مكتب سماحة السيد مرتضى المهري

وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ ...

مجموعة من احكام الحج ورد ذكرها في هذه الآيات. وقال العلامة الطباطبائي قدس سره إن هذه الآيات نزلت بشأن حجة الوداع. وقال ابن عاشور انه لا خلاف في انها نزلت في صلح الحديبية. وهذا ينافي ما هو المعروف من ان سورة البقرة نزلت في اوائل الهجرة.

ومن الممكن نزول بعض الايات في اوقات متفرقة وامر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بوضعها في هذا الموضع. الا أنه لا دليل على ما ذكر من وقت النزول. اما نزولها في حجة الوداع فيبدو من كلام العلامة ان الدليل عليه تشريع حج التمتع في هذه الآيات وانه لم يكن مشرعا قبل ذلك وانما كان الناس يحجون حج القران والافراد وهو الظاهر من قصة إباء عمر من قبول التمتع. ولكن لا مانع من تشريع التمتع قبل العمل به في حجة الوداع.

واما ما اشتهر من كونها نازلة في صلح الحديبية فربما يؤيد بما ورد في الآية من حكم الاحصار بناءا على أنه يشمل منع العدو وان ذلك اشارة الى منع المشركين الرسول صلى الله عليه وآله وسلم واصحابه من اكمال العمرة.

ولكن لا دليل على أن الاية ناظرة الى تلك الواقعة وان شملتها.

وقد مر الكلام حول معنى الحج والعمرة في تفسير الاية 158 من هذه السورة. ومعنى اتمامهما اكمال الاعمال الواجبة فيهما حتى لو كان حجا مستحبا او عمرة مستحبة. والظاهر ان المراد المنع من الاكتفاء بجزء من العمل كما مر نظيره في الصوم وفي قوله تعالى (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ)[1] فان الصوم لا يتبعض ولا يشرع صوم جزء من النهار وهكذا الحج والعمرة مضافا الى ظانه اذا أحرم حرمت عليه تروك الاحرام ولا بد من سبب للاحلال فان لم يوجد له سبب فلا بد من اكمال الاعمال ليخرج من احرامه.

وقوله (لله) اشارة الى ان الحج والعمرة من العبادات ولا يجوز الاتيان بهما لغيره تعالى ويقال ان العرب في الجاهلية كانوا يعتبرون ذلك اكراما لابراهيم عليه السلام فلعله تعالى اراد بهذا القيد دفع هذا التوهم وان القصد يجب ان يكون لله تعالى كما ان الواجب هو الاخلاص فيهما كما في غيرهما من العبادات فلا يجوز قصد الرياء والسمعة.

واما قصد امور اخرى ضمن الحج كالتجارة والارتباط بشعوب اخرى من المسلمين والسؤال عن احكام الشرع من اهل الخبرة او تبليغ الدين ونشر الاحكام للحجاج وغير ذلك من مصالح الدنيا والاخرة فلا باس به ولا يضر باعمال الحج كما قال تعالى (لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ..).[2]

وقد ورد في الروايات ان من تمام الحج لقاء الامام عليه السلام والمراد ان الحاج في ذلك العصر يجب ان يذهب الى الامام في المدينة ويساله مسائل دينه نذكر بعضها:

روى الكليني بسند صحيح عن زرارة عن أبي جعفر عليه السلام قال (إنما أمر الناس أن يأتوا هذه الأحجار فيطوفوا بها ثم يأتونا فيخبرونا بولايتهم ويعرضوا علينا نصرهم).

وروى عن جابر عن أبي جعفر عليه السلام قال (تمام الحج لقاء الامام).[3]

ويستدل بهذه الجملة من الاية الكريمة على ان الحج والعمرة كلاهما واجبان ومن فرائض الله تعالى وان كان الامر في الاية متعلقا بالاتمام لا باصل الحج والعمرة الا انه يدل على وجوب العملين ايضا.

ولا شك في وجوب الحج على كل مستطيع فهو من ضروريات الدين ويدل عليه صريح قوله تعالى (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ).[4] بل الاية تقتضي كفر من لا يحج وهو قادر عليه.

الا ان الكلام في العمرة المفردة وانها هل تجب على كل مسلم ام انها مستحبة وانها تجب على من لم يكن واجبه حج التمتع لانه يحج بالافراد والقران فتبقى في ذمته عمرة واما من كان بعيدا عن مكة فياتي بالعمرة ضمن الحج اي عمرة التمتع؟ وتفصيل الكلام في الفقه.

 

فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ...

هذا الحكم مترتب على وجوب الاتمام لانه يبتني على عدم التمكن منه بسبب الاحصار وهو افعال من الحصر اي الضيق قال في الجمهرة (واصل الحصر الضيق). ووقع الكلام في اللغة في الفرق بين الحصر والاحصار. قال في الجمهرة ايضا (وأحصرت الرجل احصارا اذا منعته من التصرف فكأنّ الحصر الضيق والاحصار المنع وحصرت الرجل عن وجهه اذا منعته عنه وفي التنزيل فان احصرتم فان منعتم من علة او عائق كذا يقول ابو عبيدة).

ونقل في الصحاح عن ابن السكيت عكس ذلك فقال (احصره المرض اذا منعه من السفر او من حاجة يريدها قال الله تعالى فان احصرتم قال وقد حصره العدو يحصرونه اذا ضيقوا عليه وأحاطوا به).   

واشتبه الامر على ابن فارس قال في معجم المقاييس (والكلام في حصره وأحصره مشتبه عندي غاية الاشتباه لان ناسا يجمعون بينهما واخرون يفرقون).

