مكتب سماحة السيد مرتضى المهري

لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ ...

يبدو ان بعض الناس قبل الاسلام وبعده كانوا يتحرجون من التجارة في الحج ويعتبرونها مخالفة لقصد التوجه الى الله تعالى مع ان التجمع البشري كان مناسبا للاسترزاق ولتبادل البضائع المختلفة التي تأتي من البلاد ولكنهم كانوا يرون ذلك مخالفا لكرامة الحج وبقي هذا الامر مؤثرا في المجتمع الاسلامي فأراد الله تعالى بهذه الجملة رفع الحرج عنهم في ذلك.

والجناح في الاصل الميل والانحراف. ومنه قوله تعالى (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا)[1] والجناح: الاثم لانه انحراف عن الحق اي ليس عليكم اثم في البيع والتجارة في الحج. ولكنه لم يعبر بالبيع والتجارة بل عبر بابتغاء الفضل من ربكم لكي يكون الانسان حتى في طلبه للدنيا وللمال متوجها الى ربه وطالبا منه الرزق ومعتبرا ذلك فضلا منه لا ناتجا من كسب يده ومن بذل جهده خلافا لمن يقول (اوتيته على علم عندي).

ومثل هذا التعبير عن الاسترزاق ورد في موارد عديدة من القرآن الكريم كقوله تعالى (وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ..)[2] وقوله (رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ..)[3] وقوله (وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ..)[4] وقوله (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ..)[5] وقوله (وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ..)[6] وغيرها من الايات.

وهذا يدل على اهتمام القرآن بترسيخ هذه الفكرة في نفوس البشر لان التوجه الى الله تعالى في كل الشؤون من أهمّ الامور التربوية للانسان حتى لا يغفل عن حضوره تعالى ولا يشعر بالاستغناء عن فضله وعنايته.

والفضل بمعنى الزيادة ويطلق على كل ما يعطى لاحد زائدا على حقه فاذا استأجرت أجيرا ودفعت له اجرته وزدته على ذلك شيئا فهو فضل منك وحيث ان الله تعالى لا يستحق احد عليه شيئا فكل ما يؤتيه أحدا فهو فضل منه تعالى.

وفي مجمع البيان (وقيل: لا جناح عليكم أن تطلبوا المغفرة من ربكم رواه جابر عن أبي جعفر عليه السلام). ولم نجد الرواية في مصادر الحديث وهو تأويل بعيد من حيث المعنى اذ لا موجب لتوهم الجناح في طلب المغفرة.

 

فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198)

الافاضة افعال من الفيض والاصل فيه الكثرة كما في العين ويطلق على جريان الماء بكثرة فكأن التعبير عن سير الناس من عرفات الى المشعر ومنه الى منى بالافاضة تشبيه لهم بالسيل لكثرتهم. والظاهر ان المفعول محذوف اي افضتم انفسكم كما في الكشاف ومثله الافاضة في الحديث.

وهذه الجملة تدل على وجوب الوقوف في عرفات وأن جميع الحجاج يجب ان يكونوا هناك الى ان يفيضوا منها لان الافاضة تدل على الحركة الجماعية ليصح تشبيهها بالسيل.

وعرفات وعرفة منطقة حول الحرم المكي بحيث يقع اول جزء منها بعد الحرم مباشرة وهو نمرة وحدودها معلمة واضحة وقد بني مسجد نمرة في المنطقة يقع جزء منه في الحرم وجزء في عرفات واول اعمال الحج بعد الاحرام الوقوف في عرفات اي البقاء هناك من زوال يوم عرفة اي التاسع من ذي الحجة الى الغروب. 

وعرفات هنا بالتنوين فهو منصرف ووقع البحث في بعض التفاسير وغيرها عن وجه ذلك مع ان بها التانيث والتعريف فيجب ان يكون غير منصرف وحاول في الكشاف الجواب عنه ونحن لا نهتم بقواعد النحو فانها هي المأخوذة من كلام العرب لا العكس والتعبير القرآني اقوى دليل على انه منصرف.

