سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (211)
الخطاب موجه للرسول صلى الله عليه وآله وسلم او لكل مخاطب بالقران لان السؤال لا موضوعية له وانما المراد – على ما يبدو - الاستشهاد لما مر في الايات السابقة بما حدث للامم السالفة وانما ذكر بني اسرائيل خاصة لسببين:
الاول: وجودهم في تلك المنطقة واحتكاكهم بالمسلمين مما كان يسهل الاطلاع على حالات اسلافهم والسبب الثاني تشابههم مع المسلمين في الجهة التي اراد الله تعالى ان يحذر منه ومن تكراره في المسلمين من تبديل نعمة الله كما ستاتي الاشارة اليه.
و(سل) مخفف (اسال) فعل امر من السؤال وقوله (كم آتيناهم) بيان للسؤال و(كم) أداة استفهام عن الكمية ويقصد بالاستفهام بيان الكثرة اي آتيناهم آيات كثيرة و(من آية) تمييز لـ (كم). والقصد من هذا السؤال ملاحظة حالهم وان الله تعالى ارسل اليهم آيات بينات اي واضحات ولكنهم حرفوها وبدلوها.
والمعروف في التفاسير أن الآية تنديد ببني اسرائيل وان المراد بالايات البينات ما نزل بشأن رسالة الرسول الكريم صلى الله عليه وآله وسلم في التوراة او معجزات سيدنا موسى عليه السلام وغيره من الانبياء وان المراد بتبديل النعمة أن الايات نزلت لهدايتهم ولكنهم لم يهتدوا بها بل ضلوا فزادتهم رجسا الى رجسهم فصارت النعمة نقمة عليهم.
وبناءا على هذا التفسير فالآية ليست في سياق الآيات السابقة ولا يظهر وجه لتناسبها مع السياق فالانسب ان يكون المراد بها التنديد بمن يثير الاختلاف في الدين ويتبع خطوات الشيطان ويترك الطريق الذي جعله الله لتاسيس وحدة المسلمين وأنه استشهاد بما حدث لبني اسرائيل وتحذير للمسلمين من الابتلاء بنفس الخطأ الذي صدر منهم.
وعليه فالمراد بالايات البينات الاحكام التي اوجبت مخالفتها الاختلاف في الدين وتشعب الامة الى فرق وطوائف. ولم يرد في الآية ماذا فعل بنو اسرائيل بالآيات الالهية الا ان قوله تعالى (ومن يبدل نعمة الله..) يدل على أن الايات من قبيل النعم الالهية وأنهم بدّلوا نعمة الله.
والتبديل بمعنى إقامة شيء مكان شيء ولعل المراد به تبديل نعمة الله بالكفر كما قال تعالى (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ).[1] اي تبديل شكر النعمة بكفرانها او تبديل النعمة نقمة بسبب كفرانها.
ويظهر من الآيات ان بني اسرائيل وغيرهم من الامم السابقة اختلفوا فيما بينهم وان ذلك كان نتيجة البغي والعدوان من بعضهم على بعض وسياق الآيات هنا يقتضي ان هذا الاختلاف هو المراد بالتحذير عنه.
وقد وردت الاشارة الى الاختلاف بينهم في عدة موارد منها ما سيأتي في الآية بعد التالية من قوله تعالى (وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ). ومنها قوله تعالى (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ)[2] وقوله (وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ..).[3]
ومن الابداع في هذه الآية الكريمة انه لم يذكر حكم بني اسرائيل بعد هذا السؤال وانما ذكر حكما عاما ينطبق عليهم وفيه اشارة الى عدم اختصاص الحكم بهم ولعل الوجه فيه ان القصد من هذا التنبيه تحذير المسلمين من خطر الانحراف عن الخط الذي رسمه الله تعالى لمستقبل المجتمع الاسلامي وأنه يستتبع غضب الله تعالى كما حل ببني اسرائيل.
والحكم العام الذي ورد في الآية هو أن من يبدل نعمة الله فانه سيعاقب أشد العقاب وهذا ايضا لم يذكر صريحا وانما قال (فان الله شديد العقاب) وهي جملة يفهم منها الجزاء.
وقوله (من بعد ما جاءته) يبين ان المراد بهذه النعمة هو نفس الاية البينة فلو لم تكن بينة وواضحة لكان للانسان عذر في عدم الاهتمام بها واما مع كونها واضحة فالنعمة قد جاءته وقد تلقاها ولم يبق له عذر. ويلاحظ ان الايات المذكورة ايضا تشتمل على مجيء البينات ومجيء العلم.
ومن أعظم نعم الله تعالى على الامة تعيين الامام بعد الرسول بل هو اعظمها على الاطلاق بعد نعمة الرسالة ولذلك قال تعالى في اشارة الى تعيين امير المؤمنين عليه السلام اماما بعد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ).[4]
ولا شك أن الذي اُمر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بابلاغه في هذه الآية ليس هو اصل ما ارسل به من الدين بل هو امر خاص لا تقل اهمية من اصل الدين ليكون هناك فرق بين الشرط والجزاء اذ لو كان المراد اصل الرسالة لكان معنى الاية بلغ الرسالة وان لم تبلغ الرسالة فما بلغت الرسالة فلا بد من ان يكون المراد بقوله (ما انزل اليك من ربك) امرا اخر وهو ما اشار اليه تعالى بقوله (الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا..).[5]
ومن الواضح أن هذه الجملة لا علاقة لها بما قبلها وما بعدها حيث ورد حكم حرمة الميتة ولحم الخنزير وغيرهما فان هذا الحكم ورد في ثلاث مواضع قبل هذه الآية اثنان منها وردا في مكة في سورة الانعام الاية 145 وهي من اوائل ما نزل ثم في سورة النحل الاية 115 ثم في المدينة في سورة البقرة الاية 173 وهي من اوائل السور المدنية ثم في سورة المائدة وهي من اواخرها فلا يمكن ان يكون المراد بقوله (اليوم اكملت لكم دينكم) تشريع هذا الحكم كما في تفاسير العامة.