وهناك اختلاف بين فقهنا وفقه العامة في هذا الاصطلاح فالفقه الشيعي تبعا لروايات اهل البيت عليهم السلام خصوا الحصر بالمرض وعبروا عن منع العدو بالصد فمنها صحيحة معاوية بن عمار عن أبي عبد الله عليه السلام قال سمعته يقول (المحصور غير المصدود. المحصور المريض. والمصدود الذي يصده المشركون كما ردوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ليس من مرض والمصدود تحل له النساء والمحصور لا تحل له النساء..).[5]

وورد في بعض تفاسير الشيعة[6] ان المراد بقوله (احصرتم) ما يشمل المصدود والمحصور لغة. وكذلك ورد هذا التعميم في كلمات بعض الفقهاء منهم السيد الخوئي قدس سره.[7]

ولكن الحكم الذي ورد بعد هذه الجملة اي قوله تعالى (ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله) لا يشمل المصدود حسبما ورد في الروايات فان المصدود يذبح الهدي في مكانه ويتحلل ولعل السر فيه انه لا يتمكن عادة من البقاء هناك وانتظار وصول الهدي الى مكة او منى بسبب وجود العدو.

اما المحصور اي من منعه المرض ونحوه فينتظر ان يذبح هديه في منى لو كان محرما للحج او في مكة ان كان محرما للعمرة وهذا هو ما حكم به في الآية الكريمة فلا بد من القول بأن الاحصار في الآية لا يشمل المصدود حسب الروايات المفسرة.

وقد مر نقل كلام اللغويين وأن ابن السكيت رحمه الله صرح بأن الاحصار خاص بالمرض والحصر بمعنى منع العدو. ويوافق ذلك قوله تعالى (وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ..)[8]  فانه من الحصر لا الاحصار وان كان ذلك مخالفا لما مر في صحيحة معاوية بن عمار من ان المحصور هو المريض ولم يقل: المُحصر. والحاصل أن قوله (ولا تحلقوا..) قرينة على أن المراد بالاحصار هو المرض خاصة.

ولكن اجيب عن ذلك بأن قوله (حتى يبلغ الهدي محله) يشمل محبس المصدود فهو موضع هديه فلا تكون هذه الجملة قرينة على الاختصاص بالمريض.[9]

وهو كلام غريب اذ لا يوجد بالنسبة للمصدود محل خاص للهدي بل يذبحه حيثما كان بل لو لم يجد هناك هديا يرجع الى اي بلد يحصل فيه على هدي فيذبحه ويتحلل ولا يصح ان يعتبر هذا التعبير كناية عن اصل الذبح فمن الواضح ان المراد ببلوغ الهدي محله وصوله الى المكان الذي يجب ذبحه فيه.

ويمكن ان يقال بملاحظة مجموع الشواهد وكلمات اللغويين ان الحصر والاحصار بمعنى واحد لغة وفي الاستعمال الا ان المحصور في اصطلاح الروايات والفقه خاص بمن منعه المرض من اكمال الاعمال والمصدود من منعه العدو. ونحن نفسر الآية الكريمة بما ورد في رواياتنا ونخص الحصر بالمرض واما المصدود فلم يذكر حكمه في الاية.

وفي بعض التفاسير كالمنار والتحرير والتنوير وغيرهما ان قوله تعالى (فاذا أمنتم..) قرينة على أن المراد بالاحصار منع العدو خاصة لانه هو الذي يقابل بالامن.

والجواب أن الامان عام يشمل الامان من المرض فلا مانع من ان تكون جملة (فان احصرتم) لبيان حكم المريض خاصة وقوله (فاذا امنتم) يبين حكم الحجاج الذين لم يمنعهم عدو ولا مرض وتبقى الاية ساكتة عن حكم المصدود الذي منعه العدو.

وورد في تقرير بحث السيد الخوئي قدس سره وغيره ايضا من كتب الخاصة والعامة في الفقه والتفسير الاستدلال على كون الحكم خاصا بمن منعه العدو او شاملا له بأن الاية وردت في صد المشركين لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن اتمام عمرته فانه نحر في مكانه ورجع.[10]

ولكن لا يوجد دليل معتبر على ان الاية الكريمة نزلت بهذا الشأن بل هناك روايات تدل على أنها نزلت في حجة الوداع منها صحيحة الحلبي الآتية ومنها قصة كعب بن عجرة وهي منقولة في كتب الفريقين ورواها المشايخ الثلاثة في الكتب الاربعة.

روى الكليني بسند صحيح عن حريز عمن اخبره عن أبي عبد الله عليه السلام قال (مر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على كعب بن عجرة والقمل يتناثر من رأسه وهو محرم فقال له: أتؤذيك هوامّك؟ فقال: نعم فأنزلت هذه الآية "فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك" فأمره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يحلق وجعل الصيام ثلاثة أيام والصدقة على ستة مساكين لكل مسكين مدّين والنسك شاة.. الحديث).[11]

ورواها الشيخ الطوسي قدس سره عن حريز عن ابي عبد الله عليه السلام.[12]

وربما يقال إن قوله تعالى (ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله) ليس حكما لمن احصر بل هو حكم عام لكل الحجاج. وقوله (فان احصرتم..) اكمال للامر باتمام الحج والعمرة فهو في الواقع بيان لحكم من لم يتمكن من الاتمام. وقوله (فما استيسر من الهدي) عام لكل معذور عن الاتمام سواء كان مصدودا او محصورا ولكنه لم يتعرض لموضع الذبح وانما بُيّن ذلك في الروايات.

ويتحصل من ذلك أن قوله (ولا تحلقوا رؤوسكم..) لا يكون قرينة على ان المراد بقوله (احصرتم) خصوص المريض باعتبار ان حكمه حسب الروايات هو انتظار ذبح الهدي في محله وذلك لان هذه الجملة لبيان حكم عام لجميع الحجاج ولا يختص بحالة الاحصار اوالصد.