ومن ابحاثهم وجه تسمية المكان بعرفات فاختلقوا له وجوها غريبة وقيل انه اسم مرتجل ولا يبعد ان يكون الوجه فيه كونه مكانا مرتفعا فانه واد بين مجموعة جبال وفي كتاب العين ان عرفات جبل ويعبر عن كل مرتفع بالعرف كما في الصحاح ولعله من جهة معرفته عن بعد ومنه عرف الديك وعرف الفرس.

والظاهر أن الغرض من هذه الآية الامر بالوقوف في المشعر فلعل بعضهم كانوا يفيضون من عرفات الى منى من دون توقف في المشعر. وقيل ان قريشا ما كانوا يقفون في عرفات لانها خارج الحرم ويعتبرون ذلك حكما خاصا بهم لانهم اهل الحرم فلا يقفون خارجه والآية تنبه على ما هو الصحيح من النسك. 

والمشعر اول الحرم من هذه الجهة ويسمى ايضا بالمزدلفة وبجمع والمشعر مأخوذ من الشعار بمعنى العلامة ومنها ما كانوا يجعلونه في الحرب شعارا لقومهم يتنادون به لاعلام اصحابهم. ومن هنا تسمى المشعر ومنى وعرفات مشاعر لان هذه الاماكن من شعائر الله اي العلامات التي وضعها الله تعالى لعبادته وجعل لها نسكا.

وتوصيف المشعر بالحرام من جهة انه من الحرم فيحرم فيه الصيد وقطع النبات واقامة الحد والقصاص. وقيل ان المشعر اسم جبل هناك ولذلك قال (عند المشعر الحرام) ولم يقل فيه وقيل ايضا ان الجبل يسمى (قزح) وسميت المنطقة بالمزدلفة لان الناس يجتمعون فيها كما يبدو من صحيحة معاوية بن عمار عن أبي عبد الله عليه السلام قال (إنما سميت مزدلفة لأنهم ازدلفوا إليها من عرفات). بناءا على ان المراد يجتمعون اليها.

ولكن في كتاب العين انها سميت بالمزدلفة لان الناس يقتربون فيها من منى فيكون من الزُّلْفة بمعنى القرب. وكذا ورد في بعض كتب اللغة المتاخرة عنه. ويؤيد الاول تسميته بجمع لان الناس يجتمعون فيه.

والذكر المأمور به في المشعر يشمل الصلاة وغيرها فلا وجه للقول بأن المراد خصوص الصلاة وانه اشارة الى وجوب او رجحان تأخير المغرب والعشاء ليجمع بينهما في المشعر وان كان ذلك سنة وورد في الروايات ولكن الآية لا تختص بالصلاة.

وحكى الالوسي عن بعضهم الاستدلال على اختصاص الذكر بصلاة العشاءين بأن ظاهر الأمر للوجوب ولا ذكر واجب عند المشعر الحرام إلا الصلاة. ولكن هذا الدليل لا يقتضي التخصيص اذ لا مانع من وجوب الذكر هناك.

  وقوله (واذكروه كما هداكم) عطف على الجملة السابقة والغرض منها الحث على الذكر هناك والتأكيد عليه والكاف للتشبيه والمعروف ان المراد به تشبيه ذكره بهدايته للناس فيكون ذكركم من العظمة والاخلاص والكثرة وكل ما يتحلى به الذكر من الصفات بمكان قريب من هدايته لكم وذلك لان الهداية اعظم نعم الله تعالى فلا بد ان يكون ذكركم عظيما بنفس المنزلة.

هكذا ورد في التفاسير غالبا ولكنه بعيد جدا فلا يستطيع احد ان يمتثل هذا الامر وكيف يمكن ان يكون ذكرنا من العظمة بمكانة عظمة الهداية الالهية.

فاولى منه ما قاله بعضهم بان الكاف وان كانت للتشبيه الا انها هنا تفيد التعليل اي لانه هداكم ومثله كثير كقوله تعالى (وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا..).[7] وبناءا على هذا الاحتمال فالوجه في التعليل بالهداية انها اعظم نعمه تعالى ولذلك لم يقل كما رزقكم او خلقكم او نحوها من النعم.

