إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164)
اسم إن قوله لآيات في آخر الآية واللام لام القسم للتأكيد. وهذه الآية ليست للتعليل للاية السابقة كما في الميزان. و(ان) هنا لا تفيد التعليل كما قال بل للاية مضمون مستقل ولكنها بمنزلة الدليل للاية السابقة حيث حكم فيها بأن الله تعالى هو اله الكون والاله هو المعبود كما مر. والعبادة لا تكون الا لجلب المنفعة ودفع الضرر فالانسان يبحث عن المؤثر في الكون بكل ما فيه من خير وشر ليلتجئ اليه طلبا للخير وتجنبا عن الشر.
وهذا معنى الربوبية فالعبادة خاصة بمن هو رب الكون. وقد بينا في تفسير سورة الفاتحة أن الرب من ربب وهو حسبما ورد في كتب اللغة المالك للشيء المصلح له. ويحتمل أن يكون بمعنى المربي ايضا كما ورد في مفردات الراغب ونهاية ابن الاثير باعتبار التحويل كالتظني من التظنن والتمدي والتمطي فيكون الاصل في التربية التربب.
ومهما كان فرب الكون هو المدبر لجميع اموره وهو يستحق العبادة ومن اهم العبادة الدعاء وطلب الحاجات وهذه الاية تتكفل بيان انحصار الربوبية فيه تعالى عن طريق ملاحظة آياته في الكون.
والاية العلامة حيث ان الانسان لا يمكنه ادراك من يدير الكون عن طريق الاحساس لانا لا نرى ولا نشعر بيد غيبية تدير الكون وانما نجد الاثار في الطبيعة تتبع عواملها الطبيعية ولا نشعر بمن يديرها ويتحكم فيها والايات الالهية هي التي تدلنا على وجود ادارة قاهرة حكيمة وراء هذه الظواهر الطبيعية.
والآيات الكونية انما تدل ابتداءا على وجود خالق حكيم صنع كل اجزاء الكون بدقة متناهية ووضع كل شيء موضعه الدقيق لتحقيق هدف منشود ونلاحظ أن هذا الهدف يخصنا وينظم حياتنا وبذلك نعلم أن خلق هذه الاشياء التي سخرها لنا على هذا الكوكب لاصلاح امورنا وتدبير شؤوننا وهذه هي الربوبية المطلقة التي تشمل جميع اجزاء الكون.
والنتيجة ان الربوبية من شؤون الخلق وأن الرب هو الخالق ولا معنى للتفكيك بينهما كما يلاحظ في الفكر الوثني ويتبين بذلك الخطأ العظيم الذي وقع فيه كل من يتوهم أن الله تعالى هو الخالق للكون واما الربوبية فهي مخولة من قبله لعوامل اخرى لم تخلق شيئا بل هي بنفسها مخلوقة تحتاج الى من يدبر امورها ويدير شؤونها مع ان الربوبية والادارة تبدأ من الخلق.
وهذه الاية من الايات الكثيرة التي تشير الى هذا الامر ليتمكن الانسان من معرفة الرب الذي يجب ان يطلب منه كل حاجاته بل هو الذي يحقق كل حاجاته من دون طلب.
وقد ورد ذكر مجموعة من الآيات في هذه الآية الكريمة:
الآية الاولى: خلق السماوات والارض. وله معنيان:
الاول ما أشار اليه المفسرون من أن المراد من خلق الارض خلق هذا الكوكب الذي نعيش عليه وخلق كل ما نراه عليه مما نحتاج اليه في شؤون حياتنا والمراد من السماوات الاجرام الفلكية التي نراها فوقنا مما تمدنا بالنور وبما لا نشعر به من المواد الضرورية.
والهدف من الآية الكريمة الحثّ على ملاحظة ما في خلق هذا الكون الذي نراه من دقة فائقة وصل البشر الى بعض ما فيه من العجائب وملاحظة دقة هذا النظم العجيب في مكونات هذا الكون الذي لو تغير جزء صغير من كميتها او كيفيتها لم يمكن للكون ان يبقى ولا للانسان ان يعيش ويحيا.
ونلاحظ في هذا الصدد وحدة النظم الحاكم على الكون من حولنا في اعظم اجزائه كالمجرات الهائلة والنجوم والكواكب كما هو في اصغر جزء وصلنا اليه بعد اكتشاف الذرة. وهذه الوحدة تدلنا على وحدة الخالق المدبر للكون بوضوح وانه لا يمكن ان يتحكم في هذا الكون العظيم غير خالقه الحكيم.
الثاني والظاهر انه هو المقصود: اصل التكوين من العدم وذلك لان المراد بالسماوات والارض كل الكون مما نراه وما لا نراه والتعبير عن كل ما خلق الله بالسماوات والارض تعبير متعارف ينشأ من ان الانسان اذا نظر الى ما حوله لم يجد الا ارضا تقله واجراما فلكية تظله فيتخيل ان هذا هو كل الكون فيعبر عنه بالسماوت والارض.
ويمكن ان يكون التعبير دقيقا وليس متعارفا باعتبار ان السماوات لا يراد بها الاجرام الفلكية لان السماء بمعنى العلو فكل ما هو عال سماء والمراد هنا العوالم العلوية التي لا نبصرها ولا نصل اليها ولا نعلم عنها شيئا الا انها خارجة عن عالم المادة والطبيعة فالعلو ليس علوا ماديا بل هي مسكن الملائكة وهم معنا ولكنهم فوقنا بمعنى اننا لا نستطيع الوصول اليهم ولا نشعر بهم والمراد بالارض عالم الطبيعة فيشمل كل الاجرام الفلكية.
وبناءا على هذا المعنى فالمراد بخلق السماوات والارض اصل التكوين فان الكون باجمعه ليس ازليا وانما خلقه الله تعالى من العدم.
وهو معنى قوله تعالى (فاطر السماوات والارض) لان الفطر بمعنى الشق وهو تعبير كنائي كأنه تعالى شقّ العدم وأخرج منه الوجود ولم يكن في الكون قبل ذلك شيء وقد ورد في الحديث (لو كان معه شيء في بقائه لم يجز أن يكون خالقا له لأنه لم يزل معه فكيف يكون خالقا لمن لم يزل معه)[1] وهذه أعظم آيات الله تعالى ويهدينا اليها العقل والفطرة.