مع أن هذا الحكم ليس بتلك الاهمية حتى يوجب يأس الكفار من ان يغلبوا هذا الدين ويمنعوا انتشاره وان يكون موجبا لاكمال الدين واتمام النعمة!! ومن يراجع التفاسير منصفا يرى عجبا من محاولاتهم اليائسة لتفسير هذه الآية.
والحاصل ان النعمة العظمى التي كانت موجبة لياس اعداء الاسلام واكمالا للدين واتماما للنعمة هي ما يستوجب بقاء الدين بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم واستمرار الحكم الالهي والولاية الشرعية على المجتمع وهي نصب الامام المعصوم الذي يجب ان يجتمع حوله المؤمنون ويتبعوا اوامره والمسلمون برفضهم هذا الحكم الالهي حُرموا من هذه النعمة وكفاهم هذا العقاب في الدنيا.
زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (212)
هذه الآية تحل مشكلة عقائدية تحزّ في ضمائر المؤمنين حيث يجدون بعض الكفار في نعمة ورخاء ويجدون انفسهم في ضيق وعناء خصوصا اذا واجه المؤمن كافرا يضحك على فقره ومسكنته ويسخر منه فان ذلك يثير فيه الشكوك والشبهات وربما يؤول الامر الى كفره وجحوده.
وقد وردت الاشارة الى هذا الامر في مواضع عديدة من القرآن الكريم منها قوله تعالى (وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ..).[6]
والاضلال هنا يتم بهذا النحو حيث يوهمون للناس أن لهم على الله كرامة ويحتقرون المؤمنين بل الرسل ايضا كما قال تعالى (وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ * أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ * فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ).[7]
وهذا الامر لا يختص بالكفار بالمعنى الاخص بل يشمل جبابرة المسلمين بل اغنياءهم عامة بل يلاحظ ان بعض المؤمنين يتوهم أن الملك فلان الذي تجبر وطغى على الناس موهوب من الله تعالى ولولا ذلك لم تكن له هذه القدرة والعظمة وكذلك ال فلان وال فلان.
والكافر في هذه الاية ايضا يشمل هؤلاء ولعل المقصود به الكافر بنعمة الله لا خصوص المنكر او المشرك ويتبين ذلك من ملاحظة قوله تعالى (وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا)[8] ومثله قوله تعالى (وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى..).[9] فمثل هذا الكافر يتصور ان له على الله كرامة.
ومن هنا قالت السيدة زينب سلام الله عليها بعد ان تكلم يزيد بن معاوية لعنه الله (أظننت يا يزيد حيث أخذت علينا أقطار الأرض وآفاق السماء فأصبحنا نساق كما تساق الأسارى أن بنا على الله هوانا وبك عليه كرامة وأن ذلك لعظم خطرك عنده؟! – الى ان تقول - أنسيت قول الله تعالى: ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثما ولهم عذاب مهين).[10]
والذي زيّن الحياة الدنيا هو الله تعالى كما قال (إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا)[11] ولكن المراد بالتزيين للذين كفروا ليس هذا المعنى بل التسويل وتزيين حب الدنيا والتوغل في شهواتها ونحو ذلك وهذا هو الذي يحدث في الكافر بالمعنى الاعم سواء آمن بلسانه ام لم يؤمن وهذا الامر يسنده الله تعالى اليه تارة والى الشيطان تارة والى نفس الانسان او غيره تارة اخرى.
قال تعالى (إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ)[12] وقال (تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ)[13] وقال (قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا..)[14] وقال ايضا (وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ..).[15]
وقوله (ويسخرون) عطف على الجملة السابقة ويمكن ان تكون حالية اي وهم يسخرون من الذين آمنوا. والمراد استهزاؤهم بفقراء المؤمنين وهم في الواقع يسخرون من كل الفقراء ولكن الذي يترتب عليه عقاب الاخرة ومقابلة استهزائهم باستهزاء اخر هو سخريتهم من المؤمنين لا فقراء الكفار.
ويمكن تعميم السخرية ليشمل كل المؤمنين لانهم يسخرون من عقائد المؤمنين عامة وطقوسهم كما قال تعالى (إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ)[16] ولكن المناسب لصدر الاية وذيلها الاختصاص بالفقراء.
والجملة التالية ترد عليهم بأن المتقين فوقهم يوم القيامة إما بمعنى علو الدرجة وإما بمعنى كونهم مشرفين عليهم يرونهم ويرون شقاءهم ويفرحون بذلك وتشفى صدورهم من الغليل الذي اصابهم من ظلمهم ولذلك قال تعالى بعد الاية الانفة الذكر (فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ * عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ * هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ).[17]
ومما يدل على اشرافهم على مواضع الكفار في النار قوله تعالى (فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ * قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ * يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ * أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَدِينُونَ * قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ * فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ * قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ).[18]
وحيث كان عنوان (الذين آمنوا) يشمل بظاهره كل من آمن بالله ورسوله في الظاهر وان كان منافقا ابدل التعبير الى (والذين اتقوا) فان الذين آمنوا بالمعنى العام ليسوا باجمعهم في الجنة بل ولا اكثرهم بل يصح ان نقول ان اكثرهم في النار.
واما قوله (والله يرزق من يشاء بغير حساب) فقيل ان المراد رزق المتقين يوم القيامة وانه هو الرزق الذي لا يمكن عده وحصره.