ويمكن ان يقال ان المراد بالاية هدايته تعالى في كيفية الذكر فالمعنى اذكروه بالطريقة التي علمكم في اداء ذكره كالصلاة والادعية والاذكار الواردة في الكتاب والسنة. ولم يذكر هذا الوجه في التفاسير.

و(ان) في قوله وان كنتم مخففة من المشددة واسمها ضمير الشأن والجملة خبرها. والمعنى انه تعالى هداكم وكنتم بالتأكيد قبل ان يهديكم لمن الضالين واللام لام القسم ويؤكد المضمون مرة اخرى لانهم في الواقع كانوا في غاية الضلال قبل هدايته تعالى بالرسالة المجيدة.

 

ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199)

ظاهر الآية ان المراد الافاضة من المشعر لانه عطف الجملة بـ (ثم) مما يدل على التراخي فيكون المراد افاضة اخرى بعد الافاضة من عرفات الى المشعر وهي الافاضة منه الى منى.

ولكن المعروف في التفاسير أن المراد لزوم كون الافاضة من عرفات لا من المشعر بمعنى ان يقف الحجاج في عرفات اولا ثم في المشعر والغرض منه منع ما كانت قريش تفعله بدعوى انهم من الحُمس اي المتحمسين والمتشددين في الدين وانهم اهل الحرم فلا يجوز ان يقفوا خارج الحرم فكانوا يقفون يوم عرفة في المشعر خلافا لسائر الناس ويفيضون منه فنهاهم الله تعالى وامر الحجاج جميعا ان يفيضوا كما كان سائر الناس يفيضون الى منى اي من عرفات الى المشعر ثم الى منى وان لا يفعلوا كما فعلت قريش في الجاهلية.

ووردت روايات في كتب الفريقين تدل على هذا الامر فاستند المفسرون اليها في تفسير الاية وبقي الكلام في معنى التراخي المستفاد من (ثم) والامر فيه سهل لامكان حمله على التراخي في الذكر والسر في الاتيان بالتراخي ان هذا هو الصحيح وما تفعله قريش من عدم الوقوف في عرفات باطل.

وذهب بعض المفسرين الى ان هناك تقديما وتاخيرا في الاية وان القياس ان يقال (ليس عليكم جناح ان تبتغوا فضلا من ربكم ثم افيضوا من حيث افاض الناس فاذا افضتم من عرفات...) وهو كلام غريب وتصرف غريب في الاية ولا تلائم المقصود ايضا وقد نسب ذلك في التبيان ومجمع البيان الى رواياتنا.

ومما يدل على اصل القصة صحيحة معاوية بن عمار الطويلة عن ابي عبد الله عليه السلام وهي تحكي قصة حج الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وفيها (...فكانت قريش تفيض من المزدلفة وهي جمع ويمنعون الناس أن يفيضوا منها فأقبل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقريش ترجو أن تكون إفاضته من حيث كانوا يفيضون فأنزل الله على نبيه صلى الله عليه وآله وسلم (ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا الله) يعني إبراهيم وإسماعيل وإسحاق عليهم السلام في إفاضتهم منها ومن كان بعدهم فلما رأت قريش أنّ قبة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد مضت كأنه دخل في أنفسهم شيء للذي كانوا يرجون من الإفاضة من مكانهم حتى انتهوا إلى نمرة وهي بطن عرنة بحيال الأراك فضربت قبته وضرب الناس أخبيتهم عندها فلما زالت الشمس خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومعه قريش..) الحديث. [8]  

وروى العياشي ايضا في تفسيره عدة روايات مرسلة في هذا المعنى.

ولكن الروايات لا تدل على ان المراد بالامر في الاية الافاضة من عرفات ليحتاج الى تأويل التراخي او القول بالتقديم والتاخير فلا مانع من ان يكون المراد بالامر الافاضة من المشعر كما يظهر من العطف بـ (ثم) وهذا التراخي بنفسه يدل على أن إفاضة المشعر يجب ان تكون بعد الافاضة من عرفات مضافا الى التقييد بكون الافاضة من حيث افاض الناس.

