مكتب سماحة السيد مرتضى المهري

إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ (158)

هناك بحث في التفاسير في مناسبة هذه الآية لما سبق وذكروا وجوها ضعيفة في هذا الصدد وفي الميزان انها لا تناسب الايات السابقة مضافا الى ان زمان نزولها على ما ورد في روايات الفريقين متاخر جدا عن زمان تغيير القبلة حيث انها نزلت في عمرة القضاء وتغيير القبلة كان في بدايات الهجرة.

روى الكليني قدس سره بسند معتبر عن معاوية بن عمار حديثا طويلا في حج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وفيه (وان المسلمين كانوا يظنون ان السعي بين الصفا والمروة شيء صنعه المشركون فأنزل الله عز وجل: إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت او اعتمر فلا جناح عليه ان يطوف بهما).[1]

وروى ايضا بسنده عن بعض أصحابنا قال (سئل أبو عبد الله عليه السلام عن السعي بين الصفا والمروة فريضة أم سنة؟ فقال: فريضة، قلت: أوليس قال الله عز وجل "فلا جناح عليه أن يطّوّف بهما" قال: كان ذلك في عمرة القضاء إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شرط عليهم أن يرفعوا الأصنام من الصفا والمروة فتشاغل رجل وترك السعي حتى انقضت الأيام وأعيدت الأصنام فجاءوا إليه فقالوا: يا رسول الله إن فلانا لم يسع بين الصفا والمروة وقد أعيدت الأصنام فأنزل الله عز وجل "فلا جناح عليه أن يطّوّف بهما" أي وعليهما الأصنام).[2]

وفي تفسير العياشي (قال أبو عبد الله عليه السلام في خبر حماد بن عثمان انه كان على الصفا والمروة أصنام فلما أن حجّ الناس لم يدروا كيف يصنعون فأنزل الله هذه الآية فكان الناس يسعون والأصنام على حالها فلما حجّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم رمى بها).

والحاصل انه لا دليل يثبت أن الآيات المتلاحقة في السورة نزلت مع بعض بل من الواضح في كثير منها انها نزلت مع فصل كثير ومنها هذا المورد فلا حاجة الى تكلّف البحث عن تناسب بين الآيات كما في عدة من التفاسير.

والصفا يطلق على الحجر الصلب الأملس على ما في العين. والاصل في معنى الكلمة: الخلوص. واما المروة فقد حكى في الصحاح عن الاصمعي انها بمعنى حجارة بِيض برّاقة تقدح منها النار. ومهما كان فهما اسمان لجبلين معروفين قريبين من الكعبة المشرفة يسعى الحجاج والمعتمرون بينهما.   

والشعائر جمع شعيرة وهي العلامة. ومنها ما كانوا يجعلونه في الحرب شعارا لقومهم يتنادون به لاعلام اصحابهم. ومنها اشعار الهدي كانوا يدمون سنام الابل بالسكين ليكون علامة انه للهدي فاذا ضل لم يتعرض له من يلقاه. ومنها المشعر الحرام ويسمى ايضا الجمع والمزدلفة فكل هذا من شعائر الله اي العلامات التي وضعها الله تعالى لعبادته وجعل لها نسكا.

والحج بفتح الحاء وكسره في الاصل بمعنى القصد ولكن يطلق من غير قيد على زيارة البيت الحرام وفي المفردات ان الحج القصد للزيارة مطلقا ولكن ليس بمعنى القصد المطلق. والحج في الشرع مناسك معروفة.

واما العمرة فهي ايضا من حيث المعنى الشرعي واضح وهي مناسك خاصة من الاحرام والطواف والسعي والتقصير ولكن في اصل المعنى اختلاف والغالب في كتب اللغة ان الاعتمار ايضا بمعنى الزيارة. وقال الشيخ قدس سره في التبيان (وأخذت العمرة من العمارة لان الزائر للمكان يعمره بزيارته).

وفي المفردات أنها الزيارة التي فيها عمارة الودّ. والظاهر أنه يقصد أن الاصل في المعنى هو العمران وأن بعض الزيارات تعمر مباني الحب والوداد فهي التي تسمى عمرة واعتمارا.

وفي معجم المقاييس ان الاعتمار الاهلال بالصوت في الاحرام وقيل ان الاصل فيه القصد ايضا وقيل غير ذلك.

والجناح في الاصل الميل والانحراف. ومنه قوله تعالى (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا)[3] والجناح: الاثم لانه انحراف عن الحق. اي فلا اثم على الحاجّ او المعتمر أن يطّوّف بالصفا والمروة.

وربما يظهر من هذا التعبير أن السعي بين الصفا والمروة عمل مستحب في الحج والعمرة مع أنه واجب لا شك فيه فلماذا عبّر بعدم الاثم؟

یتبین الجواب من الروایات الواردة في المقام وقد مر بعضها وهو أن الوجه في هذا التعبير مع أن السعي بهما واجب هو توهم عدم الجواز فالقصد من هذا التعبير هو نفي الحرمة والكراهة واما الوجوب فيستفاد من ادلة اخرى. وهناك اختلاف في الروايات في سر هذا التوهم كما يلاحظ من الروايات التي مر ذكرها.

