إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (174)
يعود الحديث الى كتمان علماء اليهود والنصارى ما انزل الله تعالى في كتبهم من علامات الرسول صلى الله عليه وآله وسلم للاشارة الى جزائهم في الاخرة. ولكن الموضوع عام لا يختص بهم وهو من يكتم بعض ما انزله الله تعالى في كتابه باي نحو من الكتمان على ما مر ذكره للوصول الى منافع دنيوية.
والكتمان – كما مر - إخفاء الحديث وهو في الغالب يحصل باخفاء اصل الحديث وقد يتم بتبديل الكلام وتغيير حروفه وقد يتحقق الكتمان بتأويله وتغيير معناه. و(من الكتاب) بيان لما انزل الله. والكتاب بمعنى المكتوب اي المجموع فيمكن ان يراد به التوراة والانجيل بناءا على أن الكلام يدور حول علماء اهل الكتاب او مطلق الكتاب السماوي ليشمل القرآن لان الحكم لا يختص بهم وان كانوا هم المقصودين بالذات في عصر النزول.
ويمكن ان يكون المراد مجموعة احكام الله تعالى والمعارف التي انزل على رسله لان (كتب) بمعنى (جمع) ولا خصوصية للكتب المذكورة وهو المراد بالكتاب في عدة موارد في القرآن الكريم كقوله تعالى (الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ).[1]
والاشتراء مطاوعة الشراء وهو البيع والمراد معاوضة الشيء بالشيء وما يحصل عليه هؤلاء حتى لو كان جاها عريضا ومالا عظيما فانه بالمقارنة مع ما يخسرونه من نعيم الاخرة وما يلاقونه من الخزي في الدنيا وغضب الله في الاخرة وعذابه الشديد ثمن قليل بل لا يعدّ شيئا.
وكان علماء اهل الكتاب يحظون بهيمنتهم على الناس وياخذون من اموالهم كما قال تعالى (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا..) وبعد آيتين (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ..).[2]
ويظهر من قوله تعالى (قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا..)[3] أنهم كانوا يخفون كثيرا من آياته تعالى التي نزلت على موسى عليه السلام ولا يختص الكتمان بما يرتبط بالرسول صلى الله عليه وآله وسلم فلعل بعض ذلك من آيات الاحكام التي لا تروق علماءهم واحبارهم.
والكلام هنا فيما هو المراد بقوله تعالى (ما ياكلون في بطونهم الا النار) فيمكن ان يكون المراد بالاكل التصرف في الاموال التي يكتسبونها عن طريق عرض هذا الكتاب المختلق للناس كما في قوله تعالى (وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ)[4] وأن التعبير بأكل النار في بطونهم من باب الاستعارة لان ما يأكلون سبب لدخولهم النار فيعبّر عنه بأنه نار واقعا باعتبار ما يؤول اليه مصيره.
ويحتمل ايضا ان يكون المراد الاكل الحقيقي للطعام الذي يشترى بهذا الثمن ولا يقصد به التصرف بوجه عام في تلك الاموال وذلك بقرينة قوله (في بطونهم) اذ يمكن ان يكون ذكر هذا القيد للاشارة الى هذا المعنى فلو لم يصرح بالبطون لصح التاويل. وبذلك يمكن أن يقال ان المراد أن ما يأكلونه من الطعام وان كان بظاهره طعاما في الدنيا الا انه بنفسه يتحول نارا يوم القيامة لا انه سبب لدخول النار.
وهذا هو ما يعبر عنه بتجسم الاعمال وأن الاعمال تظهر يوم القيامة بصورة اخرى هي حقيقتها عند الله تعالى ولكن الانسان يغفل عن تلك الحقيقة في الدنيا فالمال الذي ياخذونه في مقابل كتمان الحق ويبادلونه بطعام ياكلونه هو بنفسه نار ولكنهم لا يشعرون.
كما يظهر من قوله تعالى (ولا يكلمهم الله يوم القيامة) أن ذكر جزائهم يوم القيامة يبدأ من هنا وهذا يدل على ان أكلهم للنار يتم في الدنيا لا في يوم القيامة وكذلك يدل عليه ما ورد في ذيل الآية حيث قال (ولهم عذاب اليم) فيظهر ان هذا غير أكلهم للنار فلا وجه لتأويل اكل النار بدخول النار بل العذاب الاليم هو دخول النار.
واوضح منها قوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا)[5] لانه صرح بانهم يصلون سعيرا بعد التعبير عن طعامهم بالنار مما يدل بوضوح انهم ياكلون في هذه الدنيا نارا ولكنه يظهر بصورته الواقعية يوم القيامة وأن هذه النار غير النار التي يصلونها يوم القيامة.
وملاحظة اخرى في الايتين تؤيد هذا المعنى ايضا وهو حصر ما يأكلون في النار ففي آية الايتام كلمة (انما) تفيد الحصر ولو بمعونة القرائن وفي الآية التي نفسرها فالحصر واضح لانه نفى أكل أي شيء الا النار.
ويمكن ان يكون هذا الحصر اضافيا لانهم ربما ياكلون ايضا غير اموال اليتامى او يأكلون غير ما يبادلونه بالكتاب المحرف فالمراد ان ما يأكلونه في هذا المجال ليس الا النار وعلى كل حال فلو كان المراد أن هذا الاكل سبب لدخول النار لم يكن حاجة الى الحصر فهذا التعبير والحصر يدل على ان طعامهم مهما كان فانه يتحول الى نار.
والمفسرون غالبا تبعوا الكشاف وأولوا التعبير بان المراد من قوله (في بطونهم) ملء بطونهم قال في الكشاف (فِي بُطُونِهِمْ ملء بطونهم. يقال: أكل فلان في بطنه، وأكل في بعض بطنه). وكأنه يقصد بذلك أن النار يوم القيامة تملأ بطونهم ويقصد أن ذكر البطون ليس للاشارة الى أن معنى الاكل هو الاكل الحقيقي فيحمل على التصرف. وقد صرح الالوسي بهذا المعنى.
وهو تأويل بعيد لم يحملهم على قبوله الا الضرورة في عدم الحمل على كونه اشارة الى ان الاكل يراد به الاكل الحقيقي اذ لا يمكن الحمل عليه لانه اكل طعاما لذيذا ولم ياكل نارا.
وفي تفسير الطبري تاويله بانه نظير قولك فعل فلان هذا نفسه وقال ان العرب تقول جعت في غير بطني وشبعت في غير بطني ويقصد بذلك أنه تاكيد بانهم ياكلون هم بانفسهم لا غيرهم.