الآية الثانية: اختلاف الليل والنهار. وهو معطوف على قوله (خلق السماوات..) اي وفي اختلاف الليل والنهار... ولهذا الاختلاف معنيان ايضا:
الاول: اختلافهما بالزيادة والنقيصة فان كلا منهما ينقص كل يوم ليزيد الاخر او يزيد كل يوم وينقص الآخر. وهذا الامر يجري بدقة منتظمة في جميع الفصول بحيث تمكن محاسبته للسنين والقرون الى نهاية السنة الشمسية ثم يعود الى الوضع الاول ولا يحدث اي تغيير في نظم الحركة.
وهذا النظام هو ما يحقق الفصول الاربعة في كل سنة والغرض من التنبيه عليه ملاحظة هذه الدقة في حركة الارض على محوره المائل والدقة في درجة الميلان بحيث تتحقق هذه الفصول التي لا بد منها لاستمرار الحياة الطبيعية على هذا الكوكب.
كيف يمكن للانسان العاقل اذا تخلى عن تعصبه وترك متابعة الاهواء ان يصدّق ان هذه الحركة المنتظمة وعلى محور مائل بدقة متناهية تحققت بالصدفة ولم تكن وراءها ارادة وتدبير وحكمة لتحقيق هدف منشود؟!
ومن جهة اخرى هذا النظم الحاكم على الكون يدل على وحدة المدبر والرب اذ لو كان هناك مؤثر آخر يحكم في نظام الكون لاختل النظم كما انه نظام متناسق مع سائر ما يؤثر في الكون والا لاختل النظام ايضا.
وقوله تعالى (يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ)[2] يمكن ان يراد به هذا المعنى بلحاظ أن كلا منهما ينقص وتدخل جزء من ساعاته في الاخر ويمكن ان يراد به الحالة المتوسطة التي تحصل للجو في بداية كل منهما حيث يختلط النور بالظلام نتيجة لوجود المجال الجوي حول الارض لئلا يخيم الظلام فجاة او تشرق الشمس فجاة حيث يوجب كل منهما حرجا وضيقا على الاحياء.
المعنى الثاني للاختلاف: تعاقب الليل والنهار ومعنى الاختلاف حينئذ ان كلا منهما يخلف الاخر كما قال تعالى (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا)[3] وهو المراد ايضا من قوله تعالى (يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ..).[4] وكذلك قوله تعالى (يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا).[5]
وهنا ايضا يتجلى النظم وانسجام الكون من جهة وتتجلى الرحمة الالهية وانعامه على البشر وغيره من الاحياء من جهة اخرى فان استمرار الليل لا يسمح للناس بالنشاط في مختلف المجالات خصوصا في الوضع الطبيعي كما ان استمرار النهار لا يسمح لهم بالاستراحة والنوم.
قال تعالى (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ * قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ * وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ).[6]
الآية الثالثة: الفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس.
والفُلْك: السفن. وهذا اللفظ يستعمل في المفرد ايضا وقد استعمل في القرآن بالمعنيين فالمراد به هنا الجمع بقرينة اسم الموصول المؤنث وارجاع الضمير المؤنث اليه. واستعمل في المفرد في قوله تعالى (الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ)[7] بقرينة الوصف المذكر. والاصل فيه كل شيء يدور ومنه الفَلَك ولعل تسمية السفينة به باعتبار انها تدور في البحر.
ومهما كان فالغرض هنا ذكر آية اخرى تدل على دقة النظم في الكون وفي نفس الوقت نعمة الهية للبشر وهي السفن التي تجري في البحر وتنقل الناس واثقالهم الى بلاد نائية لا يمكن الوصول اليها لعدم وجود طريق بري او يصعب الوصول اليها بسبب الجبال خصوصا في العصور السابقة او يكون السفر مكلفا. والحمل في السفن حتى الان ارخص طريقة للنقل ويمكن حمل اثقال عليها اكثر من اي وسيلة اخرى خصوصا في الازمنة السابقة.
والباء في قوله (بما ينفع الناس) للمصاحبة اي تجري ومعها ما ينفع الناس من الاحمال او سببية و(ما) مصدرية اي تسير بنفع الناس. ومن الواضح ان بعض السفن تجري بما يضر الناس كالسفن الحربية التي كانت ولا تزال تنقل الموت والدمار ولكن النعمة تتجلى في السفن التي تحمل الاثقال النافعة. والضرر انما يأتي من الانسان حيث يستخدم نعم الله تعالى في غير ما احله الله.
والنظم المقصود هنا هو طبيعة البحر والماء وطبيعة الخشب الذي كانت السفن تصنع منه والهيئة الخاصة بالسفينة حتى لو كانت من حديد وطبيعة الشراع والرياح الموافقة وكل مستلزمات صنع السفن وجريها في البحر في كل زمان حسب التقدم الحضاري للبشر فكل هذا من صنع الله تعالى ولا يوجد في الكون خالق غيره وما يصنعه البشر ليس الا استخداما للمواد الطبيعية التي خلقها الله تعالى والبشر لا يخلق شيئا وانما يركّب هذه المواد او يجزؤها ويستخدمها حسب علمه وخبرته.
وما يصنعه الانسان مستند الى الله تعالى ايضا كما قال (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ)[8] اذ لا خالق في الكون غيره وهو خالق كل شيء ولا يمكن ان يوجد شيء الا بارادته واذنه مضافا الى ان الانسان لا يتحرك الا بما يمدّه الله تعالى من طاقة ولا يدرك شيئا الا بموهبته بل لا يريد شيئا الا اذا اراد الله تعالى كما قال (وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ).[9]
وفي صناعة الفلك خصوصية وهي أنها صنعت اول ما صنعت بوحي من الله تعالى وعلى يد نبي من انبيائه وهو نوح عليه السلام كما قال تعالى (وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا)[10] فان ظاهره انه لولا الوحي ما كان يستطيع صنعه.
الآية الرابعة: ما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الارض بعد موتها وبثّ فيها من كل دابّة.