والجواب اولا انه حتى لو فرض كونه حكما عاما الا انه طبق هنا على المحصور ولا ينافي ذلك شمول الحكم لغير المحصور والمصدود وثانيا انه ليس حكما عاما لجميع الحجاج فانهم غالبا لا يسوقون هديا فلا يصح التعبير ببلوغه محله وانما يشمل الحكم السائق لهديه كما يستفاد من الرواية التالية ونحوها.

روى الكليني بسند صحيح عن الحلبي عن أبي عبد الله عليه السلام قال (إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين حج حجة الاسلام خرج في أربع بقين من ذي القعدة حتى أتى الشجرة فصلى بها ثم قاد راحلته حتى أتى البيداء فأحرم منها وأهل بالحج وساق مائة بدنة وأحرم الناس كلهم بالحج لا ينوون عمرة ولا يدرون ما المتعة حتى إذا قدم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مكة طاف بالبيت وطاف الناس معه ثم صلى ركعتين عند المقام واستلم الحجر ثم قال: أبدأ بما بدأ الله عز وجل به. فأتى الصفا فبدأ بها ثم طاف بين الصفا والمروة سبعا فلما قضى طوافه عند المروة قام خطيبا فأمرهم أن يحلوا ويجعلوها عمرة وهو شيء أمر الله عز وجل به فأحل الناس وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "لو كنت استقبلت من أمري ما استدبرت لفعلت كما أمرتكم" ولم يكن يستطيع أن يحل من أجل الهدي الذي كان معه إن الله عز وجل يقول: ولا تحلقوا رؤسكم حتى يبلغ الهدي محله..) الحديث.[13]

فهذه الرواية تدل على أن هذا الحكم يشمل من ساق الهدي في احرام حجه وأنه لا يجوز له الاحلال الا بعد ان يبلغ الهدي محله ولا يختص بالمحصور وهناك روايات عديدة تدل على هذا الحكم.

وقوله (فما استيسر من الهدي) جواب الجملة الشرطية (فان احصرتم). و(ما) موصولة ويمكن ان تكون مبتدأ لخبر اي فعليكم ما استيسر او فاعلا بتقدير فيجب ما استيسر او مفعولا بتقدير فاهدوا ما استيسر.

و(استيسر) من اليسر وهو اللين والانقياد اي ما تهيأ لكم من الهدي. وهو ما يهدى من النعم الى البيت الحرام ويمكن ان يكون مصدرا بمعنى اسم المفعول اي المُهدى وقرئت ايضا بالهَدِيّ وهو جمع هدية كمطيّ جمع مطيّة.

 

وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ ...

مقتضى السياق ان هذا حكم من احصر وهو من منعه المرض ونحوه من مواصلة السير الى مكة ولكن مقتضى الروايات كما مر أنه حكم عام لكل من ساق الهدي وان طبق هنا على من احصر.

والنهي عن الحلق بمعنى بقاء الاحرام لانه لا يتحلل من احرامه الا بالحلق فيجب على من احرم ومنعه المرض من مواصلة المسير اجتناب كل محرمات الاحرام الى ان يبلغ الهدي محِلّه وكذلك حكم من ساق الهدي كما في حديث حج الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.

والمَحِلّ اسم مكان اي موضع يحل فيه نحره او ذبحه اي يبلغ مكة في احرام العمرة ومنى في احرام الحج. والظاهر أن المراد ليس مجرد بلوغه هناك بل ذبحه او نحره فيحل المحرم بعد ذلك ويحلق راسه او يقصر.

فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ ...

في هذه الجملة استثناء عن حكم تحريم الحلق وذكر موردين: الاول المريض والمراد به هنا من كان مرضه يمنعه من ابقاء شعر الراس ويقتضي الحلق فيجوز له ذلك ولا يشمل الحكم كل مريض فان بعض المرضى يضرّ به الحلق.

والمورد الثاني من كان به أذى من راسه و(من) للابتداء تجوزا اي ان الاذى الذي يصيبه ينشأ من رأسه بسبب عدم الحلق وهو قد يكون ناشئا من القمّل او من الوسخ ونحوه حيث انهم غالبا في السفر ما كانوا يملكون وسائل التنظيف او إبادة القمّل.

والاذى معروف وهو كل ما يصيب الانسان مما يكرهه. وقوله ففدية فيه تقدير اي فيجوز له الحلق وعليه فدية لانه اذا تحمل الاذى فلا فدية عليه. والفدية ما يدفع لانقاذ انسان مما يؤذيه او يضره. والنسك في الاصل بمعنى العبادة ورجل ناسك اي عابد واطلق على ما يذبح تقربا الى الله تعالى. ولم تحدد الآية مقدار الصيام ولا الصدقة كما لم تحدد النسك لانه يصدق على كل ما يقدم من الانعام وانما ورد التحديد في الروايات.

ففي رواية حريز السابقة عن أبي عبد الله عليه السلام قال (فأمره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يحلق وجعل الصيام ثلاثة أيام والصدقة على ستة مساكين لكل مسكين مُدّين والنسك شاة..) الحديث.[14]

ومعنى ذلك ان اصل الحكم بلزوم دفع الفدية من صيام او صدقة او نسك من الله تعالى والرسول صلى الله عليه وآله وسلم هو الذي حدد كلا منها فيما ذكر نظير ما ورد في الزكاة من ان الله تعالى فرض الزكاة وسنّها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في تسعة اشياء وعفا عما سواهن.[15]

 

فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ...

الفاء للاستيناف لان هذه الجملة في مقابل قوله (فان احصرتم) والمراد بالامان كما مر هو الامان من المرض بناءا على ان الاحصار خاص به او الامان من المرض ومن منع العدو بناءا على العموم. و(اذا) ظرفية وتفيد معنى الشرط. وقوله (فمن تمتع) مع جوابه جواب لقوله (اذا امنتم). 