وارتضاه الشيخ الطوسي قدس سره في التبيان والطبرسي في مجمع البيان وهو ايضا بعيد جدا وليس المورد من موارد الشك في استناد الامر الى الغير واقعا ليؤكد ان الاكل منهم وليس من غيرهم وانما المستفاد من ذكر هذا القيد هو انهم ياكلون ذلك في بطونهم واقعا فليس الاكل من قبيل اكل المال بالباطل ليكون بمعنى مطلق التصرف.
وأوّله الشيخ محمد عبده على ما نقل عنه في المنار بأنه تعبير عن حالتهم الروحية فهم يشعرون في ضمائرهم أنهم يأكلون نارا. ولكن لو كانوا يشعرون ذلك لم يستمروا عليه.
وأما قوله تعالى (ولا يكلمهم الله يوم القيامة) فالظاهر أنه كناية عن غضبه تعالى عليهم ومثله عدم النظر اليهم في قوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ).[6] وهذه الآية ايضا في نفس القوم.
وأوّله بعض المفسرين بانه لا يكلّمهم كلاما حسنا وذلك لأنّه تعالى يسألهم عن اعمالهم كما ورد في آيات كثيرة بل يكلّمهم بما يسوءهم كما في قوله تعالى (قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ).[7] ولكن الظاهر انه لا حاجة الى هذا التاويل لما ذكرناه من كونه كناية عن غضبه تعالى.
واما التزكية من الله تعالى فتأتي في القران تارة بمعنى نفس التطهير وتارة بمعنى اظهار الطهارة فمن الاول قوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) فان المستفاد منها ان متابعة خطوات الشيطان امر يخفى على الانسان فمهما حاول الاجتناب يقع فيها الا ان يشاء الله ان يزكيه ويطهره.
ومن الثاني قوله تعالى (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا)[8] فالظاهر ان المراد به هو اظهار الانسان كونه طاهرا وزكيا والله تعالى يخبره انك لا تعلم عن نفسك ولا اعتبار بما تدعيه انما اظهار طهارة الانسان من الله تعالى فهو العالم بما في الضمائر.
واوضح منه قوله تعالى (الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى).[9]
والمراد هنا هو المعنى الثاني اي انه تعالى يرفض طهارتهم يوم القيامة من الذنوب بل يظهر للناس قبح اعمالهم بمعنى انها تظهر للناس كما ورد في آيات كثيرة منها قوله تعالى (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ).[10]
والمراد بالعذاب الاليم غير ما يلاقونه من نفس العمل بل هو دخولهم جهنم كما ورد في اكل مال اليتيم من انهم يصلون السعير مضافا الى اكلهم النار. والاليم فعيل بمعنى مُفعِل اي عذاب مؤلم او بمعنى أنه ذو ألم من باب المبالغة فان العذاب ليس اليما بنفسه وانما هو سبب لتألم الانسان وهذا نظير قولهم جدّ جِدُّه مع انه فعل الجادّ لا الجدّ.
أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175)
الاشتراء كما - مر - بمعنى المبادلة ولكنه هنا لا يفيد معنى المبادلة واقعا لانهم لا يدفعون شيئا في مقابل شيء فهم كسبوا الضلالة والعذاب ولكن لم يدفعوا في مقابلهما الهدى والمغفرة كما هو واضح ولكنهم حيث كان بامكانهم تحصيل الهدى والمغفرة مجانا ومن دون مقابل وتركوهما ورضوا بالضلالة والعذاب فكأنهم استبدلوا الامرين بالامرين.
واما قوله تعالى (فما أصبرهم على النار) فالمشهور ان (ما) للتعجب ولكن حيث لم يمكن اسناد التعجب الى الله تعالى لان التعجب ينشأ من الجهل بالشيء وعدم معرفة سببه حاولوا تأويل ذلك بانه في مقام تعجيب المؤمنين. كما انهم حاولوا تأويل التعجيب بامر مستقبلي أنه محقق الوقوع.
اما التعجب فلا يسند الى الله تعالى ولكن لا حاجة الى هذا التأويل فان الكلام انشاء للتعجب وليس فيه اخبارا عن تعجبه تعالى ومعنى الانشاء أنه بذاته امر عجيب اي غير متعارف. واما انه لم يقع في الوقت الحاضر فكيف يتعجب منه الناس فالتعجب من صبرهم من جهة انهم يعلمون ان عملهم يجرّهم الى النار فهم يتحمّلون الجزاء في الحياة الدنيا.
وحاول بعضهم التاويل بان (ما) استفهامية و(أصبرهم) اي جعلهم يصبرون والمعنى ما هو الشيء الذي جعلهم يصبرون على النار؟ واسناد الاستفهام الى الله تعالى بحقيقته لا يجوز ايضا فلا بد من تاويله بالتعجب فيعود الاشكال.
وفي رواية مرسلة في الكافي عن أبي عبد الله عليه السلام في قول الله عز وجل "فما أصبرهم على النار" فقال: (ما أصبرهم على فعل ما يعلمون أنه يصيرهم إلى النار).[11]
ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (176)
الظاهر أن (ذلك) اشارة الى العذاب الذي يلحق بالذين يكتمون الكتاب والذي مرّ بيانه مفصّلا في الآية السابقة. ففي هذه الاية يبين الوجه في استحقاقهم لهذا العذاب وهو أن الله تعالى نزّل الكتاب بالحق. والباء للمصاحبة اي معه الحق فكل ما أنزله الله حق ومن يخفيه عن الناس يظلمهم ويعادي الحق وليس في الكتاب شيء من الباطل ليجوز اخفاؤه والمراد بالكتاب جنسه فيشمل كل الكتب السماوية.
والجملة الثانية تكملة لبيان الوجه وكرر كلمة الكتاب ولم يكتف بالضمير للتأكيد على اهمية عنوان الكتاب وقد مر الكلام في المراد به. والاختلاف في الكتاب قد يحصل بكتمان النص او بتغييره او بتغيير معناه وتفسيره.
فمن موارد الاختلاف في الكتاب بالمعنى العام الايمان ببعضه والكفر ببعض اخر كما قال تعالى (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ..)[12] بل حتى في الكتاب المنزل عليهم ايضا آمنوا ببعضه ورفضوا الايمان بما تضمن البشارة بالرسالة الجديدة وتضمن الاشارة الى اوصاف الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.