ومن أعظم نعم الله تعالى على الارض نزول المطر وبدونه لا يمكن لنا الاستمرار في الحياة كما انه ايضا مما يحتاج اليه الحيوانات والنباتات. والماء العذب على وجه الارض ليس الا من المطر النازل من السماء. والمراد بها المكان المرتفع لان السُّمُوّ: الرِفعة. والمياه الجوفية العذبة كلها من المطر.
ومن نعمه تعالى وآياته وبديع خلقه هذا الجهاز الطبيعي الصانع للمطر من تبخير البحار باشعة الشمس وارتفاع البخار الى اعالي الجو وتحوله بنظم بديع الى حالات مختلفة من الماء العذب السائل والمتجمد ونزوله على الارض ودخوله في مسارب في الجبال والاودية والسهول ونبعه في اماكن مختلفة متباعدة وفي طول ايام السنة من الابار والعيون والقنوات وتكوّن الانهار الكبيرة والصغيرة والجداول وسقي الارض والحيوان والانسان والنبات.
والمراد بإحياء الارض حركتها ونشاطها في اخراج النبات و انمائه وليس تعبيرا مجازيا عن تسببها في الحياة النباتية بل هي بذاتها تحيا وتنشط ولذلك قال تعالى (وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ)[11] والهمود: الموت. كما في العين وهمدت النار انطفأت. وعبّر عن حياتها وحركتها بالاهتزاز. والربو اي الارتفاع.
وقال تعالى ايضا (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)[12] وهنا استشهد بهذا الاحياء على احياء الموتى.
والظاهر أن قوله (وبثّ فيها..) عطف على قوله (فاحيا به الارض) فيدل على ان من فوائد المطر بثّ الحيوانات المختلفة في الارض. والبثّ: النشر. والدابة: كل ما يدبّ على الارض اي يتحرك. والدبيب: المشي الخفيف فمعنى الآية أنّ انتشار انواع الحيوان على وجه الارض من آثار نزول المطر وذلك لأن المطر سبب انتشار الحياة.
وقيل انه عطف على قوله (أنزل) فتكون هذه الجملة اشارة الى آية اخرى وهي انتشار الدواب بانواعها ولا شك في ان انتشار مختلف الدواب من آياته تعالى ويترتب على وجود كل نوع منها فائدة في المحافظة على البيئة والطبيعة كما أن في تكون كل منها وأداء دورها في الطبيعة وتناسلها وما تشتمل عليه من الخصائص في جسمها آيات كثيرة ولكن الآية لا تشير الى ذلك بل الى ترتب وجودها على نزول المطر.
مضافا الى أن عطفه على قوله (انزل) بعيد لان الاولى حينئذ تكرار الموصول لانهما آيتان تختلفان ولا علاقة بينهما بناءا على هذا الاحتمال فهناك آيتان على وجه الارض نزول المطر وانتشار الدواب فالانسب تكرار الموصول.
الاية الخامسة: تصريف الرياح.
والتصريف تغيير الشيء من حالة الى حالة او من جهة الى جهة. والرياح تؤدي دورا مهما في الطبيعة فهي تصنع السحاب بتحويل الابخرة الى الاجواء الباردة كما عبر عنه تعالى بالتلقيح في قوله (وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ)[13] وهي ايضا تنقل السحاب من مكان الى مكان كما قال تعالى (وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا..).[14]
وهي ايضا تغير الاجواء في الاماكن المختلفة وتنظف الهواء وتلقح النباتات بنقل حبوب الطلع الى المياسم الانثوية في النبات. وربما تكون عذابا فتدمر البلد كما قال تعالى (فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ * تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ).[15]
الآية السادسة: السحاب المسخر بين السماء والارض.
في تكوين السحاب آية وفي تصريفه ونقله الى اماكن مختلفة بواسطة الرياح آية وفي نزول المطر والثلج وغيرهما منه آية وفي رعده وبرقه آية الى غير ذلك من الاثار التي تترتب على وجود السحاب في الجو.
والمراد بتسخيره أنه كسائر أجزاء الكون تحت تسخيره تعالى ويعمل بارادته في انتقاله وفي انزال المطر ونحوه والمراد بالسماء هنا - على ما يبدو - الغلاف الجوي الذي نراه باللون الازرق فوقنا فالسحاب يتكون بين هذا الغلاف الازرق وبين الكرة الارضية.
في هذه الامور وغيرها من اجزاء الكون والنظم الحاكم فيها آيات على قدرته تعالى وحكمته وربوبيته المطلقة ولكنها آيات لقوم يعقلون.
والعقل في اصل اللغة بمعنى الحبس ومنه عقال البعير يقال لما تربط به يداه. ويطلق ايضا على ما يمنع الانسان من السفاهة والعمل الباطل ويقابله الجهل وبهذا اللحاظ يطلق ايضا على إدراك الانسان للحقائق التي بسببها يتجنب السفاهات ويبصر طريق الحق ويميزه عن الباطل.
وهذا هو المراد بالعقل هنا فالذي لا يعقل لا يصل الى هذه الآيات وان كان عالما بحقائق الطبيعة بل كان اعلم الناس بها كما نجد في عصرنا أن كثيرا ممن يسمون بالعلماء مع غزارة علمهم وسعة اطلاعهم على أسرار الطبيعة لا يؤمنون بالله تعالى فلا تكون هذه الحقائق آية موصلة لهم الى وجود الخالق وحكمته وقدرته وربوبيته لانهم لا يتجاوزون خصائص الطبيعة وما يصلون اليه من العلم بالمادة وشؤونها فليس لهم ذلك العقل والادراك الذي يعبر ظواهر الكون لمعرفة ما وراءها كما قال تعالى (يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ).[16]
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ...
هذه الآية تندد بالمشركين من وجهة غير ما هو معروف في الاديان من التنديد بالشرك في العبادة ففي هذه الآية تنديد في الاشراك بالحب وبعد ذكر بعض نعمه تعالى في الآية السابقة تنبه هذه الآية على أمر غريب من الانسان الكفور لربه حيث إنه يفتح قلبه لغير من أحبه وأنعم عليه بشتى النعم من دون أن يطلب منه جزاءا. نعم يحب غير ربه وهو لم ينعم عليه بشيء ويحبه كما يجب ان يحب ربه!!
