أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ ...
الحلّ هو الفتح كما في معجم المقاييس. فمنه حلّ العقد وحلّ الجوامد بالاذابة وحلّ ما كان محرما بالشرع ولو بشريعة سابقة كما في قوله تعالى (وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ)[1] او ما حرمه الناس من عند انفسهم او توهموا حرمته ففي كل ذلك يعبر عن الحكم بالجواز بانه تحليل لان هذا الحكم يفتح عقدة الحظر.
والمراد بليلة الصيام الليلة التي يجب الصوم في النهار الذي بعدها وان كان اللفظ يحتمل العكس الا ان الوارد في الروايات ان هذا هو المراد.
والرفث قيل بانه بمعنى الجماع كما في العين وقيل بانه الكلام الذي يتضمن ذلك مما لا يجوز الا بين الزوجين وان المراد به هنا ايضا هو الكلام بينهما وان التعدية بـ (الى) انما صحت لانه كلام يفضي اليه فكانه يدعوها الى ذلك. ومهما كان فالمراد به هنا هو الجماع بنفسه.
والكلام في أن هذا التحليل هل هو نسخ لتحريم سابق ام انه اعلام بجوازه او دفع لاحتمال الحرمة لان ليلة الصيام مظنة حرمته. ولكن الآية بنفسها تدل على وجود حكم بالحرمة قبل ذلك لقوله (تختانون انفسكم) كما سيأتي بيانه ان شاء الله تعالى.
والعامة رووا في كتبهم احاديث مختلفة تقتضي النسخ ففي تفسير الطبري روايات عديدة حول الموضوع منها ما رواه عن معاذ بن جبل انه قال (كانوا يأكلون ويشربون ويأتون النساءَ ما لم يناموا، فإذا ناموا تركوا الطعامَ والشرابَ وإتيانَ النساء..).
وروى عن ابن عباس (أن المسلمين كانوا في شهر رمضان إذا صلوا العشاء حُرِّم عليهم النساء والطعام إلى مثلها من القابلة. ثم إن نَاسًا من المسلمين أصابوا الطعام والنساء في رمضان بعد العشاء منهم عمر بن الخطاب، فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأنزل الله: علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم..). [2]
وفي بعض الروايات ان هذه الاية تنسخ الاية السابقة (كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم) بدعوى ان النصارى كانوا يصومون ويمسكون عن المعاشرة ليلا على اختلاف في نقلهم. وهو كلام لا اساس له. والاية السابقة لا تدل على ان صومنا مثل صومهم. مع انه لا دليل على ما نسبوا الى شريعتهم بل في بعض الاقوال انهم كانوا يصومون رمضان بهذا الترتيب وهذا لم يرد في كتبهم ولا في رواياتنا.
فالظاهر ان الحكم السابق وان كان حرمة المعاشرة ليلا الا انه حكم اسلامي وان لم يرد في القران الكريم وقد مر ان نسخ القبلة ايضا لم يكن نسخا لاية سابقة.
ولكن لم نجد في كتبنا رواية حول هذا النسخ الا ما روي في التفسير المنسوب الى علي بن ابراهيم حيث قال (حدثني أبي رفعه قال قال الصادق عليه السلام كان النكاح والاكل محرمين في شهر رمضان بالليل بعد النوم يعني كل من صلى العشاء ونام ولم يفطر ثم انتبه حرم عليه الافطار وكان النكاح حراما في الليل والنهار في شهر رمضان – الى ان قال - وكان قوم من الشباب ينكحون بالليل سرا في شهر رمضان فأنزل الله عز وجل: أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم...).[3]
والجملة التالية تعليل للحكم ولذلك لم تعطف على الاولى. واللباس كما في العين ما واريت به جسدك. واتى بالخبر مفردا في الجملتين مع ان المبتدأ ضمير جمع فيهما اي (هن) و(انتم) باعتبار أن اللباس اسم جنس. ويمكن ان يكون باعتبار أن اللباس مصدر من مصادر (لبس) على ما ذكره ابن سِيدة والمصادر لا تجمع وهو مصدر بمعنى اسم المفعول.
