وَمِـنَ النَّاسِ مَـنْ يُعْجِبُـكَ قَـوْلُـهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِـدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُـوَ أَلَدُّ الْخِصَـامِ (204)
المعروف في مثل هذا التعبير ان (من الناس) خبر مقدم و(من يعجبك) مبتدأ مؤخر مع أن الغرض ليس بيان ان هذا النوع من الانسان هو من الناس بل الغرض ان بعض الناس هذه صفتهم فالصحيح الذي لا يعترف به احد من علماء العربية هو أن (من الناس) مبتدأ و(من) وان كان حرف جر الا انه بمعنى بعض.
والاية تنبه على أمر مهم في حقيقة الانسان وهو أنه ينطوي على نفس معقدة ولذلك لا يعرفه من حوله حق المعرفة وأن الانسان يمكنه ان يخفي نواياه عن جميع الناس فترى بعض الناس بظاهر حسن يظهر منه التقوى وحسن النية والصلاح وهو في باطنه خبيث غادر ماكر.
وكثيرا ما يظن الانسان بنفسه انه قوي في معرفة الناس وخبايا انفسهم او انه يتمكن من معرفتهم بمجرد التحدث اليهم ولكنه يخطئ في ذلك والتاريخ مليء بالحوادث الناتجة من هذا الخطأ. والسر فيه هو ما اشرنا اليه من ان الانسان يمتلك نفسا معقدة يصعب جدا معرفة اسرارها.
والاعجاب بمعنى الاستحسان وهو مأخوذ من العَجَب ومعناه اعم من الاستحسان فقد يعجب الانسان من امر قبيح والاصل فيه استكبار الامر – كما في معجم المقاييس – اي استعظامه سواء كان حسنا ام قبيحا ولكن الاعجاب لا يستعمل الا في الاستحسان.
والخطاب فيه لكل قارئ وسامع ولا يختص بالرسول صلى الله عليه وآله وسلم فالامر ليس من شؤون الرسالة ولا الولاية. والمعنى واضح فهناك من الناس من يتكلم بطريقة توجب الاستحسان والاعجاب عن حبه واخلاصه لك وهو في الواقع عدو لدود بل ألدّ الأعداء.
وقوله تعالى (في الحياة الدنيا) متعلق بقوله (يعجبك) والمراد أن هذا الامر يختص بهذه الحياة اما يوم القيامة فالبواطن تظهر للجميع ولا يمكن اخفاؤها.
وهناك احتمال ان يكون متعلقا بقوله (قوله) بمعنى انه اذا تكلم عن الحياة الدنيا يعجبك قوله لكونه عارفا بشؤونها اما اذا تكلم عن الدين وعن الاخرة فانه لا يعلم عنهما شيئا فيتكلم بما لا يعجب السامعين.
وهذا النوع من الناس كثير بل ربما اكثرهم من هذا القبيل كما قال تعالى (يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ)[1] بل المؤمنون ايضا اكثرهم من هذا القبيل لا يعلمون عن الدين وعن حقائقه الا القليل.
ولكن حمل الاية على هذا المعنى يخرجها عن سياقها ولا يناسب سائر الاوصاف المذكورة من اشهاد الله على ما في قلبه ومن كونه الد الخصام وما في الاية التالية.
والاستشهاد بالله تعالى امر خطير جدا وربما يكون اشد من اليمين الغموس اي الحلف بالله كاذبا لان الحلف بالله انشاء من نفسه يربط صحة كلامه بعظمة الخالق اما الذي يشهد الله على ما في قلبه فانه يدعي ان الله تعالى يشهد على صدقه وصحة دعواه فهو يفتري على الله تعالى فيشمله قوله (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا..).[2]
و(ألدّ) تفضيل من اللدود بمعنى شديد الخصومة وجمعه (لُدّ) ولعل اصله من التلدد وهو الالتفات بصفحة العنق يمينا وشمالا واللديدان صفحتا العنق كأن الانسان شديد الخصومة يرفض كل اقتراح للوئام فيتلفت بعنقه رافضا اي موافقة. والخصام جمع خصم وهو المنازع للانسان وقيل الخصام مصدر فلا بد من تقدير اي الد في الخصام ولكن الظاهر انه جمع كبحر وبحار وكلب وكلاب.
وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ 205
هذه الآية تبين أن الرجل ينطق بكلام معسول ولكنه في مقام العمل يظهر حقده الدفين والتولي قد يكون بمعنى الذهاب اي بعد ان يتركك ويذهب الى سبيله ويغيب عنك وقد يكون بمعنى الولاية والقدرة وهو الانسب بالسياق والاوصاف اي اذا تسلط على الناس وتمكن من رقابهم فانه يسعى ليفسد في الارض.
والسعي: المشي السريع فهو لا يفسد ببطء بل يسرع في الفساد. وقوله (ليفسد فيها) اي في الارض معناه ان فساده لا يختص بمكان دون مكان فهو يفسد في كل مكان يتسلط عليه.
وقوله (ويهلك الحرث والنسل) عطف تفسير على الظاهر فهذا هو فساده في مرحلة العمل. والاهلاك: الاتلاف والابادة. والحرث: الزرع. والنسل: الولد. وهذا غاية العداء ان يتلف الزرع بدلا من ان ينتفع به ولو غصبا ويقتل الاطفال. فلو كان يقاتل ويقتل المحاربين لامكن توجيهه ولكنه يقتل النسل. ولعل ذكر الحرث والنسل من باب المثال فربما يخرب البيوت او المصانع او يقتل النساء والعجزة.
وفي بعض التفاسير[3] ان المراد بالنسل نسل الماشية. ولكن لا موجب لهذا التأويل وان صدق النسل عليه ولكن لا خصوصية في صغار الماشية فمن الفساد قتل الحيوانات التي يستفيد منها الانسان بشتى انواعها وهذا يدخل ضمن الحرث بناءا على التعميم الذي ذكرنا وانما ذكر المفسرون ذلك ليطبقوا الاية على الاخنس بن شريق لما ورد في بعض الروايات من انه غدر بثقيف واهلك الحرث والماشية.
وقوله (والله لا يحب الفساد) تحذير من عقابه تعالى لان عدم حبه بمعنى انه لا يرضى به لعباده ويكرهه فيعاقب عليه. والفساد خلاف الصلاح. والله تعالى خلق كل شيء بحيث يكون بطبيعته صالحا للاستخدام. والفساد خلاف هذه الحالة. والمراد بالفساد هنا الافساد قال الازهري في تهذيب اللغة (يقال افسد فلان المال يفسده افسادا وفسادا).
وأشكل الامر على بعضهم من جهة أن الفساد موجود في الطبيعة فهو من خلق الله تعالى فالحرث يتلف بنفسه والحيوان يهلك والانسان يموت فكيف لا يحب الله الفساد مع أنه من فعله تعالى في كثير من الموارد بل اكثرها؟! واجيب بأن ما يفعله الله تعالى اصلاح وليس افسادا كما ان ذبح الحيوان لاكل لحمه لا يعد افسادا وهو واضح.
وقال العلامة الطباطبائي قدس سره ما ملخصه (ان المراد ليس هو الفساد التكويني فإن النشأة نشأة الكون والفساد وعالم التنازع في البقاء ولا كون إلا بفساد ولا حياة إلا بموت وهما متعانقان في هذا الوجود الطبيعي في النشأة الطبيعية وحاشا ان يبغض الله سبحانه ما هو مقدره وقاضيه وانما هو الفساد المتعلق بالتشريع فإن الله انما شرع ما شرعه من الدين ليصلح به اعمال عباده فيصلح أخلاقهم وملكات نفوسهم فهذا الذي يخالف ظاهر قوله باطن قلبه إذا سعى في الأرض بالفساد فإنما يفسد بما ظاهره الاصلاح بتحريف الكلمة عن موضعها وتغيير حكم الله عما هو عليه والتصرف في التعاليم الدينية بما يؤدي إلى فساد الأخلاق واختلاف الكلمة وفي ذلك موت الدين وفناء الانسانية وفساد الدنيا...).
ولكن من الواضح ان قوله تعالى (والله لا يحب الفساد) ناظر الى نفس الفساد الذي يرتكبه هذا الانسان والذي ذكره تعالى بقوله (ليفسد فيها) والا لم يكن وجه للتعقيب والعلامة رحمه الله صرح بان قوله (ويهلك الحرث والنسل) بيان لذلك الافساد فالمراد بالفساد هنا ايضا هو الفساد التكويني الا ان الاشكال نشأ من توهم أن الفساد امر آخر غير الافساد وقد مرّ أنه بمعنى الافساد لغة وان كان اكثر كتب اللغة لا يظهر منها ذلك.
وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ (206)
من خصائص هذا المنافق انه لا يقبل النصح ولا ينزجر بالنهي فاذا قيل له اتق الله واتق عذابه وغضبه اعتز باثمه. والعزة: الصلابة والشدة. ومعنى اخذته العزة اي عرضته كما يقال اخذته الرعدة او الحمية اي عرضت على نفسه العزة والشدة والانفة.
والباء للسببية اي تصلب في موقفه بسبب اثمه فالانسان ربما يتصلب في موقفه بسبب قدرته كما اذا كان حاكما وقد يتصلب بسبب قوته الجسمية اعتمادا على عضلاته وانه لا يتمكن احد من منعه وقد يتصلب بسبب نفس الاثم والعمل القبيح الذي فعله فهو يرفض ان يعتبره خطأً بل يصر على انه من حقه.
و(حسب) اسم بمعنى الكفاية اي تكفيه جهنم. وهذه الجملة ردّ على توهم بعض الناس ان مثل هذا المجرم لا ينال جزاءه فهو يظلم الناس ويقتل وينشر الفساد ولا ينزجر بالنهي ولا يقدر عليه احد فيتالم المظلوم بل جميع الناس ويقهرهم الغضب ولا يجدون من ينتقم منه ويشفي صدورهم فالله تعالى يبشرهم بأن له ما يكفيه من الجزاء عن كل ما فعل وهو جهنم.
والناس غالبا يستقلون جهنم ويظنون ان الانتقام لا يكون الا في الدنيا ولا يعلمون ما هي جهنم وكيف تكون جزاءا وفاقا لكل الظلمة والعتاة مهما كثر شرهم وطالت شرارتهم والله تعالى عالم بعباده وعالم بما خلق وهو يعلم ان جهنم تكفي لكل ما فعلوه جزاءا وانتقاما فلتهدأ النفوس الثائرة.
وفي هذا الاختصار في التحذير والتهديد احتقار له حيث استكبر وتجبر واعتز باثمه فالجواب (فحسبه جهنم). والمهاد الفراش المهيأ للراحة ومنه مهد الصبي فيستهزئ به الله ان جهنم مهاد له ولبئس المهاد.
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (207)
وهذا نوع اخر من الناس ذكره الله تعالى باختصار ليفيد انه يوجد في المجتمع من هذا القبيل ايضا ولكنه نادر جدا حيث انه انسان يبيع نفسه طلبا لمرضاة الله فحسب لا يريد لنفسه ثمنا حتى الجنة وانما يطلب رضوان الله تعالى.
و(شرى) بمعنى باع والاشتراء مطاوعته وربما استعمل الشراء في الاشتراء ولكنه هنا بمعنى البيع قطعا لانه ذكر الثمن وهو مرضاة الله وابتغاء مفعول لاجله ومعناه الطلب. ولكن العامة رووا انها نزلت في صهيب حيث دفع ماله للمشركين وانقذ نفسه فيكون الشراء بمعنى الاشتراء.
وهو بعيد جدا اذ ليس في شراء نفسه بالمال طلب لمرضاة الله تعالى بل هو طلب للبقاء حيا وكل انسان يفدي نفسه بالمال.
وهناك روايات في بعض كتبنا تدل على انها نزلت بشأن امير المؤمنين عليه السلام ليلة الهجرة حيث بات على فراش رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وفداه بنفسه والروايات ضعيفة ولكن لا شك أنه عليه السلام هو المصداق الاكمل للاية لا في تلك الليلة فحسب بل في كل حياته المشحونة بالتضحية في سبيل اعلاء كلمة الدين.
ولعل تعقيب الامر بقوله (والله رؤوف بالعباد) للاشارة الى ان وجود امثال هؤلاء في المجتمع من رأفته تعالى بالعباد.
يَا أَيُّهَا الَّـذِينَ آمَنُوا ادْخُـلُوا فِي السِّـلْمِ كَـافَّـةً وَلَا تَتَّبِـعُوا خُطُـوَاتِ الشَّيْــطَانِ إِنَّـهُ لَكُمْ عَـدُوٌّ مُبِيـنٌ (208)
الآية واضحة ولكن مُني التفسير بوجه عام بالروايات الغريبة التي تخالف معنى الاية وهنا ايضا وردت الروايات وتبعها المفسرون وأولوا معنى الاية بما يخالف ظاهرها بل صريحها فقد رووا عدة روايات في أن الاية نزلت خطابا لبعض اليهود الذين اسلموا وان الاية تدعوهم الى الدخول في الاسلام بجميع احكامه.
