مكتب سماحة السيد مرتضى المهري

يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا...

تبدأ من هنا مجموعة آيات تمنع من التشريع لان الحكم ليس الا لله تعالى وان كان هناك من يجوز له التشريع في مجال خاص فهو باذن من الله ولا يحق لاحد ان يبتدع من نفسه قانونا ويلزم الناس به الا في حدود الولاية التشريعية المخولة منه تعالى.

وارتباط هذه المجموعة بما قبلها واضح لما ذكرناه آنفا من ان اتخاذ الانداد من دون الله لا يختص بالتاثير الربوبي في الكون بل يشمل من يطيع غيره تعالى طاعة عمياء.

والخطاب في هذه الاية لا يختص بالمؤمنين والوجه فيه ان الغرض منه التنديد بالمشركين وتشريعاتهم كما ورد في آيات عديدة كسورة الانعام.

والامر بالاكل ليس للايجاب بل للاباحة ولمنع التحريم من دون دليل. والاكل يمكن ان يراد به كل التصرفات كما في قوله تعالى (وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ)[1] ولكن الظاهر بمقتضى السياق ان المراد به هنا نفس الاكل.

و(من) للتبعيض كما هو واضح اذ ليس كل ما في الارض من المأكول. والحلال من الحل وهو فتح الشيء - كما في معجم المقاييس - وقال في العين: تقول حللت العقدة اذا فتحتها. فالحلال هو ما حُلّت عنه عقدة التحريم او لم يحرم اصلا.

والطيب من الالفاظ التي لم تفسر في كتب اللغة غالبا حتى معجم المقاييس فهم يفسرون الطيب بخلاف الخبيث وبالعكس الا ان بعضهم فسر الخبيث بالرديء وبالفاسد وفي المفردات ان الطيب ما تستلذه الحواس وما تستلذه النفس وعليه فيمكن القول بأن الحلال ما لم يحرمه الشرع والطيب ما لم تستقذره النفوس.

وقوله (حلالا طيبا) الظاهر انهما حالان من الموصول اي كلوا مما في الارض حال كونه حلالا طيبا فالمعنى ان الاكل لا يجوز الا فيما اذا كان الطعام جامعا بين الوصفين فلا يصح ما ورد في الميزان من ان معنى الاية الاباحة العامة لكل شيء في الارض بل هما قيدان لما يجوز اكله ولا تعني الاية ان كل ما في الارض حلال طيب.

والظاهر ان المراد بالحلال ما لم يحرمه الشرع اما بذاته كلحم الخنزير واما ببعض صفاته كالطعام المضر ضررا بليغا واما بعوارض توجب حرمته ككونه مغصوبا او مسروقا او ماخوذا بوجه حرام كالربا. والمراد بالطيب ما يكون في ذاته مما لا تستخبثه طبيعة الانسان.

وفي المنار ان الحلال ما لم يحرمه الشرع بذاته والطيب ما لم يعرض عليه ما يحرمه كالسرقة والغصب ونحوهما. وهذا التفسير لا دليل عليه من اللغة.

 

وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168)

الخطوات جمع الخطوة بضمهما او بضم الخاء وسكون الطاء وهي الفاصل بين القدمين حين المشي او ما يُتخطّى وقرئ بفتح الخاء جمع خطوة وهي المرة من التخطي والاول هو المشهور. وفيه اشارة الى ان الشيطان لا يهجم على المؤمن مرة واحدة ولا يامره بالكبائر ابتداءا بل يحاول استدراجه خطوة خطوة فيبدأ بما يستصغره الانسان من الذنوب ويزينها له فاذا تمكن منه ينتقل الى ما هو اعظم.

وقوله تعالى (انه لكم عدو مبين) تعليل للنهي عن متابعة خطواته لان العدو من شأنه ان يضل الانسان ولا يمكن ان يهديه لما فيه الخير. والشيطان عدو للانسان كما تبين بوضوح من الايات السابقة التي نزلت بشان قصة ادم عليه السلام واغواء الشيطان له ولزوجه في بدايات هذه السورة المباركة. والمبين اي الواضح ولعلك تستغرب كونه عدوا واضح العداء لنا فنحن لا نشعر به فكيف يكون عداؤه واضحا لنا.

والواقع ان كل انسان يشعر من داخله بموجود يغويه ويوسوس له ويغريه بالمعاصي فهو اما نفسه واهواؤه او موجود غيبي من جنس الجن لا نراه ولكن يؤثر في نفوسنا او هو انسان نراه ونشعر به ونجد حيله ومكائده وخصوصا في هذا العصر حيث تطورت مصائد الشياطين وتنوعت فكل هؤلاء شياطين يجرون الانسان الى المهالك تدريجا.  

والغرض هنا من عدم متابعة القاءات الشيطان ان لا يحرّم الانسان ما احلّه الله ولا يشرع من نفسه والاية ناظرة الى ما كان يفعله المشركون من تحريم انواع من الانعام وفقا لعاداتهم وتقاليدهم كما يتبين من الاية التالية وقد ورد هذا التنديد في عدة مواضع من الكتاب العزيز وورد معه الامر بالاكل من الحلال الطيب مما يوضح المراد هنا ايضا.