وتشبيه الزوجين هنا باللباس باعتبار ان كلا منهما يستر عيوب الاخر بمعنى انه يمنعه من ارتكاب القبيح فالانسان بذاته يميل الى التوسع وتعاطي العلاقات المحرمة مع الاخرين فان لم يكن متزوجا فانه يصعب عليه الاتقاء. والزواج ساتر يمنع من ظهور ما يستقبح من صفات الانسان في هذا المجال فكل منهما لباس ساتر للاخر.
وفي الكشاف ان المراد به الاختلاط لان اللبس يطلق اذا اختلط الامر على الانسان والمراد به نفس العلاقة الجنسية والتعليل بلحاظ شدة الارتباط بينهما بحيث يختلطان مع بعض فيصعب عليهما الافتراق فاحله الله تعالى لهذا السبب واستشهد بشعر الجعدي وارتضاه في المنار.
ولكنه بعيد اولا من جهة ان الاختلاط امر واحد بينهما فليس كل منها لباسا للاخر بل هما ملتبسان اي مختلطان فلا موجب للاتيان بجملتين.
وثانيا انه اذا كان كناية عن نفس المعاشرة فتعليل تحليلها به لا معنى له بخلاف التعليل بكون كل منهما ساترا للاخر فهما بحاجة اليها لتحقيق الستر.
ونسب الى ابن عباس وغيره كما في تفسير الطبري ان المراد به ان كلا منهما سكن للاخر كما في قوله تعالى (وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا..)[4] والتعبير عن السكن باللباس ورد في قوله تعالى (جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا)[5] قال يعني بذلك سكنا تسكنون فيه. ونسب الطبري هذا القول الى مجاهد وقتادة والسدي ايضا.
وهو غريب فاللباس ليس سكنا والليل انما اعتبر لباسا لانه يستر بظلمته لا لان الانسان يسكن فيه وان ورد في عدة موارد انه جعل للسكن كما في قوله تعالى (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ..)[6] الا ان السكون فيه ليس بمعنى كونه لباسا.
عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ ...
قوله (علم الله) يدل على انه حدث في الواقع لان علمه تعالى بما سيحدث ازلي الا انه في هذا الفرض قد حدث فعلم الله بحدوثه.
والاختيان من الخيانة. واختانه اي خانه. والخيانة في الاصل بمعنى النقض كما في معجم المقاييس. وفي المفردات انها مخالفة الحق بنقض العهد في السر.
و(تختانون انفسكم) بمعنى انكم تخونون انفسكم بالمعصية لان الانسان بذلك يضر نفسه كما يعبر الله تعالى عنه في القران بظلم النفس كقوله تعالى (وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ).[7] وقوله (كنتم تختانون) يدل على الاستمرار والتكرار.
ولعل التعبير بالخيانة هنا من جهة ان الانسان يعمل ذلك في السر ولا يظهره ولا يبوح به. ويمكن ان يكون التعبير بخيانة انفسكم انه خان المجتمع الاسلامي بارتكاب المعصية فيه او لانه وان أضرّ بنفسه والمؤمنون بمنزلة شخص واحد فالاضرار باحدهم اضرار بالكل.
ومهما كان فالمراد به المعاشرة في ليلة الصيام فتدل على انها كانت محرمة وان لم ترد فيها آية والله تعالى رفع هذا الحكم رأفة بهم وتاب عليهم وعفا عنهم. والتوبة بمعنى الرجوع واذا نسب الى الله تعالى تعدى بـ (على) لان توبته تعالى بمعنى رجوعه على الانسان بالرحمة. والعفو: الترك بمعنى انه تعالى لا يعاقبهم على ما فعلوا رحمة بهم.
ولعل السر في تشريع مثل هذا الحكم ثم رفعه عنهم الاختبار الالهي. ومثله الامر بالصدقة في النجوى مع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ثم نسخ الحكم بعد ان تبين منهم الضعف. قال تعالى (أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ).[8]
ومن المفسرين[9] من رفض دلالة الاية على النسخ وقال ان التحليل لا يدل على انه كان محرما سابقا واما هذه الآية فأوّلها بأن المراد خيانتهم لانفسهم من حيث الامتناع عن المعاشرة بتوهم الحرمة فكانوا بذلك يضرون انفسهم او يكبتون ميولهم الجنسية بدون موجب حيث ان المعاشرة لم تكن محرمة عليهم واقعا.
