مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ...
الامثال تقرّب المعاني الى الاذهان اكثر من التصريح وتتقبّلها القلوب وتتفاعل معها فكثيرا ما نجد معاني صعبة على الافهام ولكنها اذا صيغت بصورة مثل استساغه الذوق. والقرآن مليء بالامثال قال تعالى (وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ).[1]
والمَثَل مأخوذ من المُثول بمعنى الانتصاب يقال مَثُل فلان بين يدي الامير اي وقف منتصبا ويطلق على كل ما ينصب علامة لشيء كما يطلق على ما يشبّه به الشيء فالمراد هنا تشبيه المنافقين بهذا المثل.
والكلام هنا في وجه الاتيان في المشبه به بلفظ المفرد مع ان المشبه جماعة المنافقين فالمناسب ان يقال كمثل الذين استوقدوا نارا. والظاهر ان الوجه فيه هو انه تشبيه الحال بالحال لا تشبيه الجماعة بالفرد ولذلك اتى بكاف التشبيه اي تشبيه المثل بالمثل.
ومثله قوله تعالى (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا..)[2] وقوله (يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ..)[3] حيث شبه النظر بالنظر.
وهذا التمثيل يصوّر انسانا في موضع مظلم من الصحراء يستوقد نارا ليبصر ما حوله ويرى الطريق ويرى ما يضره وما ينفعه فلما ارتفع لهيب النار واخذ ينتفع بها ويبصر ما حوله جاءه ما يخمد النار من ماء او ريح فلم يبصر شيئا.
ووقود النار اشتعالها وأوقد النار اي جعلها تشتعل واستوقدها اي طلب اشتعالها باي طريقة كالنفخ مثلا. والإضاءة إفعال من الضياء وياتي لازما ومتعديا وهو هنا متعدّ اي أضاءت النار ما حول الرجل من الاماكن اي ملأتها ضياءا ونورا.
ووقع الكلام في التفاسير في الفرق بين النور والضياء في تفسير قوله تعالى (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا..)[4] ففي الكشاف ان الضياء اقوى من النور ولعله فهم ذلك من مضمون الآية بالذات كما هو واضح ولكن بعضهم كما في تفسير ابي السعود فرق بينهما بأن الضياء ما هو بالذات والنور ما هو بالعرض لان القمر يكتسب الضوء من الشمس. ولا يبدو أن هذا الفرق موجود في اصل اللغة.
وأحسن ما رأيت من الفرق ما ذكره العسكري في الفروق حيث قال (ان الضياء ما يتخلل الهواء من اجزاء النور فيبيضّ بذلك والشاهد انهم يقولون ضياء النهار ولا يقولون نور النهار الا ان يعنوا الشمس فالنور الجملة التي يتشعب منها).
وأما سائر كتب اللغة القديمة كالعين والجمهرة وتهذيب اللغة والمحيط والصحاح ومعجم المقاييس فلم يذكروا فرقا بينهما بل فسروا الضياء بالنور والنور بالضياء وفي مفردات الراغب (ان الضياء اعلى مرتبة من النور فكل ضياء نور وليس كل نور ضياءا).
ومهما كان فالمراد بإضاءة النار ما حول هذا المستوقد ارتفاع لهيبها بحيث تمكّن الرجل أن يبصر ما حوله بضوئها. والى هنا ينتهي التمثيل والتشبيه ثم اتى بضمير الجمع في قوله (ذهب الله بنورهم) لانه عاد الى بيان حال المشبّه وهم المنافقون.
وهذا من لطيف التعبير حيث مزج التشبيه فبيّن حال المشبه به الى مرحلة ثم أخفى الباقي وعاد الى بيان حال المشبه فكأنه قال (فلما أضاءت ما حوله انطفأت) ولكنه ترك الجواب لدلالة باقي الجملة عليه. والباقي في بيان حال المشبّه وأنه تعالى ذهب بنورهم ولم يقل بنارهم كما في المشبه به.