والمراد بقوله (من تمتع..) من اتى بحج التمتع في قبال حج القران والافراد. فان الحج ثلاثة اقسام:

الاول التمتع وهو واجب من يبعد مسكنه عن مكة اكثر من 16 فرسخا فيحرم في الميقات في اشهر الحج (شوال او ذي القعدة او ذي الحجة) لعمرة التمتع من حج التمتع ويطوف ويسعى ويقصر ويحل من احرامه ثم يبقى في مكة الى ايام الحج فيحرم له في مكة ويذهب الى عرفات ثم المشعر ثم يرمي الجمرة الكبرى ويذبح ويقصر ويحل ويعود الى مكة للطواف والسعي وطواف النساء.   

والثاني الافراد وهو الحج من دون عمرة ولذلك سمي افرادا. والثالث القران وهو كالافراد عندنا الا انه يسوق هديا وهذان وظيفة اهل مكة ومن كان حولها ولا يبعد عنها 16 فرسخا ولكن العامة ذكروا انه سمي قرانا لانه يقرن الحج بالعمرة وهذا ورد في كتب اللغة ايضا.

والكلام هنا في التعبير عن حج التمتع بقوله تعالى (فمن تمتع بالعمرة الى الحج) فقد ذكروا له وجهين:

الاول انه يتمتع بثواب العمرة الى ان يأتي بالحج.

وهو بعيد جدا فان الذي ياتي بالعبادة واجبا او مستحبا لا يتمتع بثواب عمله في الدنيا وانما يتمتع بثواب عمله يوم القيامة لو كان له ثواب.

الثاني انه يتمتع بالاحلال بعد العمرة الى ان يحج فهو يتمتع بسبب العمرة اي بسبب انتهائها هكذا ورد في الميزان.

وهو ايضا بعيد فان انتهاء العمرة اذا كان سببا للتمتع فلا يعد التمتع من اثار العمرة ومسبباتها بل من مسببات عدمها.

فلعل الاولى ان يقال السبب هو تقديم العمرة لان الحاج بالافراد او القران يحرم في الميقات ويبقى محرما الى زمان الحج اما اذا قدم العمرة كما في حج التمتع فهو يتمتع بعد التقصير الى الحج ويكون ذلك بسبب العمرة اي بسبب تقديمها على الحج.

وقوله (فما استيسر من الهدي) جزاء لقوله (فمن تمتع) اي يجب على المتمتع ان يقدم هديا لخروجه من احرام الحج وهذا بخلاف حج الافراد حيث لا يجب فيه الذبح. وقد مر الكلام في مثل هذه الجملة وما هو المقدر فيها.

والوارد في بعض تفاسير العامة أن هذا الهدي ليس اضحية الحج بل هو هدي يذبحه جبرا لتركه الاحرام للحج من الميقات. قال في الكشاف (هو هدي المتعة وهو نسك عند أبي حنيفة ويأكل منه. وعند الشافعي يجري مجرى الجنايات ولا يأكل منه. ويذبحه يوم النحر عندنا وعنده يجوز ذبحه إذا أحرم بحجته).

وقال الالوسي (ولا يتعين له يوم النحر بل يستحب ولا يأكل منه، وهذا مذهب الشافعي وذهب الإمام أبو حنيفة إلى أنه دم نسك كدم القارن لأنه وجب عليه شكرا للجمع بين النسكين فهو كالأضحية ويذبح يوم النحر).  

وقال في المنار (فَعَلَيْهِ دَمٌ جَبْرٌ أَقَلُّهُ شَاةٌ لِأَنَّهُ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ مِنْ غَيْرِ الْمِيقَاتِ يَذْبَحُهُ يَوْمَ النَّحْرِ أَوْ قَبْلَهُ جَوَازًا عِنْدَ بَعْضِهِمْ).

ولكن المراد به عندنا هو اضحية يوم العيد ولا يجوز قبله وليس ذلك جبرا لاحرامه من غير الميقات كما قالوا بل هو نسك الحج وخاص بالمتمتع.

قال الشيخ الطوسي في التبيان (فالهدي واجب على المتمتع بلا خلاف لظاهر التنزيل على خلاف فيه أنه نسك أو جبران، فعندنا أنه نسك..).

 

فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ...

اي من لم يجد الهدي اما لندرة وجوده او لعدم تمكن الحاج من الشراء فعليه بدلا عنه ان يصوم عشرة ايام ثلاثة ايام منها في الحج وسبعة ايام بعد رجوعه الى اهله.

والمراد بكون الثلاثة في الحج اي قبل ان يخرج من مكة والمشاعر بقرينة مقابلته للرجوع والمراد الرجوع الى اهله وهناك من العامة من فسر الرجوع بانهاء الحج وان كان في مكة وهو مخالف لمقابلة الرجوع بكون الثلاثة في الحج.

والظاهر ان الثلاثة في الحج غير متعينة في ايام خاصة لاطلاق الاية الا ان بعض الروايات وردت في تحديدها:

منها صحيحة معاوية بن عمار عن أبي عبد الله عليه السلام قال (سألته عن متمتع لم يجد هديا؟ قال: يصوم ثلاثة أيام في الحج يوما قبل التروية ويوم التروية ويوم عرفة، قال: قلت: فان فاته ذلك؟ قال: يتسحر ليلة الحصبة ويصوم ذلك اليوم ويومين بعده قلت: فإن لم يقم عليه جماله أيصومها في الطريق؟ قال: إن شاء صامها في الطريق، وإن شاء إذا رجع إلى أهله).[16]

ومنها صحيحة العيص بن القاسم عن أبي عبد الله عليه السلام قال (سألته عن متمتع يدخل يوم التروية وليس معه هدي؟ قال: فلا يصوم ذلك اليوم ولا يوم عرفة ويتسحر ليلة الحصبة فيصبح صائما وهو يوم النفر ويصوم يومين بعده).[17]

ولم يذكر في هذا الحديث صوم يوم التروية وقبله وبعده كما في صحيحة معاوية لان مفروض السؤال هنا وروده يوم التروية فلا يمكنه الصوم فيه ولا قبله.