ومن الواضح ان هذا تأويل بعيد والاية تكاد تكون صريحة في ان الامر كان محرما وانهم لم يتمكنوا من حفظ انفسهم فتاب الله عليهم وعفا عنهم ورفع عنهم الحكم. ولذلك رتّب على ذلك الامر بالمباشرة من الآن اي بعد نسخ الحكم السابق.
والامر في قوله (فالآن باشروهن) للاباحة حيث كان سياق الكلام كما قلنا يدل على الحرمة فيما سبق. والمراد بقوله (الآن) اي بعد نزول هذه الاية الدالة على التحليل. والمباشرة بمعنى الصاق البشرة بالبشرة اي الجلد وهي ايضا كناية عن المعاشرة الجنسية.
والابتغاء اي الطلب. وما كتب الله لكم اي الذرية في اشارة الى ان الهدف الطبيعي من المباشرة طلب الذرية وان كان الحافز له الميل الجنسي كما اشار اليه تعالى في قوله (نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ..)[10] فالتعبير بالحرث اشارة الى ان المباشرة تحقق زيادة النسل وانها هي المطلوب من الزواج.
وكذلك قوله (قدموا لانفسكم) فان المراد تقديم العمل الصالح قبل الموت الى الحياة الاخرة كما ورد هذا التعبير في موارد عديدة في القرآن ومن اهم ما يقدمه الانسان الولد الصالح فهو اشارة الى الاستيلاد بشرط التربية الصالحة.
ومن هذا التعبير يتبين أن ما كتب الله لا يتحقق الا عن طريق تفعيل المؤثرات الطبيعية فالله تعالى كتب لك الذرية ولكنك لا تحصل عليها الا بالزواج والمباشرة مع تحقق كل الشروط اللازمة ومعنى ذلك ان الكتابة والتقدير لا ينافيان توقف الامر على تحقق الظروف اللازمة.
وقيل ان المراد بما كتب الله ما رخصه من الاستمتاع الجنسي. وهو خلاف ظاهر الاية.
وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ ...
ورد في الروايات في كتب الفريقين أنهم كانوا لا ياكلون ولا يشربون بعد النوم ليلا الى ان نسخ الحكم بهذه الاية ونحن ننقل القصة عن طريق رواياتنا.
روى الكليني قدس سره بسند معتبر عن أبي بصير عن أحدهما (اي الامامين الباقر والصادق عليهما السلام) في قول الله تعالى "أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم.. الآية" فقال (نزلت في خَوّات بن جُبير الأنصاري[11] وكان مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الخندق وهو صائم فأمسى وهو على تلك الحال وكانوا قبل أن تنزل هذه الآية إذا نام أحدهم حرم عليه الطعام والشراب فجاء خوات إلى أهله حين أمسى فقال: هل عندكم طعام؟ فقالوا: لا، لا تنم حتى نصلح لك طعاما. فاتكأ فنام فقالوا له: قد فعلت؟ قال: نعم فبات على تلك الحال فأصبح ثم غدا إلى الخندق فجعل يغشى عليه فمر به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلما رأى الذي به أخبره كيف كان أمره فأنزل الله عز وجل فيه الآية: وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر..).[12]
والمراد بالخيط الابيض الخط العريض من النور على الافق وهو الفجر الصادق وفي مقابله الفجر الكاذب ويعبر عنه بذنب السرحان اي الذئب وهو عمود من نور خافت يرتفع في السماء قبل الفجر الصادق بقليل. والمراد بالخيط الاسود ما يقابل الابيض من ظلام الليل.
والتعبير بالخيط يفيد امرين: الاول انه هو النور العريض الذي يوازي ظلام الليل على الافق حتى لا يشتبه بالنور المرتفع وهو الكاذب.
والثاني ان اول وقت الامساك وهو وقت الصلاة ايضا حين يتبين الفجر كخيط ولا يجوز الاكل بعده فلا وجه لما يقال من ان المراد وقت تبين الضوء في الافق وانتشاره كما اطنب القول فيه في المنار مستشهدا بعمل الصحابة والسلف وبعض الاحاديث الضعيفة كما نسبوه الى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم من الحديث (مَا تَزَالُ أُمَّتِي بِخَيْرٍ مَا أَخَّرُوا السُّحُورَ وَعَجَّلُوا الْفُطُورَ) ونظائره حتى قال بعضهم على ما في المنار (لَوْلَا الشُّهْرَةُ لَصَلَّيْتُ الْغَدَاةَ ثُمَّ تَسَحَّرْتُ).