ثم امر بالاستغفار فالمكان انسب مكان للاستغفار والرجوع الى الله تعالى وطلب الحاجات والغفران اهم حاجة للمؤمن. ولعل في الامر به اشارة الى ان ما فعلته قريش اثم تجب التوبة منه.

 

فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا ...

(قضى) يأتي لازما ومتعديا فالمتعدي بمعنى أنهى والمناسك جمع منسك وهو مصدر كالنسك بمعنى العبادة اي فاذا أنهيتم وأكملتم أعمال الحج الخاصة بمنى فاذكروا الله.. وانما اختصت بمنى لان المفروض أن الاعمال تقع بعد الافاضة من المشعر والوصول الى منى والاعمال هي رمي جمرة العقبة والذبح ثم الحلق او التقصير.

امر الله هنا بأن يشتغل الحاج في منى بذكره تعالى فالمقام مقام التوجه الى الله تعالى وذكره والذكر خلاف النسيان وهو يكون بالقلب وباللسان فالمؤمن ينبغي ان يكون متوجها الى الله تعالى في جميع احواله ويذكر الله بلسانه في مختلف الاحوال ففي مثل هذا المقام ينبغي الاكثار من ذكره تعالى باللسان.

والوجه في تشبيه ذكره تعالى بذكر الآباء أنهم كانوا يجتمعون في منى ويذكرون آباءهم ويتفاخرون بأمجادهم فهذا التشبيه تعريض بهم وتنديد بعملهم لأن الصحيح هو الاكثار من ذكر الله في هذا المقام لا ذكر الآباء والتفاخر بهم.

وقد وردت الاشارة الى هذا الامر في صحيحة منصور بن حازم عن أبي عبد الله عليه السلام (في قول الله عز وجل "واذكروا الله في أيام معدودات" قال: هي أيام التشريق كانوا إذا أقاموا بمنى بعد النحر تفاخروا فقال الرجل منهم: كان أبي يفعل كذا وكذا فقال الله جل ثناؤه "فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا".. الحديث).[9]

وليس المراد ان يجمعوا بين ذكر الله تعالى وذكر الآباء كما ربما يتوهم من التشبيه بل هو - كما قلنا - تعريض بهم وتنديد بعملهم والقصد من التشبيه انكم كما تتحمسون لذكر آباءكم يجب ان تهتموا بذكر الله تعالى بل يجب ان يكون اهتمامكم به اكثر لانه خالقكم ورازقكم وهو المنعم عليكم وعلى آبائكم ولان المكان مقام ذكره تعالى لا التبجح بمفاخر الآباء حتى لو كانوا من الاخيار وهو المراد بقوله تعالى (او اشد ذكرا).

والاشدية قد تكون من جهة الكمية فالمراد ان يذكروا الله تعالى اكثر مما كانوا يذكرون آباءهم فلا يختص ذكره تعالى بموطن دون موطن ويوم دون يوم وقد تكون من جهة الكيفية فذكر الآباء بذكر ما يظنونه من مفاخرهم وذكره تعالى بالتسبيح والتحميد والتهليل والصلاة والدعاء والخشوع.

وتقدير العبارة فاذكروا الله ذكرا كذكركم آباءكم او كونوا أشدّ ذكرا و(آباءكم) مفعول لقوله (ذكركم) وهو مصدر مضاف الى فاعله و(ذكرا) تمييز لقوله (أشدّ). و(أو) للاضراب فهي بمعنى (بل) وليس للترديد او التخيير كما في قوله تعالى (وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ).[10]   

ويمكن ان يكون الذكر اشارة الى ما ورد في الاخبار من التكبير بعد عدة صلوات ففي صحيحة معاوية بن عمار عن أبي عبد الله عليه السلام قال (التكبير أيام التشريق من صلاة الظهر يوم النحر إلى صلاة العصر (وفي نسخة الى صلاة الفجر) من آخر أيام التشريق إن أنت أقمت بمنى وإن أنت خرجت فليس عليك التكبير والتكبير أن تقول: الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر الله أكبر ولله الحمد الله أكبر على ما هدانا الله أكبر على ما رزقنا من بهيمة الأنعام والحمد لله على ما أبلانا).[11]