قال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ).[2]

وقال ايضا (فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ * إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ).[3]

إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (169)

في هذه الآية يبين دليلا على عداوة الشيطان للانسان وذلك لانه يأمركم بالسوء والفحشاء و(انما) تفيد الحصر على رأي فهو لا يطلب منكم امرا غير السوء والفحشاء. والتعبير بالامر يثير في الانسان الغيرة على كرامته فالشيطان وهو عدو مبين له من بدو الخلقة يأمره وينهاه ولا يكتفي بالتزيين والتسويل.

والسوء كل ما يستقبح ويستكره ويقابله الحَسَن فالذي يأمر به الشيطان امر يسوء الانسان ويضره في النهاية وربما يضره في الدنيا ايضا. والفحشاء من الفُحش وهو التجاوز عن الحد ولا تختص بما اشتهر بهذا العنوان كالزنا واللواط بل تشمل كل ما تجاوز الحد في القبح من الاعمال والمراد بالحد ما هو متعارف من الاعمال السيئة ويكثر بين الناس.

ومن جملة ما ينطبق عليه السوء والفحشاء الكذب على الله لان الكذب بنفسه سوء فان تعلق بالله تعالى كان تجاوزا عن الحد المتعارف في الكذب. فذكره هنا من باب ذكر الخاص بعد العام لانه هو الغرض الاساس هنا. وقوله (ما لا تعلمون) اي لا تعلمون صحة استناد القول الى الله تعالى.

والجملة تدل على حرمة اسناد شيء الى الله الا مع العلم به فلا يكفي الظن. نعم يجوز الاسناد على اساس الامارات والادلة الشرعية التي ثبتت حجيتها بالقطع واليقين وان كانت بنفسها لا توجب اليقين بل ربما لا يوجب الظن ايضا فالمناط ثبوت الحجية. وبذلك يتبين ضعف ما ذكره جمع من مفسري العامة في هذا المقام تبعا لضعفهم في اصول الفقه.

 

وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (170)

الضمير في قوله (لهم) يعود الى من ذكر في الآية السابقة اي من يأمره الشيطان بالسوء والفحشاء واسناد ما لا يعلم به الى الله تعالى. ومعنى ذلك ان هناك جمعا يطيعون الشيطان فيما يأمر به ويقولون على الله ما لا يعلمون واذا قيل لهم اتبعوا ما انزل الله...

وهذا القول لهم يصدر من الرسول صلى الله عليه وآله وسلم او من المؤمنين وبذلك يدعونهم الى الاسلام وان لا يلتزموا بالعادات والتقاليد الموروثة من الجاهلية ويتبعوا الحكم الشرعي لانه نازل من الله تعالى وهم يعترفون بانه هو الخالق الرازق.

والجواب لا يختص بهم فهذا جواب كثير من المسلمين ايضا اذا قيل لهم ان هذه العادة التي تمارسونها تخالف احكام الله تعالى فالجواب هو ان هذا ما وجدناه مستمرا من عادات الآباء والاجداد. وربما تكون بعض هذه العادات والتقاليد يؤتى بها باسم الدين بل باسم شعائر الدين وهي لا ترتبط بالدين اساسا بل ربما تكون محرمة.

وقولهم (بل نتبع) اضراب عن العمل بما قيل لهم من متابعة ما انزل الله تعالى. ومعنى هذا الاضراب هو النفي اي لا نتبع ما انزل الله بل نتبع.. وألفى اي وجد ولقي. واصله الانكشاف.

وهذا امر طبيعي فالذي اعتاده المجتمع وتوارثه من العادات والتقاليد يصعب على الانسان التخلي عنه ورفضه.

والواقع انه ليس كل ما توارثه المجتمع من السابقين امر مضر او فاسد ويجب تجنبه كما ربما يتوهمه بعض الناس ولكن الآية تنبه على امر مهم في هذا الموضوع وهو انه لا بد من ملاحظة العادة المتوارثة فان كان امرا يخالف العقل او يخالف هدايات الله تعالى فلا يجوز عقلا ان يتبعها الانسان فهناك عادات مخالفة للصحة مثلا ولا شك في انها يجب ان تترك وهكذا يفعله المتاخرون ولكن يجب ان يضاف الى قائمة العادات السيئة ما كانت مخالفة للشرع.

ولذلك ورد في الآية (اولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون) فالعادات القديمة ان كانت مخالفة للعقل يجب ان تترك وكذلك ان كانت مخالفة لهداية السماء. والاستفهام للانكار التوبيخي اي أتتبعون ما الفيتم عليه الآباء حتى لو كانوا لا يعقلون شيئا ولا يهتدون.