وروى ايضا عن عَائِشَةَ (إِنَّ بِلَالًا كَانَ يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم : كُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يُؤَذِّنَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ فَإِنَّهُ لَا يُؤَذِّنُ حَتَّى يَطْلُعَ الْفَجْرُ).[13] وَاستشهد بهذا الحديث على اساس انه (كَانَ رَجُلًا أَعْمَى لَا يُؤَذِّنُ حَتَّى يُقَالَ لَهُ: أَصْبَحْتَ أَصْبَحْتَ. وَإِنَّمَا كَانَ يَقُولُ لَهُ هَذَا مَنْ يَكُونُونَ عِنْدَ الْمَسْجِدِ وَيَظْهَرُ النَّهَارُ لَهُمْ لَا أُنَاسٌ يَرْصُدُونَ الْفَجْرَ مِنْ مَنَارَةٍ أَوْ سَطْحٍ).[14]
واما نحن فنروي في الصحيح عكس ذلك ففي صحيحة الحلبي قال (سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الخيط الأبيض من الخيط الأسود فقال: بياض النهار من سواد الليل قال: وكان بلال يؤذن للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وابن أم مكتوم وكان أعمى يؤذن بليل ويؤذن بلال حين يطلع الفجر فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : إذا سمعتم صوت بلال فدعوا الطعام والشراب فقد أصبحتم).[15]
فالصحيح ان المستفاد من الآية أن وقت الامساك يبدأ من تبين خيط الفجر من خيط الظلام لا الضوء المنتشر في الافق وان كان علامة الفجر الصادق انه هو ما يعترض في الافق تدريجا لا ما يرتفع الى عنان السماء فان المراد بالاعتراض ما يقابل الصعود في الفجر الكاذب.
وقوله تعالى (من الفجر) بيانية وبه يندفع التوهم المعروف من بعض الصحابة من انهم كانوا يربطون خيطا ابيض وخيطا اسود على ارجلهم فاذا بلغ ضوء النهار بحيث امكنهم التفريق بينهما امسكوا.
ويمكن ان تكون (من) تبعيضية فيكون ما ذكرناه اوضح بناءا على ذلك لان المعنى حينئذ انه لا يجوز تجاوز هذا الوقت وهو تبين الخيطين وان صدق انه الفجر فوقت وجوب الامساك هو اول زمان تبين خيط البياض من السواد ولا يستمر الى كل ما يطلق عليه الفجر.
وقوله تعالى (واتموا الصيام الى الليل) يدل على أن الصيام عبادة واحدة مبدؤها الفجر وآخرها الليل ولا يصح الصوم مع الافطار قبل دخول الليل مطلقا كما لا يشرع استمرار الصوم بعد دخول الليل ولا يشرع ايضا صوم جزء من النهار فالصوم لا يتبعض.
والليل معروف. وهناك بحث في الفقه في انه هل يبدأ من غروب الشمس ام من زوال الحمرة المشرقية ولعله اعتبر في الروايات علامة على الغروب لاحتمال اختفائها خلف الجبال والمباني والا فالظاهر ان الليل عرفا يبدأ من سقوط القرص.
ومن غريب ما ظهر في عصرنا ما ابتدعه بعض المتصدين للافتاء من مخالفة صريح الاية والحكم بجواز الافطار قبل الغروب في البلاد التي يكون النهار فيها اطول من النهار في البلاد الشرقية بناءا على حمل النهار الذي يجب صومه على النهار المتعارف وهو لا يزيد على 16 ساعة مثلا وكأن النهار يحمل في العرف على ما نسميه نهارا في بلادنا.
وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ ...
المعروف في التفاسير ان المراد بهذه الجملة المنع من المباشرة حال الاعتكاف في المسجد وأن سبب ذكر هذا الحكم هنا انه حيث حكم بجواز المباشرة ليلا لمن أراد الصيام في الغد كان في موضع توهم جوازها في ليلة الاعتكاف فان الصوم واجب في الاعتكاف نهارا فحسب ولكنه تعالى منع منها حال الاعتكاف حتى في الليل.