منها ما رواه الطبري عن عكرمة (قوله "ادخلوا في السلم كافة" قال: نزلت في ثعلبة وعبد الله بن سلام وابن يامين وأسد وأسَيْد ابني كعب وسَعْيَة بن عمرو وقيس بن زيد - كلهم من يهود - قالوا: يا رسول الله يوم السبت يومٌ كنا نعظمه فدعنا فلنُسبِت فيه! وإن التوراة كتاب الله فدعنا فلنقم بها بالليل! فنزلت: يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ولا تتبعوا خطوات الشيطان).[4]
ومن هنا ذهب اكثر المفسرين أن المراد بالسلم الاسلام وأن المراد بقوله (كافة) اي في جميع احكامه وشرائعه. مع أن السلم بفتح السين وكسرها في اللغة بمعنى الصلح. ولو اراد هذا المعنى لقال اعملوا بالاسلام ولا يناسب هذا الطلب التعبير بالدخول في السلم.
وقوله (كافة) مصدر بمعنى اسم الفاعل كالعافية والعاقبة وحال من الذين آمنوا وهي بمعنى (جميعا) فهذا تأكيد لدخول جميع المؤمنين في الصلح. ومثل هذه الآية قوله تعالى (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا..).[5] وغيرها من الايات التي تدعو الى السلم.
وقال بعضهم[6] ان السلم بمعنى التسليم اي ادخلوا في التسليم لامر الله كافة وهو ايضا ليس من معاني السلم وان كان هذا القول اقرب الى الواقع من التفسير المشهور.
والحاصل أن المراد بالاية هو ما يظهر منها بوضوح وهو الدعوة الى الصلح واجتناب التفرق والاختلاف ولكن يجب ان يتبين ما هو المراد من الدعوة الى الاتحاد وعدم التفرق. فالذي يحصل من ملاحظة الايات ان الله تعالى لا يدعو الى وحدة المذاهب والافكار فهذا امر لا يمكن تحقيقه ولم تكن في عصر النزول مذاهب مختلفة بل يدعو – والله العالم - الى امرين:
الاول التمسك بحبل الله والاتحاد تحت رايته فليس الاتحاد بذاته مطلوبا بل اذا اتحد الناس تحت راية الباطل فالمطلوب هو الاختلاف والانبياء جاءوا ليوجدوا الاختلاف في صفوف البشر قال تعالى (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ).[7] وهو الظاهر من قوله تعالى بعد آيتين (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ..).
والرسول الكريم صلى الله عليه وآله وسلم بعث فدعا الناس الى الدين واصبح الاولاد يحاربون آباءهم والاخ يقاتل اخاه. وانما المطلوب الاتحاد بالاعتصام بحبل الله وهو يتم في عصر الرسالة بالتسليم التام لاوامر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وبعده يتعين حبل الله تعالى في من عينه اماما ووليا على الناس من بعده.
الثاني: نبذ الاختلافات العنصرية والقبلية والشخصية التي تثير المشاحنات والحروب في صفوف المؤمنين واما الاختلاف المذهبي فلم يكن موجودا انذاك وما حدث بعد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يدخل ضمن الامر الاول ومع ذلك فيجب على جميع المسلمين ان ينبذوا الخلافات الطائفية ايضا في مواجهة اعداء المسلمين.
ومع الاسف نجد بعضهم اليوم يصالحون اعدى اعداء الاسلام ويعادون المسلمين بادنى ذريعة تبرر لهم المعاداة حسب معتقدهم. وهذه من خطوات الشيطان التي منع الله تعالى من اتباعها.
والخطوة - كما في الجمهرة - المسافة بين القدمين في المشي. والتعبير يوحي بأن الشيطان يتقدم للتاثير على الانسان بالمشي خطوات ولا يهجم عليه مرة واحدة فعلى الانسان ان يكون يقظا في مقابله ومهتما بامر دينه.