و(لو) هنا تسمى وصلية فلا حاجة الى تقدير جواب وقيل تقديره (لو كانوا كذا تتبعونهم؟!) وهناك بحث طويل للنحاة وتبعهم بعض المفسرين في أن الواو هذه عاطفة ام حالية ام هناك تفصيل حسب الموارد؟ ولا ارى في مثل هذه الابحاث نتيجة فالمعنى واضح وهو كلام مستعمل كثيرا في القران والشعر والكلام المتعارف.

وليس المراد أنهم لا يعقلون اي شيء اذ لا يمكن ان يوصف مجتمع بشري بانهم لا يعقلون شيئا كما أن نفي الاهتداء ليس بقول مطلق بل المراد انكم هل تتبعونهم في الشيء الذي لا يعقل آباؤكم مدى تاثيره في صحتكم مثلا لانه ليس من اختصاصهم وهل تتبعونهم فيما يخص الامور الغيبية حتى لو كانوا لا يهتدون الى طريق لمعرفة احكام الله تعالى ومعارفه اذ لم يكن لهم كتاب ولا رسول؟!

وقيل: يمكن ان يكون المراد النفي المطلق في تعقلهم واهتدائهم ويكون الغرض بيان اشد حالات الجهل حيث لا يمكن لعاقل ان يتبعهم فيقال لهؤلاء: هل انتم تتبعونهم حتى لو كانوا لا يعقلون شيئا مطلقا اي حتى لو كانوا مجانين؟!

ولكنه غير صحيح لان انكار متابعتهم في هذا الحال لا يستلزم انكارها في مثل ما نحن فيه فللمخاطب بهذا الاعتراض ان يقول لا نتبعهم اذا كانوا لا يعقلون شيئا ولكن المفروض انهم كانوا عقلاء وانهم تركوا لنا ثقافة وحضارة وادبا ومعارف. فالصحيح ما اشرنا اليه من ان المراد استنكار متابعتهم في شيء لا يعقلونه وفي امر غيبي لا يهتدون اليه.

 

وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (171)

المثل من المثول وهو الانتصاب قائما كما في العين ويطلق على ما ينصب للدلالة على الشيء ومنه ايضا ما يشبّه به الشيء ليدل على بعض اوصافه فمعنى هذه الجملة ان المثل الذي ينصب ليدل على صفات الذين كفروا يشبه المثل الذي ينصب للبهيمة التي لا تدرك شيئا والنتيجة أن الكافر كالبهيمة.

والنعق والنعيق زجر الراعي لغنمه بالصوت. والمراد بما لا يسمع: البهيمة. والنعق يتعدى بالباء يقال نعق بغنمه. والدعاء بمعنى طلب الشخص ومنه قوله تعالى (ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ)[4] والظاهر ان الفرق بينه وبين النداء أن الثاني يختص بحال رفع الصوت قال في العين (ناداه اي دعاه بأرفع الصوت).

والمراد تشبيه الكفار بالبهائم التي لا تدرك من النعيق الا صوتا يدعوهم الى الامتناع من شيء او الى الالتحاق بالقطيع او نحوهما ولا تدرك اكثر من ذلك فلا تدرك معنى لكلام الراعي ولا تدرك انه يدعو الى حق او باطل ولذلك تجدها تستجيب لزجره سواء دعاها الى الرعي او الى المسلخ.

ولعل الهدف تسلية الرسول صلى الله عليه وآله وسلم حيث كان يحاول ايصال الرسالة الى تلك العقول المتحجرة التي لا تدرك الا ما ورثته من الاسلاف وحين لا يجد منها استجابة يصيبه الغم والاسى عليهم وهم قومه فالله تعالى يسلي رسوله صلى الله عليه وآله وسلم بان هؤلاء لا يدركون ما تقول فلا تأس عليهم.

ويمكن ان يكون الهدف الاشارة الى ان الكافر يتبع اي صوت يسمع ولا يمكنه تشخيص الحق من الباطل كما قال امير المؤمنين عليه السلام (وهمج رعاع أتباع كل ناعق يميلون مع كل ريح لم يستضيئوا بنور العلم ولم يلجأوا إلى ركن وثيق..).[5]

وهذه الصفة لا تختص بالكفار بل كثير من عامة المسلمين تنطبق عليهم فلعله تعالى يريد أن ينبه المؤمنين أن هذه صفة الكفار فلا ينبغي ان تكونوا مثلهم.

ويمكن ان يكون هذا التشبيه اشارة الى أنّ متابعتهم لآبائهم وأسلافهم لا تبتني على فهم وتعقل وأنهم يتبعونهم كما تتبع الغنم نعيق الراعي.

وقد ذكر بعض المفسرين أن الآية لا بد فيها من تقدير ليصح التمثيل فقيل ان التقدير ومثل من يدعو الذين كفروا كمثل الذي ينعق.. لان الذين كفروا لا يشبهون الناعق بل يشبهون الغنم في هذا التمثيل وقيل ان التقدير ومثل الذين كفروا كمثل غنم الذي ينعق..