ولكن ما ذكروه غير ظاهر من الاية لان المباشرة لا تجوز في المسجد مطلقا بل لا يجوز بقاء الجنب فيه ولكنهم رووا ان بعضهم كان يخرج ليلا من المسجد فيأتي أهله ثم يعود وان الاية تنظر الى هذا الفرض.
وهذا غير صحيح لان الخروج من المسجد حال الاعتكاف لا يجوز الا لضرورة او لموارد خاصة ومع ذلك فالآية لا تنظر الى ذلك لان الحكم خاص فيها بالمباشرة في المسجد فالظاهر أن الاية لم ترد في حكم الاعتكاف المصطلح.
وهناك اختلاف في كتب اللغة في معنى العكف ففي العين انه اقبالك على الشيء لا تصرف عنه وجهك ومنه قوله تعالى (وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا..).[16] وفي الجمهرة انه بمعنى الاقامة في المكان ومنه قوله تعالى (سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ).[17] وفي الصحاح ومعجم المقاييس انه بمعنى الحبس ومنه قوله تعالى (وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ..)[18] اي محبوسا.
والظاهر هنا من هذه المعاني ما ذكره ابن دريد في الجمهرة فالمراد النهي عن المباشرة حال الاقامة في المسجد وان لم تكن الاقامة من اجل الاعتكاف والسبب واضح وهو حرمة الاجناب في المسجد.
وعليه فمناسبة الحكم لما سبق هو بيان وقت اخر من حرمة المباشرة.
تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187)
الحد هو المنع حقيقة. واسم الاشارة يشير الى ما مر من الاحكام. فيكون المعنى الحقيقي للجملة انه تعالى يمنع من تحقق هذه الامور على ارض الواقع. ولكنا نعلم انه تعالى لا يمنع في هذه النشأة أحدا من ارتكاب أكبر الجرائم منعا تكوينيا وعليه فالتعبير كناية عن المنع حسب القانون الالهي وأن من يرتكبها يجازى باشد العقاب يوم القيامة فيكون كأنه منع تكوينا.
وللحد معنى آخر وهو طرف الشيء ومنتهاه فيكون المعنى أن هذه الأمور منتهى ما يجوز الوصول اليه ولا يجوز التعدي عنها.
والتعبير بكون شيء من حدوده تعالى أبلغ في المنع من النهي عنه بل حتى من التصريح بالعقاب لأنه يعتبره كأنه حدّ ومنع تكويني وكأنه تعالى جعل مانعا عن الوصول اليه.
والسؤال هنا انه تعالى نهى في بعض الموارد عن التعدي او الاعتداء على الحدود الالهية كما في قوله تعالى في آية الطلاق (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)[19] ولكنه هنا نهى عن الاقتراب منها فما هو الوجه في ذلك؟
لعل الوجه فيه ان الحدود في تلك الايات اشارة الى حقوق للاخرين كحق الزوجة وحق الشركاء في الارث فاللازم هناك عدم التجاوز بمعنى ان للانسان ان يطالب بحقه فاذا وصل الى نهاية حقه فلا يجوز له تجاوزها ولكنه لا يمنع من الاقتراب لانه يستلزم التنازل عن بعض حقه وهو غير ملزم بذلك فلكل وارث ان ياخذ حقه كاملا ولا يعتدي على غيره.
ولكن الحدود في هذه الآية اشارة الى منهياته تعالى فلا يجوز الاقتراب منها لان من اقترب منها يوشك ان يقع فيها خصوصا فيما تميل اليه النفوس بقوة كالاستمتاعات الجنسية فانها من حبائل الشيطان واذا اقترب الانسان منها فقلما يتمكن من كبح جماح نفسه.
وقوله (كذلك يبين الله آياته) اي بهذا النحو من التأكيد والتحذير يبين الآيات ويوضح الاحكام لعلهم يتقون الله ويجتنبون الآثام ولا يقربوا محارمه تعالى.
وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (188)
حكم آخر من الاحكام الشرعية ذكر هنا. وهو تحريم اكل الاموال بالباطل حيث انه كان من الرائج في المجتمع اكل مال الضعيف واليتيم واكل اموال النساء والربا والاغارة وغيرها من تداول المال بالظلم.