ومثل هذا التعبير ورد في صلاة الخوف قال تعالى (وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا)[4] بل الحكم شامل لكل سفر وان لم يكن خوف من العدو كما ورد التعميم في الروايات.

وقد ورد الاستشهاد بالاية التي نفسرها لعدم منافاة هذه الاية مع وجوب القصر فقد روى الشيخ الصدوق قدس سره في من لا يحضره الفقيه قال:

(روي عن زرارة ومحمد بن مسلم أنهما قالا قلنا لأبي جعفر عليه السلام: ما تقول في الصلاة في السفر كيف هي وكم هي؟ فقال: إن الله عز وجل يقول "وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة" فصار التقصير في السفر واجبا كوجوب التمام في الحضر قالا: قلنا: إنما قال الله عز وجل "فليس عليكم جناح" ولم يقل: افعلوا، فكيف أوجب ذلك كما أوجب التمام في الحضر؟ فقال عليه السلام: أو ليس قد قال الله عز وجل في الصفا والمروة "فمن حجّ البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطّوّف بهما" ألا ترون أن الطواف بهما واجب مفروض لان الله عز وجل ذكره في كتابه وصنعه نبيه صلى الله عليه وآله وسلم وكذلك التقصير في السفر شيء صنعه النبي صلى الله عليه وآله وسلم وذكره الله - تعالى ذكره - في كتابه.. الحديث).[5]

وقوله (يطّوّف بهما) من التطوّف اُبدلت التاء طاءا واُدغمت فيها والتطوف والطواف واحد وهو الدوران حول الشيء كطواف الكعبة. وهنا ليس من هذا القبيل بل يمشي الانسان بدءا من الصفا الى المروة ثم العكس وهكذا سبع مرات فينتهي السعي على المروة ولكنه حيث يتكرر البدء من مكان والانتهاء اليه عدة مرات عبر عنه بالطواف.

وربما يستظهر من الآية أن نفي الجناح في التطوف بهما خاص بمن حج او اعتمر وأن السعي بين الصفا والمروة ليس مطلوبا بذاته وانما هو جزء من مناسك الحج والعمرة بل لو اتى به غير الحاج والمعتمر ففيه جناح.

ولكن الآية لا تقتضي ذلك وتخصيص الحكم بالحاج والمعتمر لا يدل على الاثم على من تطوع به بل ذيل الآية ظاهر في جواز التطوع وانما ذكر الحاج والمعتمر لان السعي بالنسبة لهما واجب وجزء من النسك.  

والتطوع كما في العين ما تبرعت به مما لا يلزمك فريضته. ولعل وجه دلالة التطوع على ما يتبرع به هو أنه من باب التفعل الذي يفيد التكلف كالتقمص فيفيد هنا انه لم يطلب منه الاطاعة لعدم الفرض عليه ولكنه يتكلف الاطاعة. وقوله (خيرا) منصوب بنزع الخافض اي تطوع بخير.

وظاهر هذه الآية أن السعي بنفسه مستحب وفي ضمن الحج والعمرة واجب ولكن المفسرين حيث راوا انه غير مستحب بذاته في الفتوى الفقهي حاولوا تأويل الآية.

وفي كثير من التفاسير أن المراد به التطوع بالحج والعمرة المستحبين وفي بعضها أن المراد مطلق التطوع بعد اي فريضة كالنافلة. وعلى كلا الفرضين فهذه الجملة لا علاقة لها بالسعي وهو بعيد جدا حسب سياق الآية. وفي بعض التفاسير أن المراد بالتطوع مطلق الاطاعة ولا يختص بالتبرع والنفل وهو ايضا بعيد عن اللفظ.   

ومن غاية لطفه تعالى بعباده وبخصوص الحجاج والمعتمرين وفي العمل بالسعي خاصة لم يذكر للعمل ثوابا وجزاءا بل اعلن أنه يشكر المتطوع بما اتى به وكأنه أتى بما ينفع ربه فان الشكر انما يكون في مقابل عمل ينتفع به الشاكر والله تعالى لا ينتفع بشيء ولا يضره شيء ومن يعمل خيرا فانما ينفع نفسه بل حتى من يشكر ربه فان الشكر ينفعه ولا ينفع الله تعالى كما قال (وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ..).[6]

ولكنه تعالى في هذه الآية عامل عبده وكأنه ينتفع بعمل عبده فيشكره على ذلك وهو غاية في الاحسان والتفضل واللطف بالعباد. ومثله قوله تعالى (وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا).[7] ولعل السر في ذلك أنه تعالى يريد أن يكون الحافز لعبادة الناس الحب لله تعالى لا الخوف من عذابه وعقابه فان الذي يوجب تكامل العبد وتربيته هو العبادة حبا وعرفانا وشكرا.

وفي هذا مضافا الى ذلك تحفيز للعباد ان يشكر بعضهم بعضا اذا أحسن اليه فان كان الله تعالى يشكر عباده بعملهم الحسن مع أن نفعه عائد اليهم فالانسان المنتفع بصنيع انسان آخر ينبغي أن يشكره بطريق اولى.

وأما توصيفه تعالى بالعليم فلعله للاشارة الى أنه تعالى عالم بخفايا اهداف الانسان ومقاصده فيعلم من هو المخلص في عمله ومن هو المرائي ويعلم من هو المعجب بنفسه اذا عمل عملا صالحا ومن هو المتواضع الذي لا يرى عمله جيدا وممتازا. والجزاء الالهي يتبع النية الخالصة وتواضع العبد.