والقصد من هذا التمثيل تقريب المعنى السابق بنحو اوضح فهناك مثّله بتاجر يملك بضاعة فأبدلها بما لا ينتفع به بل يضرّه وهنا شبّهه بمن أوقد نارا يمكنه الاستضاءة بها ثم فقد النار وفقد الضوء فبقي في ظلمات لا يبصر شيئا.
ووجه الشبه أنّ المنافق قبل ان يسمع القرآن ويرى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كان كغيره من المشركين في ظلمات ثم رأى النور فاجتمع مع المؤمنين حوله بل يبدو أن بعضهم آمن به ابتداءا لقوله تعالى (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ)[5] ولمّا اراد ان يستضيء بالنور في ظلمات الحياة أصابه النفاق لمتابعته أهواءه فذهب الله بنوره وعاد الى الظلمات السابقة.
والآية تشير الى أنهم لم ينتفعوا بهذه الهداية الالهية اصلا لانه رتّب ذهاب النور على مجرد الاضاءة فما أن أضاءت الا وقد ذهب الله بنورهم تماما فلم يبق لهم بصيص منه بل بقوا في ظلمات لا يبصرون شيئا.
وتنكير الظلمات للتهويل اي ظلمات أيّما ظلمات. واتى بها جمعا للاشارة الى انهم في ظلمات بعضها فوق بعض فهم في ظلمة الجهل وظلمة النفاق وظلمة العصبية والحسد والكبر وغيرها من الصفات الرذيلة او ان الجمع بلحاظ شدة الظلمة. ومن الملفت ان الظلمات دائما تاتي في القران جمعا والنور مفردا لان صراط الحق واحد و سبل الباطل كثيرة قال تعالى (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ..).[6]
وقوله (لا يبصرون) حال من ضمير المفعول في قوله (وتركهم). وحذف مفعول الإبصار ليعمّ اي لا يبصرون أيّ شيء وهو بمعنى عدم الادراك والشعور.
واسناد ازالة النور الى الله تعالى للاشارة الى انه لا احد يقدر بعد ذلك على إضاءة طريقهم (وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ)[7] الا اذا اراد الله تعالى والله هو الهادي فلا يذهب بالنور ابتداءا الا انهم حيث سلكوا بسوء اختيارهم سبيل النفاق فحقّ عليهم القول وأضلهم الله تعالى. ومعنى تركهم في ظلمات انه منع عنهم النور فبقوا في الظلمات.
روى الصدوق قدس سره بسنده عن إبراهيم بن أبي محمود قال (سألت أبا الحسن الرضا عليه السلام عن قول الله تعالى (وتركهم في ظلمات لا يبصرون) فقال: ان الله تبارك وتعالى لا يوصف بالترك كما يوصف خلقه ولكنه متى علم أنهم لا يرجعون عن الكفر والضلال منعهم المعاونة واللطف وخلى بينهم وبين اختيارهم).[8]
ولعل المراد بقوله عليه السلام (لا يوصف بالترك) ان الترك بالمعنى المعهود مستلزم للمعية المعهودة اي معية المخلوقات بعضها مع بعض وهو مستحيل في حقه تعالى ومعيته معنا انما هي معية هيمنة واحاطة وعلم وقدرة ولا يمكن للمخلوق ان يخرج عن هذه المعية فاراد الامام عليه السلام ان ينفي ما يتراءى من لفظ الترك.
والغرض من الاية أن الله تعالى لا يضلّ أحدا بإلقاء الضلال عليه بل يحرمه من عناياته الخاصة وهداياته ويتركه وهو في ظلمات فهو بطبيعة الحال يضلّ الطريق.
صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ...
الصم جمع الاصمّ وكذلك البكم والعمي. والمبتدأ مقدر اي هم صم بكم عمي. والعمى واضح واما الصمم فهو في الاصل الانسداد وعدم وجود الخرق في الشيء على ما في معجم المقاييس كأنّ الأصم سدّت اذنه فلا يسمع وقال الشيخ في التبيان ان الأصمّ من ولد كذلك. ولم أجده في كتب اللغة.