والمعروف نحويا في مثل هذه الجمل أن (من الناس) خبر مقدم وما بعده مبتدأ ولكن الظاهر أن (من) هنا بمعنى بعض وهو مبتدأ. والدليل عليه أن الجملة ليست بصدد بيان أن من يكون كذلك من الناس بل الغرض بيان أن بعض الناس يتصفون بهذه الصفة.
والمراد الاشارة الى من يشركون غيره تعالى في الربوبية ويعتقدون أن لهم تأثيرا في الكون بالاستقلال فهم أنداد لله تعالى فيحبونهم كما يحبون الله تعالى ويعبدونهم لانهم يرون أن بعض ما يصلهم من الخير انما هو منهم.
والند كما في العين ما كان مثل الشيء يضادّه في اموره. وفي معجم مقاييس اللغة إنّ اصله ما (يدل على شرود وفراق) فالاصل فيه المضادّة لا المماثلة كما في التفاسير الا انه يطلق على المثل المخالف لمخالفته ومنازعته لا لمماثلته فالمراد هنا المماثل الذي اعتبره الانسان مضادّا لله تعالى في ربوبيته.
والتعبير بالاتخاذ للاشارة الى انهم يختلقون الانداد لان الله تعالى ليس كمثله شيء ولا يضادّه شيء في حكمه فلا يمكن ان يكون له ندّ.
وقوله (من دون الله) اي بدلا عن الله حتى لو كانوا يعبدون الله ايضا الا ان هذا الاعتقاد يجعلهم يعبدون او يطلبون حاجاتهم في بعض الموارد من هذه الانداد المختلقة فهم هنا يعرضون عن الله ويعبدون بدلا عنه ما اختلقوه من الانداد الوهمية وهذا هو الشرك الواضح.
ولكن الامر لا يختص بالمشركين وعُبّاد الاصنام بل ربما يحصل لبعض المؤمنين الاعتقاد بأن لغيره تعالى تاثيرا في الكون بالاستقلال فينتهي به الامر الى عبادة غيره تعالى ولو بالدعاء وطلب الحاجة.
والواجب على المؤمن ان لا يرى مؤثرا في الكون غيره تعالى فلا يصمد بحاجته الا اليه ولا يرى لاحد منّة عليه الا لله كما قال تعالى (قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ).[17]
وفي المنار ان المشركين ما كانوا يعتقدون ان الاصنام يماثلون الله في الخلق او الربوبية بل يعتقدون انهم شفعاء وانهم يقربونهم الى الله زلفى فالنّدّ ليس هو المثل او المثل المضاد بل كل من يطلب منه ما يطلب من الله تعالى.
وهذا غير صحيح بل المشركون على اقسام فقسم منهم ينسبون الربوبية والتاثير المباشر الى الاصنام وغيرها ولذلك ردّ عليهم في الاية انهم يوم القيامة يعلمون ان القوة لله جميعا. وصاحب المنار انما ذكر ذلك وأصرّ عليه لانه يريد ان يفسر الآية بأن كل استشفاع وتوسل شرك الا ما كان من التوسل بالاسباب الطبيعية.
وقد اجبنا عليه سابقا بانه لو استلزم الشرك فلا فرق بين القسمين كما لو كان الانسان يعتقد بان الاسباب الطبيعية تؤثر باستقلال واذا لم يستلزم فلا فرق ايضا كمن كان يطلب من السيد المسيح عليه السلام شفاء مريضه باذن الله تعالى.
ومهما كان فالحكم لا يختص بالمشركين ولا تختص الانداد بالاصنام بل يشمل كل من يطيع شخصا اطاعة عمياء لانه يعتبر غير الله ممن تجب اطاعته اطاعة مطلقة وهذا نوع من العبادة ولذلك قال تعالى (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ..)[18] والناس لا يعبدون الشيطان الا بالاطاعة فاذا كان الانسان يطيع احدا اطاعة مطلقة فهو ممن اتخذه ندا لله تعالى.
ومن هذا الباب ايضا قوله تعالى (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ)[19] فان عبادتهم للاحبار والرهبان لم تكن الا بالاطاعة العمياء.
ومن هنا جاء في الحديث أن هذه الآية تشمل أتباع الظلمة لانهم ايضا يطيعونهم طاعة عمياء وفي معصية الله تعالى.
روى الكليني بسنده عن جابر قال (سألت أبا جعفر عليه السلام عن قول الله عز وجل "وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ" قال: هم والله أولياء فلان وفلان اتخذوهم أئمة دون الامام الذي جعله الله للناس إماما فلذلك قال "وَلَوْ تَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ... الايات (الى ان قال) ثم قال أبو جعفر عليه السلام: هم والله يا جابر أئمة الظلمة وأشياعهم).[20]
ثم وصف هؤلاء المتخذين للانداد بأنهم يحبون أندادهم كحب الله. وارجاع ضمير ذوي العقول الى الانداد في قوله (يحبونهم) باعتبار ان الحكم لا يختص بالاصنام كما قلنا ولو فرض ان المراد بالانداد خصوص الاصنام فارجاع هذا الضمير بلحاظ أنهم اعتبروها الهة والاله لا يكون الا عاقلا عالما.
والظاهر أن المراد ليس تشبيه حبهم للانداد بحبهم لله فانهم لا يحبون الله تعالى كما قال (وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ)[21] بل المراد أنهم يحبون الانداد كما يجب ان يحبوا ربهم فهم يجعلونهم بمنزلة الله تعالى في الحب.
واما قوله تعالى (والذين آمنوا أشدّ حبّا لله) فليس مقارنة بين حب المؤمنين لله وحب المشركين لما تبين من انهم لا يحبون الله بل الظاهر أن المراد كون حبّ المؤمنين لله أشدّ من حبهم لاي شيء آخر فهم لا يفضلون على التقرب الى الله تعالى ونيل مرضاته شيئا وسيأتي ما يدل على هذا المعنى من الايات.
والكلام هنا في معنى حب الله تعالى والسبب فيه ومعنى الحب واضح ولذلك ارتبك اللغويون في تفسيره ففي العين وكتب اخرى فسر بانه نقيض البغض وهذا مع انه ليس تفسيرا غير صحيح لان بينهما فاصلا فليس كل ما لا يُحَبّ مبغوض ولا كل ما لا يبغض محبوب بل هناك امور لا يحبها الانسان ولا يبغضها.