وقد ورد في كتب الفريقين روايات حول سر تشريع السعي بين الصفا والمروة ومنها ما رواه الكليني قدس سره بسند معتبر عن معاوية بن عمار عن أبي عبد الله عليه السلام قال: إن إبراهيم عليه السلام لما خلّف إسماعيل عليه السلام بمكة عطش الصبي فكان فيما بين الصفا والمروة شجر فخرجت أمه حتى قامت على الصفا فقالت: هل بالبوادي من أنيس فلم تجبها أحد، فمضت حتى انتهت إلى المروة فقالت: هل بالبوادي من أنيس فلم تجب، ثم رجعت إلى الصفا وقالت ذلك حتى صنعت ذلك سبعا فأجرى الله ذلك سنة وأتاها جبرئيل فقال لها: من أنت؟ فقالت: أنا أم ولد إبراهيم، قال لها: إلى من ترككم؟ فقالت: أما لئن قلت ذلك لقد قلت له حيث أراد الذهاب: يا إبراهيم إلى من تركتنا؟ فقال: إلى الله عزوجل، فقال جبرئيل عليه السلام: لقد وكلكم إلى كاف، قال: وكان الناس يجتنبون الممر إلى مكة لمكان الماء ففحص الصبي برجله فنبعت زمزم، قال: فرجعت من المروة إلى الصبي وقد نبع الماء فأقبلت تجمع التراب حوله مخافة أن يسيح الماء ولو تركته لكان سيحا، قال: فلما رأت الطير الماء حلّقت عليه فمرّ ركب من اليمن يريد السفر فلما رأوا الطير قالوا: ماحلّقت الطير إلا على ماء فأتوهم فسقوهم من الماء فأطعموهم الركب من الطعام وأجرى الله عزوجل لهم بذلك رزقا وكان الناس يمرّون بمكة فيطعمونهم من الطعام ويسقونهم من الماء).[8]

 

إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159)

مجموعة ترتبط بالحديث حول اليهود والنصارى واخفائهم علامات النبي صلى الله عليه وآله وسلم الموجودة في كتبهم وهذا الامر قد نبه عليه القرآن في مواضع كثيرة وقد كان هذا محور الحديث في الآيات السابقة حتى ما نزل بشأن القبلة فانهم كانوا يعلمون أن ما يقوله الرسول صلى الله عليه وآله وسلم حق كما قال تعالى فيما سبق من الآيات حول تغيير القبلة (وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ).[9]

والكتمان إخفاء الحديث وهو في الغالب يحصل باخفاء اصل الحديث وقد يتم بتبديل الكلام وتغيير حروفه وقد يتحقق الكتمان بتأويله وتغيير معناه. والامر لا يختص باليهود والنصارى وان كانوا هم المقصودين في هذه الآية في عصر النزول ولكن المورد لا يخصِّص والآية عامة لكل من يكتم الحق الذي أنزله الله تعالى بأيّ طريقة.

والبینات جمع بینة وهي الامر الواضح والاصل فيها الفراق والتباعد ولكن حيث كان تباعد اجزاء الشيء بعضه عن بعض يوجب انكشاف الاجزاء ووضوحها استعمل اللفظ في الانكشاف ولذلك تأتي الكلمة متعديا ب– (من) كما قال تعالى (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ).[10] والمراد بها هنا آيات الكتاب التي توضح حقائق الدين فانها هي التي انزلها الله تعالى.

وقد استعملت البينة في القرآن في آيات الكتاب وفي المعجزات. فمن الاول قوله تعالى(وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ)[11] ومن الثاني قوله تعالى (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ).[12]

والهدى مصدر بمعنى الرشاد. والمراد به هنا ما يوجب الرشاد من المعارف والاحكام التي نزلت في كتب السماء وفي التوراة والانجيل خاصة لان المراد تطبيق هذا القانون العام على علماء اليهود والنصارى حيث كانوا يكتمون البشارات التي كانت في كتبهم عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ويكتمون ايضا الاحكام الشرعية التي لا تعجبهم.  

وقوله (من بعد ما بيناه للناس في الكتاب) يشير الى امرين: الاول أنه تعالى ارسل هذه البينات والهدايات واضحة ليس فيها خفاء وانما طرأ عليها الخفاء بالتبديل وتغيير الكلمات او الحروف او الترجمة الى ما لا يفيد ذلك المعنى او التأويل والتفسير الخاطئ.

والامر الثاني أنه تعالى ارسل هذه الآيات الواضحة للناس جميعا لا لخصوص الاحبار والرهبان ولكنهم اخفوا آياته تعالى عن عامة الناس فكانوا لا يعلمون منها الا ما يلقيه اليهم علماؤهم كما قال تعالى (وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ)[13] ولم تكن كتبهم في متناول عامة الناس كما هي اليوم. فيظهر من هذه الجملة أن ما نزل في الكتب كانت واضحة للناس جميعا لو كانت تتلى عليهم من دون تبديل وتغيير.