واختلفوا في تفسير البكم ففي العين (الأبكم: الأخرس الذي لا يتكلم واذا امتنع الرجل من الكلام جهلا او تعمدا فقد بكم عنه (الى ان قال) والابكم في التفسير هو الذي ولد اخرس) ولعله يشير بقوله في التفسير الى ما قيل في تفسير قوله تعالى (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ..)[9] ويستفاد ذلك من توصيفه بانه لا يقدر على شيء لانه لم يتعلم شيئا بسبب صممه من اول الولادة لانه الذي يوجب الخرس عنده.
ولكن في الصحاح ان الابكم: الاخرس بيّن الخرس. وقال ابن سيدة في المحكم (البَكَم: الخَرَس مع عِيّ وبَلَه وقيل هو الخرس ما كان. وقال ثعلب: البكم ان يولد الانسان لا ينطق ولا يسمع ولا يبصر).
ولم يأت بحرف العطف فيقول صمّ وبكم وعمي لانه يوهم أنّ هذه صفات فرق مختلفة منهم اي منهم من هو أصمّ ومنهم من هو أبكم ومنهم من هو أعمى مع ان المقصود ان كل واحد منهم أصم وأبكم وأعمى. ولكنهم في الواقع سامعون ناطقون مبصرون الا أنهم حيث لم يستفيدوا من اسماعهم وابصارهم فكأنهم لا يبصرون ولا يسمعون.
والواقع أن الفارق بين الانسان والحيوان ليس بسماع الصوت ورؤية المناظر بل بادراك الحقيقة التي وراء الصوت والمنظر. والحيوان لا يدركها الا بالمقدار الذي اُودع فيه والانسان هو الذي يدرك حقائق الاشياء وينظمها ويستنتج منها فاذا بلغ الانسان من غبائه بحيث لا يدرك من الصوت الا ما يسمع ولا من المنظر الا ما يرى بالعين فهو كالحيوان بل أضلّ منه سبيلا لان الحيوان يدرك منها ما اراده الله له بحسب طبيعته والانسان الكافر بربه لا يدرك شيئا مما يرى ويسمع بسوء عمله.
واما تشبيههم بالبُكم فلعله باعتبار أنهم لا ينطقون بالحق ولا يستخدمون نطقهم فيما خلقه الله له او للاشارة الى انهم كالحيوان الصامت لا يدركون شيئا.
والفاء في قوله (فهم لا يرجعون) تدل على ان عدم رجوعهم بسبب انهم صم بكم عمي فالمعنى انهم لا يرجعون الى رشدهم وادراكهم لهذا السبب لان الانسان اذا فقد كل حواسّه فَقَدَ إدراكه لحقائق الاشياء تماما وانقطعت العلاقة بينه وبين ما حوله فهم لا يرجعون الى رشدهم لانهم فقدوا الادراك.
أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ...
قوله تعالى (او كصيّب) عطف على (كمثل) فهذا تمثيل اخر للمنافقين اي او مثلهم كصيّب.. و(أو) هنا للتسوية اي كما يمكن تمثيلهم بالمستوقد نارا يمكن ايضا تمثيلهم بالصيب.
والصيّب فيعل من الصوب واصله صَيْوِب. والصوب: النزول والاستقرار كما في معجم المقاييس ويطلق الصيّب على المطر النازل وعلى السحاب الذي ينزل منه المطر والمراد هنا هو الاول لانه قال (من السماء) والمراد بها السحاب لان السماء تطلق على كل شيء عال.
وهناك اختلاف في التفاسير في وجه تقييد الصيّب بكونه من السماء مع أنه لا يكون الا منها ففي الكشاف انه للدلالة على أن الغيم كان مطبقا فالمطر ينزل من كل جانب من السماء لا من جانب واحد وذلك لانه أتى بالسماء معرفة فليس المطر من سماء واحدة اي افق واحد.