والاكل يقصد به مطلق التصرف في المال ولعل الوجه في التعبير عن التصرف بالاكل انه هو المقصد الاساس والغالب في اكتساب المال فان الحاجة العامة والدائمة تتعلق بالاكل.
والاموال جمع مال وهو معروف واكثر اللغويين اكتفوا بذلك عن تعريفه حتى ان معجم المقاييس لم يبحث عن اصل معناه.
والغالب اعتبروه من المول والازهري اعتبره في تهذيب اللغة من الميل وكذلك الراغب في المفردات وقال (المال سمي بذلك لكونه مائلا ابدا وزائلا ولذلك سمي عرضا). ولكنه لا يناسب اعتباره من المول. واستدل على ذلك الجوهري في الصحاح بان تصغيره مويل.
وقال ابن سيدة (المال ما ملكته من جميع الاشياء) ومعناه ان المال والملك بمعنى واحد مع ان المال صفة للشيء بذاته والملك بالاضافة الى غيره.
وقال ابن الاثير في النهاية (المال في الاصل ما يملك من الذهب والفضة ثم اطلق على كل ما يقتنى ويملك من الاعيان واكثر ما يطلق المال عند العرب على الابل لانها كانت اكثر اموالهم) ومن هذا الاختصاص عند العرب يتبين أن خصوصية الذهب والفضة ايضا ليست دخيلة في اصل المعنى فعاد الامر الى ما ذكره ابن سيدة.
والحاصل انه لم يتبين لنا اصل معنى المال ولا حدود مدلوله في لغة العرب الا ان له معنى واضحا لدى العرف بصورة اجمالية ولكن لا يصح حمل آيات القرآن على ما نفهمه نحن من اللفظ في هذا العصر او ما يعتبر مالا في مصطلح المتشرعة المتاثرين بالمذاهب الفقهية المختلفة.
وتعرض بعض الفقهاء لتعريف المال فعرفوه بانه كل ما يملكه الانسان او كل ما يميل اليه الطبع وامثال ذلك مما يدل على انهم استندوا الى ما في بعض كتب اللغة وحاول بعضهم تحديد ما يصدق عليه المال عرفا او شرعا فقالوا ان الماء على البحر او النهر لا يعد مالا والحشرات التي لا فائدة منها لا تعد مالا ونحو ذلك
وحاول بعضهم تعريف المال حسب ما يفهمه العرف منهم السيد الحكيم قدس سره حيث قال (المالية اعتبار عقلائي ناشئ عن كون الشيء موضوعا لغرض موجب لحدوث رغبة الناس فيه على نحو يتنافسون فيه ويتسابقون إليه ويتنازعون عليه..).[20]
واضافة الاموال الى المخاطبين اوجبت توهم ان المراد النهي عن تصرف الانسان في مال نفسه بالصرف في الحرام او الاسراف والتبذير مع ان المراد هو التصرف في مال الغير بغير وجه حق والدليل عليه قوله (بينكم) مما يدل على ان المراد باكل المال ما يتم بالمبادلة التي تقع بين افراد المجتمع لا تصرف الانسان في مال نفسه.
انما الكلام في وجه الاضافة الى المخاطبين والظاهر أن السبب هو اعتبار الاموال مما يتقوم به المجتمع وان كانت تعود الى الاشخاص ولم تكن من الاموال العامة.
والدليل على ذلك قوله تعالى (وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ..)[21] اذ لا شك أن المراد بقوله (اموالكم) اموال السفيه نفسه ولا يقصد عدم تقديم المخاطب ماله للسفيه او عدم تقديم الاموال العامة لهم.
واوضح منه التعبير عنها بان الله تعالى جعل هذه الاموال قياما لكم اي مما تتقوم به شؤون مجتمعكم فهي وان كانت اموالا شخصية والدين الاسلامي يقر بالملكية الشخصية ويحترم الحقوق المتعلقة بها الا انها تعتبر من مقومات المجتمع فلا بد من ملاحظة مصلحة المجتمع في تصرف كل شخص في امواله.
والامر لا يختص بالاموال فالله تعالى يمنع من انتقاص الاخرين ولكنه يعبر عنه بالانتقاص من النفس كما قال تعالى (وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ)[22] مع ان الانسان لا يلمز نفسه الا ان التعبير بلحاظ أن المؤمنين مجموعة واحدة متحدة كأنهم شخص واحد فالانتقاص من أحدهم انتقاص من الجميع فاذا صدر ذلك من أحدهم فكأنه عاب نفسه ولمزها.