وقد ورد بيان تأثير الاختلاف في الكتاب في قوله تعالى (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ..).[13]
ويفهم من هذه الآية أن الكتاب المنزل مع النبيين واحد في مضمونه وأنه نزل بالحق ليرفع الاختلاف بين الناس ويهديهم جميعا الى الطريق الصحيح ولكن الذين اوتوا الكتاب اختلفوا فيه بعد علمهم وبعد ما جاءتهم البينات والدلائل الواضحة وهذا الاختلاف هو الذي منع الناس من الوصول الى الطريق الصحيح.
والشقاق: الخلاف كما في العين. وهي من صيغ المفاعلة كالمشاقّة كأنّ كل واحد من المختلفين قائم على شقّ غير شقّ الآخر. والمراد أنهم في شقاق وتناقض شديد فيما بينهم وفي شقاق واختلاف مع الحق.
وكون الشقاق بعيدا كأنه ينظر الى كون الشقين متباعدين فيستبعد رفع الاختلاف وحيث ان ما في الكتاب كله حق فهؤلاء حيث لم يؤمنوا ببعض ما في الكتاب بعيدون عن الحق عن علم بما فيه وبعد اتمام الحجة عليهم.
لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ...
هذه الآية تعود بنا مرة اخرى الى مسالة القبلة والرد على تعصب اليهود لهذا الامر فانهم - على ما يبدو - كانوا يثيرون الشكوك في الامر وكان في المسلمين سماعون لهم وهي تعيد الى الاذهان مرة اخرى أن المناط في الحكم أمره تعالى وتعيينه للقبلة سواء امر بالتوجه الى الكعبة ام الى بيت المقدس او غيرهما ولا خصوصية لشيء من الجهات في الواقع لولا حكمه تعالى.
والبر خبر (ليس) و(ان تولوا) اسمها. وقرئ البر بالرفع على انه اسمها ولكن القراءة الاولى واردة في موارد متعددة من القرآن حيث يكون الاسم مصدرا مأولا من قبيل:
(وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ)[14]
(ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ..)[15]
(فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ)[16]
وغيرها من الايات وهي كثيرة يجمعها تقدم احد الافعال الناقصة وكون الاسم المتاخر مصدرا مأولا ولكن كلام النحاة في توجيه ذلك غير وجيه. ولا حاجة الى توجيه ما دام هذا التعبير متعارفا ولكنهم ملتزمون بقواعدهم.
والبر معروف اجمالا وهو فعل الخير والاحسان واختلفت كلمات اللغويين في تفسيره فقد فُسّر بالصدق والطاعة والاحسان والصلاح وخلاف العقوق وغيرها وقيل ان الخير يجمع كل ذلك وفي المفردات اعتبر الاصل فيه البَرّ في مقابل البحر باعتبار سعته فاستعمل في التوسع في عمل الخير بهذه المناسبة.
وتولية الوجه صرفه الى جهة خاصة. و(قِبَل) ظرف مكان اي تلقاء. قال في العين (لقيته قبلا اي مواجهة). وقال في معجم المقاييس (فعل ذلك قبلا اي مواجهة).
وقد ذكرنا سابقا أنه لا خصوصية لطرفي المشرق والمغرب وانما ذكرا في الآية بالخصوص لانهما الجهتان اللتان يتمكن الانسان من معرفتهما ولو تقريبا بالنظر الى الطبيعة بسهولة بخلاف الشمال والجنوب والجهات الفرعية. والغرض الاشارة الى ان المناط في البر متابعة حكم الله تعالى لا التوجه الى الكعبة او بيت المقدس او الى اي جهة اخرى.
ولكن يبدو من بعض التفاسير كالكشاف وغيره أن الوجه في ذكر المشرق والمغرب هو أن اليهود يصلون الى المغرب والنصارى الى المشرق فالغرض من هذه الآية التعرض لهم بأن التوجه الى هاتين الجهتين ليس من البر.
وهذا غير صحيح فاليهود يتوجهون الى بيت المقدس في صلاتهم على ما يقال ولكنه قد يكون غربا وقد يكون شرقا او شمالا او جنوبا او بين الجهات الاصلية كما هو واضح واما النصارى فالظاهر انهم لا يلتزمون بقبلة وانما يتوجهون الى الشرق وكنائسهم متوجهة اليه تيمنا لاعتقادهم بأن السيد المسيح عليه السلام عندما صعد بجسده الى السماء صعد باتجاه الشرق. وقد مر بعض الكلام حول قبلة اهل الكتاب في تفسير الاية 142 والاية 145 من هذه السورة.
وانما التعريض باليهود والنصارى من جهة حصر البِرّ في ما سيأتي ذكره في الآية وهم يفقدون هذه الامور خصوصا الايمان بالملائكة حيث اظهروا عداءهم لجبرئيل عليه السلام كما قال تعالى (قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ..).[17]
وكذلك الايمان بالكتاب فهم لم يؤمنوا بكل ما انزل الله من الكتاب بل لم يؤمنوا بكتابهم ايضا فحرفوا بعضه وكتموا ما فيه من البشارة بالرسول صلى الله عليه وآله وسلم وبما لا يروقهم من الاحكام.
وكذلك الايمان بالنبيين فان اليهود لم يؤمنوا بعيسى عليه السلام بل زعموا قتله ولا بالرسول الكريم صلى الله عليه وآله وسلم بل كانوا يقتلون انبياءهم ايضا كما قال تعالى (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ..).[18]
وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ...
من هنا تبدأ الاية ببيان ما هو مناط البر والخير فأوّله الايمان بالله واليوم الاخر والملائكة والكتاب والنبيين.
واول سؤال يشغل البال أن المفروض ان يكون البر هو الايمان لا من آمن كما ورد في الآية ولعله لذلك قرأه بعضهم (ولكن البارّ) وهو ايضا يصطدم باستبعاد اخر فان هذا البيان ليس هو المقابل لما نفته الجملة الاولى حيث نفت ان يكون البر كذا فما هو تحديد البر؟
ولدفع الاشكال قالوا ان التقدير ولكن البر برّ من آمن... وهذا ايضا تقدير غير مجد لان الكلام في تحديد البر بنفسه وهذه الصيغة تذكر شرطا للبر وهو الايمان فما هو البر؟
وقال بعضهم ان التقدير ولكن ذا البر من آمن وهذا ايضا كقراءة (ولكن البار من آمن) ففيه ما مر من الاستبعاد.
وقيل ان هذا من قبيل قولهم زيد عدل من حمل المصدر على الذات للمبالغة الا أنه هنا بالعكس حمل الذات على المصدر وكأن المؤمن هو نفسه البر.