ويمكن تفسير الخطوة بآثار المشي على الارض فمتابعة خطوات الشيطان بمعنى السير على آثاره فهو يترك اثرا لمن يريد ان يتبعه للوصول الى الاهداف الخبيثة التي يريدها لحزبه. ويمكن ان تكون الخطوات كناية عن اساليبه وخدعه.
وعلل المنع عن متابعة خطواته بانه عدو مبين اي واضح العداء لا يمكن تبرير متابعته فكل انسان يشعر بأن الشيطان هو عدوه اللدود منذ بدء الخليقة وانما الخطأ ينشأ من اشتباه آثار سيره بآثار اخرى فيتوهم الانسان انه لا يتبع الشيطان بل يتبع من يجوز الاقتداء به من الهداة المهديين.
فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (209)
الزلل: الدحض والانزلاق والاسترسال من غير قصد. والمراد به هنا الانحراف عن الخط الذي رسمه الله تعالى. وانما عبر بالزلل مع ان الانحراف واضح ومقصود للاشارة الى ان اقل انحراف عن هذا الخط يوجب غضب الله تعالى وعذابه فكيف بما صنع القوم؟!!
والبينات هي الحجج الموجودة في القرآن والسنة. ولم يحدد الحكم بالعلم به بل بمجيء البينات ووصولها الى الناس فلا عذر للجاهل وعليه ان يبحث عما هو وظيفته.
وهذا تحذير من الله تعالى لمن يخالف الامر بالدخول في السلم ويتبع خطوات الشيطان وتبين مما مر كيف يتم ذلك وما هو مجال لزوم الاتحاد.
وتبين أن المقصود الاول هو التجمع تحت لواء التوحيد والرسالة والولاية وعدم الانحراف عنه وهذا هو اساس الوحدة الاسلامية وقد قالت السيدة الزهراء سلام الله عليها في خطبتها امام الصحابة وفي مسجد النبي صلى الله عليه وآله وسلم (فجعل الله الايمان تطهيرا لكم من الشرك... وطاعتنا نظاما للملة وإمامتنا أمانا من الفرقة..)[8] ومع بقاء الاختلاف المذهبي فالمطلوب في الدرجة الثانية الصلح والهدنة الى ان يأتي امر الله وهذا لمصلحة الدنيا ولا علاقة له بالآخرة.
وقوله (فاعلموا) جواب الشرط وهو كناية عن العذاب والا فالامر معلوم سواء زلوا ام لم يزلوا فالمراد أنكم ان زللتم فاعلموا أن عذاب الله ينزل عليكم وهو العزيز الحكيم فالتنبيه على الوصفين للتحذير من العذاب.
والعزيز من لا يؤثر فيه شيء والحكيم الذي لا يفعل جزافا بل لحكمة ومصلحة. ومعنى التحذير أن الله تعالى يجازي من ينحرف عن المسار الصحيح الذي رسمه الله تعالى بعد ما جاءته البينات والحجج ولا يمنعه من ذلك ايمانكم وصحبتكم للرسول صلى الله عليه وآله وسلم ولا يؤثر فيه تضرع احد ولا شفاعة احد واذا تأخر العذاب فانما هو لحكمة.
وسيأتي الاستشهاد بما فعل بنو اسرائيل وما حلّ بهم من العذاب مع كل ما كان لهم من خصائص لكي ينتبه المسلمون ولا يتشبثوا بأعذار واهية.
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (210)
هل ينظرون اي هل ينتظرون؟ والاستفهام انكاري اي لا ينتظرون غير ذلك بمعنى انه لا يوجد امر يتوقعونه الا ذلك. والواقع انهم لا يتوقعون هذا الامر ولا ينتظرونه ولكن الغرض الاشارة الى ان الامر الذي ينبغي ان يتوقعوه ويحذروا منه هو هذا.
وقد ورد مثله في موارد عديدة في الكتاب العزيز كقوله تعالى (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ).[9]
والقائلون بأن المراد بالسلم في الآية السابقة هو الاسلام وان الخطاب لليهود الذين امنوا يرون ان هذه الاية تثير استغرابا من عدم ايمانهم الكامل بالدين وأنهم هل ينتظرون ان ياتيهم الله والملائكة حتى يؤمنوا...
