يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ...
(يا) حرف نداء و(ايّ) اسم مبهم يضاف الى اسم الجنس ليميّزه كما تقول أيّ انسان. ويؤتى به للفصل بين حرف النداء والمنادى اذا كان مع الالف واللام. و(ها) يقال انها اداة تنبيه يؤتى بها عوضا عن اضافة أيّ الى اسم الجنس. وهناك وجوه اخرى لبيان هذا التركيب. وقد تقدّم الكلام حول كلمة (الناس) في تفسير الآية 8 من هذه السورة.
وهذه المجموعة من الآيات تأتي في سياق الاستنتاج من الاختلاف الموجود في الناس بعد نزول القرآن لهدايتهم حيث تمسّك به قسم منهم فاهتدى. ورفضه بل حاربه قسم منهم بكل صراحة وصلافة وهم الكفار. واخذه بعضهم على مضض ولم يهتدوا به الا سريعا كما يستضاء بالبرق الخاطف وهم المنافقون.
فهذا وعظ من الله تعالى يخوّف الناس ويحذّرهم من متابعة الفريقين ويعلّمهم كيف يتوقّون الدخول في تلك الفرق الخاسرة فيدعوهم الى عبادته تعالى والتمسك بكتابه ليسعدوا ومن هنا كان الخطاب لكل الناس. ولذلك ايضا تبدّل السياق من الكلام عنهم غيابا الى الخطاب ليكون أبلغ في التأثير في نفوسهم.
والتفاسير اهتمّت هنا ببيان وجه التوحيد في العبادة وأنه لا ينبغي للانسان ان يعبد إلها غير الله تعالى وهو موضوع مهم وهو اول ما كان الانبياء عليهم السلام يدعون اليه في أداء رسالتهم كما يلاحظ ذلك فيما ورد من خطابهم لاقوامهم في موارد عديدة من الكتاب العزيز ومنها ما في سورة الاعراف من قصصهم فان اول جملة كانوا يلقون على الناس حسبما ورد في القرآن قوله تعالى (يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ) وقد تكرّر ذلك في اربعة آيات من السورة المباركة.[1]
ولكن ينبغي ان يبحث اولا عن وجه الامر بالعبادة نفسها فان بعض الناس يستنكفون عن اصل العبادة ويرون أن كرامة الانسان هي الاهم وهي تقتضي ان لا يعبد شيئا وان لا يتبع قانونا يفرض عليه مهما كان مصدره فاول ما يجب البحث عنه السبب في الامر بالعبادة بذاتها فان مصبّ الاهتمام في هذه الآية هو اصل العبادة لا التوحيد فيها.
وعبادة الله تعالى هي الغاية من الخلق كما قال (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)[2] وقد ذكرنا في تفسيرها وجه الاهتمام بعبادته تعالى. والعبادة كما ذكرنا في تفسير سورة الفاتحة تشمل الطاعة المطلقة والطقوس الدينية الخاصة لان معناها غاية التذلل والخضوع.
والرب كما ذكرنا هناك ايضا إمّا بمعنى المالك للشيء المصلح له او ماخوذ من (ربي) بتبديل الياء باءا فيكون بمعنى المربي. وذكر عنوان الرب يوحي بان سبب الامر هو أن عبادة الله تعالى جزء من التربية الصالحة ومما يصلح شأن الانسان في الدنيا والآخرة ويهيّئه ليدخل جنة القرب لديه تعالى وهو الغاية في مسير الكمال البشري.
ووُصِف الرب في الآية الكريمة بصفات تستدعي ربوبيته وعبودية الانسان:
فأوّل صفة منها انه هو الخالق والموجد لكم. والخلق هو الايجاد قال في العين (الخالق: الصانع وخلقت الاديم: قدّرته) والاديم: الجلد. قال الازهري في التهذيب (العرب تقول: خلقت الأديم اذا قدّرته وقسته لتقطع منه مزادة او قربة او خفّا).
ولكن في معجم المقاييس لم يذكر من معاني الخلق الصنع بل اكتفى بالتقدير ولعل السبب اعتماده على العين وحيث كان ما ورد فيه من قوله (الخالق: الصانع) غير موجود في بعض النسخ لم يذكره ابن فارس ولعل نسخته خلت منه.
وفي المفردات (اصله التقدير المستقيم ويستعمل في إبداع الشيء من غير أصل ولا احتذاء) ونقل في تهذيب اللغة عن ابن الانباري قوله (الخلق في كلام العرب على ضربين: أحدهما الانشاء على مثال أبدعه والآخر التقدير).
ولكن الظاهر أنه لا يختص بالابداع اذ يطلق على خلق شيء من شيء ايضا كما هو حال الخلائق عامّة وهي كلها من خلق الله تعالى وليس في كلها إبداع. وكثير ممّا ورد في القرآن بهذا المعنى كقوله تعالى (يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ..).[3] اذ من الواضح أن هذا الخلق يتبع العوامل الطبيعية.
وربما يستدل بقوله تعالى (أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ)[4] على ان الخلق خاص بالله تعالى وحيث ان الذي يخصه هو الابداع فالخلق بمعنى الابداع.
ولكن الاستشهاد بالآية ليس في موضعه لانها واردة في الردّ على عبادة الاصنام وعلى توهّم أنّها أنداد لله تعالى فاجابهم بان الذي لا يخلق اي الاصنام كيف يشبّهون بمن يخلق؟!
وابتدأ في ذكر النعم بالخلق لانه اصل النعم فلا معنى للانعام قبله ولا معنى للتربية والاصلاح بدونه. وهناك من الناس من لا يشعر بأنّ في خلقه منّة عليه وربما يقول بعضهم لو كنت موضع استشارة لرفضت ان اُخلق.
والجواب عنه أنه تعالى خلقك ليرحمك ولينعم عليك ولتبلغ غاية كمالك وهو القرب لديه كما قال تعالى (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ)[5] والمخلوق لا يستشار في خلقه وليس له من الامر شيء وهو غير موجود ليُطلب رأيه والله تعالى لا يُسأل عن فعله ولا يستشير أحدا فكون الخلق لمصلحة انما هو شأن من شؤون الربوبية.
وتوصيف الرب بانه خلقكم تعليل للعبادة واحتراز ايضا من سائر اطلاقات الرب فانه يطلق على رب البيت ورب السفينة ونحوهما.
واما توصيفه تعالى بكونه خالقا للذين من قبلكم فلعلّه استدلال على وحدة الرب لان البشر يشعر بأنّ خالق البشر واحد ولو اختلف لاختلف المخلوق واختلفت شؤونه بحسب الخلقة وبحسب التدبير الربوبي وهو لم يختلف طيلة القرون الا ما تقتضيه تطوّره في الجسم وفي الحضارة فملاحظة تاريخ البشرية تدلّ بوضوح على أنّ ربّ كل أبناء البشر واحد لان خالقهم واحد.
ويتبين بذلك ايضا أنّ إدارة الكون بما فيه شؤون الانسان طيلة التاريخ البشري إدارة واحدة متناسقة لا تتدخلها إرادة ربّ آخر، والا لاختلّ النظام ولتغيّر الوضع الطبيعي. وانما خص بالذكر ملاحظة شؤون البشر في تاريخ الكون بلحاظ أنّ تاريخهم تـتناقله الاجيال ومن الممكن ملاحظته والتامل فيه. ويعبّر تناسق النظم في الكون عن وحدة الربوبية.
و(لعلّ) في قوله تعالى (لعلّكم تتقون) ليس للترجّي كما يتوهّم ليمتنع إسناده الى الله تعالى بل معناه أنّ هذا الامر يهيّء الارضية الصالحة لحصول التقوى. وهكذا غيره من موارد استعمال هذا اللفظ في القرآن وإسناده الى الله. مثلا قوله تعالى (فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى)[6] بمعنى ان اللين في الخطاب يهيّء الارضية الصالحة لإيمانه وتسليمه وليس معناه انه تعالى يتوقّع ذلك كما يتراءى لانه تعالى كان يعلم بانه لن يؤمن وانما اراد إتمام الحجة عليه وعلى اتباعه.
وللمفسرين وجوه لتوجيه هذا التعبير المتكرر في القرآن الكريم:
فقيل ان هذه الكلمة منسلخة عن معناها الحقيقي وأنها في تعبير القرآن بمعنى الحتمية.
وهذا مع أنه لا دليل عليه مخالف للواقع فان كثيرا من الذين يعبدون الله تعالى لا يتقونه حق التقوى كما أن فرعون لم يتذكر مع أن موسى عليه السلام قال له قولا ليّنا وهكذا في سائر الموارد.
وقيل انها بمعنى (كي) اي انها تفيد التعليل فحسب. فان اريد بذلك أنها تفيد ذلك مطلقا فهو الوجه الذي ذكرناه وان اريد انها في كلامه تعالى تفيده فهذا ايضا بمعنى انسلاخ الكلمة عن معناها في القرآن.
وقيل معناه ترجّي المخاطبين فقوله (لعله يتذكر او يخشى) يراد به أنهما يجب ان يكونا راجين هدايته ليقدما على تحذيره وان كان الله تعالى يعلم انه لا يهتدي وفي هذه الآيات المطلوب عبادة الله تعالى مع رجاء حصول التقوى لدى العابد.
ولكن هذا الوجه لو صحّ فانه غير مطّرد فيما ورد مترتبا على فعله تعالى كقوله (ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ)[7] فالعفو وإيتاء الكتاب مما يتوقع منهما الشكر والهداية بمعنى تهيئة الجو ولا معنى للرجاء هنا لا من الله تعالى وهو فاعل العفو والايتاء ولا المخاطبين لانه ليس من فعلهم. ومثله كثير.
واختلف كلام المفسرين في ان قوله تعالى (لعلكم تتّقون) متعلق بقوله (اعبدوا) ام بقوله (خلقكم) والعلامة الطباطبائي رحمه الله رجّح الاحتمال الاول ولكنه قال ان المعنى يصح على كلا التقديرين.
وهو الصحيح اذ لو قلنا انه يعود الى العبادة فمعناه ان العبادة تحقق التقوى وهي الغاية وان قلنا انه يعود الى الخلق فمعنى الاية اعبدوا الذي خلقكم من اجل التقوى وحيث ان هذا التقييد في الموصول اي كون الخلق من اجل التقوى جزء من علة الامر بالعبادة فمعناه ايضا ان العبادة تحقق التقوى التي هي الهدف من الخلق.
وعليه فيحدث هنا سؤال وهو أن مقتضى الآية ان تكون العبادة وسيلة لحصول التّقوى مع أنّ الأمر بالعكس والانسان لا يعبد الا اذا اتقى الله تعالى فالتقوى سبب للعبادة. مضافا الى أنّ قوله تعالى (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)[8] يدل على ان العبادة هي الغاية من الخلق وهذا ينافي ان تكون العبادة وسيلة لامر اخر ويكون هو الغاية من الخلق.
ومن هنا ذهب بعضهم الى ان المراد بالتقوى الحفظ من عذاب الله فمعنى الاية اعبدوا ربكم لعلكم تحفظون انفسكم من العذاب.
وهو خلاف الظاهر كما هو واضح.
وذهب اخرون الى أنّ معنى (اعبدوا ربكم) اي لا تعبدوا غيره لان المخاطب في الآية هم عرب الجزيرة المعترفون بالله تعالى وبأنّه خالق الكون وانما كانوا يشركون في عبادته تعالى فيعبدون الاصنام والآية تنهاهم عن عبادة غيره لعلّهم يصلون الى التقوى وهي غاية الكمال البشري.
وهذا أبعد منه ولو كان هذا هو المقصود لكان الاولى ان يقول لا تشركوا بالله خصوصا بملاحظة أنّ الخطاب للناس وليس للمشركين.
ويمكن ان يجاب عن السؤال بأنّ الآية تهدف الى تعليم الانسان الطريق الذي يصل به الى مرحلة كونه من المتقين الذين ورد ذكرهم في أوّل السورة وأنّ القرآن هداية لهم وهذه مرحلة متكاملة من التقوى تحصل بتعميق العبادة وتوسعتها والدقة فيها وبذل غاية الجهد في الاخلاص فيها وفي التوجه الى الله الذي هو روح العبادة.
فالتقوى لها مراحل وهي في بعض مراحله سبب للعبادة ويكفي فيها مجرد الخوف من عذاب الله بل حتى رجاء زيادة الرزق ونحوها ويترتب على هذه المرحلة من التقوى هذه العبادات الساذجة التي نقوم بها وهي غير كفيلة لبلوغ أقصى مراتب الكمال وهو المقصود بل كثيرا ما لا يبلغ مرتبة القبول لدى الله تعالى والمراحل العليا من التقوى تحصل بالعبادة فهي في بعض مراحلها سبب للعبادة وفي بعضها مسبب عنها ومترتب عليها.
والحاصل أنّ الآية تنبه على ان الطريق الى الوصول الى الايمان الكامل والتوحيد الخالص والتقوى التام هو العبادة.
الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً...
ومن نعمه تعالى على الانسان انه جعل الارض فراشا له وذكره بعنوان وصف من اوصافه تعالى ليعرفهم بربهم.
والفرش: البسط. اي ما يقابل القبض. والفراش: البساط، فيمكن ان يراد به بسط ما على وجه الارض من حجارة وجعلها ترابا ورملا يتمكن الانسان من استخدامه للسكن والتحرك والبناء والزرع وتعبيد الطرق ونحو ذلك ويمكن ان يكون كناية عن إخراجها من تحت الماء او إعداد وسائل الحياة عليها فيكون الفراش حالا للارض ويكون المراد بالجعل الجعل البسيط وهو بمعنى الايجاد اي الذي أوجد هذه الارض وهي فراش لكم.
والبناء معروف وقد فسّره في معجم المقاييس بضم بعض الشيء الى بعضه وقيل انه خاص بما يرتفع على الارض وهو غير صحيح بل قد يكون البناء تحت الارض. وقد يعبّر بالبناء في تأسيس الامور غير المحسوسة كبناء ملك او قانون او غيرهما.
والظاهر أنّ المراد بالسماء هنا الغلاف الجوي وهي مجموعة من الغازات المحيطة بالكرة الارضية بفعل جاذبيتها ومتشكّلة من طبقات وكل طبقة من هذه الطبقات تؤدي دورا مهما في إبقاء الحياة على الارض ولو اختلّت النسبة في هذه الغازات لاختلّت الحياة عليها. والتعبير بالبناء بناءا على تفسير معجم المقاييس يدل على تماسك اجزاء السماء وهي الغازات المذكورة التي تتشكل منها هذا الغلاف.