وفي معجم مقاييس اللغة ان الاصل فيه هو اللزوم والثبات ولا ارى المعنى مطردا في موارد استعماله وفسره بعضهم بالارادة وهذا غير صحيح فقد يريد الانسان ان يفعل شيئا دفعا للضرر وهو لا يحبه وقد يحب شيئا ويتركه لسبب.
ولكن لا حاجة الى تفسيره فان المعنى واضح للجميع انما الكلام في اسناد الحب الى الله وفي تعلق الحب به والمعروف ان المراد بحبه تعالى لاحد التفضل عليه بالاجر والثواب وان المراد بحبه تعالى التعظيم او الطاعة.
اما حبه تعالى لاحد فلا شك في انه مختلف عن الثواب وهذا نظير تفسيرهم لرضاه تعالى بالثواب ولغضبه بالعقاب وقلنا فيما سبق ان هذا ينافي بعض ما ورد في القران من الفرق بينهما كقوله تعالى (وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)[22] وقوله تعالى (وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ)[23] وغيرهما من الايات التي تدل على ان الرضا غير الثواب والغضب غير العذاب.
وكذلك حبه تعالى للعبد ليس بمعنى الثواب ولذلك ورد عدلا له في قوله تعالى (فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ).[24]
واما تاويل حب العبد لربه بالتعظيم او الطاعة فهو ينافي قوله تعالى (قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ..).[25] ومن المعلوم ان التعظيم والطاعة لا يتعلقان ببعض المذكورات كالتجارة والمسكن فلا تصح المقارنة والتفضيل.
وهذه الاية تدل على ما مر من ان المراد بكون المؤمن اشد حبا لله عدم تفضيله شيئا مما يحبه على التقرب اليه تعالى وطلب مرضاته. وهذا الامر مما يثقل على الانسان فلو كان هذا من شروط الايمان بالله ونيل مرضاته فما أبعدنا منه؟! وهذا هو الذي يظهر من قوله (والذين آمنوا أشد حبا لله) فان عكس هذه القضية هو أن من لا يكون هكذا فليس من الذين آمنوا.
والذي يهوّن الخطب أن ما يذكر من العناوين العامة من قبيل المؤمن والمشرك واحكامها لا يقصد بها مجموعة محددة من الناس بحيث يقال هذه مجموعة (الذين آمنوا) وهذه مجموعة (المشركين) بل هذه الاحكام تتبع عنوان الايمان والشرك ففي كل نفس من عامة الناس بعض الايمان وبعض الشرك ولذلك قال تعالى (وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ)[26] وقلّ من تجده مؤمنا محضا.
وبناءا على ذلك فمناط الايمان هو ان يكون الانسان اشد حبا لله بهذا المعنى الذي ذكرناه وهو ان يكون كل ما يوجب تحصيل رضا الله تعالى أحب اليه من كل ما يحبه من شؤون الدنيا وكل من كان كذلك في بعض الحالات او في بعض الشؤون ففي قلبه بعض الايمان واما الايمان الكامل فلا يكون الا في القلب الذي تنحصر الاحبية لديه في رضا الله تعالى ورضا رسوله صلى الله عليه وآله وسلم.
و السؤال هنا أنه ما هو منشأ حب الانسان لله تعالى؟
قال بعضهم ان حبّ الله ينشأ من إحساس حاجة الانسان الضعيف الى ركن يعتمد عليه ويلجأ اليه في ما يصيبه من بلاء وفي رفع حاجاته وكلما كان ما يركن اليه الانسان اقوى واقدر على رفع الحاجة كان احب اليه فالمؤمن لمعرفته بان الله تعالى قادر على كل شيء يلجأ اليه ويحبه فهذا الحب نظير ما يحصل بين القائد السياسي او الاجتماعي وأتباعه او بين الولد وابيه لانه يعتمد عليه ويلجأ اليه.
وقال بعضهم ان حبه تعالى ينشأ من حب الكمال المطلق فالانسان في كل مجال يحب الكامل منه ومن هنا تجد الناس يحبون من يعجبهم شانه في المجال الذي يهوونه فاتباع الرياضة يحبون نجومها وابطالها وهكذا اتباع الموسيقى والغناء والتمثيل السينمائي وهكذا سائر المجالات فالانسان في كل مجال يستهويه يبحث عمن هو اكمل من غيره حسب رؤيته.
ولكن الصحيح ان معنى الحب لا يختلف في موارد استعماله وحب الله تعالى كحب غيره من حيث المعنى واما الذي يوجب الحب فما ذكروه من انه بسبب الاعتماد على قدرته تعالى وعظمته فهذا يستوجب الخشوع لا الحب واما حب الكمال المطلق فهو يستوجب الاعجاب لا الحب بل الكمال المطلق ربما يتجلى في قوته تعالى وقدرته في إنزال العذاب على قوم طغاة وهذا يستدعي الخوف والرهبة لا الحب.
ولعل الذي يستوجب الحب لله تعالى هو الشعور بحبه تعالى ولطفه بالانسان ولذلك قال تعالى (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ..)[27] فالحب متبادل والله تعالى يحدد في هذه الاية ما يوجب حبه للانسان وهو متابعة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم.
وبذلك يتبين فساد ما يردده بعض المتصوفة من أنهم بلغوا في حبه تعالى مرحلة لا يحتاجون الى العمل بالشريعة فان من يدعي حبه تعالى يجب ان يكون مشتاقا لتبادل الحب بينه وبين ربه والله تعالى حدد في هذه الاية ان مناط حبه للعبد متابعة الشريعة.
ومن موارد الحب المتبادل بينه تعالى وبين عباده قوله (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ..).[28]
ومنه ايضا قول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يوم خيبر في الحديث المشهور في كتب الفريقين (لأبعثنّ رجلا يحبّ الله ورسوله ويحبّه الله ورسوله..).[29]
كما انه تعالى اعلن في كتابه العزيز امورا يحبه في الانسان ليثير فيه العمل بما يستوجب حبه تعالى فهو يحب المحسنين والتوابين والمتطهرين والمتقين والصابرين والمتوكلين والمقسطين والذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص. [30]
ومن هنا ايضا يلاحظ انه تعالى كثيرا ما يدعو عباده لعبادته بما يثير فيهم الحب لا الخوف من العقاب كما في قوله تعالى (وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ).[31]
والحاصل انّ الانسان يحب الله تعالى لأنّه يشعر منه أنه يحبّه وينشأ هذا الشعور لدى الغالب من الناس من ملاحظة وفور نعمه تعالى عليه ولطفه به وكل واحد منا اذا راجع تاريخ حياته فانه يجد مواقف عجيبة كاد ان يهلك فيها او يتضرر ضررا بليغا ولم تنقذه الا يد الغيب من حيث لا يشعر وربما لم يشعر به الا بعد مدة طويلة.