ولكن الانسب ان يكون المراد الرزق في الدنيا فيمكن ان يكون المراد بها الرد على توهم بعض الناس ان الله تعالى يرزق الكافر في الدنيا اكثر من المؤمن او الاعتراض على الله تعالى بتوسعة الرزق عليهم ليكونوا فتنة للناس فهذه الجملة ترد عليهم بأن الله تعالى يرزق في الدنيا من يشاء وهو طبعا لا يشاء الا لحكمة وفي اطار السنن الالهية والقانون الطبيعي فكل من حاول الاسترزاق بالطريق الصحيح رزقه الله تعالى.
وبناءا على ذلك فمعنى كون الرزق بغير حساب انه لا يحاسب فيه عقيدة الانسان وصلاحه فالرزق عام للمؤمن والكافر كما قال تعالى (كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا).[19]
ويمكن ان يكون المراد من كون الرزق بغير حساب انه ليس فيه تضييق وتقتير فيرزق بعض الناس رزقا واسعا كما قال تعالى (اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ)[20] وقد ورد هذا المضمون في مواضع عديدة من القرآن.
او يكون المعنى بغير احتساب اي يرزقه من حيث لا يحتسب كما قال تعالى (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ..)[21] وهذا ايضا مما يكثر في الناس بَرّهم وفاجرهم حيث تأتي الارزاق الواسعة عن طريق الارث او الهبات ونحوها.
او يكون المعنى أن الله تعالى يرزق من يشاء ولا يحاسبه احد فيما يفعله فيكون القصد منه الرد على من يعترض على ما يراه من سعة الرزق للكفار والمنافقين وهذا المعنى ايضا وارد في موارد اخرى كقوله تعالى (لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ).[22]
كَانَ النَّاسُ أُمَّـةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (213)
اختلف المفسرون في تفسير الاية وفي ارتباطها بسياق الايات السابقة وقد اشكل الامر على كثير منهم حتى ان صاحب المنار احجم عن البحث فيه بل اوعز ذلك الى استاذه ليكتب تفسيرها بقلمه. والعلامة الطباطبائي قدس سره فصل الكلام في تفسيرها باسهاب وردّ على جميع محاولات السابقين واللاحقين.
والاشكال نشأ من قوله تعالى (كان الناس امة واحدة فبعث الله النبيين) من جهة المراد بالناس وبوحدتهم وبكونهم امة واحدة وفي ان هذه الوحدة كيف كانت مثار بعثة الانبياء على ما يفهم من الفاء ومن جهة ان الكتاب انزل لرفع الاختلاف كما في الاية مع انه اعتبرهم امة واحدة وهل هناك اختلاف واحد ام اختلافان؟
فقال جمع من المفسرين ان المراد بالامة الواحدة من كانوا قبل سيدنا نوح عليه السلام وانهم كانوا على ضلال فبعث الله النبيين لهدايتهم ولو كانوا مهتدين ما كانوا بحاجة ويشكل عليهم بأن الناس من اول وجود الانسان على هذه الارض ما كانوا على ضلال لان اول انسان على الارض نبي وهو آدم عليه السلام.
ولذلك ذهب جمع اخر الى ان المراد بهم انهم كانوا امة واحدة على الهداية ولكن سبب البعث أنهم اختلفوا فهناك تقدير في الاية اي فاختلفوا فبعث الله.. واستشهدوا على ذلك بقوله تعالى (وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا..).[23] ولكن التقدير في هذه الاية بعيد وان نسب الى ابن مسعود انه قرأ الاية هكذا.
ومهما كان فلا يهمنا نقل الاقوال المختلفة والظاهر ان الاية وردت في سياق الايات السابقة حيث امر الله تعالى المؤمنين بان يدخلوا في السلم كافة وان لا يختلفوا في الدين وفي هذه الاية يبين سبب نشوب الاختلاف في الدين في الاقوام السابقة لتحذير المسلمين من الوقوع فيما وقعوا فيه.
والامة في اللغة بمعنى مجموعة من الناس يجمعهم دين واحد او هدف واحد او لغة او قومية او وطن ونحو ذلك وربما تطلق الامة على الدين كما ورد في كتاب العين ومنه قوله تعالى (إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ).[24] والاصل فيه أمّ اي قصد والدين هو المقصد والامة المتحدة في الدين مقصدهم واحد.
والظاهر أن المراد بقوله (كان الناس امة واحدة) أن المجتمع البشري قبل بعثة كل نبي فيهم مجتمع موحد من حيث الملة والدين او من حيث المنهج الاجتماعي ولكنهم بالطبع بعيدون عن الثقافة الدينية الصحيحة والتشريع الالهي بسبب الفاصل الزمني بينهم وبين الرسالة السابقة التي جاءتهم بالشريعة.
وهذا هو الملحوظ ايضا في المجتمع العربي قبل بعثة الرسول الكريم صلى الله عليه وآله وسلم حيث كان العرب يعيشون عيشة جاهلية ولكن المنهج كان واحدا ولما بعث الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وقع الاختلاف الشديد بينهم حتى ان الواحد منهم كان يعادي ويقاتل اباه واخاه. ولا يستغرب ذلك فقد قال تعالى (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ).[25] ومعنى ذلك انهم كانوا امة واحدة قبل بعثة رسولهم.
ولا نقول ان (كان) منسلخة عن الزمان ليقال انه خلاف الظاهر ولا نقول ان معنى الاية ان الناس كانوا في زمان امة واحدة ليبحث عن موعد هذا الزمان هل كان قبل نوح عليه السلام او غير ذلك كما ورد في التفاسير بل نقول ان الناس قبل بعثة كل نبي كانوا امة واحدة اي ليس لهم منهج تشريعي من الله تعالى وانما كانوا يتبعون مسلكا اتفقوا عليه على اختلافهم في شؤون اخرى شخصية او قبلية ونحو ذلك.