 

فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ (200)

الكلام هنا في أن المراد بالناس هل ما يشمل الكفار والمشركين وأنهم هم الذين لا يطلبون من الله الا الدنيا وما لهم في الآخرة من خلاق أم أن المراد تقسيم المسلمين الى القسمين فان طلب الدنيا لا يختص بالكفار بل من المسلمين والمؤمنين ايضا من هو كذلك؟

اختار العلامة الطباطبائي قدس سره القول الاول كما ورد في تفاسير اخرى ايضا واستدل على ذلك بأن الناس يشمل الجميع كما استدل عليه بعض اخر[12] بان الاية نزلت قبل منع المشركين من الحج قالوا: والمسلم مهما بلغ من الغفلة لا يهمل امر الاخرة فالمراد بهم المشركون لانهم ينكرون الاخرة.

ولكن ظاهر الفاء في اول الجملة ان التفصيل متفرع على الامر بالذكر في الجملة السابقة والامر متوجه الى الذين قضوا مناسكهم وهم المؤمنون المطيعون واما المشركون فلا يقضون المناسك كما وردت في الشريعة فالظاهر أن المراد بالقسمين المؤمنون بالله واليوم الاخر من عامة الناس وهم ليسوا على وتيرة واحدة فنجد كثيرا من الناس لا يهمهم في دعائهم وتضرعهم الا شؤون الدنيا ولا يطلبون من الله في مظان الاجابة الا الشفاء والمال والخلاص من السجن واداء الدين وسائر ما يشتهون من الزواج والولد وغير ذلك.

وحيث ان هذا القسم من الناس لا يهمهم الا الدنيا فلم يذكر في الآية مورد طلبهم من الدنيا وانما ذكر من دعائهم (ربنا آتنا في الدنيا) فهم لا يطلبون الامر الحسن والصالح كما في القسم الثاني ولا يهمهم ان يكون ما يحصلون عليه حلالا ام حراما وانما يريدون الدنيا فحسب ويريدون كل ما يمكن تحصيله من شؤونها من دون قيد وشرط.

ولذلك نجد ان من يصل اليه الخبر بانه سينال مالا كثيرا او يحصل على ملك وسلطة عن طريق من يخبر عن الغيب بسبب حقيقي او وهمي فانه يفرح ويبتهج بالخبر من دون ان يتحقق عن شرعية هذا المال او السلطة.

وجملة (وما له في الاخرة من خلاق) تعقيب من الله تعالى والخلاق هو النصيب من الخير وهو مأخوذ من الخلق بمعنى التقدير فيحتمل ان يكون المعنى انه حيث لم يطلب الاخرة فليس له نصيب فيها ويحتمل ان المراد انه ليس له نصيب من طلب الخير في الاخرة ولعله لذلك قال في العين (هذا رجل ليس له خلاق اي ليس له رغبة في الخير ولا في الاخرة..).    

 

وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201)

يعلمنا الله تعالى كيف ينبغي ان يكون الدعاء خصوصا في مواضع الاستجابة كما في الحج. فالخطاب الافضل ان تقول (ربنا) فالرب هو المالك المصلح لمملوكه او هو المربي لمربوبه وهذا التعبير يجعلنا نتقبل ما يفعله بنا لانه هو الاصلح لنا. والدعاء لا يؤثر في الله تعالى شيئا وانما يؤثر فينا ويجعل الداعي صالحا لنزول رحمته.

و(آتنا) افعال من الاتيان وهو المجيء فمعناه طلب ان يجعل الله المقصود تأتيك. ويرجع المعنى الى الاعطاء فالامر كله بيده.

وهذا هو دعاء المؤمنين الصالحين حيث يطلبون من الله تعالى حسنة في الدنيا وحسنة في الاخرة ولا يقتصر همهم على الدنيا.

