضد المسلمين كما فعلوا وهكذا سيكون الموقف شديدا على المسلمين فأراد الله تعالى بهذه الآيات حثهم على الاستعداد لمواجهة المصائب العظيمة التي يستدعيها موقفهم المشرف.
والامر بقوله (وبشر الصابرين) قد يكون خطابا للرسول صلى الله عليه وآله وسلم وقد لا يكون خطابا لشخص خاص كما يقال اكرم بفلان فالمعنى ان الصابرين لهم البشارة. ولم يذكر للبشارة متعلقا ولذلك ذهب بعض المفسرين الى أن عدم ذكره للاشارة الى كثرة ما يستتبعه الصبر من النتائج المطلوبة في الدنيا والاخرة فالصبر يستتبع الفوز والنجاح والقوة والكمال والذكر الرفيع في المجتمع مضافا الى الفوز بالجنة.
ولكن الآية التالية تحدد متعلق البشارة لانه يصف الصابرين بوصف لا يشمل كل من يصبر على البلاء بل يخص قسما منهم وبذلك يتحدد نوع ما يبشر به.
الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156)
هذا التوصيف كما قلنا يخرج الصابرين غير المؤمنين ومن لا يعتنقون ايمانا قويا وان كانوا لا يجزعون في المصاب وربما نجد ذلك بكثرة في غير المؤمنين ايضا بل ربما نجد من تعتبر حالته في المصاب نوعا من قساوة القلب وهذا الصبر ينفع الانسان في دنياه ايضا فان من يجزع ويفقد توازنه يتضرر نفسيا بل في جسمه ايضا كما انه يفقد قدره واعتباره في المجتمع ولكن لا تشمله هذه الاية وما ورد في الاية التالية من الجزاء.
والاصابة –– على ما في معجم المقاييس –– نزول شيء واستقراره قراره. ومنه الصوب بمعنى المطر وهي تستعمل في الخير والشر وقد ورد التعبير عن المطر بالاصابة في قوله تعالى (فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ)[43] ولكن المصيبة لا تستعمل غالبا الا في الشر وان كانت في الاصل بمعنى ما يصيب الشيء من خير وشر.
ويمكن ان يستفاد من قوله اذا اصابتهم مصيبة أن هذا القول يصدر منهم في اول المصاب فلا يدفعهم هول المصاب ان يتكلموا بما لا يرضي الله تعالى ثم بعد الهدوء يقولون ما يدل على صبرهم وايمانهم وهذا هو المهم فان الانسان يبرز ما في ضميره من ضعف او قوة، وايمان او شك في مثل هذه المواضع ولذلك يقارن بين ما قاله اميرالمؤمنين عليه السلام حين وقوع الضربة القاتلة على راسه الشريف حيث قال (فزت ورب الكعبة) وما قاله الاخرون في مثل هذا الموقف مما يدل على ضعف الايمان.
فالمؤمن الثابت في ايمانه في مثل هذا الموقف العصيب يبدأ كلامه بهذا القول وهو ليس مجرد قول اعتدنا ان نقوله من دون أن ندرك معناه بل المراد انه ينتبه الى ما في باطنه من الايمان فهو يؤمن بكل وجوده أنه لله تعالى ومنتسب اليه وملك له ويقر بذلك وبأنه لا شيء له بالاستقلال حتى يهتم به فاذا كانت المصيبة من الله تعالى فقد اخذ ما وهب وتصرف في ملكه وليس ما اخذه اقرب الي منه ولست اولى به منه تعالى فلا معنى لتأسّفي عليه.
ثم يضيف اليه انه راجع الى الله تعالى وليس متعلقا بهذه الحياة وانما هي ايام يعيشها في الدنيا للابتلاء والفتنة وهو يشتاق للرجوع اليه تعالى فهناك مصدره ومطلعه واليه ماواه ومرجعه ولا يعتقد انه يُرجع اليه قسرا وان كان الامر كذلك الا انه يرجع اليه باشتياق وبهذا الاعتقاد لا يهتم بما في هذه الحياة من مغريات ولا بما يصيب اهلها من مصائب.
والرجوع الى الله بمعنى حضوره لديه وهو يتم بالموت والانسان لم يغب عن ربه لحظة وهو معه اينما كان بل اقرب اليه من حبل الوريد وهو محيط بكل شيء ولكن الانسان يغفل في هذه الحياة انه امام ربه وتحت سلطته حتى المؤمن ربما يشعر بالاستقلال في هذه الحياة غفلة عن حقيقة الامر ولذلك لا يتورع عن المعاصي بل القبائح ويشعر بانه وحيد لا رقيب عليه.