وليس معنى ذلك انهم كانوا كلهم على ضلال وانما كانت هذه صفة المجتمع كما ان العصر الجاهلي قبل بعثة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كان فيه بعض الاختلاف في العقيدة والعمل فكان فيهم من يمتنع من عبادة الاصنام ولا يشرب الخمر بل يعتقد بالمعاد وكان فيهم الحنفاء ومن يعمل بشريعة موسى وعيسى عليهما السلام ولكن المجتمع بصورة عامة كانت تعيش عيشة جاهلية.
ومن هنا يتبين أن تفرع بعثة الانبياء على كون الناس امة واحدة بلحاظ ان وحدتهم لم تكن بمتابعة رسول وشريعة فكانوا بحاجة الى شريعة من السماء تنظم امور حياتهم كما اراده الله تعالى وشرعه وتعلمهم الثقافة الدينية وحقائق الغيب.
وربما كان الناس يتبعون شريعة سابقة كبني اسرائيل حيث بعث فيهم الانبياء الى ان بعث فيهم عيسى وهم على شريعة موسى عليهما السلام ولهم كتاب سماوي ولكنهم حرفوا الكتاب وبدلوا احكام الله تعالى وانتشرت فيهم الافكار الضالة ولم يبق من الدين الا اسمه فكان لا بد من ارسال رسول معصوم يقوّم هذا الاعوجاج الحاصل من الاختلاف في الكتاب قال تعالى (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ).[26]
ويصدق عليهم ايضا انهم كانوا امة واحدة ليس لهم منهج الهي صحيح. ومع ذلك فكان فيهم حين بعثة عيسى عليه السلام نبي كزكريا عليه السلام وصلحاء من النساء والرجال وفيهم السيدة مريم عليها السلام الا ان الحالة العامة للناس كانت حالة فاسدة وابتعدوا عن شريعة السماء واتبعوا الملوك والظلمة.
وقوله تعالى (مبشرين ومنذرين) يبين أن دور الانبياء في المجتمع كان هو التنبيه على أن حياة الانسان لا تقتصر على هذه الدنيا وأن أهم أدوار حياته هو ما يؤول اليه امره بعد الموت فهو إما في سعادة دائمة او شقاء ابدي وأن تنظيم هذه الحياة ايضا مقدمة لدرك السعادة في تلك الحياة الابدية.
والمراد بالكتاب الذي انزله الله مع النبيين ليس هو الكتاب المدون كالتوراة والانجيل والقرآن بل الكتاب بمعنى مجموعة الاحكام والشرائع والمعارف الالهية التي يبلغها الرسول سواء كانت ضمن آيات الكتاب السماوي او احكاما متفرقة وشرحا وتبيينا من الرسول بل حتى ما كان تشريعا منه.
وانما نقول بالتعميم لان الاحكام والمعارف ليست كلها ضمن آيات الكتاب وقد مرت علينا الايات التي وردت في نسخ احكام سابقة غير مذكورة في القران كقوله تعالى (وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ..)[27] مع ان حكم القبلة الاولى لم يرد في القرآن. وكذلك قوله تعالى (عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ..)[28] مع ان حرمة الرفث ليلة الصيام لم ترد في القرآن.
وقوله (بالحق) اي مع الحق وهو الامر الثابت اي انزل الكتاب مع الشريعة الحقة التي يجب على البشر ان يتبعوه في جميع شؤونهم ليحققوا العدالة في الحياة الدنيا ولينالوا رضوان الله والسعادة الابدية في الحياة الاخروية.
وقوله (ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه) اي ليحكم الله تعالى بينهم او ليحكم الكتاب بينهم. وما اختلفوا فيه هو شؤونهم الدنيوية التي توجب الاختلاف اي موارد النزاع وكذلك ما اختلفوا فيه من العقائد وحقائق الدين وما يرتبط بما وراء الطبيعة وعلاقة الانسان بربه ومصير الانسان يوم القيامة ونحوها كما يفيده قوله تعالى (وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ).[29]
ومن هنا يتبين أن هذا الاختلاف يختلف عن الاختلاف المقصود بقوله (وما اختلف فيه الا الذين اوتوه) فالاختلاف الاول يحصل بصورة طبيعية في كل مجتمع بشري بمقتضى تعارض المصالح كما يحصل بالنسبة لحقائق الدين بسبب جهلهم بها وبعدهم عن طرق الوصول اليها والاطلاع عليها وهو موجود قبل مجيء الرسول.
والاختلاف الثاني هو ما حصل بين الامم في نفس الكتاب اي الشريعة التي جاء بها رسولهم بسبب بغي بعض الذين اوتوا الكتاب على بعض اخر منهم. والضمير في قوله (وما اختلف فيه) يعود الى الكتاب.
والمراد بالذين اوتوه أتباع تلك الشريعة حيث ان الكتاب نزل خطابا لهم عن طريق الرسول ولا يختص بالرعيل الاول الذين صحبوا الرسول بل يشمل كل من يعتبرون من أتباعهم او يدّعون انهم يتبعون نفس الشريعة.
ومن هنا يشمل هذا البيان بني اسرائيل في العصور المتاخرة عن سيدنا موسى عليه السلام حيث انهم هم المسؤولون عن تحريف الكتاب والاختلاف فيه.
ویتبین من قوله (من بعد ما جاءتهم البينات) أن الاختلاف لم يكن بسبب جهل بالواقع بل كان تعمدا بعد الادلة الواضحة. والبينات جمع بينة بمعنى الواضح والموضح فالمراد أنهم عارضوا الحق الواضح البين عن قصد.
وهذا تطبيق لما مر في قوله تعالى (فان زللتم من بعد ما جاءتكم البينات...) مما ينبه المسلمين على وحدة المصير وان السابقين زلوا مع وجود الايات الواضحة فاصابهم ما اصابهم وهذا ينطبق على زلتكم مع وجود البينات.
