مكتب سماحة السيد مرتضى المهري

يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (215)

مجموعة آيات تشتمل على اسئلة من الناس سألوا الرسول صلى الله عليه وآله وسلم عنها فنزل الجواب من عند الله تعالى وفي رواية عن ابن عباس (قَالَ: مَا رَأَيْت قوما كَانُوا خيرا من أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا سَأَلُوهُ إِلَّا عَن ثَلَاث عشرَة مَسْأَلَة حَتَّى قبض كُلهنَّ فِي الْقُرْآن مِنْهُنَّ (يَسْأَلُونَك عَن الْخمر وَالْميسر.. الحديث).[1]

وهو كلام غريب لا يصح اسناده الى ابن عباس فالرسول صلى الله عليه وآله وسلم عاش بين اصحابه ثلاثا وعشرين سنة وهم بامس الحاجة لمعرفة الاحكام فلو لم يسألوه صلى الله عليه وآله وسلم كيف كانوا يعملون بها؟!

والخطاب للرسول صلى الله عليه وآله وسلم والسؤال من المؤمنين و(ماذا) إمّا كلمة واحدة بمعنى (ما) الاستفهامية كما قيل وإمّا مركبة من ما الاستفهامية وذا بمعنى الذي اي ما الذي ينفقونه؟ وما في قوله (ما انفقتم) موصولة تفيد معنى الشرط ولذلك اتى بالفاء على جوابه.  

وحيث كان السؤال عما ينفقون والجواب غير مطابق له بل عيّن في الجواب موارد الاولويات في الانفاق قال بعض المفسرين انه جواب الحكيم بمعنى ان الحكيم اذا رأى السائل متخبطا في اولوية السؤال يجيبه بحيث يعلم السائل أن سؤاله ليس في محله. وقد مر نظير هذا الكلام في تفسير قوله تعالى (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ..).[2]

ولكن صاحب المنار لم يعجبه هذا الامر بدعوى ان ما يقال من ان السؤال اذا كان بحرف (ما) فهو سؤال عن حقيقة الشيء مما ذكر في المنطق الارسطي والقران نزل بلغة العرب والسؤال بـ (ما) كما يمكن ان يكون عن حقيقة الشيء يمكن ان يكون عن صفاته وكيفياته كما في قوله تعالى (قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللهُ لَمُهْتَدُونَ * قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ..).[3]

ولكن ما ذكره غير صحيح لان الاستفهام بـ (ما) مهما كان لا يعني ذكر موارده وليس من قبيل توصيف البقرة بدلا عن ذكر حقيقتها ومن الواضح ان السؤال هناك لم يكن عن حقيقتها.

والصحيح أن الآية أشارت الى الجواب عن مورد السؤال ايضا بقوله (من خير) ولكن اضافت اليه ذكر الموارد التي ينبغي تخصيص الانفاق بها. ومعنى ذلك ان الانفاق يجوز باي شيء يكون خيرا. والخير كما مر في آية الوصية هو المال او المال المعتد به.

وقد مر في تفسير الآية 177 من هذه السورة المباركة بعض الكلام حول هذه العناوين الا ان الوارد هناك ذوي القربى وهنا الاقربون وهو جمع الاقرب وليس المراد ان يختص الانفاق باقرب الاقارب بل المراد – والله العالم – أن الاقربية تلاحظ في رجحان الانفاق. وفسره بعضهم بالاولاد ولكن لا خصوصية لهم بل تلاحظ الاقربية في غيرهم ايضا.

والظاهر ان المراد بالانفاق على المذكورين الانفاق من غير الزكاة الواجبة لانها لا تجوز على من تجب نفقته كالوالدين والاولاد.

فالمراد – والله العالم – الانفاق من غير الزكاة وهو ايضا قد يكون واجبا وقد يكون مستحبا فالانفاق على الوالدين والاولاد في الحدود المذكورة في الفقه واجب وعلى اليتامى والمساكين وابن السبيل مستحب الا في بعض الموارد كما اذا احتاج الى ما تتوقف عليه حياته.