وقال في الميزان (عدل عن تعريف البر بالكسر إلى تعريف البر بالفتح ليكون بيانا وتعريفا للرجال مع تضمنه لشرح وصفهم وإيماء إلى أنه لا أثر للمفهوم الخالي عن المصداق ولا فضل فيه وهذا دأب القرآن في جميع بياناته فإنه يبين المقامات ويشرح الأحوال بتعريف رجالها من غير أن يقنع ببيان المفهوم فحسب).
والواقع ان كل ما ذكر من الوجوه لا باس بها ولا حاجة اليها فالتعبير بمثل ذلك كثير في الكلام العربي وهو من الفصاحة والبلاغة بمكان. ومثل ذلك قوله تعالى (أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ)[19] وغيرها من الايات.
وأول البر هو الايمان بالله تعالى فلا خير في اي عمل بدونه حتى لو كان بظاهره خيرا كما قال تعالى (وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا).[20] والسبب أنه يفقد روح العمل وهو التقرب الى الله تعالى فلا ينتفع به العامل يوم القيامة.
وربما يبدو سؤال في الذهن وهو أن البر هل يصدق على الاعتقاد وهل يصح التعبير بالبر في العقيدة كما يظهر من الآية الكريمة حيث اعتبر الايمان من البر بل هو اوله؟
والجواب أن الايمان عمل ايضا وليس انفعالا كما يتصور وقد مر بعض الكلام حوله في تفسير قوله تعالى (الذين يؤمنون بالغيب).[21]
وذلك لان الايمان إفعال من الامن وهو الطمأنينة والمؤمن يحقق الطمأنينة لنفسه بالنسبة الى معتقده فهو فعل اختياري ولذلك يؤمر به قال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ..).[22]
كما ان شدته وضعفه ايضا يتبعان اختيار الانسان فمن اراد ان يقوّي ايمانه ينظر في آيات الله الكونية والكتابية ويفتح قلبه لكل ما يوجب الوثوق منها فيحصل على اقوى مراتب اليقين ويرى ما لا يراه الناس.
وأما من لا يهتم بالدين ولا يفتح قلبه للايمان فانه يحاول التشكيك في كل شيء وبأيّ عذر حتى لو شاهد معجزة واضحة يشك فيها كما قال تعالى (وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ * لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ).[23]
وليس المراد بالايمان هنا اعلى درجاته - كما يبدو من المنار - فهو لا يحصل الا للكاملين من الناس بل الايمان بالله بكل درجاته من البر. ولكن لا بد من حصول درجة من الاطمئنان واما من يبقى مترددا وشاكا ويفعل ما يفعل احتياطا فلا ينفعه الا قليلا ولا يعتبر هذا من البر كما قال تعالى (وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ..).[24]
فالايمان لا يتم الا بازالة كل شك وان كان هناك لليقين مراتب. واما من يتلفظ بما يدل على الايمان ولا يعتقد في قرارة قلبه فلا يعتبر من الابرار ولا يؤثر هذا الايمان في عمله ولذلك لا يعمل لآخرته الا قليلا. ولو كان يؤمن بالاخرة فما كان يعمل لدنياه الا قليلا وهكذا يتغير اهتمام الانسان في مقام عمله حسب ايمانه بالاخرة.
وينبغي ان ننبه هنا على ما يتداول في المقالات الحديثة في الصحف والكتب من ترتب آثار اجتماعية وفردية على الايمان بالله من حيث سلامة الانسان نفسيا ومن حيث استقراره وعدم اضطرابه ومن حيث سلامة المجتمع وتكاتفه والشعور فيه بالامان ونحو ذلك مما يطول ذكره.
وهذا كله صحيح وفي القرآن ايضا ما يؤيده كقوله تعالى (أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ)[25] ولكن ربما تؤثر هذه المقالات في افكار المؤمنين والشباب خاصة فيتوهمون أن فكرة الايمان بالله تعالى انما انشئت لهذه الاهداف السامية وان الايمان انما يعتبر من البر لهذه الآثار المترتبة عليه.
وهذا خطأ كبير فالايمان بالله تعالى غاية الغايات وليس طريقا للوصول الى غايات سامية اخرى وان كانت تترتب عليه هذه الاهداف وفكرة الايمان به تعالى تتبع اوضح حقيقة في الوجود ومن لا يؤمن به يخسر اكبر خسارة لا يجبره شيء وليست خسارته الكبرى في هذه الدنيا كما توهمه هذه العبارات بل الخسارة الكبرى يوم القيامة فمن هذه الجهة ينبغي للوعاظ والخطباء والمؤلفين عدم التأكيد على ترتب هذه المنافع على الايمان بالله تعالى بحيث يتوهم الناس انها هي الغاية من الايمان.
ويلاحظ ان كثيرا من هذه الاهداف تترتب على الايمان بالالهة الباطلة ايضا حتى عند عبّاد البقر بل ربما يكون بعضهم اكثر تشددا في دينه من المؤمنين بالله تعالى فيستفيد من هذا الايمان الباطل كثيرا من تلك المنافع.
وأما الايمان باليوم الاخِر فهو الذي يجعل العمل نافعا لذلك اليوم وهو يوم الحياة الابدية ومن لا يرى لنفسه حياة بعد هذه الدنيا فهو لا يعمل لتلك الحياة وكل ما يعمله من الخير ينتهي بموته وهناك يقول بحسرة (يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي).[26]
والايمان بالآخرة أخص من الايمان بالله تعالى فان الوثنيين كمشركي مكة والجزيرة العربية كانوا يؤمنون بالله تعالى ويؤمنون بأنه الخالق والرازق ولكن لم يؤمنوا بالآخرة. ولذلك يؤكّد القرآن على الايمان بها ولا يكتفي بالايمان بالله تعالى. ولذلك ايضا يعبّر القرآن عن المشركين بالذين لا يؤمنون بالآخرة.
والايمان بالآخرة من الايمان بالغيب الذي اعتبره الله اول شرط في الهداية والفلاح في قوله تعالى (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).[27]
والايمان بالاخرة أبعد عن الشهود وأقرب الى الغيب من الايمان بالله لأنه تعالى وان كان غيبا لا تشعر به الحواس الا أنّ آياته تعالى كثيرة والانسان يشعر بهيمنته على الكون من خلالها كما يشعر بانجذابه اليه تعالى وحاجته الى لطفه العميم بوجدانه وضميره. ولكنه لا يشعر بالآخرة فلا يؤمن بها الا من خلال الايمان بالرسالات وبما تضمنته كتب السماء ونزل به الوحي الالهي ولذلك يقلّ الايمان بها بل يضعف حتى عند المؤمنين.