وقوله (بغيا بينهم) يدل على الداعي اليه اذ ربما يستغرب كيف يقف المؤمنون في مواجهة الحق عمدا فان هذا يتنافى مع الايمان وهذا القيد يبين ان السبب هو البغي والعدوان من بعضهم على بعض.
والبغي في الاصل بمعنى الطلب والغالب في استعماله طلب الانسان ما ليس له ومن هنا يطلق على الخارج على الامام بالحق انه باغ وقوله (بينهم) ليس بمعنى ان كلا منهم يبغي على الاخر كما قاله الالوسي بل البينية تصدق بكون بعضهم باغيا على بعض وبالطبع فان ذلك ينشأ من الحسد.
وهناك آيات اخرى ايضا تنبه على وقوع هذا الامر في الامم السالفة وخصوصا بني اسرائيل كقوله تعالى (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ)[30] وقوله (وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ)[31] وقوله (وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ)[32] وغيرها من الايات ومن الواضح ان الغرض من التنبيه على ذلك هو تحذير المسلمين من الوقوع في مثله.
وقد ورد هذا التحذير صريحا في قوله تعالى (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ).[33]
ويظهر من هذه الآية ان الاختلاف الذي ظهر في الامم السابقة بعد الرسل استوجب الكفر حيث يخاطبون (اكفرتم بعد ايمانكم) كما يشير اليه في الاية التي نبحث عنها ايضا بقوله (فهدى الله الذين آمنوا..) حيث يدل على ان من خالفهم ليسوا من المؤمنين.
وكذلك يشير اليه قوله تعالى (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ)[34] وصرح بذلك ايضا في قوله (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ).[35]
والى هنا يتبين ان الاختلاف الذي حصل في الامم السالفة والذي يحذر القران من حصوله في المجتمع الاسلامي اختلاف مهم جدا وليس من الاختلاف في الفروع بل هو امر يستوجب الكفر والانحراف عن اصل الدين كما يتبين انه يحصل نتيجة الحسد والبغي من بعضهم على بعض وليس ناتجا من الجهل بحقائق الامور.
فيا ترى ما هو هذا الاختلاف؟ وهل حصل في المسلمين؟ وهل اليه تشير الاحاديث التالية الواردة في صحيحي البخاري ومسلم؟
(خَطَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّكُمْ مَحْشُورُونَ إِلَى اللَّهِ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلًا»، ثُمَّ قَالَ: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ، وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء: 104] إِلَى آخِرِ الآيَةِ، ثُمَّ قَالَ: " أَلاَ وَإِنَّ أَوَّلَ الخَلاَئِقِ يُكْسَى يَوْمَ القِيَامَةِ إِبْرَاهِيمُ، أَلاَ وَإِنَّهُ يُجَاءُ بِرِجَالٍ مِنْ أُمَّتِي فَيُؤْخَذُ بِهِمْ ذَاتَ الشِّمَالِ، فَأَقُولُ: يَا رَبِّ أُصَيْحَابِي، فَيُقَالُ: إِنَّكَ لاَ تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ، فَأَقُولُ كَمَا قَالَ العَبْدُ الصَّالِحُ: {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ، فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [المائدة: 117] فَيُقَالُ: إِنَّ هَؤُلاَءِ لَمْ يَزَالُوا مُرْتَدِّينَ عَلَى أَعْقَابِهِمْ مُنْذُ فَارَقْتَهُمْ).[36]
وروى (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " بَيْنَا أَنَا قَائِمٌ إِذَا زُمْرَةٌ، حَتَّى إِذَا عَرَفْتُهُمْ خَرَجَ رَجُلٌ مِنْ بَيْنِي وَبَيْنِهِمْ، فَقَالَ: هَلُمَّ، فَقُلْتُ: أَيْنَ؟ قَالَ: إِلَى النَّارِ وَاللَّهِ، قُلْتُ: وَمَا شَأْنُهُمْ؟ قَالَ: إِنَّهُمُ ارْتَدُّوا بَعْدَكَ عَلَى أَدْبَارِهِمْ القَهْقَرَى. ثُمَّ إِذَا زُمْرَةٌ، حَتَّى إِذَا عَرَفْتُهُمْ خَرَجَ رَجُلٌ مِنْ بَيْنِي وَبَيْنِهِمْ، فَقَالَ: هَلُمَّ، قُلْتُ أَيْنَ؟ قَالَ: إِلَى النَّارِ وَاللَّهِ، قُلْتُ: مَا شَأْنُهُمْ؟ قَالَ: إِنَّهُمُ ارْتَدُّوا بَعْدَكَ عَلَى أَدْبَارِهِمْ القَهْقَرَى، فَلاَ أُرَاهُ يَخْلُصُ مِنْهُمْ إِلَّا مِثْلُ هَمَلِ النَّعَمِ).[37]
وروى مسلم قال (حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لَيَرِدَنَّ عَلَيَّ الْحَوْضَ رِجَالٌ مِمَّنْ صَاحَبَنِي، حَتَّى إِذَا رَأَيْتُهُمْ وَرُفِعُوا إِلَيَّ اخْتُلِجُوا دُونِي، فَلَأَقُولَنَّ: أَيْ رَبِّ أُصَيْحَابِي، أُصَيْحَابِي، فَلَيُقَالَنَّ لِي: إِنَّكَ لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ).[38]
وقد أولها مفسرو الصحيحين باهل الردة مع ان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم عبّر عنهم بأنهم رجال ممن صاحبني بل عبر عنهم باصيحابي والتصغير انما يؤتى به في مثل هذه الموارد للاشارة الى شدة الارتباط نظير ما يقال للاخ العزيز (اُخيّ) وللابن (يا بُنيّ).