وكان علماؤهم يعلمون حسبما ورد في كتبهم أن هذا النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو الرسول الموعود وفي القرآن آيات عديدة تدل على البشارات الواردة في التوراة والانجيل منها قوله تعالى (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ..).[14] وايضا قوله تعالى (وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ..).[15]

بل ورد ذكر اصحابه صلى الله عليه وآله وسلم ايضا في التورة والانجيل كما في قوله تعالى (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ..).[16]

ولكنهم كانوا ينكرون ذلك او لا يتلونه على عامة الناس او يحرفون الكلم او يأوّلون الكلام حتى لا ينطبق على الرسول صلى الله عليه وآله وسلم او يأتون بالشبهات لاستبعاد ذلك.  

ويظهر من شعر ابي طالب عليه السلام أن الامر كان معروفا لدى العرب ايضا في ذلك الزمان وأنهم رأوا البشارات في كتبهم مع أنهم كانوا يحاولون اخفاءها حيث قال (ألم تعلموا أنا وجدنا محمدا - نبيا كموسى خُطَّ في أول الكتب).

ومن هذه البشارات ما بقي الى الآن بعض آثاره بالرغم من التغيير المستمر الوارد على كتبهم نذكر من باب المثال موردا واحدا مما وقفنا عليه فقد ورد في انجيل يوحنا المطبوع في الكتاب المقدس حاليا بهذه الصورة:

(إن كنتم تحبونني فاحفظوا وصاياي. ١٦ وأنا أطلب من الآب فيعطيكم معزيا آخر
ليمكث معكم إلى الأبد. ١٧ روح الحق الذي لا يستطيع العالم أن يقبله لأنه لا يراه ولا
يعرفه).[17]

وفي موضع اخر (ومتى جاء المعزي الذي سأرسله أنا إليكم من الآب روح الحق الذي من عند
الآب ينبثق فهو يشهد لي. ٢٧ وتشهدون أنتم أيضا لأنكم معي من الابتداء).[18]

وفي موضع اخر: (وأما الآن فأنا ماض إلى الذي أرسلني وليس أحد منكم يسألني أين تمضي. ٦ لكن لأني قلت لكم هذا قد ملأ الحزن قلوبكم. ٧ لكني أقول
لكم الحق إنه خير لكم أن أنطلق. لأنه إن لم أنطلق لا يأتيكم المعزي. ولكن إن
ذهبت أرسله إليكم. ٨ (الى ان يقول) إن لي أمورا كثيرة أيضا لأقول لكم ولكن لا تستطيعون أن تحتملوا الآن. 13 وأما متى جاء ذاك روح الحق فهو يرشدكم إلى جميع الحق لأنه لا يتكلم من نفسه بل كل ما يسمع يتكلم به ويخبركم بأمور آتية).[19]

وكلمة المعزي التي وردت في هذه النصوص هي محل الشاهد فانها وردت في ترجمة اخرى بعنوان (الفارقليط) فقد نقل في المنار هذه القطع عن تراجم مطبوعة في لندن في السنين 1821 و1831 و1844 ووردت هذه الكلمة في هذه الترجمات بفارقليط.[20] وهذه الترجمة تحريف لكلمة بيراكليتوس باليونانية الى باراكليتوس المعربة بفارقليط والاول بمعنى الاكثر حمدا والثاني بمعنى المسلي والمعزي. والاكثر حمدا ينطبق على اسم الرسول احمد صلى الله عليه وآله وسلم.

وبهذا التحريف زعموا ان المراد به روح القدس وانه مستمر مع علمائهم وان هذا هو المراد بكلمة السيد المسيح عليه السلام مع ان هذا التاويل لا يلائم بعض ما ورد في هذه النصوص وهو قوله (انه خير لكم ان انطلق لانه ان لم انطلق لا يأتيكم المعزي) او الفارقليط ومن المعلوم ان وجود السيد المسيح عليه السلام بينهم لا يمنع من نزول روح القدس عليهم.

وهناك من يقول ان الرسول اسمه محمد ولا يسمى باحمد وهو خطأ فقد ورد هذا الاسم في القرآن في سورة الصف وفي شعر ابي طالب عليه السلام مكررا منها قوله:

لعمري لقد كُلِّفْتُ وجدا بأحمد – وأحببته حب الحبيب المواصل

وما ذكرناه مثال لتحريف النصارى وأما كتمان اليهود والنصارى للبشارات ولعلامات الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في كتبهم ففي القرآن آيات عديدة تصرح به.

والجملة الاخيرة تذكر جزاء هذا الظلم والخيانة العظمى وهو طردهم من رحمة الله تعالى كما طرد ابليس وهذا أشد العذاب فقال (اولئك يلعنهم الله) واللعن: الابعاد والطرد. ومن هنا يقال للذئب: لعين. فاللعن من الله تعالى هو نفس الابعاد والطرد من رحمته فلا ينال شيئا من رحمته الواسعة التي شملت كل شيء وهذا يدل على أن هؤلاء شر الناس وأن اثمهم أكبر الآثام ولا يشبههم احد الا ابليس.