والآية تذكرنا بنعمة عظيمة نغفل عنها وهو أنه تعالى جعل لنا هذه السماء الزرقاء بناءا وقبة وسقفا محفوظا وحافظا وحاجزا حولنا يحفظنا من الاشعة الضارّة المنبعثة من الشمس ومن النيازك والصخور المتناثرة في الفضاء، ويحفظ لنا الأبخرة المتصاعدة لتتحول الى غيوم تمطرنا بالماء الطهور للشرب والزرع ويحفظ لنا ما نحتاجه من الاوكسجين للتنفس، وغير ذلك مما يترتب على هذا الغلاف الجوي.
وقد ورد التعبير عن هذه السماء بالسقف في قوله تعالى (وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا)[9] وقوله (وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ).[10]
واما احتمال ان يراد بالسماء عالم الملائكة كما ورد في كثير من الآيات او الأجرام الفلكية فهو لا يناسب التعبير بالبناء مع التقييد بكونه لنا وخصوصا بالنظر الى المراد بالسماء في الجملة التالية فان المطر لا ينزل الا من اعالي الجو.
وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ...
ومن النعم الجسيمة التي لا تستغني عنها الحياة على هذا الكوكب نزول المطر والله تعالى يعبّر عنه في عدة موارد بانه ماء مبارك والبركة هي الخير الكثير المستقر والمطر يستقر في الارض وليست نعمة عابرة فيستقرّ في الجبال والاراضي المرتفعة ويخرج من العيون والقنوات والآبار وكل ماء عذب على الارض فهو من المطر.
ومن الفوائد المترتبة عليه الزرع سواء ما زرعه الانسان او ما نبت من الارض بصورة طبيعية وكل ما ينبت يعدّ من ثمرات الارض ومن ثمرات المطر فمنها ما يأكله الانسان وما يأكله الحيوان وما يلطّف الجو وما ينتج الاوكسجين للتنفس وما يكسب الارض بهجة وجمالا وما يمنع من انتشار الغبار وتصاعده الى غير ذلك مما يترتب على النبات من فوائد للتمتّع في هذه الحياة المؤقتة. وكل ذلك رزق من الله تعالى للانسان.
والرزق: العطاء. والمراد بالسماء هنا جهة العلو اي حيث تتواجد الغيوم. و(من) في قوله (من الثمرات) لابتداء الغاية اي اخرج الرزق من الثمرات. و(لكم) وصف للرزق.
فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ...
قال في العين: النّـدّ ما كان مثل الشيء يضادّه في اموره. وفي معجم مقاييس اللغة إنّ اصله ما (يدل على شرود وفراق) فيكون الاصل فيه المضادّة لا المماثلة وحيث إنّ كل مماثل يضادّ مثله وينازعه اُطلق على المثل المخالف.
ومهما كان فالمراد هنا المماثل الذي اعتبره الانسان مضادّا لله تعالى في ربوبيته وهو مجرد وهم والله تعالى ليس كمثله شيء ولا يضادّه شيء في حكمه ولذلك كان النهي عن الجعل اي لا تعتبروا شيئا ندّا له وضدّا.
والمنع عن جعل الانداد لا يختص بالمشركين وعُبّاد الاصنام بل النهي عامّ فان الواجب على الانسان ان لا يرى مؤثرا في الكون غيره تعالى فلا يصمد بحاجته الا اليه ولا يرى لاحد منّة عليه الا لله تعالى. قال تعالى (قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ).[11]
ومن التعابير الخاطئة المنتشرة الجمع بين الله تعالى وغيره في التاثير كما نسمعه من كثير من الناس (املي في الله وفي اهل البيت) او يخاطب شخصا يتوقع منه المساعدة (ليس لي الا الله وانت) وامثال ذلك حتى لو كان بالترتيب كما لو قال (الله اولا ثم انت).
كل ذلك خاطئ لان التوسل بالوسائط وان كان صحيحا ولكن تاثيرها وسببيتها ليست من قبيل سببيته تعالى وتاثيره فالمهم معرفة الانسان بربه وان يذعن بتعاليه وترفعه تعالى عن هذه المفاهيم الخاطئة. ولكن لا اقول بان هذا التعبير دائما يحكي عن مرتبة من الشرك كما يقوله بعضهم انما اقول انه تعبير خاطئ او ليس من الادب.
وقوله (وانتم تعلمون) بمعنى انكم تعلمون في قرارة انفسكم ان الله تعالى لا ندّ له لانّ ما ذكر من الاوصاف التي هي مناط الربوبية ليست الا له ولا يشاركه فيها احد وكل ما هو غيره مخلوق له وانتم تعلمون ذلك فالتشريك في العبادة وفي طلب الحاجة ليس الا لخطأ اصابكم حيث جعلتم الوسائط والوسائل التي جعلها الله تعالى لكم للوصول الى أهدافكم أندادا له.
كما أنّ بعض الناس اعتبروا الملائكة مستقلين في التصرف وصنعوا اصناما تمثّلهم ليعبدوها والملائكة وسطاء في التكوين بلا ريب الا أنّهم ليس لهم اختيار بل هم يتبعون أوامر الله تعالى كما قال (وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى).[12]
ويمكن ان يكون المراد بالعلم بقرينة عدم ذكر المتعلق قابلية العلم والادراك اي أنّكم تعقلون.
وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ...
تبيّن أن هذه المجموعة من الآيات تحثّ الانسان على متابعة القرآن والتمسك به ليكون من الفريق الاول وهم المهتدون بالكتاب. وفي هذه الآية يثبت أنّ القرآن ليس الا من عند الله تعالى من جهة أنّه إعجاز والبشر لا يمكنه أن يأتي بمعجزة.
والخطاب في هذه الآية موجّه الى نفس ما في الآية السابقة اي الناس وان كان حصول الشك خاصا ببعضهم كالكفار والمنافقين فإنّ ذلك لا ينافي كون الخطاب عامّا والتحدّي عامّا لجميع البشر في جميع الازمنة.
والريب: الشك. اي في ريب في كونه ممّا نزّلنا فموضع الريب هو نفس هذه الصفة فإنّ مناوئي الرسالة كانوا يتّهمون الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بأنّ القرآن من تأليفه وأنّه يفتري على الله حيث ينسبه اليه.
كما أنّ بعض من يدّعي الاسلام في عصرنا يقول بذلك ايضا ولكن بدعوى أنّ اللفظ منه صلى الله عليه وآله وسلم وأنّ الوحي انما نزل بالمعاني على قلبه والآيات التي تدلّ على أنّ المنزل من الله تعالى ليس هو المعاني بل نفس الالفاظ كثيرة نشير الى بعضها:
فمنها الآيات التي تصف القرآن المنزل بأنه عربيّ كقوله تعالى (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ)[13] وغيرها من الآيات. ولا شكّ في أنّ العربيّة صفة اللفظ لا المعنى.
ومنها ما ورد فيه التعبير بالتلاوة بالنسبة لما انزل من الله تعالى والتلاوة تختص بالالفاظ ايضا لا المعاني وهي آيات كثيرة منها قوله تعالى (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ).[14]
ومنها ما ورد فيه التعبير باللسان كقوله تعالى (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ)[15] فإنّ اللسان لا يعبّر به الا عن الالفاظ. وهذه الآية – كما سيأتي ان شاء الله – كالصريحة في أن التحدي بالقرآن انما هو بالفاظها.
ثم إن قوله تعالى (نزّلنا على عبدنا) لا يختلف عن التعبير بالانزال على ما بيّنّاه في تفسير قوله تعالى (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ..)[16] في الملاحظة على ما يقال في بعض التفاسير ومنها الميزان تبعا لبعض اللغويين من أنّ التنزيل خاص بالنزول التدريجي والإنزال بالنزول الدفعي فإنّ ما ذكر لا دليل عليه. بل الاستعمال القرآني ينافيه ففي قوله تعالى (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا) [17] صرّح بالتنزيل مع إرادة النزول الدفعي لقوله (جملة واحدة).
ومثله قوله تعالى (وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ)[18] وقوله تعالى (لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا).[19]
واذا لاحظنا موارد التعبير بالانزال الظاهر في نفس هذا القرآن الذي بايدينا حصل القطع ببطلان هذا التفصيل كقوله تعالى (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ)[20] وقوله (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ)[21] (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا..)[22] وغيرها من الآيات وهي كثيرة جدا.
وكذلك ما ورد في إنزال الماء من السماء كقوله تعالى (وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا...)[23] وهي ايضا كثيرة والمطر لا ينزل دفعة كما هو واضح.
واما ما ذكره العلامة رحمه الله من انه في المطر والموارد المشابهة يلاحظ المجموع شيئا واحدا فلا ينفع في هذا التفصيل اذ يمكن دعوى ذلك في جميع الموارد فمن اين يستكشف ان الاستعمال اللغوي يفرّق بين الموردين بعد افتراض إمكان استعمال كل منهما في المورد الآخر بمجرد اختلاف اللحاظ؟!
ثم انه تعالى لم يعبر في الآية عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بما يدل على رسالته ونبوته بل عبر عنه بانه عبده تعالى ولعل الوجه فيه ان العبودية أرقى مقام للانسان وتحكي عن ارتباطه بربه اما الرسالة فهي علاقة بينه وبين الخلق وان كانت مرتبطة به تعالى ايضا فهو رسول الله في خلقه الا ان علاقته الثنائية والخاصة والموجبة لتعاليه كلما ازدادت وتطوّرت هي العبودية.
وياتي هذا الوصف في سياق قوله تعالى في الآية السابقة (يا ايها الناس اعبدوا ربكم..) فكأنه ضرب مثلا للعبودية وما تستتبعه من الكمال برسوله الكريم صلى الله عليه وآله وسلم حيث بلغ غاية الكمال البشري بعبوديته المحضة لله تعالى.
ويتحدّى بقوله (فأْتوا بسورة من مثله) كل من يزعم انه يستطيع ان يأتي بمثل القرآن كما قال تعالى (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ).[24]
ووجه التحدّي ان هذه الدعوى اي كون القرآن من صنع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لو صح لامكن لغيره اذا كان مماثلا له في الثقافة والعلم والبيان أن يأتي بمثله وكان في المجتمع العربي كثير ممن يدعي انه مثل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بل اعلى منه وكانوا في الفصاحة والبلاغة في اعلى المراتب كما هو واضح من اشعارهم فلا بد من تمكنهم من الاتيان بسورة على الاقل تماثل السور القرآنية في الفصاحة والبلاغة وان لم يتمكنوا من مجاراته في قوة المنطق والمعرفة الالهية الواضحة والاشتمال على الاخبار الغيبية والقوانين التشريعية القوية والمتماسكة والثقافة الدينية المتكاملة وغير ذلك مما يمتاز به هذا الكتاب العظيم مما لم ينته الكشف عنها ولن ينتهي أبدا.
والسورة معروفة فهي جزء محدد من القرآن منها قصيرة لا تتجاوز ثلاث ايات ومنها الطوال والظاهر انه مصطلح قرآني لم يسبق ذكره في كلام العرب. ويحتمل ان تكون الكلمة مأخوذة من السور بمعنى حدود البلد باعتبار ان كل واحدة منها مجموعة من الالفاظ والمعاني يحدّها ابتداء واختتام فكأنّها مسوّرة.
ويحتمل ان تكون بمعنى المنزلة كما في الجمهرة باعتبار ان كل سورة منزلة من منازل القرآن كمنازل القمر او كمنازل البناء كما في الصحاح. ويحتمل ان يكون من باب ان السورة بمعنى الرفعة والفضيلة كما قيل.
ومهما كان فقد تدرّج القران في التحدّي حيث ورد التحدّي بالاتيان بمثل القرآن ممّا يتراءى منه الاتيان بكامله في سورة الاسراء وهي مكية بقوله تعالى (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا).[25]
ثم بالاتيان بعشر سور مثله كما في سورة هود قال تعالى (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [26]
ثم بسورة واحدة كما في سورة يونس (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)[27]
ولعل المراد بالآية الاولى المماثلة في الفصاحة وغيرها من المميزات لا المماثلة في الحجم فلو استطاع احد ان ياتي بسورة مثل سور القران كان نقضا للتحدي ولكن التحدي بالعشر ثم بسورة واحدة يبدو أنّه من باب التنزل بمعنى انهم لم يتمكنوا من الاتيان بالعشر فتنزل التحدي الى سورة واحدة ولكن المعروف ان سورة هود بعد سورة يونس في ترتيب النزول.
ومهما كان فالظاهر ان الغرض هو التحدّي بمطلق الكلام الذي يشبه القرآن لا خصوص عدد العشر او السورة فان السورة كما تنطبق على البقرة وآل عمران تنطبق على الكوثر والنصر فالعدد والمقدار ليسا داخلين في الغرض.
واختلفوا في أن الضمير في قوله (من مثله) هل يعود الى قوله (عبدنا) او الى قوله (ما نزلنا) اي القرآن فعلى الاول تكون (من) للابتداء اي تكون السورة من إنشاء رجل امّيّ كالرسول صلى الله عليه وآله وسلم فتكون الآية إشارة الى وجه آخر من التحدّي وهو بلحاظ كونه أُمّـيّا لم يقرأ قبل ذلك كتابا ولم يكتب خطّا.
والصحيح هو الاحتمال الثاني وانما رجّح بعضهم الاحتمال الاول لتوقّفه في معنى (من) وانها لا يمكن ان تكون زائدة فيجب ان تكون تبعيضية ولبيان المنشأ وهو الانسان ولكن بناءا على هذا الاحتمال تبقى السورة المطلوبة في التحدّي نكرة تنطبق على أيّ مجموعة من الكلام يمكن اطلاق السورة عليها حيث إن التحدّي بأن يكون المنشئ له اميّا فحسب ولا شك في إمكان ذلك بل كثرة من يمكن أن يأتي بسورة من الامّيين وانما التحدّي بأن تكون السورة مثل القرآن في الفصاحة وغيرها.
مضافا الى أن قوله تعالى (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ).[28] يتحدّى الجن والانس لا خصوص من كان اميا كما أنه يصرّح بأن التحدّي انما هو بمثل القرآن لا كونه من مثل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم. وكذلك قوله (عشر سور مثله مفتريات) في سورة هود وقوله (سورة مثله) في سورة يونس يدلان على ان التحدي بمثل القران فكل هذه قرائن على أنّ الضمير هنا يعود الى القران.