واذا زادت معرفة الانسان بربه فانه يرى أن ما يتلقاه من ربه من صفعات ومصائب هي ايضا تحكي عن حبه تعالى ولطفه بعبده ولولا ذلك لتركه يرتع ويلعب ولم يؤدبه.
والسر فيه أن تأديبه تعالى لمنع الانسان من الاضرار بنفسه كالوالد الذي يمنع الطفل مما يهواه ويضره والاب ربما يتضرر من عمل الطفل واما الله تعالى فلا يتضرر من جرائم عبده الا انه يضر نفسه فحبه تعالى لعبده ورأفته به اكثر من امه وابيه كما أنه يقبل توبته مهما عظم جرمه ولكن الوالدين ربما لا يقبلان ندمه واعتذاره.
روى الكليني قدس سره بسنده عن أبي عبد الله عليه السلام قال (قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إن عظيم البلاء يكافأ به عظيم الجزاء فإذا أحب الله عبدا ابتلاه بعظيم البلاء فمن رضي فله عند الله الرضا ومن سخط البلاء فله عند الله السخط).[32]
وفي الباب روايات كثيرة في هذا المعنى.
وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَاب (165)
المراد بالذين ظلموا هم الذين اتخذوا اندادا من دون الله فهم ظلموا بإشراكهم غير ربهم في الحب وفي الربوبية وفي العبادة.
والظلم لا يحتاج في صدقه على وجود من يقع عليه الظلم فالشرك في حد ذاته ظلم لانه وضع للشيء في غير موضعه وهم مضافا الى ذلك ظلموا انفسهم فكان عاقبة امرهم خسرا وهم ظلموا مجتمعهم ونشروا فيه الضلال او ساعدوا على نشره وظلموا الاجيال المتاخرة عنهم حيث سنوا لهم سننا سيئة وفتحوا لهم طرق الضلال.
وقد اختلف المفسرون في هذه الجملة اختلافا شديدا ورووا فيها قراءات مختلفة لا يبعد ان تكون بعضها نتيجة هذا الغموض الذي يكتنف الآية.
قال الشيخ الطوسي قدس سره في التبيان (قرأ نافع وابن عامر وأبو جعفر من طريق النهرواني «ولو ترى» بالتاء والباقون بالياء. وقرأ أبو جعفر ويعقوب «إنّ القوة للَّه، وإن اللَّه» بكسر الهمزة فيهما. والباقون بفتحهما. وقرأ ابن عامر وحده «إذ يرون» بضم الياء والباقون بفتحها).
ومنشأ الغموض أن الآية بظاهرها تقول لو يرى الذين ظلموا حين يرون العذاب وهو يوم القيامة بالطبع أن القوة لله جميعا وان الله شديد العذاب.. ومن الواضح أنهم اذا رأوا العذاب يوم القيامة فسيعلمون أن القوة لله جميعا وأن الله شديد العذاب فلا يمكن ان يكون هذا المعنى هو المراد اذ لا يبقى وجه للاتيان ب– (لو) سواء كانت شرطية او للتمني.
و(لو) شرطية على ما في معظم التفاسير وجوابها محذوف. وحذف الجواب في مثل ذلك كثير في القران. والوجه فيه هو أن يذهب السامع فيه كل مذهب كقوله تعالى (وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ)[33] اي لو رأيت ذلك لرايت امرا عظيما.
وفي الميزان ان (لو) للتمني. وفيه خلاف في كتب اللغة والنحو فقيل ان (لو) في هذه الموارد شرطية حذف جزاءها. ولكن الخليل اثبت التمني من معاني (لو) كما في العين وكذلك ابن دريد وانشد فيه شعرا لابي زبيد الطائي حيث يقول (ليت شعري واين مني ليت – إنّ لوّا وإنّ ليتا عناء) واذا كانت للتمني فلا حاجة الى تقدير جواب.
ولعل اقرب تفسير للجملة بناءا على قراءة (يرى) أن المعنى لو يرى الذين ظلموا وهم في هذه الدنيا أن القوة لله جميعا وان الله شديد العذاب حيث يرون عذاب الاخرة ويدركونها وهم في الدنيا لما اتخذوا اندادا من دون الله.
وبناءا عليه فقوله (أن القوة لله..) مفعول يرى وقوله (اذ يرون العذاب) تعليل والمراد رؤية عذاب الاخرة في الدنيا عن طريق الايمان بما اخبر به الرسل. وتقدير الجواب للشرطية لما اتخذوا اندادا اي لو كانوا يرون ذلك لما اتخذوهم اندادا.
والرؤية اما ان تكون بمعنى العلم باعتبار تعلقها بقوله (أن القوة..) وهذه وان تأول بالمصدر الا انها تقوم مقام المفعولين او تكون بصرية ولكنه مجرد فرض فلا ينافي عدم امكان الرؤية في الدنيا اي لو كانوا يرون ذلك لتغيرت طريقتهم.
وقوله (جميعا) حال من القوة اي ان القوة بتمامها لله تعالى ولا يوجد لاحد في الكون حول ولا قوة الا به فلا موجب لاتخاذ الانداد اذ لا حول لها ولا قوة. ورؤية شدة العذاب من أجل الاهتمام بهذا الشأن فان الانسان اذا لم يحذر من العذاب يعمل ما يعمل ولا يهتم بكونه خطأ كما نلاحظ في الملحدين ومنكري الاخرة.
وهناك محاولات لاهتمام الناس بالاخلاق مع كفرهم بالله تعالى ولكنه مهما كان لا يعدو تظاهرا بالاخلاق في ظاهر الحياة الاجتماعية ولحفظ النظام الاجتماعي ولا يمكن ان يدخل في سرائر الحياة الا بمقدار ما يتبقى من الضمير الحي وهو ايضا من بقايا تأثير عامل الدين في النفوس من حيث لا يشعرون ان لم يكن خوف من عقاب القانون.