واختلف المفسرون في المراد بالحسنة لانها نكرة في سياق الطلب فتنطبق على كل امر حسن ولا يشمل جميع الحسنات فقيل: المراد نعيم الدنيا ونعيم الآخرة. وقيل: العلم والعبادة في الدنيا والجنة في الآخرة. وقيل: هي المال في الدنيا والجنة في الآخرة. وقيل غير ذلك.

وفي مجمع البيان (روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: من أوتي قلبا شاكرا ولسانا ذاكرا وزوجة مؤمنة تعينه على أمر دنياه وأخراه فقد أوتي في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة ووقي عذاب النار).

وروى الكليني بسند معتبر عن جميل بن صالح عن أبي عبد الله عليه السلام في قول الله عز وجل "ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة": رضوان الله والجنة في الآخرة والمعاش وحسن الخلق في الدنيا).[13]

والظاهر ان كل ما ذكر من باب ذكر المصاديق. والقصد من الرواية ان الانسان اذا اوتي هذه النعم فقد اوتي الحسنة كما ورد التصريح بهذا المعنى في الحديث النبوي لو صح السند ولكن يبقى الكلام في سبب الاتيان بالنكرة مع انها تنطبق حتى على نعمة واحدة وقد ورد في بعض التفاسير[14] تقدير موصوف للحسنة وهو (نعمة).

واذا اردنا تقدير موصوف لها فالاولى ان يكون التقدير حياة حسنة فيكون المطلوب للانسان المؤمن حياة حسنة في الدنيا وحياة حسنة في الاخرة ولكن عدم التقدير لعله اولى بمعنى ان المؤمن يطلب من ربه ان يرزقه حسنة كما يشاء ويوكل الامر اليه وهو الكريم والغني والقادر والحكيم فاذا اوكل اليه الامر بصدق وايمان فان الله تعالى يعطيه من كل شيء ما هو حسن له ومناسب لحاله.

ومن الملفت للانتباه أنه تعالى لم يذكر قسما من الناس لا يريدون الدنيا ويقصرون طلبهم ودعاءهم على الاخرة ولعله للتنبيه على ان من يؤمن بالله تعالى يطلب كل شيء منه فهو حي في هذه الدنيا وللحياة مقومات فاذا لم يطلب من الله حاجاته في الدنيا فهو لا يؤمن بالله تعالى ولا يراه مؤثرا في الكون وانما يستند الى العوامل الطبيعية.

و(قنا عذاب النار) اي احفظنا من عذابها و(ق) فعل امر من وقى.

 

أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (202)

اولئك اشارة الى المؤمنين بالله الذين يدعونه لكل شؤونهم في الدنيا والاخرة. والنصيب هو الحظ والمراد حظهم من ثواب الآخرة لانه هو المختص بهم اما النصيب مما كسبوا في الدنيا فهو للجميع كما قال تعالى (كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا)[15] فالمرادهنا بيان الفرق بين الفريقين بان الاول لا خلاق لهم في الآخرة وهؤلاء لهم نصيب من ثوابها.

وهناك من يظن أن (من) في الاية للتبعيض فلا يمكن ان يكون المراد من النصيب حظهم من ثواب الاخرة لان الله تعالى يجازيهم على ما كسبوا اضعافا مضاعفة فلا بد من حمل النصيب على حظهم في الدنيا.[16]

ولكن الصحيح ان المراد نصيبهم من ثواب الاخرة بسبب كسبهم و(من) تعليلية والغرض من ذلك التنبيه على أن السبب في ثوابهم في الاخرة ليس هو الدعاء بل العمل الصالح الذي اكتسبوه ولكن بعضهم[17] حمل الكسب على الطلب ليوافق الدعاء.