ولكن الظاهر أن الاية اكمال للتحذير الوارد في ذيل الاية السابقة وأن المنافقين الذين لا يدخلون في السلم ويريدون تفريق صفوف المؤمنين ولا يعتصمون بحبل الله الذي جعله بينهم اساسا للوحدة هل ينتظرون العذاب في الدنيا او ينتظرون الحساب والعقاب يوم القيامة؟
ويظهر ذلك بوضوح من قوله )وقضي الامر( الدال على هلاكهم او إنهاء حسابهم مضافا الى ان الذي ينتظر حجة واضحة لكي يؤمن كما في التفسير الاول فلماذا ينتظر ان يرى الله في الغمام بل المفروض ان يطلب رؤية الله جهرة.
ويلاحظ ان الايتين السابقتين كانتا خطابا للجماعة ومسبوقا بقوله (يا ايها الذين امنوا..) ولكن في هذه الاية عدل عن الخطاب الى الضمير الغائب (هل ينظرون) وفي ذلك تحقير لهم بانهم لا يستحقون الخطاب.
والظلل جمع ظلة وهي - على ما في الجمهرة - ما استظللت به من شيء شجرة اوغيرها وفي تهذيب اللغة انها الجبال والسحاب. والغمام ايضا السحاب وعليه فـ (من) بيانية. والغمم في الاصل بمعنى التغطية والاطباق على ما في معجم المقاييس. ويطلق على السحاب لانه يغطي ضوء الشمس ولعله يختص بما اذا كانت السماء مطبقة او كانت السحابة سوداء. وفي بعض التفاسير[10] انه يطلق على السحاب الابيض ولم اجده في كتب اللغة وليس له وجه واضح.
والغمام او السحاب القاتم ليس دائما علامة على رحمة من الله تعالى ومطر نافع للناس بل ربما يكون عذابا مهلكا حتى المطر ايضا ربما يجر سيلا جارفا وقد قال تعالى بشأن قوم عاد (فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ * تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ).[11]
والمفسرون في الغالب فسروا الاية بان المراد نزول العذاب في الدنيا والعلامة الطباطبائي قدس سره تبعا للروايات ذكر احتمال ان يكون المراد يوم ظهور الامام المهدي عليه السلام ويوم الرجعة ويوم القيامة وذكر بحثا مفصلا في احتمال ان يكون مجموع الايام الثلاثة مرحلة واحدة من التكوين.
ولكن الروايات التي اشار اليها ضعيفة ومرسلة وافضل ما ورد منها ما رواه الصدوق قدس سره عن ابن فضال قال (سألت الرضا عليه السلام عن قول الله عز وجل (كلا انهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون).. – الى ان يقول -: وسألته عن قول الله عز وجل (هل ينظرون الا ان يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة) قال: يقول: هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله بالملائكة في ظلل من الغمام وهكذا نزلت... الحديث).[12]
والسند ضعيف ولفظ الرواية ربما يدل على اختلاف القراءة وان اوله العلامة بان المراد تفسير الاية وليس من قبيل القراءة ولكنه صريح في انها هكذا نزلت. مع ان حمل الاية بالقراءة المشهورة على هذا المعنى بعيد جدا. وقيل ان في قراءة ابي بن كعب[13] ياتيهم الله والملائكة في ظلل من الغمام. فيكون (في ظلل..) خاصا بالملائكة.
ومهما كان فالذي يقتضيه التامل في الاية انها ناظرة الى يوم القيامة وذلك بملاحظة عطف الملائكة على اسم الجلالة في القراءة المشهورة وشمول قوله (في ظلل من الغمام) لهما كما هو الظاهر وقوله (وقضي الامر والى الله ترجع الامور).
ولعل المراد بالظلل والغمام الاشارة الى انهم يشعرون بوجوده تعالى يوم القيامة كما يشعر الانسان بوجود الشمس خلف الغمام القاتم لانه تعالى لا يرى بالعين ولكن الانسان يشعر به في تلك النشأة باقوى ادراك كأنه يراه بالعين والظاهر انه المراد ايضا من قوله تعالى (وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا).[14] كما أنه يرتبط بالملائكة في ذلك العالم ارتباطا مباشرا مع انهم في سماء التمنع ومقتضى العطف أن الملائكة ايضا في ظلل من الغمام.
وقد ورد مثل ذلك في قوله تعالى (وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا).[15] وليس المراد ان الملائكة ينزلون من مكان مرتفع بل المراد على الظاهر ان العالم العلوي ينفطر ويتشقق بحيث يمكن للانسان ان يرتبط بالملائكة ويكلمهم ويسمع كلامهم فهم ينزلون من سماء التمنع الى الاختلاط بالانسان والتحدث معه.