وبناءا على هذا فالظاهر أن (من) بيانية اي من هذا القبيل. وقيل زائدة وهو بعيد لان الزائدة تأتي للتأكيد ولا معنى له هنا. وقيل غير ذلك.
وعليه فمفاد هذه الآية اثبات أن القرآن بذاته معجز لا من جهة كون الرسول صلى الله عليه وآله وسلم اميا وانما ورد التحدي بذلك في قوله تعالى (وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ)[29] اي لو كنت قبل نزول الوحي تكتب وتقرأ لارتاب المبطلون وهم المناوئون للرسالة المجيدة فكانوا يقولون ان ما يأتي به انما هو مما تعلمه من العلماء او قرأه في الكتب.
مع ان هذا الاتهام ايضا كان واضح البطلان اذ لم يوجد في ذلك العصر ما يمكن ان يستقي منه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كل هذه المعلومات بل لا يوجد في اي زمان ومكان ولذلك فان التحدي مستمر.
وايضا في قوله تعالى (قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ)[30] اي لو شاء الله تعالى ان لا ينزّل عليّ هذا الكتاب ما كان لي ان اتلوه عليكم من عندي وما كان لكم طريق الى الوصول اليه لاني كنت فيكم اربعين سنة قبل نزول الوحي ولم تسمعوا مني شعرا ولا خطابة ولم أقرأ كتابا ولم اصدر بيانا ولا دونت قانونا ولا نقلت لكم حديثا عن الامم السالفة ولا اوضحت سيرة الانبياء السابقين ولا نزّهتهم عما لفّق حولهم من اكاذيب الكتب الموضوعة الى غير ذلك من العلم الذي جاء به القران الكريم على يد هذا الرسول العظيم صلى الله عليه وآله وسلم والنبوغ اذا لم يظهر الى الاربعين فانه لن يظهر فيما بعد.
وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ...
(ادعوا) فعل امر من الدعاء ولم اجد في التفاسير وكتب اللغة من فسر هذه الكلمة بما ترتاح له النفس فالاكثر ترك تفسيره وبعضهم قال انه معروف وفي معجم المقاييس (هو أن تميل الشيء اليك بصوت وكلام يكون منك) والتكلف باد عليه. وفي المفردات (الدعاء كالنداء) وقال العسكري في الفروق ان الفرق بينه وبين النداء ان الدعاء طلب الفعل.
ولكن لا يبعد صحة ما ذكره الراغب وأن معناه ما يقارب مطلق النداء وذلك بملاحظة موارد استعمال الكلمة في القرآن الكريم كقوله تعالى (ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ)[31] والله تعالى لا يطلب منهم شيئا وانما يدعوهم فحسب. وأوضح منه قوله تعالى (ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ..)[32] وغيرهما.
وقد اختلفوا في المراد بالشهداء قال الشيخ قدس سره في التبيان (قال ابن عباس أراد أعوانكم على ما أنتم عليه إن كنتم صادقين. وقال الفراء أراد ادعوا آلهتكم وقال مجاهد وابن جريج أراد قوماً يشهدون لكم بذلك ممن يقبل قولهم).
والظاهر ان المراد بهم الحاضرون فان الشهود بمعنى الحضور اي ادعوا كل من حضركم فيكون بنفس معنى (من استطعتم) في سورتي هود ويونس.
واختلفوا ايضا في معنى قوله (من دون الله) و(دون) ايضا من الكلمات التي لا يوجد في كتب اللغة لها معنى واضح ونقل في تهذيب اللغة عن بعض النحويين ان لها تسعة معان: قبل وأمام ووراء وتحت وفوق والساقط من الناس والشريف والامر والوعيد والاغراء. وفي معجم المقاييس انه في الاصل يدل على المداناة والمقاربة وقال في المفردات (يقال للقاصر عن الشيء دون قال بعضهم هو مقلوب من الدنو). وقال في قوله تعالى (الهين من دون الله) اي غير الله.
وهذه الكلمة قد تأتي ظرفا فتنصب وقد يدخل عليها حرف الجر كما في هذه الاية وفي كلتا الحالتين قد تكون بمعنى غير اما (من دون) فهو كثير واما بدونه فكقوله تعالى (أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ)[33] ولا يصح ان تفسر الكلمة بالقاصر عن الشيء او القريب منه وانما المراد آلهة غير الله تعالى.
ويلاحظ ان نفس التعبير ورد في سورة هود ويونس ايضا حيث قال (وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ).[34] وحيث ان الشهادة هنا بمعنى الحضور فالمراد في كل ذلك (ادعوا كل من شئتم غير الله تعالى) بمعنى ان هذا الامر لا يقوم به احد الا الله تعالى.
واما قوله (ان كنتم صادقين) فلعل المراد بالصدق صدقهم في دعوى التمكن من الاتيان بمثله وهذه الدعوى وان لم تفرض وانما فرض الريب الا ان طلب الاتيان بمثله يستدعي محاولتهم للاتيان وهي تستبطن الدعوى.
ويمكن ان يكون الصدق بمعنى القوّة لا الصدق في الدعوى كما يقال شيء صَدْق اي صلب على ما في معجم المقاييس وعليه فلا حاجة الى تقدير متعلق بل هو بمعنى ان كنتم قادرين على الاتيان بالمثل.
والكلام هنا في أنّ المماثلة المقصودة هنا ما هي؟ ومن اي جهة؟ وبعبارة اخرى ما هي وجوه التحدي في القرآن سواء ما كان صريح الآيات أو امكن ان تكون الآيات ناظرة اليها؟ وهي عدّة وجوه لا نحصرها في عدد وانما نشير الى ما يتيسر لنا الحديث حوله:
الوجه الاول من التحدي او الاعجاز او ما يدل على كون القرآن من أعظم آيات الله تعالى هو البلاغة وقوّة التعبير ومن الواضح أنّ التحدي حيث كان لفصحاء العرب فأوّل جهة يتبادر الى الذهن هو الفصاحة والبلاغة وهناك رواية تبيّن الوجه في نزول القرآن بأعلى درجة من الفصاحة:
روى الصدوق قدس سره بسنده عن أبي يعقوب البغدادي قال (قال ابن السكّيت لأبي الحسن الرضا عليه السلام: لماذا بعث الله عز وجل موسى بن عمران عليه السلام بالعصا ويده البيضاء وآلة السحر وبعث عيسى عليه السلام بالطبّ وبعث محمدا صلى الله عليه واله وسلم بالكلام والخطب فقال له أبوالحسن عليه السلام: إن الله تبارك وتعالى لمّا بعث موسى عليه السلام كان الأغلب على أهل عصره السحر فأتاهم من عند الله عز وجل بما لم يكن عند القوم وفي وسعهم مثله وبما أبطل به سحرهم وأثبت به الحجة عليهم وإن الله تبارك وتعالى بعث عيسى عليه السلام في وقت ظهرت فيه الزمانات[35] واحتاج الناس إلى الطب فأتاهم من عند الله عز وجل بما لم يكن عندهم مثله وبما أحيا لهم الموتى وأبرأ الأكمه والأبرص بإذن الله تعالى وأثبت به الحجة عليهم وإن الله تبارك وتعالى بعث محمدا صلى الله عليه واله وسلم في وقت كان الأغلب على أهل عصره الخطب والكلام (وأظنه قال) والشعر فأتاهم من كتاب الله عز وجل ومواعظه وأحكامه ما أبطل به قولهم وأثبت به الحجة عليهم فقال ابن السكيت تالله ما رأيت مثلك اليوم قط فما الحجة على الخلق اليوم؟ فقال عليه السلام العقل يعرف به الصادق على الله فيصدّقه والكاذب على الله فيكذّبه فقال ابن السكيت هذا والله الجواب).[36]
ومن المعروف ان قريشا وسائر العرب كانوا يتأثّرون بشدّة من تلاوة القرآن قال في مجمع البيان في تفسير سورة المدثر (ويروى أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلّم لما أنزل عليه "حم تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ" قام إلى المسجد والوليد بن المغيرة قريب منه يسمع قراءته فلما فطن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلّم لاستماعه لقراءته أعاد قراءة الآية فانطلق الوليد حتى أتى مجلس قومه بني مخزوم فقال والله لقد سمعت من محمد آنفا كلاما ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجن وإن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة وإن أعلاه لمثمر وإن أسفله لمغدق وإنه ليعلو وما يعلى ثم انصرف إلى منزله فقال قريش صبأ[37] والله الوليد والله لتصبأنّ قريش كلهم.
وكان يقال للوليد ريحانة قريش فقال لهم أبو جهل أنا أكفيكموه فانطلق فقعد إلى جانب الوليد حزينا فقال لي ما أراك حزينا يا ابن أخي قال هذه قريش يعيبونك على كبر سنك ويزعمون أنك زينت كلام محمد فقام مع أبي جهل حتى أتى مجلس قومه فقال أتزعمون أن محمدا مجنون فهل رأيتموه يخنق قط فقالوا اللهم لا قال أتزعمون أنه كاهن فهل رأيتم عليه شيئا من ذلك قالوا اللهم لا قال أتزعمون أنه شاعر فهل رأيتموه ينطق بشعر قط قالوا اللهم لا قال أتزعمون أنه كذاب فهل جربتم عليه شيئا من الكذب فقالوا اللهم لا وكان يسمى الصادق الأمين قبل النبوة من صدقه فقالت قريش للوليد فما هو؟ فتفكر في نفسه ثم نظر وعبس فقال ما هو إلا ساحر أما رأيتموه يفرّق بين الرجل وأهله وولده ومواليه؟! فهو ساحر وما يقوله سحر يؤثر).
والقصة معروفة ومنقولة بوجوه مختلفة.
والحاصل أن القرآن لا شك في كونه معجزا من حيث البلاغة والفصاحة وقد أركع العرب بذلك ولولا إعجازه البلاغي لم يؤمنوا به وكان الجبّارون منهم يفرّون منه ويقولون انه يسحرنا فهو آية في بلاغته وفي ايجازه وفي تفصيله وفي سبكه واسلوبه الفريد الذي ياخذ بمجامع القلوب حيث لا يوجد له مثيل في كلام العرب وغيرهم لا هو شعر ولا هو نثر وهو آية في انتخاب الكلمات وفي موسيقى الالفاظ وفي كل جهة من محسنات الكلام وكذلك في تنوع حكايته لقصة واحدة فتجد قصص الانبياء والامم السالفة منقولة في كل مورد بطريقة خاصة حسبما يقتضيه الموقف ويناسب الاستشهاد.
وهو مع كل ذلك لا يقول الا الحق فمن الواضح والمعروف ان الشعر احلاه اكذبه ونحن نجد ان الشعراء انما يتقنون وجوه الكلام اذا ارادوا توصيف المراة والطبيعة والشجاعة والجمال وسائر الصفات الانسانية المثيرة ونحو ذلك مما يتوسع فيه الخيال ولا يقولون الا ما يوحي اليهم وهمهم وتصورهم وهذا هو الفن.
اما اذا ارادوا توصيف حقيقة من حقائق الكون على ما هي عليه من دون زيادة او نقيصة خصوصا اذا كان من الغيب فانهم لا يستطيعون توسعا ولا ياتون بالمحسنات من الكلام والبديع من الشعر حتى ان شعراء المسلمين كانوا يقدّمون على قصائدهم في مدح الرسول صلى الله عليه وآله وسلم واهل البيت عليهم السلام من اكاذيبهم في الغزل فياتون بالعجائب واذا ما انتقلوا الى المديح بما هو حق من صفاتهم عليهم السلام خارت قواهم وتوقفت اذواقهم.
ولذلك لا تجد في الشعر العربي في العصر الاسلامي ما تجده من الحلاوة في الشعر الجاهلي لان الجاهلي ما كان يتقي الكذب ولا المبالغة.
اما القرآن فانه لا يقول الا الحق ومع ذلك فانه يعلو ولا يعلى عليه. والقرآن ليس شعرا ولكنه احلى من كل شعر حتى انك تجد تناسبا واضحا في اواخر الآيات كانها قوافي الشعر وسرعان ما تتغير القافية لئلا يشبه الشعر. ولذلك ارتبك الكفرة ماذا يسمونه هل هو شعر ام هو سحر؟!
وحلاوة الفاظ القرآن وسبكه يدركه كل احد حتى من لا يجيد العربية واما بلاغة الآيات وفصاحتها ودقائق بيانها فمما لا يدركه الا اهل الفن وما كان يدركه في قريش كما يدركه الوليد وامثاله.
ويُعلم الاعجاز من هذه الجهة بمراجعة اهل الفن وهو من رجوع الجاهل الى العالم كما ان عامة الناس في عصر موسى عليه السلام ما كانوا يعلمون الفرق بين سحر السحرة وإلقاء العصا ولكن السحرة كانوا علماء وتبين لهم بأظهر من الشمس ان ما قام به موسى عليه السلام ليس سحرا بل هو امر مرتبط بالسماء ولذلك ما ترددوا في امرهم بل وقعوا ساجدين.
والقرآن يكرر التأكيد على سرعة تاثرهم وايمانهم وقوة ايمانهم فلم يهتمّوا بتهديد فرعون وانه سيصلبهم على جذوع النخل ويقطع ايديهم وارجلهم من خلاف والسبب هو علمهم بان هذا ليس من قبيل السحر وكان على الناس ان يتبعوا هؤلاء العلماء وكان هذا إتماما للحجة البالغة على فرعون وملإه وسائر الناس.
ومع وضوح هذا الامر فقد اثيرت شبهتان في امكان كون البيان والتعبير معجزا في حد ذاته:
الاولى: أن التعبير مصنوع للبشر فالانسان هو واضع الالفاظ للدلالة على المعاني وهو الواضع للتراكيب الكلامية لتدل على مقاصد خاصة وهو الواضع للتشبيهات والاستعارات وطرق التجوز باللفظ ليتجاوز منها بطريقة لطيفة عن المعاني الاولية الى مقاصد اخرى غير مدلولة للّفظ بالوضع الحقيقي وهو الواضع لكل المحسنات البديعية وهو المبتكر للشعر والنثر والانحاء المختلفة منها فالتعبير المعجز لا يخرج عن هذه المجموعة ويدخل ضمن مبتكرات الانسان فكيف يمكن ان يكون معجزا له؟!
الثانية: أنه لو فرض وجود تعبير معجز من بين مجموع التراكيب الكلامية المعبرة عن معنى واحد كما هو اساس القول بالاعجاز فالقرآن حيث يأتي بمعنى واحد ضمن تراكيب متعددة فان واحدا منها يكون بالغا حد الاعجاز وليس كلها ونحن نجد ان القرآن ينقل قصص الاقدمين من الامم وقصص الرسل سلام الله عليهم بصور مختلفة فيكون المعجز احدى هذه الصور لا كلها والنتيجة ان القران يشتمل على المعجز وغيره فلا يستحيل على الناس الاتيان بمثل بعض القران.