وليلة الحصبة هي الليلة التي يكون النفر من منى في النهار الذي بعدها كما ورد في هذه الرواية وغيرها. قال الازهري في تهذيب اللغة (واما التحصيب فهو النوم بالشعب الذي مخرجه الى الابطح ساعة من الليل ثم يخرج الى مكة وكان موضعا نزل به رسول الله صلى الله عليه (واله) وسلم من غير ان يسنّه للناس).

وتفصيل البحث عن هذه الايام الثلاثة في الفقه.

واما السبعة فيصومها بعد ان يرجع الى بلده ومن العامة من قال بانها ايضا تصام في الحج قال الالوسي (وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ أي فرغتم ونفرتم من أعماله فذكر الرجوع وأريد سببه أو المعنى إذا رجعتم من منى..) وهو غريب.

اما نحن فنتبع ظاهر الآية وقد ورد التصريح به في رواياتنا ففي صحيحة معاوية بن عمار عن أبي عبد الله عليه السلام قال (قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من كان متمتعا فلم يجد هديا فليصم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله فان فاته ذلك وكان له مقام بعد الصدر صام ثلاثة أيام بمكة وان لم يكن له مقام صام في الطريق أو في أهله، وإن كان له مقام بمكة وأراد ان يصوم السبعة ترك الصيام بقدر مسيره إلى أهله أو شهرا ثم صام).[18]

قوله صلى الله عليه وآله وسلم (وكان له مقام بعد الصدر) اي اراد ان يقيم في مكة بعد الرجوع من منى. والصدر بفتح الدال هو في الاصل الرجوع عن ورود الماء ومنه قوله تعالى (حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ)[19] اي يُرجعوا مواشيهم. ثم اطلق على كل رجوع قال ابن سيدة (الصدَر اليوم الرابع من ايام النحر لان الناس يصدرون فيه عن مكة الى اماكنهم).[20]

واما قوله تعالى (تلك عشرة كاملة) فربما يستغرب منه بأن كون المجموع عشرة امر واضح فما هو الوجه في التنبيه عليه وما وجه توصيفها بانها كاملة وفي توجيهه عدة وجوه:

منها انه للتاكيد لئلا ينقصوا منها وليتبين وجوب مراعاة العدد المذكور فان كثيرا من الناس يتسامحون فيما اذا امروا بعدد خاص فياتون ببعضه بتوهم ان هذا المقدار يكفي في الوصول الى المقصود ويعتمدون على عفوه تعالى وتسامحه مع العباد فهذا التأكيد ينبه على انه لا بد من اتيان العشرة كاملة ليكون بدلا عن الهدي ولا يجزي الاقل منه ولا ينفع شيئا.

ومنها انه للتنبيه على ان الواو في قوله (وسبعة) ليست بمعنى (او) فيكون الحكم وجوب احدهما اي الثلاثة في الحج والسبعة بعد الرجوع وقد ورد الواو بمعنى او في قوله تعالى (فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ..).[21]

وفي رواية عبد الله بن سليمان الصيرفي قال (قال أبو عبد الله عليه السلام لسفيان الثوري: ما تقول في قول الله عز وجل "فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة" أي شيء يعني بالكاملة؟ قال: سبعة وثلاثة، قال: ويختل ذا على ذي حجا إن سبعة وثلاثة عشرة؟ قال: فأي شيء هو أصلحك الله؟ قال: أنظر قال: لا علم لي فأي شيء هو أصلحك الله؟ قال: الكامل كمالها كمال الأضحية سواء أتيت بها أو أتيت بالأضحية تمامها كمال الأضحية).[22]

والمراد على ما يبدو ان هذه الجملة اشارة الى ان من لا يملك الهدي ويصوم هذه الايام فقد اتى بواجبه كاملا حتى لا يشعر الحاج بنقص حجه من جهة عدم الذبح حيث كان الهدي في اعتقادهم من اهم اركانه فبين الله تعالى بهذه الجملة ان صيام هذه الايام العشرة كاملة يكمل بها الحج وكأنك قدمت الاضحية كاملة واجدة لجميع الاوصاف المعتبرة لا فرق بينهما اما لو نقصت من الصيام فقد نقص الهدي.   

 

ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ...

اسم الاشارة يعود الى حكم التمتع بالعمرة الى الحج ومعناه ان هذا القسم من الحج وظيفة من كان منزله بعيدا عن مكة واما اهل مكة ومن حولها فوظيفتهم الافراد او القران ولعل هذا التخصيص باعتبار ان من كان اهله بعيدا فهو بحاجة الى تمتع بين الاعمال ليستريح من تعب السفر ومشاق الطريق.

ومن هنا اختير هذا التعبير بدلا عما يدل على بعد مسكنه من مكة ومضافا الى ذلك يفيد امرا آخر وهو أن المهاجرين من الصحابة لعل بعضهم كان يظن ان واجبه الافراد لانه من اهل مكة فجاء هذا التعبير ليحدد ان المناط كون اهله حاضري المسجد الحرام لا كون مكة وطنه الاصلي. والمراد بحضور المسجد الحرام سكنى مكة.

وقد حددت الروايات مسافة البعد عن مكة ففي صحيحة زرارة (قلت لأبي جعفر عليه السلام قول الله عز وجل في كتابه: ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام؟ قال يعني أهل مكة ليس عليهم متعة كل من كان أهله دون ثمانية وأربعين ميلا ذات عرق وعسفان كما يدور حول مكة فهو ممن دخل في هذه الآية وكل من كان أهله وراء ذلك فعليه المتعة).[23]

والميل على ما في تهذيب اللغة قدر منتهى مدّ البصر من الارض – الى ان قال – وكل ثلاثة اميال منها فرسخ. فتكون المسافة المقدرة للبعد عن مكة 16 فرسخا وقد قدر في كتب الفقه بما يقارب 88 كيلو مترا.