ونحن الان في هذه النشأة لا يمكننا ذلك مع ان الملائكة يملأون الكون عرضا وطولا ولكنهم ليسوا اجساما فلا نراهم ولا نسمع لهم حسا ويوم القيامة يحدث تغيير في الكون فالانسان يتغير والسماء تنفطر ويحدث هذا الارتباط بيننا وبينهم. والحاصل ان السماء باقية ولكنها متشققة ولا تمنع من الارتباط والمراد بالسماء عالم الملائكة.
وهذا الامر وارد في موارد عديدة منها ايضا قوله تعالى (وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ * وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا..)[16] والوهي: الاسترخاء والضعف. وقوله (وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا)[17] وقوله (فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ)[18] فكونها كالوردة تشبيه لحالة التشقق والانفراج. وقوله تعالى (يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ)[19] والمهل: النحاس الذائب.
والكلام هنا في التعبير بالاتيان واسناده الى الله تعالى مع انه من حالات الجسم وقد ورد مثله في ايات اخرى ايضا منها الاية الانفة الذكر (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ..) ومنها قوله تعالى (وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا)[20] وفي تأويله حسب الاختلاف في تفسير الاية وجوه:
الوجه الاول: ان المقدر وجاء امر ربك.. وياتيهم امر ربك.. ويستشهد له بقوله تعالى (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ..).[21] وبناءا عليه فالمعنى يأتيهم امر ربك بالعذاب في ظلل من الغمام.
ولكنه لا يصح في مثل اية سورة الانعام لانه عطف عليه (او ياتي بعض ايات ربك) فان كان المقدر في الجملة الاولى (امر ربك) فالظاهر انه متحد مع بعض ايات ربك فلا بد من التفريق بينهما.
الوجه الثاني: ان يكون المقدر مفعول الاتيان اما بنفسه نظير قوله تعالى (قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ)[22] او مع حرف الجر كما في قوله تعالى (وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ..).[23] فيمكن ان يكون المقدر هنا ياتيهم الله بعذاب في ظلل من الغمام. ومثل هذا التقدير في قوله تعالى (فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ..)[24] اي بعذاب.
الوجه الثالث: ان يكون الاتيان والمجيء مجازا وهو مستعمل في كثير من المحاورات تقول اتانا فلان من جهة السلم والصلح لا المناجزة والقتال وهو لم يأت وانما اقترح الصلح على الخصم. فيمكن ان يكون المعنى في الاية ان الله تعالى ياتيهم من جهة المحاسبة والتنكيل وربما يظهر ذلك من قوله في ظلل من الغمام بناءا على دلالته على العذاب.
ويمكن ان يكون الاتيان في سورة الحشر ايضا من هذا القبيل فلا حاجة الى تقدير كلمة (بعذاب) او غيرها فالمعنى ان الله تعالى عاملهم بطريقة لم يكونوا يتوقعونها.
الوجه الرابع وهو خاص بالتفسير الذي نرى انه الاوفق بالسياق: ان يكون المراد الاتيان والمجيء حقيقة بمعنى انهم يشعرون بوجوده تعالى بوضوح كانهم يرونه باعينهم بل ربما يكون هذا الاحساس اقوى من الرؤية بالعين فان الانسان بعد الموت والخلاص من قيود الطبيعة يشعر بوجوده تعالى شعورا اقوى من الرؤية ولا شك ان البصر كثيرا ما يخطئ ولكن الانسان اذا تخلى عن جسمه وعن الطبيعة فانه يدرك الحقائق بتمام وجوده.
ومثل ذلك نشعر به في هذه النشأة بالنسبة الى انفسنا فالانسان يدرك نفسه بتمام وجوده ادراكا مباشرا حتى لو لم يبصر ولم تكن له حاسة اللمس.
ومن هنا يعبر عن الموت بانه لقاء الله ولعل هذا هو المقصود من قوله تعالى (مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ..)[25] وهو في تلك النشأة يرى كل شيء ويدرك الاشياء ادراكا حضوريا لان الغطاء رفع عنه كما قال تعالى (لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ).[26]
وميزة الانسان على الملائكة هي أنه يؤمن بالله من دون حضور ولقاء وقبل رفع الغطاء فان الملائكة عند الله كما قال تعالى (إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ)[27] فهم ليسوا مقيدين بقيود الطبيعة والمادة ولكن الانسان يبلغ من الكمال مرتبة الايمان بالغيب فيؤمن بالله كأنه يراه وهو محبوس في الطبيعة لا يشعر بشيء الا من خلالها.