والصحيح انه لا حاجة الى تقدير فهذا تشبيه مجموعة بمجموعة وقد مر نظيره في اوائل هذه السورة في قوله تعالى (أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ..)[6] فان المشبه هو المنافق وهو لا يشبه الصيب اي المطر بل يشبه من وقع فيه.

ومثله ايضا قوله تعالى (إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ..)[7] فان الحياة الدنيا لا تشبه الماء النازل من السماء بل تشبه ما يحصل في نهاية المطاف. وغيرها من الايات.

وقوله (صم بكم عمي) اي وهم صم.. وهي جمع الاصم والابكم والاعمى وقد مر الكلام في هذه الاوصاف في تفسير الاية 18 من هذه السورة المباركة ومجمل المعنى واضح. وعدم الاتيان بحرف العطف ليتبين ان كل واحد منهم متصف بكل هذه الصفات وحيث انهم لا يستفيدون من سمعهم وابصارهم فكأنهم صم وعمي ومن جهة اخرى فهم لا يدركون ما وراء الصوت والمنظر فهم كالبهائم. والانسان لا يكتفي بسماع الصوت ورؤية المنظر بل يدرك معنى اللفظ وما وراء المنظر.

واما تشبيههم بالبُكم فلعله باعتبار أنهم لا ينطقون بالحق ولا يستخدمون نطقهم فيما خلقه الله له او للاشارة الى انهم كالحيوان الصامت لا يدركون شيئا.  

وقوله (فهم لا يعقلون) يدل على ترتب عدم التعقل على عدم الاحساس بشيء والعقل في الاصل بمعنى الحبس ويطلق على العلم بالحقائق لان الانسان يحفظ معلوماته في ذهنه ويحبسها فاذا كان الانسان لا يحس بشيء فهو لا يعقل ايضا لان التعقل مترتب على الاحساس ومن فقد حسا فقد علما.

 

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172)

خطاب مشابه لما مر في قوله تعالى (يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ..) الا ان الخطاب هناك للناس وهنا للمؤمنين فكأنه تعالى أراد أن يخص المؤمنين بخطاب مشابه لكي لا يتوهم أن النهي عن تحريم الحلال لا يشملهم مع أن عنوان الناس يشمل الجميع الا أن الاهتمام بهذا الحكم وهو التشريع المحرم يقتضي خطابا خاصا بالمؤمنين.

وحيث إنّ النهي هناك كان عاما تعلق بما في الارض وهنا لاختصاصه بالمؤمنين تعلق بما رزق الله تعالى ليناسب تعقيبه بالشكر لله بخلاف التعقيب هناك وهو عدم متابعة خطوات الشيطان. والمؤمنون لا يتبعون خطواته بفضل الله تعالى.

واسناد الرزق الى نفسه تعالى فيه نوع من التحبب والاكرام وضمير الجمع يدل على عظمة مقام المتكلم مضافا الى الاشارة الى كون الرزق منتسبا الى عوامل كثيرة غيبية وطبيعية تتوسط في ايصال الرزق الى المخلوقين بخلاف الشكر فانه لله تعالى وحده فلذلك فرق بين اسناد الرزق وتعلق الشكر.

والامر بالاكل كما مر سابقا للاباحة وللاشارة الى حرمة التشريع وليس للوجوب كما في المنار اذ ليس الاكل بعنوانه واجبا شرعا فهو نظير قوله تعالى (وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ..)[8] والمراد النهي عن تشريع الحرمة في غير ما حرمه الله تعالى لا الحثّ على اكل كل ما ذكر اسم الله عليه بل مقتضى الزهد والقناعة والتواضع عدم اكل الاطعمة اللذيذة.

وقد ورد في ذلك روايات كثيرة نذكر بعضها:

(روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم دخل مسجد قبا فأُتي باناء فيه لبن حليب مخيض بعسل فشرب منه حسوة أو حسوتين ثم وضعه فقيل: يا رسول الله أتدعه محرّما؟ قال: لا اللهم إني أدعه تواضعا لله).

وروي أن أمير المؤمنين عليه السلام اُتي بخوان فالوذج فوضع بين يديه فنظر إلى صفائه وحسنه فوجأ بإصبعه فيه حتى بلغ بأسفله ثم سلها ولم يأخذ منه شيئا وتلمظ إصبعه وقال: إن الحلال طيب وما هو بحرام ولكني أكره أن أعود نفسي ما لم أعودها ارفعوه عني فرفعوه.

وفي رواية اخرى عن أبي عبد الله عليه السلام قال بينا أمير المؤمنين عليه السلام في الرحبة في نفر من أصحابه إذ أهدي له طست خوان فالوذج فقال لأصحابه: مدّوا أيديكم فمدّوا أيديهم فمدّ يده ثم قبضها فقالوا: يا أمير المؤمنين أمرتنا أن نمدّ أيدينا فمددناها ومددت يدك ثم قبضتها فقال: إني ذكرت أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يأكله فكرهت أكله).[9]

وفي الميزان ما معناه أن اضافة الطيبات الى ما رزقناكم ليست بمعنى تنويع الرزق الى طيب وخبيث بل من قبيل اضافة الصفة الى الموصوف فان كل ما رزقه الله طيب.