وهناك اختلاف في الروايات وعلى اثرها اختلفت كلمات الفقهاء.

 

وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (196)

الاتقاء افتعال من الوقاية ومعناه ان يحفظ الانسان نفسه من شيء يضره ويتعلق غالبا بنفس ما يضره كقوله تعالى (فَاتَّقُوا النَّارَ)[24] واما اذا تعلق به تعالى فلا بد من تقدير متعلق كالغضب والعذاب فان الله تعالى لا يمكن ان يتقى منه بذاته كما قال (وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ).[25]

وقوله (واعلموا) للتنبيه على أنه إخطار مهم ربما يغفل عنه الانسان. والشدة تقابل الخفة وهما وصفان نسبيان فتوصيف عقابه تعالى بالشدة ليس مطلقا بل بالمقارنة الى ما نجده في الدنيا من العقاب. والعقاب والعقوبة والمعاقبة بمعنى واحد وهو ما يتعقب العمل من سوء الجزاء والاصل فيه العَقِب وهو مؤخر القدم.

وربما يستغرب هذا التعقيب لحكم الحج مع انه عبادة ولا يذهب اليه احد الا بقصد التقرب الى الله تعالى فما هو الوجه في الامر بالتقوى والتحذير من شديد عقابه تعالى؟

لعل الوجه فيه ان الاية حيث تضمنت امورا ترخيصية من الاكتفاء بالهدي للخروج من الاحرام في حال المرض والاكتفاء بالصدقة والصيام والنسك لجواز الحلق لمرض او اذى ومن التحلل من الاحرام والتمتع بين العمرة والحج والاكتفاء بالصوم عن الهدي لزم التنبيه على لزوم التقوى لان الاحساس بالرخصة ربما يستتبع التهاون بالاحكام وأن الله تعالى يريد اليسر لعباده ولا يريد العسر وكثيرا ما نسمع من الناس التمسك بهذه الجملة للتهرب من التكاليف الالهية التي لا تروقهم.  

ويمكن أن يكون هذا التحذير اشارة الى ما كان من الرواسب الجاهلية في أذهان القوم من عدم تقبل التمتع على ما ورد في الحديث.

روى الكليني بسند معتبر عن معاوية بن عمار عن ابي عبد الله عليه السلام حديثا طويلا في كيفية حج الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ويقول فيه (فلما فرغ من سعيه وهو على المروة أقبل على الناس بوجهه فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إن هذا جبرئيل وأومأ بيده إلى خلفه يأمرني أن آمر من لم يسق هديا أن يحل ولو استقبلت من أمري ما استدبرت لصنعت مثل ما أمرتكم  ولكني سقت الهدي ولا ينبغي لسائق الهدي أن يحل حتى يبلغ الهدي محله قال: فقال له رجل من القوم: لنخرجن حجاجا ورؤوسنا وشعورنا تقطر فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أما إنك لن تؤمن بهذا أبدا. فقال له سراقة بن مالك بن جعشم الكناني: يا رسول الله علمنا ديننا كأنا خلقنا اليوم فهذا الذي أمرتنا به لعامنا هذا أم لما يستقبل ؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: بل هو للأبد إلى يوم القيامة، ثم شبك أصابعه وقال: دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة...) الحديث.[26]

ومثل هذا وارد في روايات اخرى منها صحيحة الحلبي التي مر ذكرها في تفسير قوله تعالى (فان احصرتم فما استيسر من الهدي). والمراد بالرجل الذي قال له الرسول صلى الله عليه وآله وسلم (انك لن تؤمن بهذا ابدا) عمر بن الخطاب وقد تحقق ما اخبر به فقال عمر كلمته المعروفة حينما آلت اليه الخلافة (متعتان كانتا على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وانا انهى عنهما واعاقب عليهما).

ومن الغريب ان بعض المفسرين والكتاب[27] نسبوا الخبر الوارد بهذا الشان الى الشيعة بدعوى انه لم يرد ذكره في الصحاح ومصادر السنة مع انه مذكور في كتب كثيرة نذكر بعضها:

ففي صحيح البخاري عن عمران (قال تمتعنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزل القرآن قال رجل برأيه ما شاء).[28] ويقصد به عمر.  

ومثله في صحيح مسلم (قال عمران بن حصين نزلت آية المتعة في كتاب الله (يعنى متعة الحج) وأمرنا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم لم تنزل آية تنسخ آية متعة الحج ولم ينه عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى مات قال رجل برأيه بعد ما شاء).[29] 

وفي سنن البيهقي عن ابي نضرة عن جابر رضي الله عنه (قال قلت إن ابن الزبير ينهى عن المتعة وان ابن عباس يأمر بها قال على يدي جرى الحديث تمتعنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومع أبي بكر رضي الله عنه فلما ولي عمر خطب الناس فقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الرسول وان هذا القرآن هذا القرآن وانهما كانتا متعتان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وانا انهى عنهما واعاقب عليهما إحداهما متعة النساء ولا أقدر على رجل تزوج امرأة إلى أجل الا غيبته بالحجارة والأخرى متعة الحج افصلوا حجكم من عمرتكم فإنه أتم لحجكم وأتم لعمرتكم).[30]

ورواه احمد في المسند وحذف منه قوله (وانا انهى عنهما واعاقب عليهما)[31] وروى في موضع اخر حديث ابي نضرة عن جابر بهذا اللفظ (متعتان كانتا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فنهانا عنهما عمر)[32]

وفي سنن النسائي (عن ابن عباس قال سمعت عمر يقول والله إني لأنهاكم عن المتعة وإنها لفي كتاب الله ولقد فعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم يعنى العمرة في الحج)[33] ورواه ابن كثير وقال (اسناد جيد).[34]

وقال السرخسي في المبسوط (وقد صحّ ان عمر رضي الله عنه نهى الناس عن المتعة فقال متعتان كانتا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وانا أنهى الناس عنهما متعة النساء ومتعة الحج).[35]

 وذكره عبد الله ابن قدامة في المغني[36] وعبد الرحمن بن قدامة في الشرح الكبير[37] وابن رشد في بداية المجتهد[38] والمتقي الهندي في كنز العمال[39] وغيرهم.