وبسبب هاتين الشبهتين وغيرهما مما يذكر او لا يذكر من وجوه الاستبعاد في ان يكون نوع من التعبير معجزا في حد ذاته ذهب جمع من العلماء قديما منهم الشريف المرتضى قدس سره الى القول بالصرف.
ومعناه ان الموجب لعدم تمكن الناس من مواجهة هذا التحدي ليس هو استحالته في حد ذاته بل السبب ان الله تعالى يصرف ارادة من اراد المحاولة فيتكاسل او يظهر العجز لعدم انقداح الارادة في ذهنه رغما عليه فالاعجاز من جهة الارادة الالهية القاهرة وليس من جهة ضعف الانسان واقعا او استحالة الاتيان بالمثل في حد ذاته وربما لا يشعر الانسان بسلب الارادة بل لا يوفق الى محاولة التحدي لعدم ملاءمة الظروف وكل ذلك من الله تعالى.
والجواب عن هذا الكلام اي القول بالصرف أنه بناءا عليه فالقرآن ليس آية من آيات الله تعالى ولا معجزة تثبت الرسالة لان الاعجاز انما هو بالصرف لا بالقرآن بذاته والقرآن يصرح في آيات عديدة بأنه آية كافية لاثبات الرسالة قال تعالى (وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ * أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ..)[38] وقال ايضا (وَقَالُوا لَوْلَا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى).[39]
بل الصرف بنفسه ليس آية لانه لا يشعر به أحد وانما يشعر المخاطبون بأنهم لا يمكنهم الاتيان بمثل هذا الكتاب لمانع خارجي او لا يوفقون له لا انه بمرحلة من العلم والبلاغة بحيث لا يمكن الاتيان بمثله والناس في عصر موسى عليه السلام ايضا كانوا يعلمون انهم لا يقدرون ان يأتوا بمثل ما أتى به السحرة ولكن لا يدل ذلك على انه معجز.
اما الشبهتان اللتان استوجبتا القول بالصرف فالشبهة الثانية ضعفها واضح وذلك لانها مبتنية على دعوى ان من بين التراكيب الكلامية تركيب واحد خارق للقدرة البشرية وهذه الدعوى باطلة بل يمكن ان تكون هناك عدة تراكيب يعجز الانسان ان يأتي بما يماثلها فاذا فرض قبول اصل الموضوع اي وجود تركيب كلامي معجز فلا مانع من تعدده.
واما الشبهة الاولى فقد اجيب عنها بان الذي يصنعه المجتمع البشري هو وضع الالفاظ للمعاني واما تركيبها للدلالة على معنى مركب فهو يتبع إرادة المتكلم وذوقه فكل متكلم يحاول تفهيم المعنى المراد بواسطة مجموعة من الالفاظ وتركيبها. ومن الواضح جدا اختلاف الناس في تركيب الكلمات وانشاء الجمل وإحداث أنحاء من التشبيه والتجوز والاستعارة والاتيان بانحاء من المحسنات البديعية فاذا صح ذلك فلا مانع من ان يكون هناك تركيب خاص لا يستطيع احد ان ياتي بمثله ويجاريه.
توضيح ذلك ان البلاغة تتوقف على امرين:
الاول إدراك المعنى او خلقه والثاني انتخاب التعبير بحيث يؤثر تاثيرا بليغا في السامع.
والشاعر انما امتاز بشعره لانه يملك الامرين فله شعور خاص مرهف يدرك به امورا دقيقة بدقة الشَعر او يخلق في ذهنه معاني دقيقة ثم يختار من الالفاظ ما يؤثر تاثيرا بليغا في السامع فلا ياتي بالمعنى ضمن لفظ واضح موضوع له لغة بل ينتخب تركيبا خاصا من الالفاظ ولا يختلق اللفظ وانما يختلق التركيب وهنا يحصل الاختلاف ونجد من الشعراء والادباء من يصل الى القمة ومنهم من هو في الحضيض ومنهم المتوسطون.
والحاصل في مقام الردّ على القول بالصرف أنّ الاعجاز انما اتى من جهة ان الله تعالى يعلم حقائق الامور على ما هي عليه ونحن اذا اردنا ان نخبر عن حقيقة فقد نصوّرها اكبر مما هي عليه او اصغر لاننا لا نحيط بالحقائق ولا نعرفها تمام المعرفة حتى اننا لا نعرف انفسنا تمام المعرفة فكيف بغيرنا؟!
ومن جهة اخرى فانه تعالى يعلم ما هو الابلغ في التاثير على نفوس السامعين من انحاء التعبير فياتي به لانه خالق هذه النفوس والعارف بكل اسرارها ولذلك كان القرآن بالغا حد الاعجاز في التعبير بمعنى أنه بلغ في البلاغة وقوة التأثير في الانسان حدّا لا يمكن لأيّ بشر أن يأتي بمثله وهذا هو الذي أثبته تحدّي القرآن لفصحاء العرب وبُلغائهم طيلة التاريخ ولم يتمكن أحد من الاتيان بقطعة أدبية تُجاري القرآن وتبلغ شأوه.
فالاعجاز ليس من جهة أن القرآن في أعلى مراتب البلاغة حتى يقال انه لو لم ينزل القرآن لكان هناك غيره من الخطب او الاشعار ما هو في أعلى مراتب البلاغة بحيث يغلب من دونه فيعجزون من الاتيان بمثله بل إعجاز القرآن من جهة انه لم يتمكن احد حتى الآن ومع كل هذا التحدي ان يأتي بما يقاربه في التأثير في الانسان ببلاغته وباسلوبه فالفاصل بينه وبين أعلى مراتب البلاغة من سائر الكلام بعد شاسع لا يدركه أحد من البشر فيدل ذلك على أنه لا يمكن أن يكون من صنع انسان مهما كان شأنه.
ويلاحظ أن القرآن آية وإعجاز مستمر من جهة البلاغة وغيرها طيلة التاريخ البشري وليس آية خاصة بعصر الرسالة كآيات الرسل السابقين والسر فيه هو ان رسولنا صلى الله عليه وآله وسلم خاتم الرسل وآية رسالته ايضا خاتمة الآيات والمعجزات فلزم أن تكون آية مستمرة لا تختص بعصر دون عصر لان هذه الرسالة لا تختص بعصر دون عصر فسائر معجزات الانبياء انما ينقلها التاريخ وقد لا يصدقها بعض الناس اما هذه المعجزة فهي باقية بنفسها ابد الدهر.
ومن هنا فان القرآن يتحدى البشرية لا المجتمع المعاصر للرسالة بل يتحدى الجن والانس ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا.
والقرآن معجز ايضا في بلاغته من جهة أن من أتى به كان اميا لا يقرأ ولا يكتب قبل الرسالة فاحتمال استناده الى علمه وأدبه الراقي وكونه في قمة البلاغة والفصاحة والشعر والخطابة مما لا يقبله العقل والضمير وكان هذا واضحا لمن حوله حيث كان يعيش بين ظهرانيهم اربعين عاما لم يقل شعرا ولم يصدر منه ما يدل على علم غزير او ادب رفيع وانما كان امينا صادق القول حكيما لا يعمل ما يدل على سفاهة وقلة عقل ولم يرتكب ما كان يفعله غيره من الشباب بل حتى ما يصدر من كبراء العرب من الطيش والفساد.
وبذلك لم يبق للمناوئين في عصر الرسالة اي عذر واليه يشير قوله تعالى (وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ)[40] فهم مبطلون حتى لو لم تكن الآية بهذا الوضوح الا أن وضوحها سدّ عليهم ابواب كل اعتذار.
والتاريخ شاهد على أنهم لم يتمكنوا طيلة القرون من اظهار ما يقبلونه هم بانفسهم ان يكون مثل القرآن في جزالة اسلوبه ونظمه وفي دقة معانية وفي رشاقة الفاظه ونظم أنغامه مع أنه تحدّاهم بكل وضوح.
ويلاحظ ان هناك آية في القرآن تدل على كون التحدي من جهة البيان والتعبير وهي قوله تعالى (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ).[41]
قال الشيخ الطوسي قدس سره في التبيان في تفسير الاية (قال ابن عباس الذي مالوا اليه بأنه يعلم محمداً صلى الله عليه وآله وسلم وكان اعجمياً هو (بلعام) وكان قيناً بمكة روميّاً نصرانياً. وقال الضحاك: أرادوا به (سلمان الفارسي) وقال قوم أرادوا به إنساناً يقال له عايش او يعيش كان مولى لحويطب بن عبد العزى أسلم وحسن إسلامه..).
ومهما كان فظاهر الآية انهم كانوا يتهمون الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بانه ياخذ القرآن من شخص آخر وليس وحيا من السماء والاية ترد عليهم بان هذا الشخص ليس عربيا وهذا لسان عربي فلا يمكن ان يكون منه.
وهذا يدل على ان الاحتجاج بنص القرآن من حيث البيان العربي ولو كان من حيث المضمون لامكن ان يقال لا مانع من إلقاء الرجل معارفه بلغته ويكون التعبير من الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فالاحتجاج انما هو باعجاز القران وكونه آية واضحة من حيث التعبير وهذا لا يمكن ان يستند الى الاعجمي.
وقد استدل المفسرون ومنهم العلامة الطباطبائي قدس سره على التحدّي بالبلاغة بقوله تعالى (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[42] وقوله تعالى (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ..).[43]
ولكن ليس فيها ما يدل على ان التحدي بالبلاغة الا من جهة كون المخاطبين من العرب الذين لم يكن لهم من العلم شيء وانما كانوا شعراء ولكن التحدي لا يتوقف على كون المخاطب عالما بل قد يستفيد من عالم للمقابلة.
والآيتان فيهما ما يدل على ان التحدّي فيهما ايضا بالعلم لا بالبيان ففي الاولى قال تعالى فاعلموا انما انزل بعلم الله وفي الثانية بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه..
الوجه الثاني من التحدي مما يمكن ان يكون مرادا من الآيات الإخبار عن الغيب فقد ورد في القرآن آيات عديدة تخبر عن الغيب نذكر هنا بعضها من دون استقصاء:
فممّا يدل عليه قوله تعالى (غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ).[44]
والمراد بالروم الروم الشرقية التي بلغت سلطتها الى الشام ومصر وكانت هناك معارك دائرة بين الفرس والروم للتسلط على هذه المناطق ولم ترد في الآية اشارة الى موضع الحرب والغلبة ويقال ان خبر غلبة الفرس وصل الى مكة وابتهج المشركون به ولعله لكونهم اقرب الى دينهم لان الفرس ايضا كانوا مشركين بل ابعد من مشركي العرب عن الاديان السماوية.
ولعل العرب كانوا يتفألون بغلبة الفرس ويتوقعون بذلك غلبتهم في النهاية على المسلمين حيث كانوا يشاركون الروم في كونهم اهل كتاب ولا يبعد وجود نوازع سياسية ايضا تدعو المشركين الى التقارب مع الفرس.
ولكن الله تعالى اخبر المسلمين بهذه الآية ان الروم سيغلبون في بضع سنين وهذا من الاخبار بالغيب الذي تحقق في ذلك العهد ورآه المشركون بأم أعينهم ولم يؤمنوا وفرح المؤمنون بذلك إمّا لأنّ الروم اقرب اليهم من الفرس وإمّا لتحقق الخبر الغيبي الذي نزل به الوحي ونفس الإخبار بفرح المؤمنين ايضا خبر غيبي.
ومن ذلك قوله تعالى (لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آَمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ..).[45]
وذلك حيث رأى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في منامه أنه دخل المسجد الحرام مع أصحابه وطافوا بالبيت فأخبرهم بذلك ففرحوا واستبشروا ولما خرجوا الى مكة ووصلوا الحديبية ومنعهم المشركون من دخول الحرم دخل الشك في قلوب بعضهم.
فقيل ان المنافقين منهم نشروا بين الناس ما يثبّط عزائمهم ويثير فيهم الشكوك وسخروا من وعد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وكذّبوه في الرؤيا التي أخبرهم بها.
قال الآلوسي في روح المعاني (قال على طريق الاعتراض عبد اللّه بن أبي وعبد اللّه بن نفيل ورفاعة بن الحرث: واللّه ما حلقنا ولا قصرنا ولا رأينا المسجد الحرام فنزلت. وقد روي عن عمر رضي اللّه تعالى عنه أنه قال نحوه على طريق الاستكشاف ليزداد يقينه..)!!!
فلما سألوا الرسول صلى الله عليه وآله وسلم عن ذلك قال لهم ما معناه أنه لم يخبرهم بوقوعه في هذا العام.
ومهما كان فهذا من الاخبار الغيبية التي اخبر بها القرآن ووقع فعلا في العام التالي وهناك سر في هذا التأخير وفي الاعلام عنه قبل عام وفي خروج الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في عام الحديبية. وهو ان يتبين المنافقون والذين في قلوبهم مرض والشاكّون في دينهم ولكن عامة الناس لم ينتبهوا الى الحكمة في ذلك.
وكان كما وعد الله تعالى حيث انه القى في قلوب المشركين ان يخرجوا من مكة لئلا يروا الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وكان ذلك موجبا لامان اكثر للمسلمين وما اظنهم تفطنوا لذلك وانما خرجوا حقدا وحنقا ولكن الله تعالى بالغ امره.
ولعل ذكر الحلق والتقصير من بين الاعمال للتأكيد على إكمال أعمالهم وخروجهم عن الاحرام وهم باقون في مكة فلم يكونوا مستعجلين للخروج منها. وورد في الحديث أنّ المشركين ارسلوا رسولا الى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قبل انتهاء المدة يذكّرونه بما وعد ويطالبون عدم التأخير.
ومنها قوله تعالى (سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا).[46]
وذلك حيث اخبر الله تعالى عما سيقوله المخلفون وهم الذين لم يذهبوا مع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في قضية صلح الحديبية.
ولعله يقال لا دليل على وقوع ذلك والجواب انه وقع قطعا والا لكان الناس في ذلك العصر يعلمون بأنه غير واقع وبالطبع كانوا يعتبرونه امرا مشينا للكتاب الهي ولكان القائمون بامر الكتابة والنشر يزيلون الآية منه.