وهذه الغفلة تنتهي بالموت فيشعر الانسان بالحضور امام ربه. والتغير انما يحصل فيه حين تنكشف له الحقيقة كما قال تعالى (لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ).[44]
وهذا الايمان والاقرار والثبات لا ينافي ان يبكي الانسان على فقد عزيز وانما ينافي الكلام الباطل الذي ربما يصدر من الجهلة من الاعتراض على الله تعالى.
وقد ورد في الحديث أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يوم توفي ابنه ابراهيم دمعت عيناه فقالوا يا رسول الله تبكي وأنت رسول الله؟ فقال (إنما أنا بشر تدمع العين ويفجع القلب ولا نقول ما يسخط الرب، والله يا إبراهيم إنا بك لمحزونون).[45]
أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157)
الصلاة، يقال: إنّها في أصل اللغة بمعنى العطف او الميل وأن إطلاقها على العبادة الخاصة لانها تحكي عن التوجه الى الله تعالى بل التوجه روح الصلاة. ويقال إن الاصل فيها الدعاء وسميت الصلاة بها لاشتمالها عليه. ويقال انها من الله بمعنى الرحمة ومن غيره بمعنى الدعاء.
ولا يبعد أن يكون المعنى في أصل اللغة هو هذه العبادة الخاصة، على اختلاف مصاديقها حسب الشرايع. والصلاة من أعرق المفاهيم البشرية، وكانت مع الإنسان منذ بدء خلقته لان اول انسان على وجه الارض حسب اعتقادنا نبيّ. وفي معجم المقاييس أن له اصلين النار وجنس من العبادة.
وعليه فالمعنى الاول للصلاة هو العبادة الخاصة وبهذه المناسبة تستعمل لإفادة معنى مطلق العطف و الميل مجازا، وهي بهذا المعنى تختلف حسب اختلاف الموارد.. فالصلاة من اللّه رحمة ربوبية، ومن الملائكة دعاء او توسط وشفاعة، ومن البشر دعاء وطلب للرحمة ومنه قوله تعالى (وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ).[46]
ولعل الوجه في تعدية الصلاة ب– (على) أنها تحكي عن رحمة تغمرهم فكانها القيت عليهم وشملتهم واما في المعنى الحقيقي اي الصلاة بمعنى العبادة الخاصة فلا يؤتى ب– (على) لان الصلاة لله تعالى وليست عليه.
وبناءا على أن الصلاة من الله بمعنى الرحمة كما هو المعروف فيشكل عطف الرحمة على الصلوات في الآية خصوصا ان الرحمة مفردة والصلوات جمع اما اذا قلنا ان الصلاة عطف وتوجه فهي سبب للرحمة والوجه في الجمع حينئذ أن تكرر عطفه وتوجهه تعالى الى العبد يوجب شمول الرحمة العامة له فالصلوات خاصة به والرحمة عامة.
ومن اللطيف انه تعالى لم يعدهم بالجنات في الآخرة ولا بعوائد في الدنيا بل جعل عليهم صلواته ورحمته وهذا التوجه والعناية بهم اهم بكثير عند اهل المعرفة من الجنات والقصور في الاخرة فضلا عن عوائد الدنيا الفانية.
وايضا مما يستفاد من تعبير الآية الكريمة أن هذه الصلوات المستتبعة للرحمة الالهية عليهم بالفعل فليس هذا وعدا منه تعالى بأنّه جزاؤهم يوم القيامة بل إنها متحققة عليهم بمجرد صبرهم فكأنّ هذا نتيجة طبيعية لصبرهم الخاص الذي يتبع اعتقادهم بأنهم لله ومن الله والى الله وأن الامر كله بيد الله وأنه هو الرب وهو الرحيم والحكيم فكل ما يصيبه فهو من الله وكل ما يأتي منه تعالى فهو الخير لرحمته وحكمته فهو مع هذا الاعتقاد بصورة طبيعية لا يشعر بضيق او ضرر مما يصاب به بل يشعر برحمته تعالى تغمره.
فهذه الصلوات والرحمة تبدأ من هذه الحياة حتى لو كان ظاهرا في ضيق مادي الا أن نفسه تغمرها السعادة ولا يشعر بصعوبة في الحياة بخلاف من لا يسند الامور الى الله تعالى فانه في ضيق دائم من كل ما يصيبه بل حتى مما يخاف منه وان لم يصب بشيء كما قال تعالى (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى).[47]
والحياة على هذا الكوكب لا تخلو من مضائق مهما كان الانسان سعيدا بظاهره فمن يعتقد بأن الكون وان كان له نظام دقيق الا انه يسير كجهاز منظم وليس وراءه مدبر حكيم رحيم فهو لا يرى للكون خالقا او لا يرى الخالق ربا او لا يرى الرب قادرا على كل شيء ومؤثرا في كل شيء او لا يراه رؤوفا بعباده فانه يعيش في ظلام دامس لا يبصر أمامه الا الشر ولا يشعر بأمان ولا يطمئن في حياته بشيء وهذه هي المعيشة الضنك.