واما الايمان بالملائكة فالسؤال يقع في أنه ما هو دوره في البر؟ ففي المنار اعتبره برا من جهة انه لا بد منه في الايمان بالوحي والرسالات.
ولكن المؤمن بالرسالة غافل عن ان الوحي نزل عن طريق الملائكة بل ان الايمان بالرسول لا يتوقف على كون الوحي نزل على يد ملك ام بسبب اخر.
ويمكن ان يعتبر برا من جهة انه تصديق لما ورد في كتب السماء من ذكرهم فان الايمان بهم من الايمان بالغيب لان الانسان لا يشعر بوجود الملك فاذا آمن به فانما يؤمن تبعا لما جاء في كتب السماء من ذكرهم.
والايمان بالملائكة من دواعي التقوى لان الانسان اذا آمن بانه ما يلفظ من قول الا لديه رقيب عتيد وان الله تعالى وكل عليه كراما كاتبين يعلمون ما تفعلون فان ذلك مما يجعله يتوقف عند ارادة الذنب.
كما ان الايمان بهم يقوي في نفوس المتقين المخلصين الشعور بكثرة الانصار والاعوان فان الانسان يتوحش من الوحدة وقلة الانصار فاذا راى قلة اتباع الحق والذاكرين لله تعالى فانه يشعر بضيق في نفسه وان كان ذلك مما لا ينبغي للمؤمن الا انه يؤثر بصورة طبيعية فاذا لاحظ ان عدد الذاكرين لله تعالى والمسبحين وانصار الحق اكثر بكثير من جنود الشيطان وأنهم أقوى بكثير من غيرهم فان ذلك يؤثر في نفس المؤمن ويطيب خاطره.
قال تعالى (فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ)[28] وقال ايضا (وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ * إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ).[29] وقال ايضا (وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ * يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ)[30]
واما الايمان بالكتاب فالمراد به جنسه اي كل كتاب سماوي او كما قلنا سابقا يراد به مجموعة المعارف والاحكام الالهية لان الكتاب بمعنى المكتوب. وكتب اي جمع. ولا وجه لتخصيصه بالقران او التوراة كما قيل لان الابرار لا يختصون بعصر دون عصر فالمعتبر في البر الايمان بأن الله تعالى لم يترك عباده من دون هداية كما وعد به الانسان من اول يوم حيث قال تعالى (قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ).[31]
ولو كان من يسمون اهل الكتاب يؤمنون بالكتاب المنزل اليهم بحذافيره لكانوا يؤمنون بالكتاب المنزل بعده وبرسالة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لانهم يرون ويسمعون آيات البشارة به في كتابهم ولكنهم كانوا يؤمنون ببعضه ويكفرون ببعض كما قال تعالى (وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ).[32]
والايمان بالكتاب يمنع الانسان من متابعة القوانين الوضعية التي يختلقها البشر على ما فيها من الجهل والسفاهة ويتحكم بذلك في مصير المجتمع البشري وفي حياته الفردية والاجتماعية. ونحن نسمع كثيرا ممن يدّعون العلم والثقافة إباءهم عن قبول اي قانون لا يوافق عليه البشر المتحضر وان كان من الله تعالى ويتباهون بذلك حتى وان كانوا يدّعون الاسلام بل يحتقرون من يدعو الى تطبيق احكام الله تعالى ويتبجحون بالعلمانية.
والايمان بالكتاب يفتح آفاق الغيب على الانسان ليرى ما لا يراه البشر بمجاهره ونواظيره ويتجاوز ظلمات المادة ويصل الى انوار السماء ولا يبقى في مكانه يبحث ويبحث ويظن بنفسه أنه بلغ منتهى العلم. والله تعالى يقول (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا).[33]
واما الايمان بالنبيين فهو عنصر مهم جدا في سعادة الفرد والمجتمع ولا يتم البر الا به ومن الخطأ الفادح محاولة بعض الناس التقرب الى الله تعالى عن غير طريق الانبياء كما هو معروف من بعض اتباع الفلسفة الالهية والمتصوفة.
ومن الخطأ الفادح ايضا ما وقع فيه المسلمون في اواخر حياة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم حيث تنادوا (حسبنا كتاب الله) ومشوا على ذلك وأسسوا بنيانهم عليه ومنعوا كتابة الحديث النبوي بحجة أن الناس يشتبهون بين الحديث وبين القران.
وقد رووا ان ابا بكر جمع الناس بعد وفاة نبيهم صلى الله عليه وآله وسلم فقال: (إنّكم تحدّثون عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم احاديث تختلفون فيها والناس بعدكم أشدّ اختلافا فلا تحدّثوا عن رسول الله شيئا فمن سألكم فقولوا بيننا وبينكم كتاب الله فاستحلّوا حلاله وحرّموا حرامه).[34]
وروي عن السائب بن يزيد قال: (سمعت عمر بن الخطاب يقول لابي هريرة: لتتركنّ الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو لاُلحقنّك بأرض دوس. وقال لكعب: لتتركنّ الحديث أو لاُلحقنك بأرض القردة).[35]
وعن يحى بن جعدة قال: (أراد عمر أن يكتب السنة ثم بدا له أن لا يكتبها ثم كتب في الامصار: من كان عنده شيء من ذلك فليمحه).[36] والروايات في ذلك كثيرة.