ثم أخبر تعالى عن نتيجة الاختلاف في الامم السابقة وهو أن الله تعالى ترك الذين عارضوا الحق ورفضوا التسليم له بغيا وحسدا على الذين امر الله تعالى بمتابعتهم من اوصياء الانبياء وهدى الذين آمنوا بالرسالة بحذافيرها واستسلموا لكل ما قاله الرسول واوصاهم به فهداهم الله الى الحق الذي وقع فيه الاختلاف.
واللام في قوله (لما اختلفوا) بمعنى (الى) و(من) بيانية وقوله (باذنه) يمكن ان يكون قيدا للاختلاف فلا يحتاج الى تأويل ويكون المراد ان اختلافهم لم يخرج عن السيطرة وانما كان باذن الله تعالى وارادته نتيجة لسوء سرائرهم وبغيهم.
ويمكن ان يكون قيدا لقوله (فهدى الله) كما في التفاسير ولكن ربما يستغرب من ذلك لان الهداية فعله تعالى فكيف يقيد باذنه وقد اولوه بان المراد كونها بتيسير منه تعالى وتوفيق وبهذا التأويل يكون المعنى أنه تعالى لم يجبرهم على الهداية وانما وفقهم ويسّر لهم.
الا ان تفسير الاذن بالتيسير والتوفيق كما قال المفسرون مستبعد لان الاذن في اللغة بمعنى العلم قال في العين (وأذنت بهذا الشيء اي علمت وآذنني أعلمني وفعله بإذني اي بعلمي وهو في معنى بأمري وكذلك الذي يأذن بالدخول على الوالي وغيره). ومثله ايضا في معجم مقاييس اللغة.
ولكن يستبعد ان يصح التعبير بالعلم في جميع موارد الاذن كالاستئذان او اذنت لك في كذا ولذلك قال في المفردات (الاذن في الشيء اعلام بإجازته والرخصة فيه نحو "وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ.."[39] اي بارادته وأمره..) والظاهر ان ما ذكره هو الصحيح كما يلاحظ من موارد استعماله في القران وغيره فكلما تعلق الاذن بهذا المعنى باللام كان من هذا القبيل كقوله تعالى (عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ)[40] وغيرها من الايات.
ولم اجد في القرآن تعليق فعله تعالى باذنه الا في موردين الاولى قوله تعالى (وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ..)[41] والثانية قوله تعالى (يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ..).[42]
وفيهما ايضا حاول المفسرون تأويل الاذن فبعضهم قال انه بمعنى التوفيق والتيسير وبعضهم قال ان المراد دعوة المؤمنين الى الجنة والمغفرة في الاية الاولى وبعضهم فسر الاذن في الاية الثانية بالعلم مع ان الاشكال ياتي فيه ايضا.
والظاهر انه فيهما بمعنى أن دخول الجنة وحصول المغفرة لا يتم الا باذنه فالله تعالى يدعو الى ما يترتب عليه الجنة والمغفرة وهو عمل المؤمن ولكنه لا يحصل على ما يريد الا باذنه والغرض ان ترتب المقصود ليس حتميا بل منوط باذنه تعالى.
وكذلك اخراجهم من الظلمات الى النور انما يتم بدعوتهم الى العمل الصالح وتوفيقهم ولكن ترتب المقصود على ذلك يتبع اذنه فهناك كثير من المؤمنين لا تقبل اعمالهم لاسباب خاصة.
وهنا ايضا يمكن ان يأتي هذا التوجيه لو فرض رجوع الاذن الى الهداية فان الهداية من الله تعالى بمعنى اراءة الطريق عام يشمل المؤمن والكافر وانما يتبعها الذين امنوا ويتجنبها من لم يؤمن ومن كان في ايمانه خلل الا ان المؤمن ايضا قد لا يصل الى المقصود اذا لم يأذن به الله تعالى كما هو الحال في كثير منهم ايضا.
انما الكلام في المراد بالذين آمنوا فان المفروض ان الاختلاف وقع في الذين اوتوا الكتاب فالفريقان يؤمنان بالله ورسوله وبالكتاب المنزل وانما اختلفوا في بعض الامور فهذا التعبير يدل على ان مورد الاختلاف من الاهمية بحيث يكون انكاره موجبا للكفر وليس من الاختلاف في الفروع. وهذا يظهر ايضا من ايات اخرى كما مرت الاشارة اليه.
والذي يوجب الكفر هو التشكيك في بعض ما بلغه الرسول من عند الله تعالى سواء كان التشكيك في اصل التسليم لامر الله او في صحة ما نقله الرسول وهذا ينطبق تماما على الاختلاف الذي وقع في الامة الاسلامية في امر الخلافة والامامة ومن الغريب ان الامم السالفة اختلفوا بعد رسولهم وهذه الامة اختلفت في عهد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وبحضوره حتى اخرجهم من بيته وهم اصحابه الذين آزروه ونصروه.
والتعقيب الاخير في الآية ينبه على أن الهداية تتبع امورا لا يعلمها الا الله تعالى فهو يعلم من يستحقها ممن لا يستحقها والهداية كأي امر آخر تتحقق بمشيئته تعالى ولكنه لا يشاء الا لمصلحة.
والتعبير بانه صراط مستقيم يدل على أن من خالفهم في هذا الاختلاف خرج عن الصراط فلا يبلغ المقصود ولعله اتى بلفظ الصراط نكرة لانه صراط في جزئية خاصة من موارد الاختلاف في الكتاب ولعله يستفاد منه ان الذين امنوا ايضا ليسوا كلهم مهتدين الى كل صراط مستقيم مما يتفرع من الصراط الاول.