وهذه الحقيقة لا يشعر بها الا من كان مؤمنا مطمئنا في اعتقاده ولا يكفي العلم بهذه الحقائق والتفوه بها واظهارها للاخرين فربما يبث الانسان روح الايمان في من يستمع اليه وهو خواء من الايمان لا يطمئن بما يقول.
فهذا العلم لا ينفع الانسان ولا يزيده كمالا وايمانا وانما مثله كطبيب تعلم الطب باصوله العلمية ولم يدخل مجال العمل في المستشفى ليطبق ما تعلمه وانما ينفع هذا العلم اذا ابتلي الانسان بمصيبة فلم يجزع ولم يعترض على ربه حتى في دخيلة نفسه بل اعتبر ذلك رحمة من الله وفضلا واذا ابتلي بنعمة ظاهرة لم يقل حتى في نفسه كما قال قارون (إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي..)[48] بل قال كما قال سليمان عليه السلام حينما راى عرش ملكة سبأ حاضرا عنده (هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ).[49]
مسكين هذا الانسان الذي لا يرى في الكون مؤثرا عالما مدركا لما يفعل الا الانسان نفسه وهو محور الكون ويرى أن الانسان اينما وصلت قدماه أفسد في الارض بل نشر الفساد في البر والبحر فالنتيجة التي يحصل عليها ان الارض لا يحكم فيها الا عوامل الشر والفساد فيبقى هذا الانسان حائرا مضطربا ولذلك يلجأ الى ما يلهيه عن التامل في الحقيقة المرّة من الالعاب واللهو والمخدرات والمسكرات وما هو شر منها.
وأما الانسان المؤمن بأن الكون يديره رب قادر حكيم رؤوف رحيم فانه ينعم بالراحة والطمأنينة حتى لو نزلت عليه اقسى المصائب وتوالت عليه مشاكل الحياة.
ومن هنا فان انواع البلاء في هذه الحياة محكّ لايمان الانسان يمكنه ان يتعرف بها على ما تنطوي عليه نفسه لئلا ينخدع بما يبدو من ظاهر حاله فان الانسان لا يخدع الاخرين فحسب بل يخدع نفسه قبل كل احد.
وفي الجملة الاخيرة من الاية الكريمة حصر المهتدين فيهم كما يفهم ذلك من ضمير الفصل مع الالف واللام ووجه الحصر هو أن الصبر على المصائب هو الطريق الوحيد للفوز والنجاح سواء في الدنيا ام في الآخرة.
والمهتدي يختلف عن المهدي فان المهدي اسم مفعول من الهداية ولكن ليس كل من يُهدى يهتدي فلعله يرفض متابعة الهداية بينما الاهتداء يقتضي قبول الهداية ومتابعتها.
[1] تهذيب الاحكام ج 2 ص 43 باب القبلة
[2] لقمان : 17
[3] ال عمران : 186
[4] الشورى : 43
[5] الاحقاف : 35
[6] ال عمران : 120
[7] يوسف : 90
[8] الرعد : 22
[9] المدثر : 22
[10] الزمر : 36
[11] الطلاق : 3
[12] الحديد : 4
[13] البقرة : 249
[14] البقرة : 214
[15] يوسف : 110
[16] ال عمران : 142
[17] الانعام : 122
[18] النحل : 97
[19] ال عمران : 169
[20] نهج البلاغة باب الحكم :147
[21] الكافي ج 2 ص 245 باب اخر في ارواح المؤمنين
[22] تهذيب الاحكام ج 1 ص 466 باب تلقين المحتضرين
[23] المؤمنون : 99 - 100
[24] ال عمران : 169 - 171
[25] غافر : 11
[26] البقرة : 28
[27] غافر : 45 - 46
[28] النازعات : 46
[29] الاسراء: 52
[30] طه: 102- 104
[31] المؤمنون: 112- 114
[32] الروم: 55- 56
[33] الاحقاف : 35
[34] النازعات: 46
[35] الكافي ج3 ص235 باب المساءلة في القبر
[36] الكافي ج 3 ص 230 باب ان الميت يزور اهله
[37] الزمر : 42
[38] النحل : 32
[39] الانفال : 50
[40] محمد : 27
[41] الواقعة : 86 - 94
[42] الانبياء : 35
[43] الروم: 48
[44] ق : 22
[45] بحار الانوار ج 79 ص 91
[46] التوبة : 103
[47] طه : 124
[48] القصص : 78
[49] النمل : 40