وقد مر منه قدس سره مثل ذلك في الآية السابقة من أنّ المراد الاباحة العامة وان كل ما في الارض حلال طيب ولكنه لا يظهر من الاية كما مر وهنا ايضا ليس المراد ان كل ما رزقناكم طيب للاكل فرزقه تعالى يشمل كل ما ينتفع الانسان منه في حياته بوجه ولكن الطيب منه للاكل نوع خاص من الرزق.

وقوله (ان كنتم اياه تعبدون) يدل على أن هذا الشكر من أنحاء العبادة ولذلك فهو خاص بالله تعالى وليس هذا من قبيل اسداء الشكر لكل منعم كما يظهر من بعض العبارات فانه ليس خاصا به تعالى بل هذا الشكر من جهة انه خالق النعم ورازق الانام واسناد الرزق اليه تعالى ليس كاسناد الرزق الى غيره.

والجملة تدل على حصر العبادة لتقديم الضمير اي ان كنتم لا تعبدون غيره ولعله اشارة الى عدم التعبد بتشريع غيره لانه ايضا من العبادة وهي تختص به تعالى فلا يجوز التشريع الا لمن اذن له الله تعالى وفي حدود اذنه.

 

إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ...

هذه الآية تكمل المعنى في الآيات السابقة وتبين للناس ان الله تعالى حدد ما هو محرم عليكم في عدة امور فلا تزيدوا عليها.

ونظير هذا المضمون ورد في مواضع اخرى من الكتاب العزيز كقوله تعالى (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ..) ثم قال (يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ..).[10]

ومنها قوله تعالى بعد ذكر مجموعة من النعم (كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) الى ان قال (قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ..)[11]

وفي سورة النحل (فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ * إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ).[12]

وهناك كلام في افادة (انما) للحصر فأثبتها بعضهم ونفاها بعض. وقيل ان ذلك يتبع القرائن المحتفة بالكلام والظاهر ان القرينة موجودة هنا من جهة ان الغرض تحديد ما هو محرم للمنع عن تحريم ما عداه. واصرح مما هنا ما ورد في سورة الانعام فانه ينفي وجود تحريم فيما اوحي من الله تعالى على الرسول صلى الله عليه وآله وسلم غير المذكورات.

والسؤال هو أن المحرمات في الشرع لا شك في أنها أكثر من المذكورات. ولا شك أن كثيرا من الحيوان محرم الاكل ولا اقل من حرمة الكلب وحرمة ما يوجب الضرر وحرمة الخبائث والقاذورات.

مضافا الى أن الآيات لا تختص بالمحرمات بالذات فان ما اهل به لغير الله ليس محرما بالذات بل بصفة عارضة. والمحرمات بالعرض تشمل المسروق والمغصوب فما هو المناط في التحديد بالمذكورات؟

قيل ان الحصر حصر مقيد وليس مطلقا والخطاب فيه للمشركين ومعناه ان الحرام من بين ما تعتقدون حليته هو هذه الامور فقط وليس غيرها حراما.

وهذا غير صحيح لانهم كانوا يشربون الخمر وياكلون الربا ولم يرد ذكرهما في المحرمات هنا مضافا الى ان الخطاب في هذه الآية للمؤمنين لانها تتبع الآية السابقة.  

والاولى منه الجواب بانه ليس حصرا واقعيا وانما هو تعريض بالمشركين بأن ما يأكلونه هو الحرام لا ما يحرمونه لانهم كانوا يأكلون الميتة والدم ولحم الخنزير الوحشي وما اهل لغير الله ولا يتورعون فيها فهذه الاية تعرض بهم حتى لو كان خطابا للمؤمنين بأن الحرام هو ما يرتكبونه لا ما يحرمونه من انواع الانعام.

ولكن هناك روايات تدل على ان الحصر حقيقي فقد روى الصدوق قدس سره بسند صحيح عن زرارة ومحمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام قال (سألته عن اكل الحمر الأهلية فقال: نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن أكلها يوم خيبر وإنما نهى عن أكلها لأنها كانت حمولة للناس وإنما الحرام ما حرم الله تعالى في القرآن).

وروى بسند آخر عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام قال (نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن اكل لحوم الحمر وإنما نهى عنها من أجل ظهورها مخافة أن يفنونها وليست الحمير بحرام ثم قرأ هذه الآية (قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه) إلى آخر الآية).[13] والروايتان صحيحتان.

وروى الشيخ قدس سره بسند صحيح عن زرارة قال (سألت أبا جعفر عليه السلام عن الجريث فقال وما الجريث؟ فنعته له فقال: "قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه " إلى آخر الآية ثم قال: لم يحرم الله شيئا من الحيوان في القرآن إلا الخنزير بعينه ويكره كل شيء من البحر ليس له قشر مثل الورق وليس بحرام إنما هو مكروه).