ولكنه بعيد اذ السماء لا تعني من كل جانب بل من فوق ولعله اراد بذلك كما قيل ان اللام للاستغراق ولكن الظاهر انه لا يصحح كلامه فالاستغراق للافراد لا للاجزاء.
وفي المنار ان المراد أنه خارج عن اختيارهم لانه من السماء فلا يقدرون على مقابلته. وهو ايضا بعيد لان خروجه عن الاختيار لا يستند الى كونه من السماء كما هو واضح الا اذا فسر كونه من السماء بأنه من الله تعالى وواضح من السياق أن المراد بالسماء أعالي الجو.
وقيل ان المراد انه من ارتفاع عال وبعيد جدا فيكون مطرا غزيرا ومتواصلا. ولو فرض صحة ما يبتني عليه من غزارة المطر اذا كان السحاب عاليا جدا فهو ايضا بعيد من اللفظ لان السماء تطلق على المكان المرتفع لا الاعلى ارتفاعا.
وقيل انه ليس تقييدا بل هو تفصيل وإسهاب في الكلام كقول امرئ القيس (كجلمود صخر حطه السيل من عل) اذ لا يحطه السيل الا من علو.
ولعل الاصح انه لو فرض كونه تقييدا فيمكن ان يكون لتحديد معنى الصيب لانه ليس في اصل اللغة بمعنى المطر بل بمعنى ما يصيب الشيء بالنزول والاستقرار فيه فيعلم من هذا القيد انه المطر لانه من السماء.
والضمير في (فيه) يعود الى الصيّب ولا يعود الى السماء كما هو واضح. والجمع في الظلمات يمكن ان يكون لبيان شدة الظلمة ويمكن ان يكون باعتبار ظلمة الليل وظلمة السحاب وظلمة المطر. والرعد والبرق ايضا يزيدان في الهول والاضطراب. وتنكير الثلاثة للتهويل.
والرعد فسّر في كتب اللغة بأنّه صوت السحاب وقال بعضهم إنّه صوت ملك واستندوا في ذلك الى الرواية ولا اصل لها. وفي معجم المقاييس أنّه في الاصل يدلّ على حركة واضطراب وكل شيء اضطرب فقد ارتعد وأنّ منه الرِّعديد اي الجبان ويقال أرعدت فرائص الرجل عند الفزع.
وعليه فالتفسير بالصوت من باب انه يسبب الاضطراب ويمكن ان يكون العكس هو الصحيح وان يكون اللفظ وضع للصوت ويطلق على الاضطراب بالمناسبة ومهما كان فاللفظ يطلق في اللغة على الصوت المسموع من السحاب ولا علاقة في وضع الالفاظ بحقائق الاشياء فانكشاف حقيقة الرعد في هذا العصر لا يبدّل المعنى.
واما البرق فهو معروف وورد في معجم المقاييس انه بمعنى لمعان الشيء ونَقَل عن الخليل انه قال: (البرق وميض السحاب). ولكن ورد في العين انه دخيل في العربية ولم اجده في غيره ولم ينقل في المعجم عنه ايضا.
وقوله (يجعلون..) جملة حالية. وضمير الفاعل فيها يعود الى القوم الذين أصابهم الصيّب وهو معلوم من السياق وقيل يقدر للصيّب مضاف اي اصحاب الصيب فيكون هو المشبه به والاول اولى ببلاغة الكلام.
و(من) في قوله (من الصواعق) تعليلية اي بسبب الصواعق وقوله (حذر الموت) مفعول لاجله ايضا. والصواعق جمع الصاعقة وهي في الاصل الصوت الشديد. ولذلك يطلق الصُعاق على الصوت الشديد للثور والحمار كما في كتاب العين. وانما يقال لمن غُشي عليه انه صُعق لان الغالب في هذا الصوت ايجابه للغشية وقد يقال بالعكس وأنّ الصّعاق هو الغشية ويطلق على الصوت لانه يوجبها.