ومثله قوله تعالى خطابا لبني اسرائيل (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ * ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ..)[23] وقد مر تفسير الايتين ومن الواضح ان المراد قتل الاخرين واخراجهم من ديارهم.
والباطل خلاف الحق وحيث ان الحق هو الامر الثابت فالباطل هو الزائل الذي لا يدوم قال في معجم المقاييس هو ذهاب الشيء وقلة مكثه ولبثه. وقال الراغب هو ما لا ثبات له عند الفحص عنه. ومراده بهذا القيد ان له ظاهرا مغريا فاذا فحصت عنه لم تجده باقيا.
والباء في قوله (بالباطل) للسببية اي لا تتصرفوا في الاموال بالاسباب الباطلة لانتقال الملكية كالربا والرشوة والقمار والمعاملات الفاقدة للشروط الشرعية كبيع الغرر كما يدل عليه ما ورد في ذيل الاية المشابهة من الاستثناء اي قوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ..)[24] فان استثناء التجارة يدل على ان المراد بقوله (بالباطل) الاسباب الباطلة.
والواو في (وتدلوا بها الى الحكام) يمكن ان تكون عاطفة فيكون هذا حكما اخر اي لا تاكلوا... ولا تدلوا باموالكم الى الحكام. ويمكن ان تكون بمعنى (مع) وتكون هنا (أن) مقدرة فتأول مع مدخولها الى المصدر اي لا تأكلوا اموالكم مع ادلائها الى الحكام فيكون ذكر الادلاء الى الحكام لبيان نوع من اكل المال بالباطل.
والادلاء في الاصل ارسال الدلو في البئر وحيث إن الارسال في البئر يكون برفق كما في معجم المقاييس فاعتبر هذا كناية عن دفع الرشوة للقضاة وهم المراد بالحكام ليحكموا للراشي بالمال مورد النزاع فان الرشوة لا تدفع علانية بل برفق.
والفريق اي القطعة مأخوذ من فرق بمعنى فصل بين شيئين ومنه الفريق بمعنى المجموعة من الناس. والاثم: الذنب كما في الصحاح وغيره. والاصل فيه كما في معجم المقاييس والمفردات التأخّر وانما سمي الذنب به لانه يؤخّر الوصول الى الثواب كما قيل او يؤخّر الانسان عن وصوله الى الكمال المطلوب.
وقوله (وأنتم تعلمون) جملة حالية اي تعلمون انكم لا تستحقون هذا المال. فالآية تنهى عن دفع مال للقاضي ليحكم للانسان بخلاف الحق وينتهي الى اخذ مال من الطرف الاخر او عدم دفع حقه اليه فيكون قد اكل ماله على وجه الاثم والعدوان.
وهذا هو ما يسمى في الشرع بالرشوة وقد ورد في شأنها التأكيد والتشديد حتى لو كان للوصول الى الحق والروايات في ذلك كثيرة في كتب الفريقين منها موثقة سماعة عن أبي عبد الله عليه السلام قال (الرشا في الحكم هو الكفر بالله).[25]
[1] ال عمران : 50
[2] جامع البيان ج 3 ص 494
[3] تفسير القمي ج 1 ص 66
[4] الاعراف : 189
[5] الفرقان : 47
[6] يونس : 67
[7] البقرة : 57
[8] المجادلة : 13
[9] راجع المنار والتحرير والتنوير وغيرهما
[10] البقرة : 223
[11] وهو بدري من اصحاب امير المؤمنين عليه السلام كما في رجال الشيخ قدس سره
[12] الكافي ج 4 ص 99 باب الفجر ما هو
[13] المنار ج 2 ص 146
[14] المنار ج 2 ص 147
[15] الكافي ج 4 ص 98 باب الفجر ما هو
[16] طه : 97
[17] الحج : 25
[18] الفتح : 25
[19] البقرة : 229
[20] نهج الفقاهة ص 325
[21] النساء : 5
[22] الحجرات : 11
[23] البقرة : 84 - 85
[24] النساء : 29
[25] وسائل الشيعة ج 27 ص 222 باب تحريم الرشوة