وروى ايضا بسند صحيح عن محمد بن مسلم قال (سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الجري والمارماهي والزمير وما ليس له قشر من السمك أحرام هو؟ فقال لي يا محمد اقرأ هذه الآية التي في الانعام "قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه" قال: فقرأتها حتى فرغت منها فقال: إنما الحرام ما حرم الله ورسوله في كتابه ولكنهم قد كانوا يعافون أشياء فنحن نعافها).[14]

ومما لا شك فيه أن المحرمات اضعاف ما ورد في الآيات المذكورة وأما ما ورد في هذه الاحاديث ونظائرها فلعلها ناظرة الى التعبير بالحرام فان الفقهاء كانوا لا يعبرون بالحرام الا ما ورد في القرآن وربما يعبرون عن غيرها بالكراهة او بما حرم في السنة وليس معنى ذلك انها حلال وهذا مجرد تأدب في التعبير ولا فرق بين ما حرمه الله وما حرمه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ويعبر عنه بالسنة الواجبة.

والتحريم هو المنع ويعبر به عن المنع التشريعي وهو المعنى المعروف في الشرع ومنه ما في هذه الآية ويعبر به ايضا عن المنع القهري كقوله تعالى (إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ)[15] فانهم محرومون من الجنة قهرا ويعبر به عن التشريع الباطل ايضا كما في قوله تعالى (وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا)[16] وهو تحريم من المشركين.

وتعلق التحريم بالمذكورات بتقدير الفعل المناسب لها وهو الاكل كما هو الحال في اي حكم يتعلق بالاعيان كقوله تعالى (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ).[17] اي نكاحهن.

والميتة مخفف الميّ–تة بالتشديد والمراد بها هنا ما مات حتف انفه من دون تذكية. والتذكية تختلف حسب الثقافات والشرايع ولا شك أن العرب ايضا كانت تذكي الحيوان والا لم يكن معنى للميتة. وهذا العنوان حسب مصطلح الشرع يصدق على ما ذبح من دون ان يذكر اسم الله عليه. وفي كل مذهب للتذكية شروط.

والمراد بالدم: المسفوح منه كما ورد في قوله تعالى (إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا)[18] فلا يحرم الموجود منه في اللحم.

والخنزير حيوان معروف ولم يكن العرب يربون الخنزير كما هو متعارف الان في بلاد الغرب ومن يتبع ثقافتهم وانما كانوا ياكلون لحم الخنزير الوحشي.

وذكر اللحم هنا اذ بدونه يمكن ان يحمل التحريم على امر اخر متعلق بالخنزير بذاته كالتربية والبيع. ولكن المراد باللحم ما يشمل الشحم ونحوه مما يمكن ان يؤكل من الحيوان ويدل عليه التعليل الوارد في سورة الانعام حيث قال (فانه رجس) ولعل المراد به نجاسته وهذا يشمل كل اجزائه.

والمراد بما اهل به لغير الله ما كانوا يذبحون تقربا لاصنامهم وهذا من الميتة في الشرع كما مر الا أنه في عرفهم لا يطلق عليه الميتة وانما يطلقون الميتة على ما مات حتف انفه.

ويلاحظ أن قوله تعالى (ما اهل به لغير الله) عام يشمل ما يذبح للتقرب الى غيره تعالى مطلقا ولا يختص بما يتقرب به للاصنام وان كان هو المصداق الواضح حسب عرف المخاطبين الا أن الحكم الشرعي لا يختص به.

وهذا الامر ربما يشتبه على عامة الناس كما يشتبه في النذر فنجد كثيرا منهم ينذرون للمعصومين وغيرهم. وهذا باطل. ولا يصح النذر الا لله كما يحلفون بهم ايضا وهو ايضا باطل واذا نذروا ذبيحة لامام او ولي مثلا فانهم ربما يذكرون اسمه حين الذبح ويتوقعون قبوله.

وهذا خطأ جسيم وربما يوجب حرمة الحيوان وان كانوا يذكرون اسم الله عليه حين الذبح ايضا الا انه لايبعد ان يقال ان الاهلال لغير الله تعالى يصدق عليه لان الاهلال هو رفع الصوت وان وقع الخلاف في اصل معناه في اللغة ولكن المراد هنا واضح وذلك حيث كانوا يرفعون الصوت بذكر من يتقرب اليه حين ذبح الحيوان.

 

فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173)

الاضطرار حمل الانسان على ما يضره فالمراد الذي يتحمل ضررا شديدا بترك اكل شيء من المذكورات كما لو كان جائعا وبلغ الموت او قاربه ولا يجد ما ياكله الا الميتة مثلا فلا اثم عليه في تناولها.

وأتى بالفعل مبنيا للمجهول لان الذي يضطره امر آخر وهو الجوع فهو المضطر للاكل الذي لا يستحبه بل يرى فيه ضررا له ولو من جهة الحرمة الشرعية.