والمراد بالصاعقة الصوت المخيف الذي يسمعونه وهو المعبر عنه بالصيحة في موارد عديدة في القرآن حيث كان عذاب الاستئصال ينزل على بعض الاقوام البائدة ولكن بعض المفسرين فسروها بالبرق الذي ينزل على الارض ويحرق ما يصيبه والسبب في هذا التفسير هو أنه هو الموجب للخوف من الهلاك وخصوصا في البراري والقفار.
ولذلك استغرب بعضهم من جعل الاصابع في الآذان فانه ليس طريقا للفرار من الصاعقة بهذا المعنى ولكن الظاهر بنفس القرينة أن المراد بها الصوت المخيف. وشدّة الصوت قد توجب الهلاك بل توجب الدمار في المباني وأما البرق فالآية تفرض أنهم كانوا يستضيئون به لا أنهم يخافون منه.
والمراد بالاصبع جزء منها اي الانملة اذ لا يمكن ادخال كلها. ولكن من الواضح أنّ جعل الأصابع في الآذان لا يحمي الانسان من الموت ولو كان السبب هو الصوت فهذا الامر منهم يدل إمّا على غبائهم وجهلهم بما يجب العمل به في الحوادث وإما على غاية اضطرابهم وهلعهم بحيث يفقدون السيطرة على انفسهم.
وفي هذا التمثيل شبّه المنافقين بجماعة يسيرون في صحراء يقعون في هذا المطر الشديد فيصوّر حالة المسافرين واضطرابهم بأبدع تصوير. والمراد ان اضطراب المنافق في حياته الدينية والاجتماعية كمثل هؤلاء المسافرين والتشبيه ليس بالصيب بل بالقوم الذين اصابهم الصيب. وهذا ما يسمونه التمثيل المركب.
ونظيره وارد في القرآن وغيره من النصوص منها قوله تعالى (إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ..)[10] والحياة الدنيا تشبه الحصيد في هذا المثل لا الماء ولكن المقصود التمثيل بمجموع ما ذكر.
والآية تشبّه تخوّف المنافقين وتوجّسهم لكل حادث حولهم بتخوّف هذا القوم من الموت في هذا الحادث المفروض حيث يجعلون اصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت والمنافق بطبيعته يخاف من كل ما يحدث حوله قال تعالى (يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ)[11] اي ضدّهم فهم لخوفهم من افتضاح أمرهم يتوجّسون الشر دائما كما هو شأن كل خائن لمجتمعه واذا سمع صيحة توهّم أنه سيقبض عليه.
وقوله تعالى (والله محيط بالكافرين) لا يرتبط بالمشبّه به اي القوم الواقعين في المطر بل بالمشبّه وهم المنافقون والمعنى أنّ حذرهم وتخوّفهم لن ينفعهم فإنّ الله تعالى محيط بهم ومحيط بكل شيء إحاطة علم وقدرة فلا يغيب عنه شيء ولا يعجزه شيء ولكن الانسان الجاهل يقيس قدرة الله وعلمه بما يراه من البشر ويتوهم ان حذره ينفع. ولعله لذلك عبّر عنهم بالكافرين.
يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا...
الخطف هو الاخذ باستلاب او كل أخذ بسرعة كما في الجمهرة بمعنى أنه يكاد يسلبهم ابصارهم بسرعة. ونصب (كل) في قوله (كلَّما) لانه ظرف زمان. والمراد بالقيام التوقف عن المشي.
والتشبيه الاول في هذا التمثيل كان بلحاظ تعاملهم اي القوم المسافرين مع الصاعقة وهو صوت الرعد وهنا مع ما يصيبهم من البرق فوصفه أوّلا بشدة اللمعان والتوهّج بحيث يكاد يخطف ابصارهم.
ثم بيّن أنهم كانوا يستضيئون بلمعانه لمعرفة الطريق جزئيا ويمشون قليلا بمقدار ما ينكشف لهم الطريق وسرعان ما يضمحلّ النور ويعود الظلام فاذا أظلم عليهم توقّفوا في مكانهم وعبّر عن توقفهم بالقيام لأنّهم لا يتمكّنون من الجلوس او النوم لشدة المطر.