واما قوله تعالى (والله سريع الحساب) فالظاهر انه يعود الى الامرين ولا وجه لتخصيصه بالفريق الثاني كما قيل[18] بل هناك موارد عديدة ورد فيها هذا التعقيب بعد الاشارة الى جزاء الكفار كقوله تعالى (وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ).[19]

والمراد ان اعطاء النصيب في الدنيا والاخرة لمن يعمل لهما يتم بسرعة بل فورا. والحساب مصدر بمعنى العدّ فان اريد به هذا المعنى فان محاسبته تعالى لاعمال الانسان لا تتوقف على مقدمات فان كل اعماله مسجلة عليه وهو تعالى عالم بكل صغيرة وكبيرة ولا يخفى عليه شيء ولهذا فان محاسبته تتم فورا بمجرد ارادته تعالى كسائر ما يريده (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ).[20]

ويمكن ان يراد بالحساب هنا المجازاة لانها تترتب على العدّ ويدل عليه قوله تعالى (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ)[21] ومعنى وفاه اي اعطاه.

ومجازاة الله تعالى تترتب على الشيء فور تحققه اما في الدنيا فيرى الانسان نتيجة عمله فورا ولا يمكن ان تتخلف النتيجة او تتاخر لانها معلول طبيعي لعمله فبمجرد ان تتم اجزاء العلة تتحقق المعلول واما في العمل للاخرة فترتب الثواب والعقاب فوري ايضا الا انه لا يراه الا بعد موته لانه محجوب عن رؤيته.    

 

وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ ...

المراد بالايام المعدودات ايام التشريق كما ورد في روايات الفريقين ففي صحيحة محمد بن مسلم قال (سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قول الله عز وجل "واذكروا الله في أيام معدودات" قال: التكبير في أيام التشريق صلاة الظهر من يوم النحر إلى صلاة الفجر من يوم الثالث وفي الأمصار عشر صلوات فإذا نفر بعد الأولى أمسك أهل الأمصار ومن أقام بمنى فصلى بها الظهر والعصر فليكبر).[22]

والايام المعدودات تختلف حسب بعض الروايات عن الايام المعلومات الواردة في قوله تعالى (لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ..)[23] وفي بعضها انها واحدة.

روى الصدوق قدس سره بسنده عن حماد بن عيسى عن أبي عبد الله عليه السلام قال سمعته يقول (قال علي عليه السلام في قول الله عز وجل "ويذكروا اسم الله في أيام معلومات" قال: أيام العشر). والمراد بها العشرة الاولى من ذي الحجة.

وروى عن أبي الصباح عن أبي عبد الله عليه السلام (في قول الله عز وجل "ويذكروا اسم الله في أيام معلومات" قال هي أيام التشريق).

وروى عن زيد الشحام عن أبي عبد الله عليه السلام في قول الله عز وجل "واذكروا الله في أيام معدودات" قال (المعلومات والمعدودات واحدة وهي أيام التشريق).[24]

وايام التشريق ثلاثة ايام بعد يوم النحر وهو يوم عيد الاضحى وسميت بذلك لانهم كانوا يشرقون اللحم للشمس لتجف ويسمونه القديد.

والمراد بالامر بالذكر في الاية البقاء هذه الايام في منى والعمل بواجباتها وهي الرمي نهارا والبيتوتة ليلا ولكن الله تعالى لا يذكر تفاصيل الاحكام وانما ينبه على أهم شيء في جميع المواضع وهو ذكره تعالى لان كل العبادات انما يؤتى بها للتقرب اليه ولتحصيل رضاه فكلها بمنزلة الذكر او مع الذكر وروح العبادة هو ذكر الله تعالى وهو لا يذكر تفاصيل الاحكام لان ذلك وظيفة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم حتى في الصلاة وهو اهم العبادات لم يذكر شيئا من احكامها في القران وانما اهتم بالامر باقامتها.

فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى ...

المعروف في تفسير الاية ان الذي يتقي المحرمات او خصوص محرمات الاحرام او بعضها فهو مخير بين ان يخرج من منى في اليوم الثاني عشر فيكون قد تعجل في يومين اي بقي في منى بعد النحر يومين فقط او يتأخر ويبقى الايام الثلاثة فمعنى كونه لا اثم عليه في الحالتين كونه مخيرا بين الامرين ان اتقى المحرمات وان ارتكب بعض المحرمات فيجب التاخر اي البقاء في اليوم الثالث عشر فيبيت ليلته ويرمي نهاره.