بل رووا في ذلك حديثا يعدّ عندهم صحيحا عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فرووا عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَا تَكْتُبُوا عَنِّي وَمَنْ كَتَبَ عَنِّي غَيْرَ الْقُرْآنِ فَلْيَمْحُهُ..).[37]
والاصل في ذلك قصة المنع من كتابة الوصية والحديث مروي بطرق عديدة ففي صحيح البخاري (عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ لَمَّا اشْتَدَّ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَعُهُ قَالَ ائْتُونِي بِكِتَابٍ أَكْتُبْ لَكُمْ كِتَابًا لَا تَضِلُّوا بَعْدَهُ قَالَ عُمَرُ إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَلَبَهُ الْوَجَعُ وَعِنْدَنَا كِتَابُ اللَّهِ حَسْبُنَا فَاخْتَلَفُوا وَكَثُرَ اللَّغَطُ قَالَ قُومُوا عَنِّي وَلَا يَنْبَغِي عِنْدِي التَّنَازُعُ.. فَخَرَجَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ إِنَّ الرَّزِيَّةَ كُلَّ الرَّزِيَّةِ مَا حَالَ بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ كِتَابِهِ).[38]
وفي صحيح مسلم (لَمَّا حُضِرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي الْبَيْتِ رِجَالٌ فِيهِمْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلُمَّ أَكْتُبْ لَكُمْ كِتَابًا لَا تَضِلُّونَ بَعْدَهُ فَقَالَ عُمَرُ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ غَلَبَ عَلَيْهِ الْوَجَعُ وَعِنْدَكُمْ الْقُرْآنُ حَسْبُنَا كِتَابُ اللَّهِ فَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْبَيْتِ فَاخْتَصَمُوا فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ قَرِّبُوا يَكْتُبْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كِتَابًا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ مَا قَالَ عُمَرُ فَلَمَّا أَكْثَرُوا اللَّغْوَ وَالِاخْتِلَافَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُومُوا... قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ فَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ إِنَّ الرَّزِيَّةَ كُلَّ الرَّزِيَّةِ مَا حَالَ بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ أَنْ يَكْتُبَ لَهُمْ ذَلِكَ الْكِتَابَ مِنْ اخْتِلَافِهِمْ وَلَغَطِهِمْ).[39]
وهكذا منيت الامة بأشد بلية وافجع مصيبة في دينها وفي تاريخها بالامتناع من كتابة الحديث النبوي زهاء قرن واخذوا ينقلون الحديث من جيل الى جيل من دون تثبت وبلغ اعداء الدين امنيتهم من حرمان الامة من نصف مستندهم في الشريعة وهو السنة النبوية الشريفة التي لا يمكن فيها التأويل.
ونجد الى يومنا هذا من يقول ان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم دوره دور التبليغ وليس له دور اخر فاذا فسر القرآن وراينا له تفسيرا اوضح ناخذ بتفسيرنا مع انه تعالى قال (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)[40] وقال ايضا (كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ)[41] وغيرهما من الايات.
والرسول صلى الله عليه وآله وسلم مشرّع باذن الله تعالى وتجب اطاعته في اوامره الخاصة لا ما يبلغه عن الله تعالى فقط كما قال (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ).[42] وقد ورد في خطاب الرسل لاممهم (فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ)[43] فاطاعة الرسول جزء من الدين ومن البر.
ولم يذكر هنا الايمان بالرسول بل بالنبيين فلا يكفي ايمان كل امة بنبيها بل يجب الايمان بكل الانبياء وفي ذلك تعريض باهل الكتاب حيث انهم لم يؤمنوا بسائر الانبياء والا لكانوا يؤمنون بالرسول الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم والايمان ببعضهم دون بعض ليس من البر.
قال تعالى (قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ * فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ..).[44]
وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ...
آتى: افعال من أتى اي جاء فمعناه أنه تسبب في مجيء المال الى غيره وهو الاعطاء ولذلك فسر الايتاء في اللغة بالاعطاء. والظاهر أن المراد بهذا الاتيان غير الزكاة الواجبة وليس بيانا لموارد صرفها كما قيل[45] لان ذوي القربى واليتامى والسائلين ليسوا من مواردها وهناك موارد اخرى لها لم تذكر هنا كما ستاتي ذكر الاية الكريمة.
وقوله (على حبه) فيه ثلاثة احتمالات:
الاول ان يكون مرجع الضمير نفس الايتاء فان الانسان ربما يتبرع بمال كثير طلبا للجاه ولمدح الناس ولكي يسجل اسمه على البناء او في الصحف وربما يتبرع لدفع الشر عن المجتمع من ثورة الفقراء او يتصدق لدفع البلاء عنه وعن اهله او يدفع خجلا وحياءا او خوفا ونحو ذلك. فهذه التبرعات لا تعتبر من البر وانما يعتبر برا اذا كان الانسان يتبرع باندفاع ذاتي ولذلك لا يختلف عنده السر والعلانية بل ربما يحب التبرع في السر ولا يحب ان يجهر به.
ولكن هذا الاحتمال بعيد هنا لان القران لا يدعو الى مثل هذا البر وان كان في حد ذاته امرا جميلا وحسنا ويدل على طيب السريرة وخلق رفيع وكمال بشري الا ان البر المقصود هنا هو ما ينتهي الى سعادة الانسان في الاخرة ويحتمل ان مثل هذه الصفات الحسنة تؤثر في الحياة الاخروية ايضا الا ان السعادة لا تتم هناك الا بالتقرب الى الله تعالى.
الاحتمال الثاني ان يعود الضمير الى المال. وحب المال تارة يكون بلحاظ الزمان وتارة بلحاظ نوع المال فهناك من الناس من لا يتبرع في حياته ويوصي ان يتبرع عنه بعد وفاته وهذا تبرع بالمال في زمان لا يحبه لانه لا ينتفع به في الدنيا بعد موته فلا يعتبر هذا من البر كما ان اكثر الناس لا يتبرعون بما يحبونه من المال بل يختار بعضهم من بين امواله ما لا يحبه فيتبرع مثلا بثيابه الخلقة وطعامه الفاسد واثاثه التالف والله تعالى لا يقبل هذا التصدق.
قال تعالى (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ)[46] وقال ايضا (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ).[47]
الاحتمال الثالث: ان الضمير يعود الى الله تعالى وهذا وان كان ابعد من الثاني بحسب اللفظ لبعد المرجع الا انه الاقرب بحسب المعنى لان المناط في البر ان يكون العمل للتقرب الى الله تعالى. واما التبرع لكون الانسان جوادا بطبعه او التبرع بدافع الترحم على المحتاجين فهو وان كان امرا مطلوبا وامتدحه الله تعالى بقوله (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)[48] ولكنه ليس من البر الذي يدعو اليه الله تعالى في كتابه.
والمراد بذوي القربى الارحام. و(ذوي) بمعنى اصحاب والقربى مصدر والقرب معناه واضح وهو كناية عن القرابة في النسب. والظاهر ان الحكم هنا لا يختص بالفقير منهم فاعطاء المال للرحم امر مطلوب ويعتبر من البر حتى لو كان من باب المساعدة وان لم يكن فقيرا.
ووجوب صلة الرحم والاهتمام بها مما أكّد عليه الشرع قال تعالى (وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا).[49] اي اتقوا قطيعة الارحام وهذا غاية في تشديد الحكم ثم عقب الكلام بالتنبيه على كونه تعالى رقيبا على الانسان مما يدل على أن الاضرار بالرحم مورد للمؤاخذة حتى لو كان غائبا عنك فان الله رقيب عليك.