وما ذكرناه في تفسير الاية يخالف كل ما ذكره المفسرون على اختلافهم ولكني ارى انه واضح من تعابير الاية الكريمة واغرب ما رايت الروايات التي استند اليها اكثرهم لتطبيق الذين آمنوا على انفسهم وان الكلام انما هو في تفضيل المسلمين على اليهود والنصارى حتى قال بعضهم (وَالْمُرَادُ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا الْمُسْلِمُونَ لَا مَحَالَةَ).[43]
ومما استندوا اليه ما رواه ابْن أبي حَاتِم عَن زيد بن أسلم (فِي قَوْله {فهدى الله الَّذين آمنُوا لما اخْتلفُوا فِيهِ من الْحق بِإِذْنِهِ} فَاخْتَلَفُوا فِي يَوْم الْجُمُعَة فَأخذ الْيَهُود يَوْم السبت وَالنَّصَارَى يَوْم الْأَحَد فهدى الله أمة مُحَمَّد ليَوْم الْجُمُعَة وَاخْتلفُوا فِي الْقبْلَة فاستقبلت النَّصَارَى الْمشرق وَالْيَهُود بَيت الْمُقَدّس وَهدى الله أمة مُحَمَّد للْقبْلَة وَاخْتلفُوا فِي الصَّلَاة فَمنهمْ من يرْكَع وَلَا يسْجد وَمِنْهُم من يسْجد وَلَا يرْكَع وَمِنْهُم من يُصَلِّي وَهُوَ يتَكَلَّم وَمِنْهُم من يُصَلِّي وَهُوَ يمشي فهدى الله أمة مُحَمَّد للحق من ذَلِك وَاخْتلفُوا فِي الصّيام فَمنهمْ من يَصُوم النَّهَار وَمِنْهُم من يَصُوم عَن بعض الطَّعَام فهدى الله أمة مُحَمَّد للحق من ذَلِك وَاخْتلفُوا فِي إِبْرَاهِيم فَقَالَت الْيَهُود: كَانَ يَهُودِيّا وَقَالَت النَّصَارَى: كَانَ نَصْرَانِيّا وَجعله الله حَنِيفا مُسلما فهدى الله أمة مُحَمَّد للحق من ذَلِك وَاخْتلفُوا فِي عِيسَى فَكَذبت بِهِ الْيَهُود وَقَالُوا لأمه بهتاناً عَظِيما وَجَعَلته النَّصَارَى إِلَهًا وَولدا وَجعله الله روحه وكلمته فهدى الله أمة مُحَمَّد للحق من ذَلِك).[44]
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214)
هذه الآية تأتي في سياق الآيات السابقة وتحذّر المسلمين بصراحة بأنهم سيواجهون ما واجهته الامم السالفة وسيغربلون ويلقون الفتن ويمحصون تمحيصا ولا يدخلون الجنة بمجرد أن يؤمنوا بالله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم فلا بد لهم من الثبات ومتابعة الخط الذي رسمه الله لهم ونزل به الكتاب وابلغه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والدخول في السلم واجتناب التفرق والاهتمام بالوحدة مع الاعتصام بحبل الله تعالى.
ومثل هذه الآية قوله تعالى (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ)[45] وغيرها من الآيات التي تدل على أن هذه الحياة مجال امتحان الانسان وابتلائه ولا يمكن له ان يتهرب منه. ومن الادعية الخاطئة التي لا تستجاب هو طلب عدم الفتنة والابتلاء من الله تعالى.
و(أم) منقطعة ففيها معنى الاضراب والاستفهام. والاضراب يمكن ان يكون بلحاظ أن الآية السابقة حيث بين حال الامم السالفة وما وصلوا اليه من الاختلاف فيتصور بعض المسلمين أن هذا الاختلاف خاص بهم وان هذه الامة لا تبتلى بمثله. والاستفهام للانكار اي لا ينبغي لكم هذا الحسبان ويظهر منه انه امر متحقق والناس في غفلة عما تأتي به الايام من بلايا.
والحسبان: الظن، اي أظننتم ان تدخلوا الجنة... و(لمّا) انتظار لشيء متوقع على ما نسبه في تهذيب اللغة الى الخليل فالمعنى أن هذا امر كائن لا محالة ولكنه لم يتحقق حتى الآن.
والمَثَل مأخوذ من المُثول بمعنى الانتصاب يقال مَثُل فلان بين يدي الامير اي وقف منتصبا ويطلق على كل ما ينصب علامة لشيء كما يطلق على ما يشبّه به الشيء وهو المراد هنا اي ولمّا يأتكم شبيه ما أتى الذين خلوا من قبلكم.
وقوله (خلوا) من الخلوّ. والاصل فيه فراغ المكان اوالزمان من الشيء ولكنه يسند مجازا الى نفس الشيء فيقال خلا اذا فرغ منه المكان او الزمان اي مضى لسبيله فالمعنى الامم السالفة الذين مضوا قبلكم ولم يبق منهم احد.
والمسّ بمعنى اللمس ويكنى به عن الاصابة والبأساء اسم للشدة ماخوذ من البأس وكثر استعماله في الشدة الحاصلة من الحرب او من الفقر. والضراء اسم من الضر وهو ما يضر الانسان وأكثر ما يستعمل فيه ما يحصل من المرض.
وزلزلوا اي اضطربوا والاصل فيه زلّ اي زلق ودحض عن مكانه. وتكرار (زلّ) يفيد تكرر الزلق وهو الاضطراب والمراد ما يحصل في المجتمع من مختلف المشاكل التي تمنع استقرار الناس وسلامتهم.
وقوله (حتى يقول) بيان لغاية الاضطراب اي هو مستمر الى ان يقول الرسول (متى نصر الله) والظاهر أن المراد به رسول كل امة ولعل المراد ان هذا هو حديثهم في انفسهم ولا يعني انه قول لفظي يجتمعون عليه فالمعنى ان الاضطراب يصل الى هذا الحد حيث يستغرب الرسول وهو معصوم وكذلك المؤمنون من عدم نزول النصرة عليهم من الله تعالى مع انه وعد المؤمنين بها.