 

الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ ...

اي اشهر الحج اشهر معلومات او وقت الحج اشهر معلومات وهي شوال وذو القعدة وذو الحجة ولم يذكرها لانها معروفة عند المخاطبين ولذلك وصفها بانها معلومات.

ومعنى كونها اشهر الحج انه لا يصح الا فيها واعتبار ذي الحجة باجمعها من اشهر الحج بلحاظ ان جزءا منه يقع فيه الحج او لان سائر الاعمال اي غير الوقوفين يمتد وقتها اما اختيارا او في حال الاضطرار الى اخر الشهر كالذبح والطواف وطواف النساء وان كان في ذلك خلاف في الفقه.

وفرض الحج يتحقق بالشروع فيه بالاحرام ونحوه ولا يصح الاحرام بالحج قبل شوال ولا باحرام عمرة التمتع لانه جزء من حج التمتع. والفرض: الايجاب كما في العين وغيره والاصل فيه على ما في المعجم والمفردات التأثير في الشيء من حزّ او غيره ويطلق على ما فرضه الله لان له حدودا ومعالم كما في معجم المقاييس.

وفي صحيحة معاوية بن عمار عن أبي عبد الله عليه السلام (في قول الله عز وجل "الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج" والفرض: التلبية والاشعار والتقليد، فأيّ ذلك فعل فقد فرض الحج ولا يفرض الحج إلا في هذه الشهور التي قال الله عز وجل "الحج أشهر معلومات" وهو شوال وذو القعدة وذو الحجة).[40]   

والاشعار والتقليد من العلامات التي كانت تستخدم لتخصيص البدنة للهدي فكانت تعرف بذلك فلا تؤخذ بل تنحر في محله والاشعار ان يضرب سنامها بالسكين فيسيل الدم على جنبها فتعرف انها بدنة هدي والتقليد من وضع القلادة وهو ان يعلق في عنقها شيء كالنعل الخلق ليعلم انها هدي.

والرفث قيل بانه بمعنى الجماع كما في العين وقيل بانه الكلام الذي يتضمن ذلك مما لا يجوز الا بين الزوجين ولكنه فسر في الروايات بالجماع فهو المتعين.

في صحيحة معاوية بن عمار قال قال أبو عبد الله عليه السلام (إذا أحرمت فعليك بتقوى الله وذكر الله وقلة الكلام إلا بخير فإن تمام الحج والعمرة أن يحفظ المرء لسانه إلا من خير كما قال الله عز وجل فإن الله يقول "فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج" فالرفث: الجماع، والفسوق: الكذب والسباب، والجدال قول الرجل لا والله وبلى والله).[41]

والفسوق معناه في اللغة يختلف عما في الرواية فانه ينطبق على مطلق الخروج عن طاعة الله تعالى الا ان المتبع هو الحديث الشريف والفسوق محرم دائما وتشتد حرمته في الحج وفي بعض الروايات عد من الفسوق المفاخرة. وكذلك الجدال فانه لا يختص لغة بما ورد في الحديث بل ينطبق على كل منازعة لاثبات شيء او نفيه.

قال في المفردات (الجدال المفاوضة على سبيل المنازعة والمغالبة واصله من جدلت الحبل اي احكمت فتله). ولعل الوجه في هذا التعبير ان كل واحد من المتجادلين يحاول تثبيت ما يقوله في مقابل الاخر فهو كمن يُحكم فتله.    

وفي تعبير الاية تأكيد شديد على ترك هذه الامور الثلاثة من بين محرمات الاحرام مما يدل على خصوصية فيها وذلك لانه لم ينه عن هذه الامور بل نفى وجودها بصورة نفي الجنس وكأنه يقول ان فرض الحج لا يجتمع مع هذه الامور الثلاثة فاذا فرض الحج فلا بد من انتفائها تماما وهذا ابلغ من النهي عن الشيء. والمراد بقوله (في الحج) حال الاحرام.

ثم ان قوله (فلا رفث ولا فسوق..) ليس جوابا مطابقا للجملة الشرطية وانما الجواب المطابق ان يقال من احرم وفرض على نفسه الحج يجب ان لا يرفث ولا يفسق فهذه الجملة في الواقع حكم عام لا يخص هذا الذي احرم ولكنها جملة تسد مسدّ الجواب وتفيد الصفة العامة للحج. ولذلك لم يأت بالضمير بل كرر ذكر الحج لان المراد بالحج هنا معنى عام لا خصوص الحج الذي احرم له الحاج المذكور.

 

 وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ (197)

لا شك ان الله تعالى يعلم حتى ما تكنه الصدور ولكن المراد بالتنبيه هنا انه تعالى يجازيكم على ما تفعلونه من خير.

الا انه يبقى السؤال عن وجه الاشارة الى فعل الخير تعقيبا للامر بترك مجموعة من الاشياء فقيل ان الوجه فيه هو ان هذا الترك يهيء الارضية الصالحة لفعل الخير حيث ان تحلية النفس بالفضائل ينبغي ان تاتي بعد تخليتها من الرذائل.

ولكن الاولى ان يقال ان المحرم حيث يترك مجموعة من الافعال ربما لا يلاحظ انه اتى بفعل انما هو عمل سلبي ولكنه في الواقع يأتي بعمل ايجابي وهو كف النفس عما تنجر اليه بطبيعتها وهو عمل صعب غالبا ولذلك عبر الله تعالى عنه بانه فعل الخير وانه يجازى عليه.