وقوله (وما تفعلوا من خير فان الله به عليم) تشجيع لفعل الخير فان علمه تعالى به يكفي للمؤمن وهو يعلم أن الله يجزي على فعل الخير اضعافا مضاعفة.

وعمم الحكم لكل فعل الخير لانه لا يختص بالانفاق كما خصصه بان يكون فعل الخير حتى لا يشمل الانفاق رياءا او سمعة او مع تعقيبه بالاذى او المنة كما قال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ..).[4]

وهذه الجملة تنبه ايضا أن الانفاق اذا كان سرا فانه ينفعك ولعله ينفعك اكثر من الانفاق جهرا لان الانفاق في السر ابعد عن الرياء او اي قصد اخر فلا يعلمه الا الله تعالى وهو كفيل بان يجازيك افضل الجزاء.

وربما يمتنع بعض الناس من الانفاق سرا خصوصا اذا لم يعلم به حتى المنفق عليه نفسه لانه يرى ذلك صرفا للمال من دون اي نفع يعود اليه حتى مودة المنفق عليه ولذلك نجد ان كثيرا من الناس يحاول اخباره ولو بطريق غير مباشر ان الاحسان كان منه ليكسب مودته على الاقل وربما يقنع نفسه بانه يريد ان يكسب دعاءه.

ولكن هذه الجملة تنبه الانسان ان الذي يعلم بالاحسان ان كان سرا هو الله تعالى والامور كلها بيده وهذا اولى لك من معرفة غيره باحسانك. قال تعالى (إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ).[5]

ويلاحظ ان كلمة الخير تكررت في الاية التي نفسرها ولكن المعنى يختلف فالمراد بالخير في اول الاية هو المال وقد عبر عنه بالخير في اية الوصية وغيرها ايضا واما الخير في قوله (وما تفعلوا من خير..) فالمراد به كل عمل يتصف بكونه خيرا من الانفاق وغيره.  

 

كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216)

كتب عليكم اي فرض عليكم ويدل على وجوب القتال على المؤمنين. والمراد مقاتلة اعداء الدين والبغاة. ومن الواضح ان للوجوب والجواز شروطا والآية ليست بصدد بيانها ولا تدل على وجوب القتال بقول مطلق وانما الغرض منها التنبيه على كون القتال كرها للانسان ولكنه خير له فالمقصود في هذه الآية ليس الحكم بوجوب القتال بذاته حتى يقال انها اول آية تدل على وجوبه وأنه كان مأذونا فيه سابقا كما في قوله تعالى (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا..).[6]

وقد روى القوم روايات في شأن نزولها ولكنها لا تصح عندنا.

وقوله (وهو كره لكم) جملة معطوفة على الاولى او جملة حالية. والكُره بالضم والفتح مصدر بمعنى اسم المفعول اي مكروه. وقيل بالضم اسم للمكروه. وقيل إن الكره بالضم بمعنى ما يكرهه الانسان بنفسه وبالفتح بمعنى ما يُكرهه عليه غيره. وهذا غير بعيد بملاحظة استعمالات القران على القراءة المشهورة فالكره هنا بمعنى كراهته بنفسه وكذلك في قوله تعالى (حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا..).[7]

واما في موارد الفتح فبمعنى الاكراه من الغير كما في قوله تعالى (وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا..)[8] وقوله (لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا..)[9] وقوله (قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ..)[10] وغيرها.

ومن الواضح أن هذه الكراهة لا تنافي الايمان فالانسان بطبيعته يكره القتال سواء كان مؤمنا ام كافرا لانه يوقعه في خطر الموت ولانه سبب لكثير من المصائب والفجائع في المجتمع. وتسليمه لامر الله تعالى لا ينافي ايمانه بل هو دليل على ايمانه فهو يرضى بما يكرهه اطاعة لامره وهذا لا يختص بالقتال بل كل التكاليف لا يحبها الانسان بذاتها فهو يحب الحرية وعدم التقيد بالقانون سواء كان شرعيا ام عرفيا ولكنه ربما يشارك بنفسه في تشريع القانون الذي يقيد حريته وحرية الاخرين لمصلحة اهم.   