ومنها قوله تعالى (وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ).[47]
فهذه الآية تدل على ان المسلمين سيغلبون في غزوة بدر والمراد بغير ذات الشوكة الغلبة على القافلة التجارية التي كانت مع ابي سفيان فارادوا ان ياخذوا منه اموال قريش في مقابل اموالهم التي غصبوها حين الهجرة ولكن الله تعالى اراد لهم الغلبة في الحرب مع ان ظاهر امرهم ما كان يقتضي ذلك فليس هذا من التفطن حسب قانون الاحتمالات وهكذا كان كما اخبر الله به.
ومنها قوله تعالى في نفس هذه الآيات (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا..) حيث أخبر بأنهم لن يفعلوا اي لن يأتوا بمثل هذا القرآن.
وغير ذلك وهو كثير.
ومن قبيل الاخبار الغيبية ما اخبر بها الله تعالى عن قصص الانبياء السابقين والامم السالفة وما جرى عليهم والقرآن يعبّر عنها بالغيب.
فمنها قوله تعالى بعد نقل قصة مريم وكفالة زكريا لها عليهما السلام (ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ).[48]
ومنها قوله تعالى بعد نقل قصة نوح عليه السلام (تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ). [49]
وبعد قصة يوسف عليه السلام (ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ).[50]
وبعد قصة موسى عليه السلام (وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ * وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ * وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ)[51]
ولكن كيف يمكن معرفة صحة هذه الاخبار وموافقتها للواقع لتتم الحجة؟
الطريق هو الرجوع الى الكتب السابقة الموجودة عند علماء اهل الكتاب وان حُرِّف كثير منها وما كانوا يظهرونها للناس ولكن كان منهم من يصدّق القران واقوال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والله تعالى يامر بالرجوع اليهم للاستشهاد بهم كما قال تعالى (وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ * أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ).[52] وغير ذلك.
وهناك آيات ذكرها المفسرون من قبيل الاخبار بالغيب وعن المستقبل الذي تحقق بالخصوص وهذه الموارد في بعضها نظر.
فمنها قوله تعالى (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ).[53] حيث طبقوها على ما حدث بعد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم من الفتوحات التي استوجبت قوة المسلمين.
ولكن الآية لا تنطبق على ما ذكر فاهل البيت عليهم السلام وهم سادة المؤمنين ما كانوا يعيشون أمنا لا خوف فيه بل عاشوا بعد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم مضطهدين مظلومين مشردين فمنهم من قتل بالسيف ومنهم من قتل بالسم ومنهم من عاش في غياهب السجون من غير ذنب اقترفوه!!!
ومن جهة اخرى لم يتمكن الدين الذي ارتضاه الله تعالى لهم في المجتمع بل تفرّق الناس عن إمامهم الذي ارتضاه لهم وامر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بنصبه وليا عليهم كما تفرّقوا عن ائمة الهدى الذين جاءوا بعده وصرح بولايتهم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في مواقف شتى.
ولم يستخلف على الناس الذين آمنوا وعملوا الصالحات بل تسلّط عليهم الملوك والجبابرة وطغاة الارض وفراعنة بني امية وبني العباس وانما تنطبق الآية على ظهور الامام المهدي المنتظر عجل الله تعالى فرجه الشريف وهذا ايضا من الاخبار الغيبية.
ومنها قوله تعالى (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)[54] بدعوى أنّ الله تعالى أخبر أنّ هذا القرآن محفوظ بأمره تعالى وإرادته من التحريف والتغيير طيلة القرون.
وقد بيّنّا اكثر من مرة أنّ الآية لا تدل على ذلك وانما المراد بها حفظه من تدخّل الشياطين. والدليل عليه ان الذكر النازل هو ما اوحي الى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو المحفوظ واما ما نكتبه نحن او نطبعه وننشره فليس هو الذكر ومن الممكن بل الواقع ان نكتب القرآن خطأ ولو من غير قصد وهذا كان كثيرا ما يحدث سابقا.
مضافا الى ما ذكرناه في تفسير قوله تعالى (مالك يوم الدين) من ان ما يروى من اختلاف القراءات ليس الا تغييرا وتحريفا وان كان قليلا وغير مؤثّر في المعنى الا ان القرآن نزل بالحرف الواحد من عند الواحد وانما اختلفت الروايات كما في الحديث بل هناك من القراءات المختلفة ما يؤثر في المعنى ايضا.
الوجه الثالث من وجوه التحدّي ويمكن ان يعتبر من الاخبار بالغيب ايضا ما اخبر به عن حقائق الكون مما لا يعلمه الناس في ذلك العصر مما ألزم المفسرين القدماء بالتأويل والتوجيه الى ان انكشف الامر وتبيّن انه هو الحق.
كقوله تعالى (وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ)[55] فان الفاء في قوله (فأنزلنا) يدل على أنّ المراد كون الريح ملقّحة للسحاب وهذا مما لم يعرفه العرب.
وقوله تعالى (وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ..)[56] ولم يعرف المفسرون القدامى العلاقة بين ضيق الصدر والصعود في السماء وهو واضح اليوم.
وقوله تعالى (يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا..)[57] حيث تدل على كروية الارض فان طلب الليل النهار طلبا حثيثا اي سريعا لا يتم الا على افتراض كرويتها كما بينه المفسرون.
وقد اُلّفت كتب في هذا الباب وتفاسير تعنى بهذه الجهة ولكن الغالب عليها حمل آيات القرآن على ما توصّل اليه البشر من العلم وكثير منها لا يخلو من تكلف ونحن لا نوافق على هذا الاصرار بل في كثير من الموارد نصرّ على خلافه وان الآية لا تنظر الى ما اكتشفه البشر مع انه قد يتغير فلا وجه لهذا الحمل.
ومن هذه الموارد قوله تعالى (وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ)[58] فان بعضهم اعترض على الآية بان الشمس لا تجري وانما تدور الارض حول نفسها فيحدث الليل والنهار ثم جاء من يفسّر الآية بأنّ المراد جريان آخر للشمس ضمن المجرّة وأنّ هذا هو المراد بالمستقرّ لها.
وهذا غير صحيح من أساسه فالله تعالى يشير بهذه الآية الى نعمة من نعمه وهي جريان الشمس حول الارض مما ننتفع به من جوانب شتى ونحدّد به التاريخ والساعة ولا علاقة لما ذكره بجريان لا نشعر به ولا يعرفه عامة الناس.
والاعتراض لا أساس له ايضا لان المراد بجريانها هو هذه الحالة الظاهرة التي نشعر بها جميعا ونعبر عنها بحركة الشمس حتى بعد انكشاف الامر ووضوحه حتى ان العالم الفلكي اذا اراد ان يذكر ذلك لا يعبر عنه بحركة الارض حول نفسها بل بحركة الشمس.
ويلاحظ بهذه المناسبة ان القرآن لا يتعرض لبيان حقائق الكون والعلوم الطبيعية وما يرتبط بجسم الانسان وغيره لان البشر يتطور ويتكامل علمه والقرآن لا يمكنه ان يبين الحقيقة الكاملة لان البشر لا يعرفها فيستغرب وجود ذلك في كتاب الله.
فلو كان القران في ذلك العصر يصرّح مثلا بان الارض كروية او ان الليل والنهار يحدثان بحركة الارض لا بحركة الشمس ونحو ذلك كان البشر في ذلك العصر يرى ان هذا خلاف الواقع فكان يشكل نقطة سلبية في الكتاب فلم يتعرض لمثل هذه الامور لا وفقا لفهم البشر في ذلك الزمان ولا وفقا للواقع.
ويمكن ان يعتبر نفس هذه الجهة من وجوه إعجاز القرآن ونحن نجد ان كتب العلماء القدماء مليئة باقوال وافكار سخيفة حينما يتعرضون لمثل هذه الامور ولو كان الكتاب من عند غير الله لوجد فيه ضعف شديد من هذه الجهة ايضا كما يوجد في غيره من كتب الاقدمين حتى الكتب المحرفة المنسوبة الى السماء.
الوجه الرابع من وجوه التحدّي والاعجاز عدم الاختلاف قال تعالى (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا)[59] فان القران نزل في غضون 23سنة في ظروف متفاوتة جدا بالنسبة للرسول صلى الله عليه وآله وسلم ففي مكة كان تحت ضغط الكفار عليه وعلى اتباعه خصوصا في ايام المقاطعة في شعب ابي طالب عليه السلام ثم في حال الهجرة وبعد الهجرة في حرب وسلم وفقر وغنى.
وفي الحرب ايضا كانت الظروف متفاوتة حيث كان يُغلب وتهزم جنوده في حرب ويَغلب في حرب والمؤمنون يطيعونه في حرب ويعصونه في حرب وهو ايضا بصورة طبيعية يتفاوت حاله من حيث الصحة والمرض والفرح والاكتئاب والفقر والغنى وغير ذلك من شؤون الانسان وهذه طبيعة البشر فهو بوجه عام تتطور افكاره ونفسياته وتختلف احواله طيلة السنين فلو كان القرآن من انشائه صلى الله عليه وآله وسلم كان من الطبيعي ان تختلف محتوياته حسب اختلاف حالات المصنف هذا من جهة.
ومن جهة اخرى يشتمل القرآن على احكام تشريعية متناسقة وهذه الاحكام ايضا نزلت في مناسبات وظروف متفاوتة ولم يحدث بينها اي تناقض او تضادّ ونحن نجد ان المؤلفين كثيرا ما ينسون ما ذكروه في موضع فيخالفونه في موضع اخر ولا يوجد مثل هذا الاختلاف في القرآن.
ومن جهة ثالثة لا نجد في القرآن اي تكامل في العلم والمعرفة ونحن نعلم ان العلماء والمثقفين يزدادون علما وثقافة وبذلك تتغير كتبهم ومقالاتهم وافكارهم بحيث لو يلاحظ المؤلف بعد عشرين سنة من النشر ما كتبه قبل عشرين سنة يخجل منه ويراه بعيدا عن الواقع بكثير.
ومن الناحية البلاغية والادبية ايضا يتطور الانسان فلا شك ان شعر الشاعر في بداية نشأته ليس كاواخر إنشائه.
وكلما نلاحظ القران لا نجد اختلافا ولا يعلم اي سورة تقدمت نزولا لعدم الاختلاف ولو كان من انسان لكان الاختلاف واضحا فيه. ولذلك وصفه الله تعالى بقوله (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ..)[60]
وقال امير المؤمنين عليه السلام (وَيَنْطِقُ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ وَيَشْهَدُ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ).[61]
وهذا الامر يبدو اكثر غرابة اذا لوحظ ان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ما كان يسجّل ولا يحتفظ بما تلاه على الناس في كتاب. والحفظ على ظهر القلب لا يمكن ان يمنع من النسيان فيتغير ما أنشأه حين إلقائه فضلا عن الاختلاف بين ما أنشاه في وقت سابق وما أنشأه في وقت لاحق.
ولا نجد اي تكامل واختلاف في التعبير والمحتوى والدقة والفكر بين اوائل ما تلاه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في مكة واواخر ما تلاه في المدينة.
ولكن يجب التنبيه على ان هذا الوجه من التحدي لا ينظر الى خصوصية الامية في الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بل هو تحدّ على جميع الفروض والاشخاص ولا يختصّ بحالة خاصة ولذلك قال تعالى (ولو كان من عند غير الله) لان كل انسان يتحول ويتطور فعدم الاختلاف دليل واضح على انه من الله تعالى.
وربما يعترض بان هناك اخطاء ادبية من حيث قواعد النحو في القرآن كقوله تعالى (وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ..)[62] وقوله تعالى (قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ)[63] وقوله (وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ)[64] ونحو ذلك.
والمفسرون ذكروا وجوها في تاويل وتوجيه هذه الموارد.
وهناك جواب عام وهو ان القواعد العربية ليست حاكمة على النصوص الواردة في كلام العرب القدماء بل ماخوذة منها فالقواعد ليست تابعة لعقل او وحي وانما هي مستقاة من استعمال العرب. والنص القرآني اوثق النصوص القديمة على الاطلاق فكل القصائد والخطب مروية بوجوه مختلفة الا القرآن واختلاف القراءات من الشذوذ في الغالب فليس هذا اشكالا على القران بل دليل على جواز ذلك في هذه الموارد ونظائرها.
وربما يقال إنّ القران نزل بنفس اللغة المتداولة وليس له قواعد نحوية خاصة فلا بد من توجيه هذه الموارد التي يخالف فيها النظم المتداول.
والجواب ان المقصود من هذا الجواب الاجمالي ان هذا الاعتراض لا اساس له حتى لو لم نجد توجيها يوافق القواعد العربية لاننا نعلم بمقتضى ما ذكرت ان هذا التعبير تعبير عربي اصيل فلا بد من وجود قانون يستثني هذا المورد وان كنا نجهله ولو تبين لنا لاتبعناه في الموارد المشابهة.
ويعترض ايضا بوقوع النسخ في القرآن وقد قال تعالى (مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا..)[65] وقال ايضا (وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ)[66] فالنسخ معناه تغيير الآية او تصحيحها او تبديل مضمونها ومهما كان فهو من الاختلاف والتغيير.
والجواب ان النسخ ليس بمعنى تبدل الراي ولا تغيير الآية بل هو تغيير الحكم بتغير الظروف فإنّ القرآن نزل في مجتمع بدوي غارق في المفاسد الاجتماعية وأملى عليهم احكاما شرعية من رب العالمين لتطهير نفوسهم وتزكيتها وهذا الامر لا يمكن ان يتحقق في يوم وليلة والمجتمع لا يتقبل محاربة كل ما تلقّاه من الآباء والاجداد فجأة حتى ان كثيرا من السنن الجاهلية حاربها القران في المدينة وبعد تكامل المجتمع الاسلامي وتعاضده وتأسيس حكومته فما كان بالامكان محاربتها في أوائل الامر.
بل كان لا بد من التدرّج في نزول الاحكام وتبليغها وكان لا بد من ملاحظة الظروف لبيان الحكم حتى في التعبير فنجد مثلا ان تحريم الخمر - والقوم مولعون به - نزل بالتدرج فقال تعالى في سورة البقرة وهي من اوائل ما نزل في المدينة (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا).[67]
فهنا يشير الى انه اثم وان اثمه كبير لان الخمر محرّم في جميع الاديان وليس مما نسخ فيه الحكم وانما تدرّج بيانه لئلا يصعب على المجتمع قبوله.