والسر في ذلك أنهم يظلمون الناس أسوأ الظلم ويمنعونهم من أهم نعم الله تعالى وهي الهداية والوصول الى دين الحق ويكتمون البينات التي بينها الله تعالى للناس وهذا الامر هو منشأ كل شحناء وعداء بين الناس لانهم لو اجتمعوا على دين واحد ومذهب واحد وكلمة واحدة لم تنشأ الحروب العنصرية والطائفية وغيرها فالدين يجمع كل العناصر والطوائف ويسيطر على القلوب ويمنع من كل انواع التناحر فكل ما ينشأ من الظلم والعدوان بين الناس انما ينشأ من اختلافهم في الدين وهذا الاختلاف ينشأ من كتمان علماء الدين للحقائق سواء من اهل الكتاب او من المسلمين او غيرهم.

ولكن طغاة المسلمين لم يتمكنوا من كتمان آيات الله تعالى فاهتموا بمنع وصول البيان والتفسير من الرسول صلى الله عليه وآله وسلم الى الناس وقد منع الاولون كتابة الحديث النبوي فلم يكتب الا بعد قرن من وفاته صلى الله عليه وآله وسلم لانهم رأوا أن القرآن يمكن تأويله والحديث واضح الدلالة.

مضافا الى التحريف والتأويل في الآيات والروايات التي تخص ولاية امير المؤمنين عليه السلام او لا تروق السلطة الغاشمة كما أنهم كانوا يختلقون الاحاديث لتأييد السلطة كالروايات التي تأمر باطاعة اي ظالم وفاسق حتى لو تسلط على رقاب المسلمين بالقهر والغلبة.

وينبغي هنا أن ننبّه على أن كتمان الحق ربما يكون واجبا لحفظ النفس وهو المراد بالتقية وقد قال تعالى (مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ)[21] وقال ايضا (لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ).[22]

ولكن ليس كل خوف مبررا لكتمان الحق. والائمة عليهم السلام مع أنهم امروا بالتقية الا انهم كانوا يظهرون الحق ويقفون في وجه الباطل في موارد عديدة ولذلك كان الظالمون يخافون منهم ويكيدون لهم المكائد ويقتلونهم ويسجنونهم وينفونهم من اوطانهم فلا بد للمؤمن في كل موقف من محاسبة الخطر الذي يهدده والضرر الذي يلحق بالدين واهله من كتمان الحق ليصل الى الطريق الصحيح المناسب.

وانما يحرم الكتمان ويستوجب اللعن اذا كان لحفظ المصلحة الشخصية وربما يكون الكتمان للمصلحة العامة وقد يكون واجبا كما صدر من الائمة عليهم السلام في موارد خاصة لمصلحة المؤمنين ولكن في خصوص الموارد الموسعة التي لا تحتوي على تكليف الزامي نظير ما ورد في الروايات من الاختلاف في ركعات النوافل ونحوها من الموسعات.

روى الكشي بسنده عن عبد الله بن زرارة حديثا طويلا عن أبي عبد الله عليه السلام وفيه (فلا يضيقن صدرك من الذي أمرك أبي عليه السلام وأمرتك به وأتاك أبو بصير بخلاف الذي أمرناك به فلا والله ما أمرناك ولا أمرناه الا بأمر وسعنا ووسعكم الاخذ به ولكل ذلك عندنا تصاريف ومعان توافق الحق ولو أذن لنا لعلمتم أن الحق في الذي أمرناكم به فردوا إلينا الامر وسلموا لنا واصبروا لأحكامنا وارضوا بها... (الى ان يقول) وعليك بالصلاة الستة والأربعين وعليك بالحج أن تهل بالافراد وتنوي الفسخ إذا قدمت مكة.. ثم قال: والذي أتاك به أبو بصير من صلاة إحدى وخمسين والاهلال بالتمتع إلى الحج وما أمرناه به من أن يهل بالتمتع فلذلك عندنا معان وتصاريف لذلك ما يسعنا ويسعكم ولا يخالف شيء منه الحق ولا يضاده والحمد لله رب العالمين).[23]

وأما قوله تعالى (ويلعنهم اللاعنون) فالمراد باللعن فيه وان أمكن أن يكون بمعنى الطرد ايضا الا أن طرد الناس أحدا لا يعتبر عذابا ولا يدل على أنه سيء فالناس كانوا يطردون الانبياء ومن يتبعهم كما قال تعالى (فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ)[24] وغيرها من الايات وهي كثيرة فالظاهر أن المراد باللعن في هذه الجملة الدعاء بالطرد بخلافه في الجملة الاولى لان اللعن هناك من الله تعالى وهنا من غيره ولذلك كرر ذكر الفعل للاشارة الى اختلاف المعنى.

والمراد باللاعنين الملائكة والمؤمنون لانهم يلعنون كل ظالم فيشمل هؤلاء الكاتمين للحق فانهم أظلم الناس وفي بعض تفاسير العامة ان المراد بهم دواب الارض واتّبعوا في ذلك رواية رووها عن البراء بن عازب قال (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون " قال: دوابّ الأرض). [25]

وفي المقابل روى العياشي في تفسيره مرسلا عن عبد الله بن بكير عمن حدثه عن أبي عبدالله عليه السلام في قوله "أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون" قال (نحن هم وقد قالوا هوامّ الأرض).

واضطرب مفسرو الحديث في توجيهه بل كتبه بعضهم (هو أم الارض) وبملاحظة حديث العامة يتبين مراد الامام عليه السلام ولكن لو صحّ حديث العياشي فمعنى قوله عليه السلام (نحن هم) اي نحن اللاعنون.