والاحساس بوجوده تعالى في هذه النشأة بحيث يكون كالرؤية بالعين ربما يحصل للاوحدي من الناس كامير المؤمنين عليه السلام حيث قال على ما روي عنه (لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا)[28] ولكنه يحصل ايضا في حالات نادرة لعامة الناس الا انه اذا كان في لحظة نزول العذاب والاحساس بقهره تعالى فلا ينفع الانسان كما قال (يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا..).[29]
ولذلك لم ينتفع فرعون بايمانه حين راى العذاب كما قال تعالى (حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ * آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ).[30]
ومعنى قوله تعالى (وقضي الامر) انتهاؤه وهذه الجملة وردت في موارد نزول العذاب في الدنيا ايضا كقوله تعالى (وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)[31] ومن موارد ذكره يوم القيامة قوله تعالى (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ).[32] والقرائن كما قلنا تدل على ان المراد هنا يوم القيامة.
والى الله ترجع الامور. يمكن ان يكون المراد بالامور في خصوص المقام العباد واعمالهم فهم يرجعون الى الله يوم القيامة لمحاسبتهم على اعمالهم.
ويمكن ان يكون المراد رجوع كل الامور دائما اليه تعالى فهو المبدأ وهو المنتهى كما قال تعالى (وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى)[33] والمراد انتساب كل الامور في كينونتها وبقائها وتدبيرها اليه تعالى فهو الموجد لكل شيء والمبقي له ومدبر جميع اموره فاليه ينتهي كل شيء ويشمل هذا المعنى مصير العباد وأعمالهم اليه تعالى يوم القيامة.
ومثله قوله تعالى (وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ)[34] وقوله تعالى (أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ)[35] ولعل التعبير بالامور بدلا من الاشياء ليشمل الشؤون والاعمال وغيرها. وتقديم الجار والمجرور يفيد الحصر اي ان الامور لا ترجع الا اليه تعالى فالامور ترجع الى من منه ابتدأ الوجود. ولعل الاتيان بالفعل مبنيا للمجهول (تُرجع الامور) كما هو الحال في سائر موارد هذه الجملة للاشارة الى ان رجوع الامور اليه تعالى انما هو بالقهر والغلبة.
[1] الروم : 7
[2] الانعام : 21
[3] المنار والتحرير والتنوير
[4] جامع البيان ج 4 ص 255
[5] ال عمران : 103
[6] في ظلال القران
[7] النمل : 45
[8] بحار الانوار ج 29 ص 223 والخطبة مروية في مصادر عديدة
[9] الانعام : 158
[10] كتفسير ابي السعود وفتح القدير والالوسي
[11] الاحقاف : 24 - 25
[12] عيون اخبار الرضا عليه السلام ج 1 ص 115
[13] تفسير الطبري ج 4 ص 261
[14] الفجر : 22
[15] الفرقان : 25
[16] الحاقة : 16 - 17
[17] النبأ: 19
[18] الرحمن: 37
[19] المعارج: 8
[20] الفجر : 22
[21] النحل : 33
[22] النحل : 26
[23] الحجر : 64
[24] الحشر : 2
[25] العنكبوت : 5
[26] ق : 22
[27] الاعراف : 206
[28] الجملة مشهورة عنه عليه السلام تكاد تكون مستفيضة ويرويها العامة والخاصة ووردت في الاشعار كقصيدة البوصيري ولكني لم اجده في مصادر الحديث الاصلية وهي مروية في كتب كثيرة منها الالفين للعلامة الحلي ص 126 ومناقب ابن شهراشوب ج 1 ص 317 وتفسير الرازي ج 31 ص 379 وتفسير ابي السعود ج 1 ص 56 وتفسير الالوسي ج 3 ص 27 وامتاع الاسماع للمقريزي ج 4 ص 208
[29] الانعام : 158
[30] يونس : 90 - 91
[31] هود : 44
[32] مريم : 39
[33] النجم: 42
[34] هود: 123
[35] الشورى: 53