وهذا التفصيل وارد في عدة من الروايات مع تعيين ان المراد الاتقاء من الصيد واضيف اليه في بعضها الاتقاء من النساء وتفصيل البحث عنه في الفقه.

ولكن بعض الروايات تدل على أن المراد بعدم الاثم ان الله تعالى يغفر لكل حاج ما تقدم من ذنوبه سواء تعجل في النفر ام تأخر ان كان متقيا.

ففي رواية عبد الاعلى قال (قال أبو عبد الله عليه السلام كان أبي يقول من أمّ هذا البيت حاجا أو معتمرا مبرءا من الكبر رجع من ذنوبه كهيئة يوم ولدته أمه ثم قرأ "فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه لمن اتقى" قلت ما الكبر؟ قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إن أعظم الكبر غمص الخلق وسفه الحق قلت ما غمص الخلق وسفه الحق؟ قال يجهل الحق ويطعن على أهله ومن فعل ذلك نازع الله رداءه).[25]

وفي صحيحة الحلبي عن أبي عبد الله عليه السلام (في قول الله عز وجل "الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج" فقال إن الله عز وجل اشترط على الناس شرطا وشرط لهم شرطا قلت فما الذي اشترط عليهم وما الذي اشترط لهم؟ فقال أما الذي اشترط عليهم فإنه قال "الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج" وأما ما شرط لهم فإنه قال "فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه لمن اتقى" قال: يرجع لا ذنب له.. الحديث).[26]

وبناءا على هذا التفسير فنفي الاثم في الآية في صورتي التعجيل والتأخير وان كان يدل على التخيير بينهما الا ان الاتقاء ليس قيدا لجواز التعجيل بل هو قيد لنفي الاثم عنه بما انه حاج. والاتقاء مطلق يدل على ان القيد هو مطلق التقوى في الحج وغيره وهو قيد لنفي الاثم عنه وحاصله ان الحاج يرجع الى اهله مغفورا له جميع ذنوبه ان كان متقيا ولا فرق في ذلك بين التعجيل والتاخير وكأن هناك توهما بان من يتعجل في النفر فلا يشمله الغفران.

 

وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (203)

وحيث ورد ذكر التقوى امر بالتقوى بوجه عام لكي ينتبه الانسان انه ليس حرا طليقا يفعل ما يشاء فالله تعالى للظالمين والفاسقين بالمرصاد ويجب ان يعلم الانسان انه لا يبقى في هذه الدنيا وليس اخر منازله الموت فهو محشور الى الله تعالى ومحاسب امامه بكل صغيرة وكبيرة وهو سريع الحساب وشديد العقاب فلا يغرّنّه ما يراه في الدنيا من الامهال ومن النعم الوفيرة فان الله تعالى يمهل ولا يهمل وليتق ربه في كل كلمة يقولها فانه قال (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ).[27]

 


[1] الانفال : 61

[2] الاسراء : 12

[3] الاسراء : 66

[4] القصص : 73

[5] الجمعة : 10

[6] المزمل : 20

[7] البقرة : 167

[8] وسائل الشيعة ج 11 ص 216 باب 2 من ابواب اقسام الحج

[9] الكافي ج 4 ص 517 باب التكبير ايام التشريق

[10] الصافات : 147

[11] الكافي ج 4 ص 517 باب التكبير ايام التشريق

[12] التحرير والتنوير ج 2 ص 247

[13] الكافي ج 5 ص 71 باب الاستعانة بالدنيا على الاخرة

[14] آلاء الرحمن

[15] الاسراء : 20

[16] المنار ج2 ص 193

[17] التحرير والتنوير ج 2 ص 249

[18] تسنيم ج 10 ص 176

[19] ال عمران : 19

[20] يس : 82

[21] النور : 39

[22] الكافي ج 4 ص 516 باب التكبير ايام التشريق

[23] الحج : 28

[24] معاني الاخبار ص 297

[25] الكافي ج 4 ص 252 باب فضل الحج والعمرة

[26] الكافي ج 4 ص 337 باب ما ينبغي تركه للمحرم

[27] ق : 18