ثم نزل في سورة النساء الابتعاد عن الصلاة حال السكر قال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ).[68]
ثم نزل في سورة المائدة التشديد في البيان قال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ).[69]
ولكن هناك احكام تغيرت من حرمة الى اباحة او من وجوب الى عدمه وهذا ايضا انما حصل تبعا للظروف المؤاتية لتغيير الحكم الى ما هو اصعب او اسهل وليس التغيير دائما من الاسهل الى الاصعب وليس هذا من تبدّل الراي او من بروز ضعف في القانون كما يحصل ذلك في التشريع البشري وانما كان يحصل بسبب تبدّل احوال المجتمع.
ويدلّ على ذلك أن الآية المنسوخة كانت تشتمل على ما يوحي بالتغيير. مثال ذلك قوله تعالى (وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا).[70]
فان قوله تعالى (او يجعل الله لهن سبيلا) اشارة الى تغير الحكم الى الجلد في قوله تعالى (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ)[71] فالنسخ لا يحكي عن تبدل في الراي بل يحكي عن تغيّر في المجتمع بحيث يقتضي تغيير الحكم ليناسب الوضع الجديد ولكن التغيير لا يستمر الى ما بعد عهد الرسالة لانتهاء التشريع بوفاة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وعلى الناس متابعة ما شرّع في عصر الرسالة الى الابد.
ومثل ذلك تغيّر الاحكام في الشرايع فان شريعة الله تعالى واحدة كما قال (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى..).[72]
ومن باب التدرج في بيان الاحكام واعلامها للناس أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لم يعلن للناس كل الاحكام النازلة عليه من السماء بل هناك احكام ابلغها عنه وصيه الامام المفترض الطاعة بعده اميرالمؤمنين عليه السلام بل ربما تأخر التبليغ الى عصر الائمة بل الائمة المتاخرين سلام الله عليهم اجمعين فلا يُستغرب عدم ذكر بعض الاحكام في العصر الاول.
ولذلك أعلن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ان امير المؤمنين عليه السلام باب مدينة العلم ولذلك ايضا ورد في اية الغدير (الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا).[73]
فيأس الذين كفروا من دين المسلمين انما كان بنصب الخليفة والحاكم من بعد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وهو امر سياسي واما اكمال الدين فانما هو بنصب الامام الذي يرجع اليه الناس في احكام دينهم وهذا من وظائف الرسالة وتبليغها فالامام لم يكن رسولا يوحى اليه الدين بل الدين نزل بكامله على الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ولكنه لم يبلغه باجمعه الى الناس لعدم تحقق الظروف المناسبة بل ان بعضها ربما لم يتحقق موضوعه بعد كبعض الاحكام الاقتصادية ولعل منها وجوب الخمس في ارباح السنة وانما ابلغه الامام من بعده.
وهذا ليس امرا غريبا فانه صلى الله عليه وآله وسلم ما كان يعلن الاحكام التشريعية على ملإ من الناس دائما بل ان كثيرا منها كان يبلّغه بعض اصحابه ليوصله الى الاخرين كما يلاحظ ذلك في روايات القوم لو صحّت ولكن في مذهبنا كانت الاحكام كلها من ودائع الامامة التي تناقلتها الائمة عليهم السلام.
والحاصل ان نسخ الاحكام لا يعتبر تغييرا في القرآن ولذلك كانت ومازالت الآية المنسوخة حكمها تتلى كجزء ثابت من الكتاب لم يتغير.
نعم هناك من يقول بنسخ التلاوة في بعض الايات من دون نسخ الحكم.
وهذا خطأ واضح فالله تعالى لا ينسخ الآية وهذا امر مستحيل وانما قال به من لم يستطع القول بالتحريف لبشاعته مع وجود روايات كثيرة تدل على ان القرآن كان مشتملا على آيات ليست موجودة في المصحف الحالي فاضطروا الى القول بنسخ التلاوة وأسسوا عليه مذهبهم.
ولكن الصحيح ان هذه الروايات باطلة وغير صحيحة والقوم لا يمكنهم القول بذلك لانها وردت في الصحاح بزعمهم ونحن لا نقول بقداسة اي كتاب من صنع البشر وما ورد من بعض الصحابة في ذلك فلعل بعضهم كان يتصور ان كل ما يقوله الرسول صلى الله عليه وآله وسلم من الاحكام انما هي آيات من القرآن مع أن الاحكام وان نزلت وحيا الا ان الوحي ليس كله قرانا فالقرآن وحي خاص يشتمل على إعجاز والرسول صلى الله عليه وآله وسلم كثيرا ما كان يتحدث عن الوحي ويخبر عن نزول جبرئيل عليه السلام واخباره بالغيب وبالحكم بل ربما يحكي كلاما عن الله تعالى وهو ما يعبر عنه بالحديث القدسي ولكن لم يكن شيء من ذلك قرآنا.
الوجه الخامس: الاحكام التشريعية المتناسقة في مختلف الشؤون من العبادات والمعاملات ومن البيع والنكاح والطلاق وحقوق الزوجين وحقوق الاولاد والقرض والربا والارث والحدود والديات والقصاص وسائر ما يحتاجه البشر في اجتماعه من القانون.
والاعجاز فيه من جهة انه قوي ومتناسب مع كل التغيرات الى عصرنا هذا بعد القرون المتمادية وايضا من جهة انه بواسطة رجل امي لم يقرأ ولم يكتب.
ولو أراد كل علماء ذلك العصر بل كل عصر ان يجتمعوا ويأتوا بقانون جامع لا يتغير لم يستطيعوا ونحن نجد الان ان نخبة المجتمعات البشرية يشكلون مجالس التشريع ويصدرون قوانين لا يمضي زمان طويل حتى يظهر ضعفها وموارد الخلل فيها بحيث لا يمكن تطبيقها ويحتاج المجتمع الى التغيير سواء في الدستور والقوانين الاساسية او غيرها.
ولا شك ان هناك من يعترض على كثير من القوانين الاسلامية حتى ما ورد في القرآن الكريم ويعتبرها غير صالحة للتطبيق في هذا العصر بل يعتبرها منافية لحقوق الانسان او للعدل الاجتماعي وللمساواة بين الرجل والمراة بل المساواة بين كل الطبقات بل ان فيها ما يقتضي قبول الرق وهو عند البشر اليوم من أبشع ما رسمته البشرية من قانون.
ونحن نرد على كل ذلك بجواب واحد وهو أن الحكم الالهي يجب ان يتبع ولا يحق لاحد ان يعترض عليه ولكن هذا لا يصحح القول بأنه إعجاز اوأنّه آية من آيات الله.
والجواب انا لا نستدل على كونه آية اومعجزة بكون هذه القوانين محقّقة للعدل الاجتماعي وما تتطلع اليه البشرية من المساواة المزعومة والرفاه والحرية الشخصية وما الى ذلك من الميول العامة التي بسببها تركت الدول الاسلامية قوانين الشرع كلها او اكثرها وتمسكت بالقانون الغربي.
وانما نستدل بقوة هذه القوانين وتناسقها وعدم التناقض والتنافي فيما بينها وموافقتها للاصول التي يقبلها الدين بالرغم من انها لم تشرع بواسطة مجموعة من نخبة المجتمع كما هو الحال في المجالس التشريعية بل ولا من عالم متخصص في القانون والتشريع بل جاء بها رجل امي لا يمكن ان يتمكن بذاته من المشاركة في التشريع فضلا عن الانفراد به لولا كونه رسولا مؤيَّدا من الله تعالى.
الوجه السادس: بيان القرآن في معرفة الله تعالى واصول العقائد فمن الواضح ان التفكير البشري خصوصا في تلك الاعصار كان ساذجا جدا في معرفة الله والى الآن نجد الادراك البشري في معرفة الله - مع قطع النظر عن الرد او القبول - ساذجا جدا حتى بين المؤمنين به تعالى ونجد الكتب القديمة التي ليست المعرفة فيها مستقاة من القرآن تتخبط في التعريف به تعالى وبصفاته.
والقرآن يهدي البشرية الى اله واحد لا اله غيره ولا ثاني له في اوصافه وربوبيته ولا يشرك في حكمه احدا وهو نور السماوات والارض وهو الصمد القاضي لكل الحاجات لم يلد ولم يولد فلا يتوهم الانسان انه وجد من شيء او يوجد مثله شيء.
ويصفه بانه عالم الغيب والشهادة وبديع السماوات والارض اي انه خلقها من لا شيء فلم يسبق خلقهما مادة او غيرها وبانه الاول والاخر والظاهر والباطن وبانه الرحمن الرحيم وسعت رحمته كل شيء وبانه رب العالمين يدبر الامر من السماء الى الارض ما من شفيع الا من بعد اذنه.
وبانه الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر الخالق البارئ المصور العزيز الحكيم وبأنه عالم بكل صغيرة وكبيرة لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وهُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وهو بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ الى غير ذلك من الصفات الحسنى التي اشتمل عليها القرآن.
وكذلك ما يبديه القرآن من الحل في المشاكل الفلسفية التي يعجز عن حلها اغلب الحكماء والعلماء فضلا عن العامة كمسالة الجبر والاختيار والقضاء والقدر.
فمن هذه الآيات قوله تعالى في الاستدلال على وجوده تعالى (قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْض).[74]
والمراد بالفطر الابداع فاستدل به على وجوده تعالى والمراد بالسماوات والارض ما سوى الله اي الكون باجمعه والاستدلال يبتني على ان الكون لم يسبقه شيء الا الله تعالى وهو حقيقة الوجود. والوجود لا يمكن ان ينعدم.
وفي استناد الامور اليه تعالى (وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا * مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ..).[75]
انظر كيف جمع بين قوله كل من عند الله وبين التفصيل بين الحسنة والسيئة للاشارة الى ان الحسنة فضل من الله لا يستحقه الانسان والسيئة انما تصيبه بسبب عمله ولكنها من الله ايضا فلا مؤثر في الوجود غيره.
وفي استناد مشيئة الانسان الى مشيئته تعالى (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِين)[76] وقال ايضا (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعا).[77]
وفي القضاء والقدر آيات عديدة منها قوله تعالى (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ..)[78] وقوله تعالى (يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ).[79]
وقال في عدم امكان رؤيته (وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ)[80] وقال (لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ)[81]
ومن هذا القبيل ما ورد في الخلق كقوله تعالى (إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)[82] (ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ)[83] وقوله (الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى)[84] وقوله (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُون).[85]
وما ورد من أن الايمان به تعالى راسخ في ضمير الانسان قال تعالى (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ).[86] وقال ايضا (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ).[87]
ولا نقصد بهذا الوجه الاستدلال بصحة ما ورد في الآيات ومطابقتها للواقع فانه امر نظري قد يرفضه من يلاحظ الآيات كاعجاز او كآية وانما نقصد ان نفس الدقة الموجودة في هذه الآيات والصورة التي يبديها القرآن في معرفة الله تعالى ومعالجة المشاكل الفلسفية لا يمكن ان يصدر من رجل امي بل حتى من رجل عالم متخصص بل من مجموعة من الحكماء في ذلك العصر بل في كل الاعصار.
والانصاف ان من يلاحظ هذه الوجوه لا يبقى له شك في ان هذا الكتاب من عند الله تعالى اذا لم يكن في قلبه مرض.
فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ...
الفاء للترتيب اي يترتب على هذا التحدي هذه الشرطية التي تدل على ترتب العذاب الشديد على عدم الايمان والاذعان بالرسالة.
والشرط (ان لم تفعلوا) اي لم تأتوا بسورة مثل القرآن وعدم الاتيان ينبئ عن العجز والاعتراف به ومعنى ذلك الاعتراف قلبا بأن الكتاب ليس الا من الله تعالى فيكون الواجب حينئذ التسليم والايمان بالرسالة فجواب الشرط واقعا هو فآمنوا بالرسالة وجيء ببدله للدلالة عليه بوجه ابلغ وليتضمن التحذير بالنار. وقوله (فاتقوا النار) اي فاحفظوا انفسكم من النار التي تستحقونها ان لم تؤمنوا.
وقوله (ولن تفعلوا) جملة اعتراضية. والمعروف ان (لن) لنفي الابد وحكي عن الخليل انه نفي مؤكد وان اصله (لا ان) ونفى كل ذلك ابن هشام في المغني ومهما كان فلا اقل من انها تنفي فعلهم في المستقبل وهو من الاخبار بالغيب كما قلنا وفيه تحقير وازدراء لهم بالرغم من اعجابهم بانفسهم ودعواهم الاولوية في الكلام والشعر.
ووصف النار وهي نار جهنم بان وقودها الناس والحجارة. والوقود - بفتح الواو - ما يوقد به، اي ما تشتعل به النار ويرتفع لهيبها وفُسّر في كتب اللغة بالحطب لانه الغالب في ايقاد النار في تلك العصور. وأخطأ من قال انه يطلق على الزناد ايضا.
وقد ورد مثل ذلك في قوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ..)[88] وفي قوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللّه شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ)[89] ولعلّ منه ايضا قوله تعالى (فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ)[90] بناءا على أحد المحتملات في (يسجرون) كما ذكرناه في تفسير الآية الكريمة.
ولكن ربما يستغرب ذكر الناس والحجارة كوقود للنار من جهة أنّ نار جهنّم موجودة قبل أن يلقى فيها البشر كما تدلّ عليه آيات كثيرة، ومن جهة ان الحجارة لا تؤثر في الاشتعال أساسا. فذهب بعضهم الى أنّ المراد بكون الناس وقودا للنار أنّهم بأعمالهم وجرائمهم يزيدونها التهابا واشتعالا وأنّ المراد بالحجارة الأصنام وأنّها ايضا تزيد النار اشتعالا بسبب افتتان الناس بها وعبادتها فاعتبرت مؤثرة في ايقاد النار.
وهناك آيات تؤيّد هذا المضمون كقوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللّه مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللّه يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)[91] وقوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا).[92]
ولكن هناك ملاحظة في الآيتين وهي أنّ مفادهما أن ما يأكلونه من النار غير العذاب الاليم المعدّ لهم، وغير السعير الذي سيصلونه يوم القيامة فيمكن أن يقال: إنّ النار التي توقد بأعمال الانسان نار اخرى وليست نار جهنّم.
ومهما كان فالقول بأنّ الانسان يصنع النار بعمله قد يكون صحيحا، ويعبّر عن هذا الامر بتجسّم الاعمال. ولكن يبعد حمل هذه الآية وكلّ ما يدل على أنّ الانسان وقود النار عليه، لأنّ ظاهر هذا التعبير أنّ الانسان بنفسه وكذلك الحجارة بأنفسها مما يوجب اشتعال النار لا أنّها تسبب زيادتها فظاهر قوله وقودها الناس والحجارة انها لا وقود لها غيرهما.