وقوله (وعسى ان تكرهوا شيئا وهو خير لكم) في مقام توجيه الامر بالقتال مع انه مكروه للانسان وجملة (وهو خير لكم) حال من (شيئا) وكذلك جملة (وهو شر لكم).

وليس في قوله (عسى) ترجّ واشفاق ليبحث عن تأويل اسناده الى الله تعالى بل هذه من كلمات المقاربة فالمعنى أنه ليس أمرا نادرا وبعيدا بل هناك كثير من الامور يكرهها الانسان وهي خير له او يحبها وهي شر له بل هذا هو الغالب فالانسان يحب ان يتبع شهواته وميوله وهي حتى لو كانت عن طريق الحلال تضر بالانسان في دنياه واخرته واكثر ما نكرهه ينفعنا ولذلك يعدّ ترك الملذات من اقوى الرياضات التي تنفع الانسان ولكنه يكرهه.

ولكن صاحب المنار نقل عن استاذه ما ملخصه (لَا يَظْهَرُ عَلَى هَذَا مَعْنًى وَجِيهٌ لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: (وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) لِأَنَّ هَذَا مِمَّا يَعْلَمُهُ النَّاسُ وَيَتَوَقَّعُونَهُ وَالصَّوَابُ أَنَّ الصَّحَابَة قَدْ أَلِفُوا الْقِتَالَ وَاعْتَادُوهُ فَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ مَكْرُوهًا بِالطَّبْعِ وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا يَرَوْنَ أَنْفُسَهُمْ فِئَةً قَلِيلَةً حَمَلَتْ هَذَا الدِّينَ وَاهْتَدَتْ بِهِ، وَيَخْشَوْنَ أَنْ يُقَاوِمُوا الْمُشْرِكِينَ بِالْقُوَّةِ فَيَهْلِكُوا، وَيَضِيعَ الْحَقُّ الَّذِي هُدُوا إِلَيْهِ وَكُلِّفُوا إِقَامَتَهُ وَالدَّعْوَةَ إِلَيْهِ، وَثَمَّ وَجْهٌ آخَرُ: وَهُوَ أَنَّ كُرْهَهُمْ لِلْقِتَالِ لَمْ يَكُنْ خَوْفًا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَإِنَّمَا هُوَ حُبُّ السَّلَامِ وَالرَّحْمَةِ بِالنَّاسِ الَّتِي أَوْدَعَهَا الْقُرْآنُ فِي نُفُوسِهِمْ..).[11]

وهذا الكلام ينشأ من الافراط في حسن الظن بجميع الصحابة مع انهم ليسوا بهذه المثابة كما يتوهم بل كان اكثرهم كسائر الناس يحبون العافية والعرب لم يكونوا كلهم اهل حرب وقتال بل كانت هذه صفة بعضهم وغالب الناس لا يحبون القتال والقران يقول (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا).[12]

من هؤلاء؟؟ أليسوا من اصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم؟! وهم ليسوا شرذمة قليلة منهم والا لم يهتم بذكرهم والتنديد بهم وكذلك قال تعالى (وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ..).[13]

وليس كل من كان كذلك منافقا كما هو صريح قوله تعالى (كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ * يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ * وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ).[14] هؤلاء فريق من المؤمنين ويشير بقوله (وتودون ان غير ذات الشوكة..) الى الاختلاف بينهم في الخروج لمحاربة قريش او التصدي لتجارة ابي سفيان قبيل غزوة بدر.

ثم من اولئك الذين فروا في غزوة احد وتركوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم ونزلت فيهم الايات في سورة آل عمران (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ * وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ * وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ).[15] وغيرها من الايات؟!  