وبناءا على ذلك يمكن حمل اللعن على معناه الاصلي اي الطرد بنفسه لا الدعاء باعتبار ان الطرد من رحمة الله والدخول في رحمته بايديهم عليهم السلام يوم القيامة فهم اصحاب الاعراف الذين يخاطبون اصحاب الجنة (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ)[26] كما أن اللعنة بيدهم حيث قال تعالى (فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ).[27]

وفي حديث رواه الكليني قدس سره عن أحمد بن عمر الحلال قال (سألت أبا الحسن عليه السلام عن قوله تعالى "فاذن مؤذن بينهم أن لعنة الله على الظالمين" قال: المؤذن أمير المؤمنين عليه السلام).[28] ومن الواضح أن الاقوال هناك افعال وليس مجرد اعلام.        

 

إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160)

ان الله تعالى برحمته الواسعة ورأفته بعباده لا يسدّ الباب على أحد مهما عظم اثمه وبعد عن الحق والذي يكتم آياته تعالى عن الناس مع انه يرتكب اكبر الكبائر ويستحق عليه اللعنة الخالدة الا ان الله تعالى فتح له باب التوبة ليرجع عن غيّه وضلاله.

وفي هذا مضافا الى الرحمة الواسعة حكمة عظيمة فان رجوع مثل هذا العالم عن ضلالته يستتبع رجوع خلق كثير ممن اتّبعوه وتأثّروا بكتمانه الحق. ولذلك لم يكتف في غفرانه بالتوبة بل اضاف اليه الاصلاح والتبيين بان يبيّن للناس ما كتمه عنهم من الحق.

والظاهر ان عطف التبيين على الاصلاح عطف تفسير فالاصلاح في هذا المقام لا يتم الا بالتبيين الا أن في ذكر الاصلاح اشارة الى أن قبول التوبة في كل مورد من هذا القبيل يتوقف على اصلاح ما افسد ففي هذا المقام يتحقق بالتبيين وفي غيره بوجه اخر.

والتوبة في مثل هذه الاثام تختلف عن التوبة في المعاصي الشخصية فاذا اتهم الانسان مؤمنا ونسب اليه امرا لم يفعله ربما لا تكفيه التوبة والاستغفار بل عليه ان يرفع عنه التهمة ويخبر الناس بان ما قاله فيه غير صحيح ومن افسد بين شخصين او طائفتين واوقع بينهما البغضاء والتناحر فعليه ان يصلح بينهما ولا يكتفي بالتوبة بينه وبين ربه ومن ضرب احدا بما يستوجب الدية فيجب ان يدفع له الدية وهكذا.

بل حتى في المعاصي الشخصية لا بد من اصلاح ما افسد فاذا ترك الصلاة فعليه القضاء واذا ترك الصوم فعليه القضاء والكفارة وان كان هذا الاصلاح لا علاقة له باصل التوبة الا ان قبول التوبة منوط بهذه الامور على فرض تمكنه.

وعليه فعطف التبيين على الاصلاح باعتبار ان مقتضى الاصلاح في هذا المورد هو تبيين الحق كما ان مقتضاه في كل مورد رفع تلك المفسدة التي استتبعها اثمه بل اذا لم يبين لم تتحقق التوبة منه لانه باق على كتمانه فان الكتمان ليس فعلا بل هو ترك لما هو واجب عليه من بيان آيات الله تعالى فاذا لم يبين بعد التوبة فهو باق على ذنبه المستمر.

ومن لطفه تعالى بعباده العاصين يعدهم بانهم اذا تابوا واصلحوا وبينوا فان الله يتوب عليهم ولم يقل اقبل توبتهم وارفع عنهم العذاب بل اتوب عليهم اي ارجع عليهم بالرحمة والمغفرة. والتوبة: الرجوع.

وعلل ذلك بأنه تعالى تواب رحيم اي كثير الرجوع على عباده العاصين وفيه اشارة الى انه يتوب عليهم كلما عصوا ثم تابوا والتوصيف بالرحيم لعله لتعليل كثرة رجوعه تعالى على عباده العاصين بأن ذلك ينشأ من رحمته الواسعة.

 

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ * خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (161 – 162)

جملة استينافية واختلف المفسرون في المراد بالذين كفروا في هذه الآية فقيل المراد بهم المشركون لان هذا التعبير في القرآن الكريم اي (الذين كفروا) يطلق عليهم حسبما يستفاد من القرائن فذكرهم هنا من باب تعميم اللعنة عليهم كما كانت عامة على الكاتمين لآيات الله من اهل الكتاب.

وقيل المراد بهم عامة الكفار اذا ماتوا من غير توبة فيشمل الكاتمين وغيرهم من الكفار سواء المشركون او اهل الكتاب فالعناية في هذه الآية باللعنة الابدية على من لا يتوب منهم الى ان يموت في مقابل الاية السابقة حيث بيّن حال التائبين.

ولكن الظاهر بمقتضى السياق ان هذه الاية بمنزلة تكملة للاستثناء السابق فالمراد بهم نفس المذكورين سابقا وهم الكاتمون لآيات الله تعالى والمعنى اما الذين كفروا منهم وماتوا وهم كفار اي لم يتوبوا.. وهذه الاية في الواقع تؤكد على قبول التوبة ما داموا أحياء وتؤكد عليهم ان لا يضيعوا الفرصة.