والتزوّد مأخوذ من الزاد واختلف اللغويون في كونه واويا او يائيا والاكثر على الاول قال في العين (الزود تأسيس الزاد وهو الطعام الذي يتخذ للسفر والحضر – الى ان قال – وكل منتقل بخير او عمل فهو متزوّد) وقال في معجم المقاييس (يدل على انتقال بخير من عمل او كسب هذا تحديد حدّه الخليل) ثم حكى عبارة العين الاخيرة.

وفي المفردات ذكر لفظ الزاد في (زيد) واعتبره ماخوذا من الزيادة وقال (الزاد: المدخر الزائد على ما يحتاج اليه في الوقت. والتزود اخذ الزاد) والازهري في التهذيب ذكره في الزود وذكر بعض مشتقاته في الزيد مما يدل على تخبط منه.

وعلى الاول فالمراد بالتزود هنا الانتقال الى عالم الاخرة بالاعمال الصالحة التي تجلب الخير للانسان وعلى الثاني المراد ادخار الخير للاخرة. ولم يذكر مفعول التزود وهو التقوى اعتمادا على الجملة التالية التي تحدد الزاد وهو التقوى فمعنى الجملة وتزودوا بالتقوى فانه خير زاد لكم.

وجعل التقوى خبرا لخير الزاد لا اسما له لان الانسان يطلب خير الزاد فعرّفه الله تعالى بان خير الزاد في هذا السفر هو التقوى. والتعبير عن التقوى بالزاد لم يرد في القران الا هنا ولكنه اصبح دارجا بكثرة في الخطب والاشعار والمقالات.    

وروى القوم عن ابن عباس رواية غريبة في شأن نزول الاية تنزل من شأنها ففي الدر المنثور (أخرج عبد بن حميد وَالْبُخَارِيّ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ وَابْن الْمُنْذر وَابْن حبَان وَالْبَيْهَقِيّ فِي سنَنه عَن ابْن عَبَّاس قَالَ كَانَ أهل الْيمن يحجّون وَلَا يتزوّدون يَقُولُونَ نَحن متوكلون ثمَّ يقدمُونَ فَيسْأَلُونَ النَّاس فَأنْزل الله: وتزوّدوا فَإِن خير الزَّاد التَّقْوَى).

فيكون معنى الاية تزودوا لسفر الحج وخذوا معكم زادكم واتقوا مساءلة الناس فان خير الزاد اجتناب مساءلة الناس!!!

ولا شك ان ابن عباس لم يقل ذلك وانما اخترعه بعض من لا يفقه معنى الاية ولا يرى تناسبا بين هذه الجمل.

ثم خاطب اولي الالباب وامرهم بالتقوى ومعنى هذا الخطاب ان اولي الالباب هم الذين يتقون الله تعالى ومن لم يتق الله فلا لبّ له. واللب: الخالص من كل شيء. ويطلق على العقل لانه مناط الانسانية فكأن الانسان في حقيقته ليس الا العقل وما عداه شوائب كما ان الفاكهة لبها هو ما يؤكل منها وما عداه شوائب تطرح.

والمراد به العقل الخالص من الاهواء والوساوس الشيطانية وهناك كثير من الناس بل اكثرهم يحملون عقولا قوية في ادراك الحقائق المادية ولكنها تعجز عن ادراك ما وراءها فهي ليست عقولا خالصة لانها تتبع الميول والاهواء ولذلك فهي لا تؤثر في تقوى الله تعالى.

 


[1] البقرة : 187

[2] الحج : 28

[3] الكافي ج 4 ص 549 باب اتباع الحج بالزيارة

[4] ال عمران : 97

[5] الكافي ج4 ص 369 باب المحصور والمصدود

[6] راجع التبيان ومجمع البيان والميزان وغيرها

[7] راجع كتاب الحج ج5 ص 424

[8] التوبة : 5

[9] تسنيم ج 10 ص 36

[10] كتاب الحج ج 5 ص 424

[11] الكافي ج 4 ص 358

[12] تهذيب الاحكام ج 5 ص 333

[13] الكافي ج 4 ص 249 باب حج النبي صلى الله عليه وآله وسلم

[14] الكافي ج 4 ص 358 باب العلاج للمحرم

[15] الكافي ج 3 ص 510 باب ما وضع رسول الله صلى الله عليه واله الزكاة عليه

[16] وسائل الشيعة ج 14 ص 179 باب 46 من ابواب الذبح ح4

[17] المصدر السابق ح3

[18] تهذيب الاحكام ج 5 ص 224 باب الذبح

[19] القصص : 23

[20] المحكم والمحيط الاعظم ج 8 ص 284

[21] النساء : 3

[22] وسائل الشيعة ج 14 ص 181 باب 42 من ابواب الذبح

[23] تهذيب الاحكام ج 5 ص 23 باب ضروب الحج

[24] البقرة : 24

[25] الرعد : 34

[26] الكافي ج4 ص 246 باب حج النبي صلى الله عليه واله وسلم

[27] التفسير الحديث ج 8 ص 82

[28] صحيح البخاري ج 2 ص 152 باب التمتع

[29] صحيح مسلم ج 4 ص 49 باب جواز التمتع

[30] السنن الكبرى للبيهقي ج 7 ص 206

[31] مسند احمد ج1 ص 52

[32] مسند احمد ج2 ص 325

[33] سنن النسائي ج 5 ص 153وج 2 ص 249

[34] البداية والنهاية ج 5 ص 146

[35] المبسوط ج 4 ص 27

[36] المغني ج7 ص 572

[37] الشرح الكبير ج 7 ص 537

[38] بداية المجتهد ج 1 ص 268

[39] كنز العمال ج 16 ص 519

[40] وسائل الشيعة ج 11 ص 271 باب 11 من ابواب اقسام الحج

[41] وسائل الشيعة ج 12 ص 464 باب 32 من ابواب تروك الاحرام