ومعنى شدّة العذاب انه فوق ما يتصوره الانسان لاننا اعتدنا في هذه الحياة على تحمل انواع من العذاب بسبب المرض او الفقر او ايذاء الاخرين او طغيان الحكومات ولكنها باجمعها وبكل ما فيها من الايذاء والضغط على النفس تنتهي بالموت الا ان عذاب الاخرة لا ينتهي وليس في نهايته الموت ولا الخلاص.
والتنبيه على شدة عذاب الله تعالى مما لا بد منه لتربية الانسان وتحذيره لان الحرية الممنوحة للانسان في هذه الدنيا تغرّه فيتوهم أنه لا شيء في الكون يمنعه من بلوغ مآربه ونجد أن البشر غالبا ينكرون عذاب الله تعالى فضلا عن شدته ويستبعدونه.
ولعل كثيرا من المؤمنين ايضا يستبعدونه في قرارة انفسهم وان لم يصرحوا به والسبب هو الاعتماد على عموم رحمته تعالى كما اعتدنا عليه وانه تعالى غني عن عذاب الانسان ولا موجب له لانه لا يحمل مثلنا نفسا شائقة الى الانتقام والتنكيل بالاعداء.
ولكن الواقع المر الذي لا يمكن انكاره ولا الاغماض عنه هو أن العذاب الطبيعي اي رد فعل الطبيعة لخطأ الانسان في هذه الدنيا ايضا شديد ومرير. وكثيرا ما لا يتصور انه بحجم الجريمة بل ربما لا يكون سببه جريمة بل خطأ في عمل الانسان وتجاوز عن قانون الطبيعة فالذي يسرع في سيره في الشارع يتسبب في حادث مروع يذهب ضحيته جمع من الناس وهو لا يريد ذلك الا انه امر طبيعي لا مناص منه وقس على ذلك سائر الاخطاء التي توجب الامراض الخطيرة او الاعاقات الجسمية.
وبناءا على قراءة (ترى الذين ظلموا) يكون المعنى لو ترى ايها المخاطب يوم القيامة الذين اتخذوا الانداد حين يرون العذاب ويرون ان القوة لله جميعا ويكون قوله (ان القوة..) بدلا من العذاب او بيانا له وتقدير جواب الشرطية لرايت امرا عظيما ونحوه ويمكن ان تكون للتمني فلا حاجة الى التقدير.
ويلاحظ ان الرواية التي نقلناها عن الكافي[34] في سياق تفسير هذه الاية عن الامام الباقر عليه السلام وردت الاية فيها بقراءة (ترى) ولا اعلم انه من الامام عليه السلام ام من الرواة ام من الكتب المتاخرة.
وهناك وجوه كثيرة من التفسير لهذه الجملة وحسب مختلف القراءات آثرنا عدم التعرض لها للاختصار.
إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ (166)
بدل عن قوله (اذ يرون العذاب) ولعل الاتيان بفعل الماضي مع أنه امر مستقبلي باعتبار أنه محقق الحصول فكأنه صار. ويدل هذا التبري والاتّباع على أن المراد بالانداد ليس خصوص الاصنام كما قاله بعضهم بل يشمل المتبوعين من الناس سواء من الظلمة كما في الرواية ام العلماء كالاحبار والرهبان وسواء في اهل الكتاب ام في المسلمين.
والمناط هو اعتباره ندّا لله تعالى ولو في وجوب الاطاعة مع انّ الله تعالى لم يأمر باطاعته فهناك مذاهب تعتبر كل من يحكم على رقاب الناس ولو بالقهر والغلبة وليا للامر تجب اطاعته كما تجب اطاعة الله تعالى فهؤلاء يتخذون هؤلاء الطغاة اربابا واندادا من دون الله وهذه الاية تنبههم على عاقبة امرهم وامر اسيادهم. فالآية عظيمة وخطيرة تستوقف الانسان ولا يغرّنك ما يدور على الالسن من الولايات التي ما انزل الله بها من سلطان.
والتبري والبراءة - على ما في معجم المقاييس - التباعد من الشيء ومزايلته والمراد به هنا اعلان عدم المسؤولية عما نسبه اليهم المتبعون وعن متابعتهم لهم فيبرّءون ذممهم عن افعالهم مع انهم كانوا يحثّونهم على المتابعة ويعطون الاجر عليها بل يعاقبون من يخالفهم ولكن لمّا رأى الجميع عذاب الله الذي لا يتحمل تبرءوا منهم.
والمعروف في التفاسير أن جملة (ورأوا العذاب) حالية مع إضمار (قد) اي تبرءوا حين رأوا العذاب. وضمير الفاعل يعود الى التابعين والمتبوعين. وانما قالوا به لئلا يتكرر التنبيه على رؤية العذاب.
ويمكن ان لا تكون حالية بل معطوفة على (تبرأ) والضمير يعود الى المتبوعين فقط لان رؤية التابعين لا اثر لها في هذا التبري فتختلف هذه الجملة عن قوله (اذ يرون العذاب) في الآية السابقة ولا تكون تكرارا ولا حاجة الى تقدير (قد).
والتقطّع مطاوعة التقطيع تقول قطّعته فتقطّع والتشديد للمبالغة في القطع. والسبب في الاصل: الحبل. ويطلق على كل ما يتوصل به الى الشيء. والمراد بالاسباب هنا ما كان بينهم من موجبات الاتصال والارتباط.
وذكروا وجوها في هذه الباء والظاهر انها بمعنى مع اي تقطعت الاسباب وتسبب هذا التقطع في انقطاع بعضهم عن بعض.