ومثل هذه المجموعة من الآيات قوله تعالى (كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ * خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ * إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ).[29]

ويبدو من سياق هذه الآيات مع ما قبلها أنها واردة ايضا في اهل الكتاب الذين يحرفون الكتاب ولا يؤمنون بالرسول صلى الله عليه وآله وسلم مع ما لديهم من البينات وان اختلف المفسرون في شأن نزول الايات وانها وردت في من ارتد من اهل الكتاب ام غيرهم.

انما الكلام في اسناد اللعن الى الناس اجمعين وهم باجمعهم لا يلعنون فقيل ان المراد المؤمنون فحسب وسماهم الناس اجمعين باعتبار ان غيرهم لا يعدون اناسا. وهو بعيد في تأويل الناس خصوصا مع التأكيد بالاجمعين مع أن في إسناد اللعن الى كل الناس تقبيحا اكثر لهم ولعملهم.

وقيل إن المراد أنهم في موضع لعن الجميع اي يستحقون ان يلعنهم جميع الناس او بمعنى ان جميع الناس لو علموا عظم جريمتهم لعنوهم باجمعهم او ان الناس باجمعهم يلعنون الظالمين ونحوه من العناوين العامة وهي تشملهم وان لم يقصدوهم باشخاصهم او ان اللعن اذا تعلق باي احد لا يستحقه فانه يعود الى من يستحقه وقيل بانه مفاد بعض الروايات.

ولكن الظاهر أنه لا حاجة الى تأويل فالآية واردة في حالهم يوم القيامة والمراد ان عليهم لعنة الناس اجمعين في ذلك اليوم حيث تتبين الحقائق ويفتضح المجرمون فيلعنهم الملائكة والمؤمنون بل يلعن الفاسقون والكافرون بعضهم بعضا وقد ورد ذلك في قوله تعالى (ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا..)[30] وقال ايضا (وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا * رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا).[31]

والضمير في قوله (خالدين فيها) يعود الى اللعنة باعتبار انها تستلزم دخولهم النار فهم خالدون فيها لان اللعنة من الله طردهم من كل ما تستوجبه الرحمة. والنار ليس فيها تخفيف بل العذاب مستمر وفي تعاظم وتوسع.

والنظر كما في معجم المقاييس هو تأمل الشيء ومعاينته. وساير ما يستعمل فيه كالامهال والانتظار يرجع الى هذا الاصل وفي قوله (ولا هم ينظرون) يمكن ان يكون بمعنى الامهال كما في قوله تعالى (وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذَابَ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ)[32] ومعناه هنا أنهم لا يخرجون منها ولو لمهلة قصيرة كما في قوله تعالى (وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ).[33]  

ويمكن ان يكون من النظر اليهم والمراد ان الله تعالى لا ينظر اليهم نظر رحمة كما قال تعالى (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)[34] ومورد هذه الآية ايضا نفس اهل الكتاب الذين اشتروا بعهد الله ثمنا قليلا.

والنظر بهذا المعنى كما يتعدى ب– (الى) و(في) يتعدى بنفسه ايضا كما في قوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا..).[35]

 

وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (163)

يبدو من تفسير الميزان أن هذه الآية لا علاقة لها بما قبلها بل تبدأ هنا مجموعة اخرى من الآيات وهذه مقدمتها.

ولكن الظاهر أن الآية مرتبطة بما قبلها وهي مكملة لمخاطبة الذين كفروا من اهل الكتاب وحاولوا إخفاء حقائق الكتب التي لديهم لئلا يعترفوا برسالة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فالله تعالى ينبههم على أن الاله الذي تدعون اليه هو الاله الذي تدعو اليه هذه الرسالة فالضمير المخاطب يراد به اهل الكتاب والمسلمون معا. والاله بمعنى المعبود.

ومن جهة اخرى ينبههم على التمسك بالاله الواحد وعدم متابعة الاهواء وعدم اتخاذ الهوى الها فان الامتناع من بيان الحقائق انما كان بسبب خوفهم على فقدان منزلتهم بين العامة او عدم وصولهم الى الاموال التي كانوا يكتسبونها منهم.

وفيه ايضا تنبيه للمنع من تأليه بعض البشر كما قال تعالى (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ).[36]

وقال ايضا (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ).[37]

والمراد بجعلهم اربابا متابعتهم متابعة عمياء واطاعتهم اطاعة مطلقة. وهذا نوع من العبادة كما قلنا في تفسير قوله تعالى (اياك نعبد واياك نستعين) فلا تجوز الا لله تعالى.

والوحدة في قوله اله واحد وحدة عددية وليست هذه صفة لله تعالى بل صفة للاله فمعنى الجملة ان المعبود الذي تجوز عبادته معبود واحد فلا تجوز عبادة غيره. فالاتيان بكلمة (اله) مرة اخرى لافادة أن المعبودية لا تليق الا به ولو قال والهكم واحد لم يفد هذا المعنى لان كل شيء بذاته واحد فالمراد ان الهكم الذي تليق به الالوهية واحد فلا تليق هذه الصفة بغيره.  