وقال جمع من المفسرين ومنهم الشيخ قدس سره في التبيان ان المراد بهذا التعبير الدعاء بالنصرة وليس استبطاءا لها فان ذلك لا يمكن ان يصدر من الرسول والله تعالى لا يقدم شيئا ولا يؤخره الا لمصلحة.
وهذا الاستدلال لو تم لم يصح الدعاء ايضا بل لم يكن وجه للدعاء لاي حاجة فان الله تعالى لا يقدم ولا يؤخر الا لمصلحة والواقع أن نفس هذه الحالة في الانسان والاستغاثة والدعاء ربما تكون مما يغير المصلحة.
واما ان ذلك لا يمكن ان يصدر من الرسول لانه معصوم فالصحيح ان هذا ليس ذنبا لينافي عصمته وانما هو استغراب من التاخير وهم لا يعلمون السبب فيه فلعله من انفسهم فالاستبطاء ليس مما يتنافى مع العصمة.
هذا مضافا الى ان الانبياء معصومون من الذنوب التي يرتكبها غيرهم من البشر واما ترك الاولى ومخالفة الاوامر الارشادية ووسوسة النفس فليس مما لا يناسب مقامهم بل ورد ذكرها في موارد عديدة من الايات الكريمة.
ومثل هذا الاستغراب بل اشد منه جاء في قوله تعالى (حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا..)[46] وهذا لا يخص رسولا بذاته بل هو عام ومعناه ان نصرة الله تعالى لا تتبع اهواء البشر حتى المعصومين بل تتبع سننه تعالى وهو الذي يعلم وقتها فينزلها في موعدها ولكن البشر يستعجل بها واذا لم تنزل في الموعد الذي يتوقعه الانسان يظن ان الوعد لم يكن واقعيا.
وقد أوّل المفسرون هذه الآية بناءا على هذه القراءة لاستبعاد حدوث مثل هذا الظن للانبياء ولكن الظاهر أنه لا حاجة الى تأويل والظن ليس بمعنى الاعتقاد الراجح وانما هو وسوسة تلقى في قلوبهم او حديث نفس لا يؤاخذ عليه الانسان كما ورد في الحديث (ثلاثة لم ينج منها نبي فمن دونه: التفكر في الوسوسة في الخلق والطيرة والحسد إلا أن المؤمن لا يستعمل حسده).[47]
ومن هذا القبيل ما قاله نوح عليه السلام كما في قوله تعالى (وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ * قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ * قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ).[48]
ومنه ايضا قصة يونس عليه السلام قال تعالى (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ)[49] اي ظن ان الله تعالى لا يضيّق عليه بارساله الى القوم.
وقوله (ألا ان نصر الله قريب) جواب من الله تعالى لهذا السؤال او الاستبطاء او الدعاء مهما كان ولا يعني ذلك أن الله تعالى يغيّر الموعد بل المراد أن النصر قريب منكم ولكنكم تستعجلون فالانسان خلق من عجل ويخاف الفوت والله تعالى لا يخاف الفوت والامور كلها بيده وتحت سلطانه ولكن كل شيء حسن في وقته لا قبله والانسان جاهل بحقائق الامور.
والنصر لا يعني أن الله تعالى يحفظ المجاهدين والمقاتلين في سبيله بل هم باعوا انفسهم لله بأن لهم الجنة وانما يعني نصرة دين الله تعالى على الاديان الباطلة في النهاية وهذه النصرة تحققت للمسلمين حيث فتحوا مكة ودانت العرب كلها لحكومة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وانتشر الدين الاسلامي في جزيرة العرب وما حولها والنصر النهائي على جميع المعاندين للاسلام وللدين الحقيقي لا يتم الا بعد ظهور الامام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف.
[1] ابراهيم : 28
[2] ال عمران : 105
[3] يونس : 93
[4] المائدة : 67
[5] المائدة : 3
[6] يونس : 88
[7] الزخرف : 51 - 53
[8] الكهف : 36
[9] فصلت : 50
[10] بحار الانوار ج 45 ص 122
[11] الكهف : 7
[12] النمل : 4
[13] النحل : 63
[14] يوسف : 18
[15] الانعام : 137
[16] المطففون : 29 - 30
[17] المطففون 34 - 36
[18] الصافات : 50 - 56
[19] الاسراء: 20
[20] الرعد : 26
[21] الطلاق : 2 - 3
[22] الانبياء : 23
[23] يونس : 19
[24] الزخرف : 22
[25] النمل : 45
[26] فصلت : 45
[27] البقرة : 143
[28] البقرة : 187
[29] النحل : 64
[30] البقرة : 176
[31] البينة : 4
[32] يونس : 93
[33] ال عمران : 105 - 106
[34] ال عمران : 19
[35] البقرة : 253
[36] صحيح البخاري ج 6 ص 55 باب (وكنت عليهم شهيدا) على ما في المكتبة الشاملة
[37] صحيح البخاري ج 8 ص 121 باب الحوض على ما في المكتبة الشاملة
[38] صحيح مسلم ج 4 ص 1800 باب اثبات حوض نبينا صلى الله عليه وسلم على ما في المكتبة الشاملة
[39] النساء : 64
[40] التوبة : 43
[41] البقرة : 221
[42] المائدة : 16
[43] التحرير والتنوير ج 2 ص 312
[44] الدر المنثور ج 1 ص 583
[45] ال عمران : 142
[46] يوسف : 110
[47] الكافي ج 8 ص 108
[48] هود : 45 - 47
[49] الانبياء : 87