وقد ورد هذا التقطع والتبري في مواضع اخرى من الكتاب العزيز بصور مختلفة:
منها قوله تعالى (وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ * قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ * وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ).[35]
وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167)
(لو) هنا للتمني فهي بمعنى (ليت). والكرة: الرجوع. والمعنى واضح فالتابعون يتمنون الرجوع الى الدنيا ليتبرءوا من المتبوعين في مقابل تبريهم منهم. وهذا مجرد تمنّ لا اثر له الا الحسرة كما يتمنون الخروج من النار او الرجوع ليصلحوا اعمالهم كما ورد في عدة آيات. وقوله (فنتبرأ) جواب التمني كما في قوله تعالى (يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا).[36]
وقد مر الكلام حول مثل التعبير بقوله (كذلك يريهم الله..) في تفسير الاية 143 من هذه السورة (وكذلك جعلناكم امة وسطا) وقلنا انه تعبير متعارف وليست الاشارة الى امر مذكور قبل هذه الجملة كما يحاول بعض المفسرين بل هي اشارة الى ما بعده.
والدليل على ذلك قوله تعالى (كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)[37] اذ ليس في ما قبل هذه الآية شيء يشبّه به الوحي فالصحيح أنه تشبيه بنفس هذا الوحي ويراد به أنّ هذا الشيء نسيج وحده فلا يشبهه شيء، وإن أردت أن تشبّهه فلا تجد له مثيلا فيلزمك أن تشبّهه بنفسه. ومثله اراءة الاعمال حسرات عليهم في هذه الاية.
والحسرات جمع حسرة وهي بمعنى التأسف الشديد والاصل في الحسرة الانكشاف. يقال: حسر عن ذراعيه اي كشفهما. وحيث ان الاسف انما يحصل حينما ينكشف الواقع وان الامر لم يكن كما كان يتوقعه الانسان فيأسف على ما فاته فعبر عن الاسف بالحسرة. والاعمال ليست حسرات بنفسها وانما توجب الحسرات فكأنّ العمل بنفسه حسرة على الانسان.
والاراءة ان كانت اراءة بصرية فالحسرات حال عن الاعمال اي يريهم الله تعالى اعمالهم حال كونها موجبة للحسرة والندامة حيث ان الاعمال تظهر يوم القيامة بوجه اخر غير ما هو الظاهر في الدنيا وان كانت الاراءة من الرؤية بمعنى العلم فالحسرات مفعول ثالث للاراءة فالاول هم الظالمون والثاني الاعمال والثالث الحسرات اي يريهم الله تعالى اعمالهم بكيفية توجب الحسرة والندامة.
وقوله (عليهم) متعلقة بما هو وصف للحسرات اي حسرات واقعة عليهم. و(على) هنا ليست لتعلق الاسف والحسرة على الشيء الذي فات بل لبيان عروض هذه الحالة والصفة عليهم فلا حاجة الى تقدير كما قيل ان الحسرة على تفريطهم.
وقوله (وما هم بخارجين من النار) يدل بصراحة على خلودهم في النار والضمير هنا لا شك انه لا يدل على الحصر اذ لا يوجد ما يكون اسما ل– (ما) غيره والزمخشري اهتم بعدم الحصر لئلا يستدل بالاية على عدم خلود الفساق من المسلمين كما يقوله الاشاعرة.
ولكن لا حاجة الى ذلك فان هذه الآية كما بينا لا تختص بالكفار وهناك كثير ممن يتخذ اندادا من دون الله وهم مسلمون فان وجوب الاطاعة المطلقة خاص بالله تعالى وبمن يامر الله بطاعته فمن يحكم بوجوب اطاعة من تسلط على المسلمين مهما كان فهو ممن يتخذ من دون الله اندادا كما ان اهل الكتاب الذين اتخذوا احبارهم ورهبانهم اربابا من دون الله لم يكونوا يسجدون لهم وانما كانوا يطيعونهم طاعة عمياء.
وهناك آيات في الخلود لا تختص بالكفار نذكر بعضها:
قال تعالى (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا)[38] (بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)[39] (وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ).[40] وكذلك ما ورد بشان المنافقين فانهم ايضا مسلمون بظاهرهم وبعض من نراه مسلما منافق في باطنه.
وقيل بالنسبة للاية الاولى انها مقيدة بالوصف المشعر بالعلية ومعناها ان من يقتل مؤمنا بسبب ايمانه يخلد في النار واما من يقتل مؤمنا لا بسبب ايمانه بل لنزاع على أمر مالي فلا يكون عقابه الخلود في النار بالضرورة.[41]
وهذا غير صحيح فالمؤمن هنا نفس متعلق الحكم وليس قيدا والاشعار ليس دليلا على شيء فالآية صريحة في ان عقاب قاتل المؤمن عمدا باي سبب كان هو الخلود في النار وان كان القاتل بنفسه مؤمنا ولا ينقذه شيء الا التوبة ان قبلت.
وقد تعرضنا لبعض الكلام حول الخلود في تفسير قوله تعالى (لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا)[42] وهذا البحث ليس مما ينفعنا عمليا وانما نبحث دفعا لبعض الشبهات عن القران وعن العقائد الدينية.
[1] الكافي ج1 ص120 والتوحيد ص186 والعيون ج1 ص145
[2] الحج : 61
[3] الفرقان : 62
[4] الزمر : 5
[5] الاعراف : 54
[6] القصص : 71 - 73
[7] يس : 41
[8] الصافات : 96
[9] التكوير : 29
[10] هود : 37
[11] الحج : 5
[12] فصلت : 39
[13] الحجر : 22
[14] فاطر : 9
[15] الاحقاف 24 - 25
[16] الروم : 7
[17] الانعام: 63- 64
[18] يس : 60
[19] التوبة : 31
[20] الكافي ج 1 ص 274
[21] الزمر : 45
[22] التوبة : 72
[23] الشورى : 16
[24] ال عمران : 148
[25] التوبة : 24
[26] يوسف : 106
[27] ال عمران : 31
[28] المائدة : 54
[29] الكافي ج 1 ص 294 باب الاشارة والنص على امير المؤمنين عليه السلام
[30] البقرة : 195/222 / ال عمران:76/146/159/المائدة:142/ الصف:4
[31] البقرة : 158
[32] الكافي ج 2 ص 253 باب شدة ابتلاء المؤمن
[33] الانعام : 30
[34] الكافي ج 1 ص 274
[35] سبا : 31 - 33
[36] النساء : 73
[37] الشورى : 3
[38] النساء : 93
[39] البقرة : 81
[40] المؤمنون : 103
[41] تسنيم ج 8 ص 354
[42] النبأ : 23