واما قوله تعالى (لا اله الا هو) فقد قال بعضهم انه تأكيد للجملة السابقة ولا يفيد معنى آخر ولكن الظاهر أنها تفيد أن الاله بقول مطلق ليس الا هو لان الجملة السابقة يخاطب البشر بان الهكم اله واحد فربما يتوهم انه اله الارض وللسماء اله او للملائكة اله او للجن اله فهذه الجملة تصرح بانه لا اله في الوجود الا هو.

وهنا اشكال مشهور في الخبر المقدر في الفقرة الاولى اي قوله (لا اله) فان كان المقدر لا اله موجود الا الله فلا يفيد استحالة وجود اله اخر واذا كان المقدر لا اله ممكن الا الله لم يفد ان الله تعالى موجود واله بالفعل وانما يفيد أنه ممكن مع انه واجب الوجود.

ويمكن ان يقال انها تفيد المعنى المقصود على كلا الفرضين اما اذا كان التقدير لا اله موجود الا الله فان هذه الجملة توجه الى من يعتقد بوجود الله تعالى بل يراه الها ايضا ولكنه يشرك معه غيره في العبادة فيقال له انه ليس بين ما هو موجود اله غيره تعالى. واما اذا قدرنا الامكان فهذه الجملة ليست كفيلة باثبات وجود الله تعالى وانما تدل على عدم امكان اله غيره واما اثبات وجوده تعالى ووجوب عبادته فلهما ادلتهما.

والحاصل أن الاشكال نشأ من فرض أن هذه الجملة تثبت كل ما هو مقصود في مواجهة منكري وجوده تعالى ومنكري الوهيته والمشركين بينما الجملة تتكفل منع الوهية غيره تعالى فحسب دون سائر ما يراد اثباته او منعه في هذا المجال.

وربما يقال ان هذه الجملة تنفي الالوهية الفعلية لغيره تعالى ولا تنفي الوهية غيره في ظروف اخرى ربما تتحقق في المستقبل.

والجواب عنه أن الالوهية ليست امرا مكتسبا ولا تتبع الظروف الطارئة وليست مما تزول عن الاله فكل هذه المباني يجب ان تثبت ويستدل عليها وهذه الجملة تدل على أن تلك الالوهية ليست الا لله تعالى.

ويمكن تفادي كل ما يتوهم من الاشكال بأن تقدر الجملة هكذا لا اله مستحق للعبودية الا الله تعالى فلا يستحق العبودية في اي زمان فرض غيره. والنتيجة ان الجملة لا تنفي وجود آلهة تعبد بالفعل من قبل جماعة من البشر غيره تعالى لانه هو الواقع وانما تنفي استحقاق العبودية عن غيره تعالى.

وتوصيفه تعالى في اخر الجملة بالرحمة المؤكدة بذكر صفتين مما تدلان على رحمته للاشارة الى دليل انحصار الالوهية فيه تعالى لانه هو المنعم على الجميع ولانه هو الذي بسط رحمته على الجميع وخلق كل ما يتنعم به الجميع ولا شيء مما يعبد غيره خالقا لشيء ولا منعما على الخلق فلا يستحقون العبادة.

ومن جهة اخرى هذا التوصيف يربط العبادة بالحب والانجذاب الى رحمته تعالى بعباده حتى مع كل ما يظهرونه ويعلنونه من الكفر والفسق والفساد وهذا افضل من حثهم على العبادة خوفا من عقابه بل حتى العبادة ادراكا لعظمته فعبادة الحب اولى واقرب الى القلب واكثر تأثيرا في النفس واجتنابا للمعصية وبعثا للشوق اليه والى الطافه الخفية.

وقد مر الكلام بقدر من التفصيل حول الاسمين الكريمين في تفسير البسملة.

 


[1] الكافي ج 4 ص 245 باب حج النبي صلى الله عليه واله وسلم

[2] الكافي ج 4 ص 435 باب السعي بين الصفا والمروة

[3] الانفال : 61

[4] النساء : 101

[5] من لا يحضره الفقيه ج 1 ص 434 باب وجوب القصر

[6] لقمان : 12

[7] الانسان : 22

[8] الكافي ج4 ص 202 باب حج ابراهيم واسماعيل عليهما السلام

[9] البقرة : 144

[10] البقرة : 187

[11] البقرة : 99

[12] الاسراء : 101

[13] البقرة : 78

[14] الاعراف : 157

[15] الصف : 6

[16] الفتح : 29

[17] انجيل يوحنا : الاصحاح 14

[18] انجيل يوحنا : الاصحاح 15

[19] انجيل يوحنا : الاصحاح 16

[20] المنار في ذيل تفسير الاية 157 من سورة الاعراف

[21] النحل : 106

[22] ال عمران : 28

[23] اختيار معرفة الرجال ج 2 ص 252

[24] النمل : 56

[25] سنن ابن ماجة ج 2 ص 1334

[26] الاعراف : 49

[27] الاعراف : 44

[28] الكافي ج 1 ص 426

[29] ال عمران : 86 - 91

[30] العنكبوت : 25

[31] الاحزاب : 67 - 68

[32] النحل : 85

[33] غافر : 49

[34] ال عمران : 77

[35] البقرة : 104

[36] ال عمران : 64

[37] التوبة : 31