ووجه الشبه في هذه الجملة أنّ المنافق بعد أن أسلم ودخل في جمهور المسلمين يبقى ضعيف الايمان متردّدا متحيّرا فقد يبدو له في بعض المواقف نور يهتدي به إمّا من آية في الكتاب او كلام من الرسول صلى الله عليه واله وسلم او معجزة واضحة ونحو ذلك مما يكون مدهشا جدا لا يتمكن من التغافل عنه وبهذا يكون شبيها بالبرق الخاطف لشدة توهّجه.
ولكن اهتداءه به لا يكاد يستمر الا قليلا كما كان القوم المسافرون يستضيئون بضياء البرق فسرعان ما يعود الى ظلماته التي عاشها طيلة نفاقه ويكفر بما آمن به وهذا ايضا مما اُشير اليه في موارد عديدة منها قوله تعالى (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ..).[12]
وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ...
وهذه الجملة كقوله (والله محيط بالكافرين) في التشبيه السابق تعود الى حال المشبه اي المنافق ولا علاقة له بالقوم المسافرين.
والمراد أن الله تعالى أبقى للمنافق شيئا من السمع والبصر ليشاهد الآيات ويسمع الكتاب والحديث لتتم عليه الحجّة ولئلّا يقول لم أرَ آية ولم أسمع حجة ولو شاء الله لأزال منهم السمع والبصر نهائيا فانه قادر على كل شيء. والانسان كثيرامّا يشتبه عليه الامر ويظنّ أنّ بعض الامور خارج عن السيطرة.
ويلاحظ أنّ هذا التمثيل ينطبق على الوضع الاجتماعي الحاضر ايضا فإنّ كثيرا من الناس - كما نرى - تنتابهم تلك الحالات والتقلّبات فاذا رأوا معجزا او سمعوا حديثا شيّقا عن الدين تفتّحت له قلوبهم واطمأنّت نفوسهم وسرعان ما يعودون الى حالتهم المريبة وشكّهم وترديدهم وينسون ما رأوه او سمعوه خصوصا اذا سمعوا الاعلام المعادي للدين وما ينشرونه بين الفينة والاخرى من دسائسهم. وهذا يدلّ على ان النفاق ببعض مراتبه موجود في كثير من الناس.
إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ...
هذه الجملة مكررة في القرآن كثيرا ومعناه واضح لدى العرف وهو أن الله تعالى قادر على ان يفعل ما يشاء فيوجد كل ما هو معدوم ويعدم كل ما هو موجود. ومع ذلك فقد وقع البحث في بعض التفاسير فيما هو المراد بالشيء.
والصحيح انه بمعنى ما يخبر عنه ولذلك يطلق على الله تعالى ايضا كما ورد في الكتاب العزيز (قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ..)[13] والمراد بالشيء في هذه الجملة معنى خاص وهو كل امر ممكن فان الشيء يطلق على المستحيل ايضا يقال هذا شيء محال فالشيء امر مبهم.
وقيل انه لا يطلق الا على الموجودات ويرده قوله تعالى (وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا).[14]
وقيل انه مصدر كالمشيئة من شاء يشاء بمعنى المفعول اي المشيء وأن اطلاق الشيء على الله تعالى بمعنى اسم الفاعل لانه الذي يشاء فان صح ذلك فالمعنى في هذه الجملة أنه قادر على كل ما يشاؤه. والقدير مبالغة في القدرة.
[1] الحشر: 21
[2] الجمعة : 5
[3] محمد : 20
[4] يونس: 5
[5] المنافقون: 3
[6] الانعام : 153
[7] الزمر: 36
[8] عيون اخبار الرضا عليه السلام ج1 ص113
[9] النحل : 76
[10] يونس: 24
[11] المنافقون : 4
[12] المائدة: 40
[13] الانعام: 19
[14] الكهف : 23