والروايات في هذا الباب كثيرة جدا منها ما رواه في الكافي عن اسحاق بن عمار قال (بلغني عن ابي عبدالله عليه السلام ان رجلا اتى النبي صلى الله عليه واله وسلم فقال يا رسول الله اهل بيتي أبوا الا توثّبا عليّ وقطيعة لي وشتيمة فارفضهم؟ قال اذاً يرفضكم الله جميعا قال فكيف اصنع؟ قال تصل من قطعك وتعطي من حرمك وتعفو عمّن ظلمك فانك اذا فعلت ذلك كان لك من الله عليهم ظهير).[50]
والمراد بالارحام من يشارك الانسان في رحم مع كونه من الاقارب عرفا فيشمل الوالدين والاخوة والاعمام والاخوال واولادهم وغير ذلك.
واليتامى جمع يتيم وهو من فقد أباه قبل ان يبلغ مبلغ الرجال والاصل فيه الانفراد يقال درة يتيمة اي لا مثيل لها وفي كتب اللغة ان اليتم في الانسان من قبل الاب وفي الحيوان من قبل الام. ويشترط في الاستحقاق ان يكون فقيرا محتاجا للمال وانما ذكر اليتيم بعنوانه لمزيد من الاهتمام بشؤون الايتام.
والمسكين فسر في كتب اللغة بالفقير. والظاهر انه اسوأ حالا من الفقير لان الاصل في الكلمة على ما يبدو هو السكون بلحاظ ان الفقر أقعده وأسكنه الارض فلم يبق له حول ولا قوة ولكنه غالبا يطلق على مطلق الفقير ولعله المراد هنا. وقيل هو الفقير الذي لا يسأل وأن السكون فيه بهذا المعنى فلو صح ذلك كان مقابلا للسائلين.
وابن السبيل من كان غنيا في بلده ولكنه اغترب واحتاج الى المال في الغربة فحيث كان مرتبطا بالسبيل اي الطريق نسب اليه كأنه ابنه ومثل هذا في العصور السابقة ربما يقع في حرج شديد اذا فقد ماله لكونه محترما غنيا ذا وجاهة في بلده.
وقيل المراد به الضيف[51] ولا يبعد انطباق العنوان عليه ونسبه الشيخ المفيد قدس سره الى الرواية قال (وقد جاءت رواية أنهم الأضياف، يراد به من أضيف لحاجته إلى ذلك وإن كان له في موضع آخر غنى ويسار).[52]
وذكره بلفظ المفرد بخلاف غيره باعتبار انه وحيد لا اهل له ولا اصحاب حتى لو كان معه جماعة من الناس اذ ليست بينهم علاقة.
والمراد بالسائلين المحتاجون الذين يظهرون حاجتهم. ويظهر من الآية ان السؤال علامة الحاجة فيُصدّق ما لم يتبين كذبه. والسر فيه ان السؤال من دون حاجة كذب وحرام ويجب حمل فعل المسلم على الصحة.
ومثلها قوله تعالى (وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ)[53] وقوله تعالى (وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ)[54] وهذا الحق غير الزكاة الواجبة كما ورد في عدة من الروايات.[55]
وفي الرقاب اي يعطي ماله في عتق الرقاب. والرقاب جمع رقبة وهي مؤخر العنق. ويعبر بها عن المملوك والمشهور انه من باب تسمية الكل باسم الجزء ولكن الظاهر ان السر فيه انهم كانوا يربطون رقابهم بالحبال لئلا يفروا ومن هنا ايضا يعبر بالرقبة عن الذمة وعن الضمان. وقال الحميري في شمس العلوم (وانما خُص الرقبة بالذكر على تشبيه الملك بالغل او الحبل في الرقبة). والتقييد بقوله في الرقاب يفيد ان المال ليس للمملوك بل يصرف في تحريره.
وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ...
مر الكلام في معنى اقامة الصلاة في تفسير قوله تعالى (وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ..)[56] ومجمل القول ان المراد بها جعلها قائمة بمعنى ثبوتها ودوامها ويتمّ ذلك برعاية جميع شروطها وواجباتها بل وآدابها ومن أهمّها التوجّه الى الله تعالى بالقلب بأن يستشعر الخشوع والخضوع والتذلّل أمام ربّه. وقد ورد في الأحاديث[57] أنّ الصلاة لا تقبل الا ما كان مع التوجه الى الله تعالى وليس المراد انها باطلة بل بمعنى أنّها لا تفيده كعمل صالح يرفع من رتبته يوم القيامة.
واما الشروط المعتبرة في الصلاة كالطهارة فتبطل الصلاة بفقدانها او عدم صحتها ولو جهلا فان كان معذورا في جهله فلعله يحصل على شيء من الثواب ان كان مخلصا في نيّـته ولكنه لا يصحح العمل ويجب عليه القضاء.
ويمكن ان يراد بإقامة الصلاة المحافظة على أوقات فضيلتها والاهتمام بها وجعلها من أهمّ الأولويات فإنّ الصلاة عند الغالب من المصلّين في آخر أولوياتهم ولا يذكرونها الا بعد الانتهاء من كلّ ما يهمّهم من شؤون الدنيا، ونسمع من بعضهم اذا نودي للصلاة الاعتذار بانه مشغول وكأنّ الصلاة فرضت لملء أوقات الفراغ مع أنّها أهمّ من كل الامور وعلى المؤمن أن يفرغ نفسه لها بل يفرغ باله لها ايضا.
واما ايتاء الزكاة فالظاهر أن المراد بها في اكثر موارد هذا التعبير خصوصا بعد ذكر الصلاة في جميع الشرايع كل ما ينفقه الانسان في سبيل الله سواء كان واجبا ام مستحبا.
والقرآن يعبر عن الزكاة المفروضة بالصدقة كما في قوله تعالى (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ..)[58] وقوله (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) حيث حدد موارد صرف الزكاة المفروضة.
وربما يعبر بالصدقة عن المستحبة ايضا كما في قوله تعالى (إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ..).[59] كما ورد التعبير بالزكاة عن المستحبة خاصة كما في قوله تعالى (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ).[60]
ولكن المفسرين حملوا الزكاة هنا على الزكاة المفروضة بقرينة قوله (وآتى المال على حبه..) قبل ذلك حيث ان المراد به الصدقة المستحبة كما مر الا ان ذلك لا يقتضي هذا التخصيص اذ لا مانع من ذكر العام بعد الخاص والاهتمام هناك بدفع المال على حبه وبمساعدة الارحام والعطف على الايتام ونحو ذلك وهنا بتزكية النفس والدفع في سبيل الله.
وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا...
عطف على (من آمن) ولعله لم يذكره تحت عنوان الفعل كما سبق لان المناط في البر في مثل ذلك وفي الصبر ليس هو الوفاء والصبر ولو في مورد واحد كما في الافعال السابقة بل المناط الاستمرار على الوفاء بحيث يكون صفة لهم.
والمراد بالعهد ما يعاهد الانسان به ربه ولا يختص بما يعبر عنه في الفقه بالعهد في مقابل النذر والحلف بل يشمل كل ذلك ويشمل ايضا ما يعاهد به غيره من البشر من العقود والمعاملات والوعود والظاهر انه لا فرق فيه بين الكافر والمسلم.
روى الكليني قدس سره عن أبي جعفر عليه السلام قال (ثلاث لم يجعل الله عز وجل لاحد فيهن رخصة: أداء الأمانة إلى البر والفاجر والوفاء بالعهد للبر والفاجر وبر الوالدين برين كانا أو فاجرين).[61]
وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ...
منصوب بتقدير امدح او اخص ويسمى هذا بالقطع في مصطلح النحاة ويلتزم به غالبا في موارد تسلسل الاوصاف ويختار ما له مزية والصبر هنا له مزية كما قال تعالى (وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ).[62]
والصبر حبس النفس على ما تكره مع الرضا والتسليم إمّا لمقاومة عدوّ في الحرب او لمقاومة نفسه في شهوة او غضب او طمع، او لالزامها على طاعة وعبادة، او ترك معصية او لتحمّل مصاب لا يمكنه دفعه كفقدان عزيز وتلف مال.
والصبر هنا بمعنى الاستقامة والثبات وترك الجزع وعدم التكلم بما لا ينبغي فصبر الفقير او المريض ليس بمعنى تحمله لما نزل به فانه امر لا مفر منه بل الصابر هو الذي يرضى بحالته التي هو عليها مما لا يمكن تغييرها ولا يبدي سخطا ولا يشكو حاله فهذا هو الصبر الممدوح واما ان يتحمل الانسان حاله او الظلم الواقع عليه او مرضه ولا يحاول علاج الموقف فليس ممدوحا.
والبأساء اسم للشدة ماخوذ من البأس واختص في الاستعمال بالشدة الحاصلة من الفقر. والضراء اسم من الضر وهو ما يضر الانسان واختص في الاستعمال بما يحصل من المرض. وحين البأس اي الحرب وابدل التعبير فيه لان الصبر هنا ليس على نفس الحرب فحسب بل على كل ما تتسبب فيه الحرب من مضائق ومشاكل.
أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ... (177)
التعبير يدل على الحصر وانهم هم الصادقون والمتقون فحسب والظاهر ان المراد بالصدق صدقهم في ايمانهم فليس كل من يدعي الايمان مؤمنا في الواقع وانما المؤمن من يظهر ايمانه في الفتن في الغنى والفقر، في الصحة والمرض، في السلم والحرب. قال تعالى (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ).[63]
وكذلك المتقون فهناك كثير من الناس يظهرون التقوى ولكن التقوى انما هو في مواجهة ما يدعو الانسان الى المعصية. والمتقي من يكبح جماح نفسه في الشهوة وحال الغضب وحينما يتسلط على رقاب الناس وعلى اموالهم.
ثم ان العلامة الطباطبائي قدس سره حاول تطبيق عنوان الابرار المفهوم من قوله تعالى (و لكن البر من آمن...) على اهل البيت عليهم السلام بدعوى ان الصفات تنطبق على من وصفهم الله تعالى في سورة الانسان بقوله (إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا * عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا)[64] والآيات نزلت بشأنهم عليهم السلام كما أن الابرار في قوله تعالى (كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ * كِتَابٌ مَرْقُومٌ * يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ * إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ)[65] منطبق عليهم.
والظاهر انه انتبه لعدم صحة هذا التفسير ولذلك قال في تفسير قوله تعالى (يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ) انهم قوم من اهل الجنة هم اعلى درجة من عامة الابرار. ولكنه في تفسير سورة الانسان لم يفرق بين الابرار وعباد الله في الايتين اللتين مر ذكرهما وقد بيّناه في تفسير السورة المباركة ولله الحمد.
[1] غافر : 70
[2] التوبة : 31 - 34
[3] الانعام : 91
[4] البقرة : 188
[5] النساء : 10
[6] ال عمران : 77
[7] المؤمنون : 108
[8] النساء : 49
[9] النجم : 32
[10] ال عمران : 30
[11] الكافي ج 2 ص 269 باب الذنوب
[12] البقرة : 91
[13] البقرة : 213
[14] الاعراف : 82
[15] الروم : 10
[16] الحشر : 117
[17] البقرة : 97
[18] البقرة : 61
[19] التوبة : 19
[20] الفرقان : 23
[21] البقرة : 3
[22] النساء: 136
[23] الحجر: 14- 15
[24] سبا : 21
[25] الرعد : 28
[26] الفجر : 24
[27] البقرة 3- 5
[28] فصلت : 38
[29] الاعراف 205 - 206
[30] الانبياء 19 - 20
[31] البقرة : 38
[32] البقرة : 89
[33] الاسراء : 85
[34] تذكرة الحفاظ للذهبي ج 1 ص2
[35] كنز العمال ج10 ص 291
[36] نفس المصدر ص292
[37] صحيح مسلم ج8 ص 229
[38] صحيح البخاري ج1 ص194
[39] صحيح مسلم ج8 ص 414
[40] النحل : 44
[41] البقرة : 151
[42] النساء : 64
[43] الشعراء : 108/126/144/163/179
[44] البقرة : 136 - 137
[45] الكشاف في تفسير الاية
[46] ال عمران : 92
[47] البقرة : 267
[48] الحشر : 9 / التغابن : 16
[49] النساء: 1
[50] الكافي ج2 ص150 باب صلة الرحم
[51] الكشاف في تفسير الاية
[52] المقنعة ص 241 باب اصناف اهل الزكاة
[53] الذاريات : 19
[54] المعارج : 24 - 25
[55] الكافي ج 3 ص 499 باب فرض الزكاة
[56] البقرة : 3
[57] الكافي 3: 363
[58] التوبة : 103
[59] البقرة : 271
[60] المائدة : 55
[61] الكافي ج 2 ص 162 باب البر بالوالدين
[62] لقمان : 17
[63] العنكبوت : 2
[64] الانسان : 5 - 6
[65] المطففين : 18 - 22