وقوله (غير باغ ولا عاد) حال فالمعنى ان الذي يضطر الى اكل شيء من المذكورات وهو ليس باغيا ولا عاديا فلا اثم عليه.

والبغي في الاصل هو الطلب ويطلق على من يطلب ما ليس له والظاهر أن المراد هنا المعنى الاصلي اي مطلق الطلب فيكون المراد به من طلب اكل الميتة مثلا ولكنه خرج الى البادية ليجوع وليس معه شيء الا الميتة فياكلها ولا شك ان هذا يصدق عليه الباغي بمعنى انه طلب ذلك.

والعادي من العدوان وهو التجاوز والظاهر أن المراد منه من جعل الاضطرار عذرا له للتجاوز عن حد الحاجة والضرورة في التناول من المحرم.

وقال العلامة الطباطبائي في الميزان (وهما حالان عاملهما الاضطرار فيكون المعنى فمن اضطر إلى أكل شيء مما ذكر من المنهيات اضطرارا في حال عدم بغيه وعدم عدوه فلا ذنب له في الاكل وأما لو اضطر في حال البغي والعدو كأن يكونا هما الموجبين للاضطرار فلا يجوز له ذلك).

ولكن كونهما حالين لا يقتضي ان يكون البغي والعدوان هما الموجبان للاضطرار فهذا الاستظهار لا وجه له والمناط في الحكم في عدم الجواز وفقا للاية ان يكون مضطرا وهو في نفس الوقت باغ او عاد وان كان الاضطرار بسبب اخر.

وفسر الباغي بمن خرج على المسلمين او على الامام او الامام العادل وفسر العادي بقطاع الطرق وجاء في المنار ردا على هذا التفسير: (لَا خِلَافَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فِي أَنَّ الْعَاصِيَ كَغَيْرِهِ يَحْرُمُ عَلَيْهِ إِلْقَاءُ نَفْسِهِ فِي التَّهْلُكَةِ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ تَوَقِّي الضَّرَرِ، وَيَجِبُ عَلَيْنَا دَفْعُهُ عَنْهُ إِنِ اسْتَطَعْنَا. فَكَيْفَ لَا تَتَنَاوَلُهُ إِبَاحَةُ الرُّخَصِ؟!).

ولكن جواز تناوله الميتة ونحوها حين الضرورة لا ينافي كون الاثم ثابتا عليه كما أن من خرج الى مكان لا يجد فيه طعاما الا الميتة يجب عليه ان يحفظ نفسه ويأكل ولكنه مع ذلك آثم فجواز الاكل لا ينافي ثبوت الاثم.  

وهناك روايات في تفسير الباغي والعادي فقد روى الكليني بسنده عن حماد بن عثمان عن أبي عبد الله عليه السلام (في قول الله عز وجل "فمن اضطر غير باغ ولا عاد" قال: الباغي باغي الصيد والعادي: السارق ليس لهما أن يأكلا الميتة إذا اضطرا إليها هي حرام عليهما ليس هي عليهما كما هي على المسلمين وليس لهما أن يقصرا في الصلاة).[19]

والسند غير نقي وتفسير الباغي بباغي الصيد ليس مما يستظهر من الآية بوجه فلو صحت الرواية لزمنا التسليم ولكنها غير صحيحة وان صح السند عند بعض الاعلام والاغرب فيها تحريم الاكل عليهما مع انه لا شك في وجوبه على فرض الاضطرار بل لا اثم عليهما في ذلك وان اثما في اصل السفر.

وروى الشيخ قدس سره[20] نفس هذه الرواية باختلاف يسير عن حماد بن عثمان بسند معتبر عند كثير من الاعلام وان كان لا يخلو ايضا من اشكال.

وروى ايضا بسند فيه ضعف وارسال عن أبي عبد الله عليه السلام (في قول الله تبارك وتعالى "فمن اضطر غير باغ ولا عاد" قال: الباغي الذي يخرج على الامام والعادي الذي يقطع الطريق لا تحل له الميتة).[21]

وروى الصدوق بسند معتبر عن البزنطي عمن ذكره عن أبي عبد الله عليه السلام (في قول الله عز وجل "فمن اضطر غير باغ ولا عاد" قال: الباغي الذي يخرج على الامام، والعادي الذي يقطع الطريق لا يحل لهما الميتة).[22] وبعض الاعلام يعتمد على مرسلات البزنطي.

وتفسير البغي بالخروج على الامام يناسب معنى الكلمة في المجتمع الاسلامي بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ولكن ليس مناسبا لمعناها وقت نزول الآية.

مضافا الى ان الخروج على الامام الحق قليل المصداق عندنا ويختص بايام حكومة امير المؤمنين عليه السلام وانما هو محل اهتمام العامة وخلفائهم وملوكهم وهذا الامر ايضا مما يوجب سوء الظن بهذه الروايات ويوجب قوة احتمال كونها من المدسوسات او مما ورد تقية.