وأما كون المراد بالحجارة الاصنام فقد ورد في أكثر التفاسير، واستدلوا عليه بقوله تعالى (إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّه حَصَبُ جَهَنَّمَ..)[93] بناءا على ما قيل من أنّ حصب بمعنى حطب او بمعنى الوقود.
ولكن الظاهر ان (حصب) مأخوذ من الحصباء وبمعنى ما يرمى في المكان فيمكن ان يكون المراد في الآية ما يلقى في جهنم كما يرمى الشيء بالحصباء فلا يدل على المقصود. مضافا الى أنه لم يظهر وجه لتغيير التعبير عن الاصنام الى الحجارة في الآيتين، بل لا يصح ذلك في سورة التحريم فإنّ الخطاب في الآية للمؤمنين ولا يناسب ذكر الاصنام بل لا يناسب حتى في هذه الآية لان الخطاب كما قلنا للناس وليس خاصا بالكفار وعبدة الاصنام ولذلك وصف النار اخيرا بانها اُعدّت للكافرين اي لا تكونوا منهم.
وقيل: إنّ المراد بالحجارة حجارة الكبريت وأنها أذكى وقودا. ونسب ذلك الى ابن عباس، وورد ذكره في بعض الروايات الضعيفة جدا.
ولكن تخصيص الحجارة بالكبريت لا دليل عليه، والآية ليست بصدد بيان وقود قويّ، والا فهناك من الوقود ما هو أقوى منها قطعا بل المراد التنبيه على أنّ هذه النار تختلف عن نار الدنيا ولا يعلم حقيقتها الا اللّه تعالى فهي لا تتّقد بالوقود المتعارف بل بالناس والحجارة.
ولا يبعد أن يكون المراد نفس الحجارة بالمعنى المعروف ولكن اريد بضمّ ذكرها مع الانسان تحقيره اذا استحق النار حيث اعتبر كالحجارة لا كرامة له، او اريد التهويل بأنّ الانسان يبقى وقودا كما تبقى الحجارة كما تدلّ آيات اخرى على أنه لا يفنى بالاحتراق.
وكذلك التعبير بكون الانسان بنفسه وقودا من دون ضمّ الحجارة كما في قوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللّه شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ)[94] قد يكون للتهويل حيث اعتبر وقودا يبقى لتـتّـقد به النار كما يدل على الاستهانة به ايضا.
والحاصل أن المستفاد من الآيات هو أن نار جهنم او نار الآخرة مطلقا ليست كنار الدنيا وتختلف عنها من عدة جهات ولا يعلم حقيقتها الا الله تعالى:
فالنار هناك وقودها الناس والحجارة بل وقودها الجن والانس لقوله تعالى (وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا)[95] والمراد بهم القاسطون من الجن. ومن تلك النار يصنع ثياب لاهلها (فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ)[96] وسرادق تحيط بهم وظلل فوقهم منها وتحتهم ومهاد وغواشي ويأتيهم الموت من كل مكان ولا يموتون ولا هم احياء ايضا وتتبدل ما اكله مغتصبو اموال اليتامى نارا وكذلك ما اخذه محرفو الكتب السماوية ازاء عملهم وهي النار التي تطّلع على الافئدة ولا تخص بحرق الاجسام الى غير ذلك من خصائصها المذكورة في الكتاب وهي مجهولة بعد كل هذا فاذا ورد أن الناس والحجارة وقودها فلا استغراب منه.
ومع ذلك ففي نفس التعبير وضم الانسان الى الحجارة تهويل وتحقير.
وقوله (اُعِدَّت للكافرين) يدلّ على ما ذكرناه من أن النار حسبما تدلّ عليه الآيات معدّة لاهلها قبل أن يدخلها الناس ومن هنا فلا يمكن القول بأن وقودها بالمعنى المتعارف الناس والحجارة لانها موقدة قبلهم فلا بد من حمل الجملة على معنى اخر.
وقيل ان هذه الجملة تدل على أن هذه النار خاصة بالكافرين وتختلف عن نار المنافقين والفاسقين.
ويرده ما ورد في سورة التحريم فان الخطاب هناك موجه للذين آمنوا وفيه التحذير من نفس هذه النار التي وقودها الناس والحجارة. والصحيح ان الكفر معناه وسيع يشمل كثيرا من انحاء الفسق والمعصية وقد اعتبر تارك الحج كافرا في قوله تعالى (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ)[97] وفي الروايات ما يدل على كفر تارك الصلاة واما المنافقون فهم الكافرون حقا.
مضافا الى ان الخطاب هنا موجه الى من ينكر الرسالة بعد اتمام الحجة عليه فيكون كافرا وهذا التعبير لا يدل على اختصاص النار به وانما ذكر الكافر لانه هو المقصود هنا بالتحذير.
وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ...
من دأب القرآن الكريم إلحاق الانذار بالتبشير تلطيفا لجو الخطاب وترغيبا لكسب الثواب بعد التحذير بالعقاب. والخطاب في الآية قد يكون موجها الى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فانه البشير النذير ويمكن ان لا يكون خطابا لمعين بل اعلاما بالبشارة.
والتبشير اخبار الشخص بما يوجب بشارته اي حسن بشرته وطلاقة وجهه والمراد بالذين آمنوا المؤمنون بالله تعالى وبالرسالة على أساس إعجاز القران.
والصالحات صفة للاعمال اي الاعمال الصالحة وانما جيء بها من دون ذكر الموصوف لأنّها صفة جرت مجرى الاسم عندهم فيقال صالحة للعمل الصالح ومثلها الحسنات والسيئات. والمراد بها ما يصلح للتقرب الى الله تعالى ونيل رضاه وثوابه فان الصلوح يختلف حسب الموارد.
والقرآن يكرّر ويؤكّد على أنّ الايمان يجب ان يستتبع العمل لينتج الصلاح فلا فائدة لإيمان لا يبعث الانسان الى العمل الصالح ومن الناس من يقول او يعتقد بأنّ كل ما ورد في الشرع من الواجبات والتكاليف انما قصد بها صفاء القلب وسلامته فهو الهدف النهائي واذا حصل فلا حاجة الى هذه الاعمال. وهناك من المتصوّفة ومن يتبعهم ينشرون مثل هذه الاراجيف.
وربما يستشهد بما ورد في القرآن الكريم كقوله تعالى (يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ).[98] والله تعالى قرن في كتابه مكررا الايمان بالعمل الصالح للردّ على هذه الوساوس الشيطانية والسبب أنّ من لا يهتمّ بالعمل فايمانه لم يصل الى مرحلة الانتاج وهذا ايمان ناقص لا يفيد شيئا كما ان العمل من دون إيمان لا ينفع حتى لو كان بذاته عملا صالحا كما قال تعالى في عدة موارد (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ..).[99]
واللام للجنس وهنا اشكال قلّما تعرضوا له فان اللام اذا أفادت الاستغراق بمعنى أن يكون كل ما يعمله صالحا وان يعمل بكل ما هو مطلوب منه بحسب ظروفه من الاعمال الصالحة فلا يستحق الجنة الا من عمل بجميع الواجبات الشرعية ولم يأت بسيئة اطلاقا ويختص حينئذ بالمعصومين.
مع أنه مخالف لموارد من هذا التعبير كقوله تعالى (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ..)[100] حيث يدلّ على أنّ العمل بالصالحات لا ينافي وجود بعض السيئات في صحيفة اعماله.
وإن كان المراد بها العمل ببعض الصالحات ولا يفيد الاستغراق فالحكم يشمل جميع المؤمنين اذ لا يخلو مؤمن من العمل ببعض الاحكام.
مع انه ينافي قوله تعالى (وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)[101] حيث يدلّ على أنّهم لا يستحقون الجنة بعملهم مع أنّهم عملوا عملا صالحا.
وربما تستفاد كفاية بعض الاعمال من قوله تعالى (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا)[102] فان الظاهر أن (من) تبعيضية فتدل الآية على أن من يعمل بعض الصالحات يدخل الجنة ايضا كما التزم به كثير من المفسرين منهم الشيخ الطوسي من القدماء والعلامة الطباطبائي من المتأخّرين وهو عجيب.
ولكنّ الزمخشري في الكشاف أوّل الآية وتبعه جماعة بأنّ المراد العمل بما تحقّق موضوعه للمكلف فالوجه في التبعيض في قوله (من الصالحات) أنّ كثيرا من الناس لا يستطيعون العمل ببعض الاحكام كالحج والجهاد والزكاة لعدم تحقق موضوعاتها بسبب فقدان بعض الشروط كالاستطاعة والسلامة والمال.
ولكنه بعيد جدا لان النتيجة أن مناط الاستحقاق العمل بالجميع بعد تحقق شرائط التكليف. مضافا الى أن هذا التوجيه غير صحيح اساسا اذ لا عبرة بالاعمال التي لم تطلب من المكلف ولا تعتبر من الصالحات بالنسبة له بل ربما يكون العمل من احد صالحا ومن آخر سيئا فالمناط في صدق الصلوح هو ظروف المكلف ومناط التكليف.
والظاهر أن الوجه في التبعيض التخفيف على المؤمنين والله تعالى خالق البشر والعالم بكل شؤونه فلا يتوقع منه ان لا يترك واجبا مطلقا ولا يعمل حراما مطلقا كما قال تعالى (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ).[103] فان قوله (لا نكلف نفسا الا وسعها) في هذا المقام يحدد معنى الصالحات بالقدرة.
ولكنه مبهم ايضا فهل المطلوب منهم كل ما في وسعهم وهو بعيد ايضا فالظاهر أن المراد بهذه الجملة قبول الاعذار اجمالا مما لا يعلم تفصيله الا الله تعالى.
وقال ايضا (الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى)[104] فالذي يبدو أن المناط في الاستحقاق هو ترك الكبائر والفواحش والاهتمام بالفرائض بمقدار الوسع والاستطاعة فيكون المراد بالعمل بالصالحات في جميع موارده هذا المعنى اي انه لا يعتبر العمل بالجميع ولا يكفي العمل بالبعض باطلاقه والنتيجة أن مناط الاستحقاق بدقة مما لا يعلمه الا الله تعالى.
وهكذا يبقى الانسان من حيث عمله بين الخوف والرجاء.
و(جنات) جمع جنة وهي البستان كثير الشجر بحيث تستر ارضها ماخوذة من جنّ بمعنى ستر. وأتى بها نكرة لاختلاف الجنات باختلاف درجات المؤمنين ودرجات اعمالهم فليس هناك جنة ونار كل منهما مأوى لجمع من البشر بل لكل انسان موضعه الخاص لا يتجاوز عنه (وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا).[105] وليست الاخرة كالدنيا وليست كل مجموعة في درجة واحدة فربما يختلف المقام بزيادة عمل واحد وان كان بحسب الظاهر قليلا.
وقوله (تجري من تحتها) اي تحت اشجارها. والمضارع يدل على الاستمرار فلا انقطاع هناك لنعمه تعالى. واتى بالانهار جمعا للدلالة على كثرتها في اشارة الى وفور النعم فيها. واللام قد تكون للجنس وقد تكون للعهد للاشارة الى ما ورد في آية اخرى من انواع الانهار قال تعالى (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى..).[106]
وبذلك تبين أنّ الوجه في تنكير الجنات هو اختلافها باختلاف درجات المؤمنين وأن الوجه في تعريف الانهار أن المراد بها الجنس او الانهار التي ورد ذكرها في الآية المذكورة. والله تعالى يعلم ما هي حقيقة هذه الاشجار والانهار.
كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا...
تعريف لنعم الجنة لم يرد في القرآن الكريم الا هنا. فقوله (كلما) يفيد معنى الظرف و(ما) مصدرية ظرفية ومعناه انه في كل مرة يرزقون ثمرة من ثمار الجنة يقولون كذا.. و(من) في (منها) للابتداء والضمير يعود الى الجنة و(من) في قوله (من ثمرة) بيانية او زائدة. والمراد بقوله (هذا الذي..) اي هذا مثل الذي رزقنا من قبل فمن غاية الشبه حمل عليه كأنه هو.
الا ان الكلام في قوله (من قبل) فقيل ان المراد به ما اكلوه من ثمر الجنة في الموارد السابقة. وعليه فلا يشمل قوله (كلما) اول مرة يرزقون منها وهو واضح وليس هذا اشكالا في هذا الاحتمال.
ولكن يبقى السؤال عن وجه الحكمة في التنبيه عليه فقيل بان الغرض هو التنبيه على ان الفواكه هناك كلها من نوع واحد وان كان الطعم مختلفا.
ولكن لم يرد في الآية الاشارة الى هذا الاختلاف في الطعم مضافا الى انه لم يتبين انه ما فائدة هذا التنبيه وما هي اللذة المبتغاة من كون الفواكه من قبيل واحد بل الامر بالعكس فالانسان كما يتلذذ في الدنيا من اختلاف الطعوم يتلذذ من اختلاف الالوان والاشكال في الفواكه المختلفة.
وقيل: المراد بما رزقنا ما وعدنا وهو بعيد من اللفظ.
وقيل: الآية تشير الى تجسم الاعمال وأن المؤمنين يقولون ذلك لأنهم يرون الثواب هناك نفس اعمالهم وطاعاتهم التي وفقهم الله تعالى لها فيقولون هذا الذي رزقنا من قبل واما الجملة التالية (واتوا به متشابها) فهي اشارة الى تشابه الثمرات وهي غير الجملة الاولى وليست تأكيدا لها كما قال المفسرون.
وهو تأويل بعيد جدا مضافا الى أن الجملة التالية تحمل نفس المعنى فان امكن توجيه تشابه الثمرات فلا حاجة الى هذا التأويل في الجملة الاولى انما الكلام في وجه كون الثمرات متشابهة واعتبار ذلك من مزايا الجنة.
وقيل المراد انها كفواكه الدنيا الا ان طعمها يختلف وان الفائدة من ذلك ان كونها نعمة مسبوقة ألذّ لهم. والغالب على التفاسير هو ان المراد تشابه الفواكه هناك وان قوله (واتوا به متشابها) تفسير له وتاكيد.
والذي يخطر بالبال احتمال أن يكون المراد تشابه كل النعم لا خصوص الفواكه بما في الدنيا وانهما متشابهان. وليس هذا قولا يقولونه انما المراد الاشارة الى أنهم يرون تشابها بين نعم الآخرة وما اعتادوا عليه من نعم الدنيا.