وروى في الفقيه عن عبد العظيم الحسني عن الامام الجواد عليه السلام (في حديث) قال عبد العظيم (فقلت له: يا ابن رسول الله ما معنى قوله عز وجل "فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه" قال: العادي السارق والباغي الذي يبغي الصيد بطرا أو لهوا لا ليعود به على عياله ليس لهما أن يأكلا الميتة إذا اضطرا هي حرام عليهما في حال الاضطرار كما هي حرام عليهما في حال الاختيار وليس لهما أن يقصرا في صوم ولا صلاة في سفر..)[23] وسند الرواية ضعيف ايضا وقد مر بعض الكلام حول تفسير الباغي بباغي الصيد.

ومما يدل على أن المراد بالآية الكريمة هو البغي بمعنى طلب اكل المحرم والعدوان بمعنى التجاوز عن حدود الضرورة قوله تعالى في سورة المائدة (فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).[24]

والمخمصة: المجاعة ولا يختص الحكم بالمجاعة العامة بل حتى ما يحصل لشخص او اشخاص والمتجانف اي المايل الى الاثم ومعناه انه اذا كان مضطرا ولكنه يميل الى الاثم اي الى اكل المحرم او الى العدوان فيه فلا يشمله الترخيص وليس في الآية ما يدل على طلب الصيد او السرقة او الخروج على الامام.

ولا شك في انه لا يراد بالاثم في الاية اي اثم يميل اليه والا لاختص الترخيص بعدول المؤمنين بل يختص بمن لا يتمايل الى اثم منهم وهم المعصومون عليهم السلام فالتمايل الى اثم خارج عن موضوع الاضطرار لا يمنع من شمول الترخيص.

واما التعليل في الاية الكريمة بان الله غفور رحيم فالتعليل بالرحمة واضح لان الترخيص من باب رحمته تعالى بعباده وعدم تكليفهم بما لا يطيقون.

واما التعليل بالغفران فله وجهان:

الوجه الاول أن هناك موارد في القران يعتبر رفع التكليف في حالة خاصة من باب الغفران والستر وذلك فيما اذا كان من الممكن ان يكون الحكم الشرعي موجبا للحرج على بعض المكلفين فاذا رفعه الله عنهم فهو ستر لهم من الوقوع في المعصية اذ لو كانوا يخالفون الحكم كانوا عصاة.

فمن ذلك قوله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحيمٌ).[25] وكان من الممكن ان لا يرفع الحكم عن الفقراء فاما ان لا يناجوا الرسول او يقعوا في حرج لدفع الصدقة فرفع الله عنهم التكليف واعتبر ذلك غفرانا وسترا ورحمة.

وفي مقابل ذلك الاحكام الحرجية المشرعة لليهود جزاءا لبغيهم كما قال تعالى (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ..).[26] وقال ايضا (وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ).[27] ومنه ايضا قوله تعالى (رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ..).[28]

وورد في صحيحة داود بن فرقد عن أبي عبد الله عليه السلام قال (كانوا بنو إسرائيل إذا أصاب أحدهم قطرة بول قرضوا لحومهم بالمقاريض وقد وسع الله عليكم بأوسع ما بين السماء والأرض وجعل لكم الماء طهورا فانظروا كيف تكونون).[29]

الوجه الثاني أن الاضطرار كثيرا ما يصعب تشخيصه ويقع الانسان في وسواس وشك وربما يشعر بالاضطرار ولا يكون في الواقع مضطرا كما أن عدم التجاوز عن حد الضرورة مما يصعب تحديده فهذا التعليل لاطمئنان الانسان بان الله تعالى يغفر له ما لم يتعمده من اعتبار الشيء موردا للضرورة او حدا لها خلافا للواقع.

 


[1] البقرة : 188

[2] المائدة : 87 - 88

[3] النحل : 114 - 116

[4] الروم : 25

[5] نهج البلاغة باب حكم امير المؤمنين عليه السلام : 147

[6] البقرة : 19

[7] يونس : 24

[8] الانعام : 119

[9] راجع محاسن البرقي ج 2 ص 410

[10] المائدة : 3 و 4

[11] الانعام : 142 و 145

[12] النحل : 114 - 116

[13] علل الشرايع ج 2 ص 563

[14] الاستبصار ج 4 ص 60 باب النهي عن صيد الجري

[15] المائدة : 72

[16] الانعام : 138

[17] النساء : 23

[18] الانعام : 145

[19] الكافي ج 3 ص 438 باب صلاة الملاحين والمكاريين

[20] تهذيب الاحكام ج 9 ص 80 باب الذبائح والاطعمة

[21] الكافي ج 6 ص 265 باب ذكر الباغي والعادي

[22] معاني الاخبار ص 214 باب معنى الباغي والعادي

[23] الفقيه ج 2 ص 244 متى تحل الميتة للمضطر

[24] المائدة : 3

[25] المجادلة : 12

[26] النساء : 160

[27] الانعام : 146.

[28] البقرة : 286

[29] تهذيب الاحكام ج 1 ص 356 باب اداب الاحداث الموجبة للطهارة