ولعل السبب في بيان ذلك دفع توهم ربما يحصل لبعض الناس من ان ما يحصلون عليه من النعم هناك نعم روحية معنوية وانهم لا يحظون هناك بما يتلذذون به من نعم دنيوية والانسان معجب بما تلذذ به واذا وعد بنوع اخر لم يسبق له التلذذ به لا يشتاق اليه فاراد الله تعالى ان يطيب خواطر المؤمنين بان ما يحظون به في الجنة من النعم هو بعينها ما اعتادوا عليه من نعم الدنيا وان اختلفت حقائقها لا طعومها - كما يقولون - فالذي هناك نعمة ولذة لا ضرر فيها ولا الم ولا تجد فيها ايا من العوارض السلبية التي نشاهدها في كل النعم الدنيوية فهي في حقيقتها تختلف عما في الدنيا اختلافا جوهريا الا ان المؤمن الذي يتنعم بها لا يجد فرقا في الظاهر بينهما فيتلذذ بتلك النعم كتلذذه بما يشابهها في الدنيا من دون عوارض سلبية.
ولعله الى ذلك اشار بقوله تعالى (واتوا به متشابها) اي ان فواكه الجنة وفواكه الدنيا متشابهان ظاهرا ومختلفان حقيقة. ولا شك في أنه لا يراد تشابه الفواكه هناك بعضها مع بعض اذ ليس هذا من خصائص الجنة وفواكه الدنيا ايضا متشابهة.
وهناك من المفسرين وغيرهم من يقول بان كل هذه التعابير كناية عن النعم المعنوية والروحية وأن ذلك العالم لا يناسب هذه النعم المادية. ولكن ظواهر الآيات والروايات وخصوصا مثل هذه الآية تقتضي وجود نعم مادية ايضا وان كانت النعمة المثلى هي النعمة المعنوية.
ونفس هذا المضمون اي الاهتمام بالنعم المعنوية هناك يدل على وجود نعم مادية والا لم يكن معنى لكون الرضوان اكبر اي ان صيغة افعل التفضيل بنفسها تدل على أن هناك نعما ليست بهذه المرتبة. وقد أكد في القرآن في مواضع متعددة ان رضوان الله تعالى يوم القيامة وإحساس المؤمن به ورضاه بما اوتي اكبر نعمة ينعم بها المؤمن في الجنة.
منها قوله تعالى (وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ).[107]
بل ان الرضا اعظم نعمة في الدنيا ايضا ومن كان راضيا في الدنيا بما آتاه الله تعالى حتى لو كان بظاهره مصيبة ويشعر في الدنيا بان الله راض عنه ايضا فانه يعيش في الجنة قبل جنة الآخرة فان اهم ما يميز الجنة هو هذا الرضا.
ولذلك قال تعالى (أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ..).[108]
نعم لا شكّ في أنّ حقيقة تلك النعم وتلك الجنات والفواكه والمساكن والازواج مجهولة لنا وبعيدة عن فهمنا وقد تعرضنا لبعض الكلام حول ذلك في تفسير سورة الرحمن حيث نرى في الآيات الفرق الواضح بين جنتي فريقين من اهل الجنة فالجنتان الاوليان ذواتا افنان اي فروع وفيهما عينان تجريان ومن كل فاكهة زوجان والحور فيها كأنهن الياقوت والمرجان بينما الجنتان اللتين من دونهما مدهامتان وعيناهما نضاختان وفيهما فاكهة ونخل ورمان والازواج فيها حور مقصورات في الخيام.
وكذلك في سورة الواقعة فالمقربون في جنات النعيم على سرر موضونة متكئين عليها متقابلين ولهم فاكهة مما يتخيرون ولحم طير مما يشتهون وحور عين بينما اصحاب اليمين في سدر مخضود وطلح منضود وظل ممدود وماء مسكوب وفاكهة كثيرة وكأنهم خرجوا من بيوتهم الى نزهة وسكنوا الخيام كما في سورة الرحمن او جلسوا في ظل السدر وشجر الشوك وتمتعوا ببعض الفاكهة.
وقلنا هناك ان الله تعالى لم يبخل في هذه الدنيا على عباده حتى الكفار بانواع من الفواكه وبالقصور والجنات فكيف يبخل هناك على من نشر عليه رحمته وقبل توبته وأعماله بالفواكه والسرر ونحوها؟!
لا شك في أن المراد أمر آخر وهو الاشارة الى الفرق الواضح بين المقامين والمنزلتين وانما تحددهما درجة القرب لدى الله تعالى. فيتبين بذلك أن المراد بهذه الفواكه والسرر والخمر والجنات معنى آخر لا تدركه عقولنا. ولذلك قال تعالى (فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ..)[109]
ومثل هذا الفرق يلاحظ في موارد عديدة من القرآن الكريم كسورة الانسان حيث عبّر عن القسم الاول وهم حسب التفسير اهل بيت الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بعباد الله تعالى الذين يفجّرون عين الكافور بعملهم في الدنيا ويشربون منها في الجنة بينما الابرار يمزجون كأسهم بما تنضح به تلك العين.
وكذلك سورة المطففين حيث يصرح فيها بأن الابرار في الجنة يمزجون رحيقهم المختوم بما يصل اليهم من عين يشرب بها المقربون وسماها بتسنيم. ومن اللطيف في هذه السورة ما ورد فيها من الامر بالتنافس بين الابرار للوصول الى هذه المنزلة مما يوحي بأن منزلة المقرّبين لا تنافس فيها.
وهذا التأمل في الآيات ليس من التأويل ولا من التفسير بالباطن كما يتوهمه بعضهم ولا يستلزم التعطيل كما يقوله بعض اخر بل هو من التدبر في الآيات الذي امرنا به في قوله تعالى (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا)[110] ولا يصح حمل كلامه تعالى على ما يظهر من كلام عامة الناس.
وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ...
الازواج جمع زوج وهو يطلق على الرجل والمراة وان صح التعبير عن المراة بالزوجة ولكن الافصح الزوج ولم يرد في القران غيره.
وفي التفاسير ان المراد بالازواج الحور العين ولكن لا يبعد ان يكون المراد ازواج الدنيا كما قال تعالى (هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ).[111]
وأصرح من ذلك في كون المراد ازواج الدنيا قوله تعالى (جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ..)[112] وقوله (رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ..).[113]
فمعنى الآية ان ازواجهم سواء النساء للرجال او العكس اناس مطهّرون وانما أتى بالوصف مؤنثا في قوله (مطهرة) باعتبار الجمع.
ويناسبه التعبير بالمطهرة الدال على انهم لم يكونوا طاهرين بذواتهم انما طهرهم الله تعالى من كل خبث سواء الخبث الظاهري من النجاسات والقذارات او الباطني من الكبر والحسد والحقد والبغضاء وغيرها كما قال تعالى (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ..).[114] وأما الحور العين فهن طاهرات بالذات.
والخلود في اللغة البقاء طويل الامد قال العسكري في الفروق (الخلود استمرار البقاء من وقت مبتدأ... واصل الخلود اللزوم ومنه اخلد الى الارض واخلد الى قوله اي لزم معنى ما اتى به فالخلود اللزوم المستمر ولهذا يستعمل في الصخور وما يجري مجراها).
الا ان التابيد في الجنة يعلم من التكرار والتأكيد على الابدية في قوله تعالى (خالدين فيها ابدا) ومن امثال قوله تعالى (وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ).[115] وقوله تعالى (لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ).[116]
ومن الناس من يقول بأن الخلود لاهل الجنة فحسب واما اهل النار فيفنون بفناء النار ولكن سياق الآيات كالصريحة في أن من يخلد في النار ليس بخارج منها وانه ياتيه الموت من كل مكان وما هو بميت وانهم يتمنون الموت ويقولون ياليتها كانت القاضية او يطلبون من خازن النار بقولهم ليقض علينا ربك فياتيهم الجواب انكم ماكثون.
والحاصل أن الآيات والروايات ظاهرة بل صريحة في أن الانسان موجود ابدي لا يفنى اما في نعيم دائم او في عذاب خالد. وقد ورد في بعض الروايات ما يقتضي التحديد ايضا وهي كلها ضعيفة. وبحثنا حولها في تفسير قوله تعالى (لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا).[117]
وقد تمسك بعض المتأخرين ممن رفض الخلود والابدية بمعنى اللانهاية في العذاب بأن الجزاء بناءا على ذلك ليس وفاقا لعملهم حينئذ وينافي قوله تعالى (جَزَاءً وِفَاقًا)[118] فانهم لم يعصوا الله تعالى ولم يشركوا به الا في زمان محدود فكيف يمكن أن يكون العذاب المؤبد جزاءا وفاقا لعملهم؟!
والجواب أن موافقة الجزاء انما هي من حيث ذات العمل وأما من حيث الزمان فهو يتبع أبدية الانسان فاذا ثبت أنه موجود أبدي وأن عمله لا ينفك عنه وأنه بصورته الواقعية عذاب له فانه سيبقى في ذلك العالم المؤبد بصورة طبيعية معذّبا كما أن المجرم اذا كان له ضمير حيّ فانه يعيش في عذاب طيلة حياته في هذه الدنيا مع أن عمله لم يكن الا في لحظة واحدة ولو قدّر للانسان ان يخلّد في الدنيا فانه يبقى خالدا في العذاب النفسي.
ولو صحّ هذا الاشكال فانه يأتي في بقاء العذاب احقابا ايضا اذ هو لم يشرك احقابا وقد مرت الآية آنفا بل هذا يمنع العقوبات الدنيوية التي يفرضها المجتمع البشري على المجرم فانه يسجن مثلا مؤبدا او الى مدة طويلة مع أن مدة الجريمة ربما لا تتجاوز لحظات.
وربما يستبعد الخلود في النار من جهة أنه لا يناسب رحمة الله تعالى ولكن لو صح الاستناد اليها للزم منع كل هذه العقوبات الشديدة المذكورة في القرآن ومنها عدم الاصغاء الى دعوات اهل النار بل توجيه الخطاب العنيف اليهم في آيات كثيرة:
منها قوله تعالى (قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ * رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ * قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ)[119] وقوله (يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ)[120] وقوله تعالى (إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الْأَثِيمِ * كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ * كَغَلْيِ الْحَمِيمِ * خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ * ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ).[121] وغيرها من الآيات التي تنصّ على أن غضبه تعالى يوم القيامة على بعض أهل النار من الكفار والمنافقين شديد جدا.
ويلاحظ أن هناك من البشر من تسبب في حرمان دائم لآخرين كما لو قتل مؤمنا فحرمه من كسب الخير وحرم عائلته من العيش تحت ظله وأظلم منه من تسبب في إضلال الناس فتبعه الملايين من البشر الى قرون متمادية وحرمهم من رحمة الله تعالى فهل مثل هذا يقاس عمله بالسنين التي اشرك فيها؟!
[1] الاعراف : 59 و65 و73 و85
[2] الذاريات: 56
[3] الزمر : 6
[4] النحل : 17
[5] هود: 118- 119
[6] طه : 44
[7] البقرة : 52 - 53
[8] الذاريات : 56
[9] الانبياء: 32
[10] الطور: 5
[11] الانعام: 63- 64
[12] النجم: 26
[13] يوسف : 2
[14] العنكبوت : 51
[15] النحل : 103
[16] الدخان : 3
الفرقان: 32[17]
الانعام: 7[18]
الاسراء: 95[19]
البقرة: 4[20]
[21] ال عمران: 7
البقرة: 174[22]
البقرة: 164[23]
[24] الانفال: 31
[25] الاسراء : 88
[26] هود : 13 - 14
[27] يونس : 38
[28] الاسراء : 88
[29] المائدة: 104
[30] يونس: 16
[31] الروم : 25
[32] الاحزاب : 5
[33] الصافات : 86
[34] يونس : 38 / هود : 13
[35] الزمانة كما في الجمهرة (عدم بعض الاعضاء او تعطيل قواه) ولعلها ماخوذة من الزمان باعتبار انه مرض يدوم زمانا طويلا
[36] عيون اخبار الرضا عليه السلام ج2 ص86
[37] اي خرج والمراد الخروج من دينهم الى الدين الجديد
[38] العنكبوت : 50 - 51
[39] طه : 133
[40] العنكبوت : 48
[41] النحل: 103
[42] هود: 13- 14
[43] يونس: 38- 39
[44] الروم: 2- 5
[45] الفتح: 27
[46] الفتح: 15
[47] الانفال: 7
[48] ال عمران: 44
[49] هود: 49
[50] يوسف: 102
[51] القصص: 44- 46
[52] الشعراء: 196- 197
[53] النور: 55
[54] الحجر: 9
[55] الحجر: 22
[56] الانعام: 125
[57] الاعراف: 54
[58] يس: 38
[59] النساء: 82
[60] الزمر: 23
[61] نهج البلاغة الخطبة 133
[62] البقرة : 177
[63] طه : 63
[64] النساء: 162
[65] البقرة: 106
[66] النحل: 101
[67] البقرة: 219
[68] النساء: 43
[69] المائدة: 90- 91
[70] النساء: 15
[71] النور: 2
[72] الشورى: 13
[73] المائدة: 3
[74] ابراهيم: 10
[75] النساء: 78- 79
[76] التكوير: 29
[77] يونس: 99
[78] الانعام: 2
[79] الرعد : 39
[80] الاعراف: 143
[81] الانعام: 103
[82] ال عمران: 59
[83] المؤمنون: 14
[84] طه: 50
[85] يس: 82
[86] الروم : 30
[87] الاعراف : 172
[88] البقرة: 24
[89] آل عمران: 10
[90] غافر: 72
[91] البقرة: 174
[92] النساء: 10
[93] الانبياء: 98
[94] آل عمران: 10
[95] الجن : 15
[96] الحج : 19
[97] ال عمران : 97
[98] الشعراء: 88- 89
[99] النساء: 124
[100] العنكبوت: 7
[101] التوبة: 102
[102] النساء: 124
[103] الاعراف: 42
[104] النجم: 32
[105] النساء : 49
[106] محمد: 15
[107] التوبة: 72
[108] يونس: 62- 64
[109] السجدة : 17
[110] محمد : 24
[111] يس: 56
[112] الرعد: 23
[113] غافر: 8
[114] الاعراف: 43
[115] هود: 108
[116] الدخان : 56
[117] النبأ : 23
[118] النبأ : 26
[119] المؤمنون: 103- 108
[120] القمر : 48
[121] الدخان : 43 - 48