ومن اولئك الذين لم يجرأ أحدهم ان يخرج الى مقاتلة فارس يليل عمرو بن عبدودّ وهو يدعوهم الى البراز والرسول صلى الله عليه وآله وسلم يطلب منهم ثلاث مرات ان يقوم اليه أحد ولم ينهض منهم أحد الا امير المؤمنين عليه السلام الذي لا يبالي بالموت؟

ومن اولئك الذين خرجوا الى حصن خيبر وبطلهم مرحب يوما مع ابي بكر ويوما مع عمر ورجعوا خائبين يجبنون قائدهم ويجبنهم حتى خرج اليه من يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله كرار غير فرار وفتح الله على يده؟!    

أليس كل هؤلاء من العرب الشجعان المقاتلين ومن اصحاب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم؟

وأما قوله تعالى (والله يعلم وانتم لا تعلمون) فالمراد به انه يعلم ما هو خير لكم وما هو شر لكم فالواجب عقلا هو اطاعة اوامره تعالى وان لم يعلم الانسان وجه الحكمة فيها.

 

يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ ...

(قتالٍ فيه) بدل عن الشهر الحرام فالمعنى يسألونك عن القتال في الشهر الحرام والمراد به جنس الشهر الحرام الذي يشمل اربعة اشهر في السنة القمرية وهي رجب وذو القعدة وذو الحجة ومحرم والقتال محرم فيها في الجاهلية والاسلام.

بل ورد تحريمه من بداية الخلق في قوله تعالى (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً..).[16]

وامرالله تعالى رسوله صلى الله عليه وآله وسلم بالجواب بان القتال فيه ذنب كبير وأتى بالمبتدأ نكرة ليفيد ان اي قتال يقع فيه حرام. والابتداء بالنكرة مع توصيفها جائز. وقد وصف القتال بكونه في الاشهر الحرم.

وكبير صفة لمقدر اي اثم كبير. وقوله (وصدّ..) مبتدأ وكذلك ما عطف عليه وخبرها (اكبر عند الله) وهذه الجملة تكمل الجواب ووجه الابتداء بالنكرة هو التعميم ايضا.

وهذا واضح ولكن العلامة الطباطبائي رحمه الله اعتبر الصد والكفر معطوفين على الخبر في الجملة السابقة والمبتدأ لقوله (اكبر عند الله) هو اخراج اهله ومعنى ذلك ان القتال في الاشهر الحرم صد عن سبيل الله وصد عن المسجد الحرام.

مع ان تحريم القتال في هذه الاشهر لا يختص قطعا بتلك المنطقة ولا بمن يقصد الحج والعمرة وان فرضنا ان الغرض من تشريعه هو تامين سلامة الحجاج الا انه حكم قديم قبل بناء الكعبة كما في الاية الكريمة وهو لا يختص بتلك المنطقة بلا ريب فلا يصح ما ذكره رحمه الله.

والسؤال قد يكون من المؤمنين وقد يكون من المشركين وذلك حسبما ورد في القصة المعروفة في شأن نزول الآية وقد اختلفت روايات القوم في نقل القصة ونحن نرويها عن تفسير القمي حيث قال:

(كان سبب نزولها انه لما هاجر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة بعث السرايا إلى الطرقات التي تدخل مكة تتعرض لعير قريش حتى بعث عبد الله ابن جحش في نفر من أصحابه إلى نخلة وهي بستان بني عامر ليأخذوا عير قريش حين أقبلت من الطائف عليها الزبيب والأدم والطعام فوافوها وقد نزلت العير وفيهم عمر بن عبد الله الحضرمي وكان حليفا لعتبة بن ربيعة فلما نظر الحضرمي إلى عبد الله بن جحش وأصحابه فزعوا وتهيأوا للحرب وقالوا هؤلاء أصحاب محمد فأمر عبد الله بن جحش أصحابه ان ينزلوا ويحلقوا رؤوسهم فنزلوا فحلقوا رؤوسهم فقال ابن الحضرمي هؤلاء قوم عبّاد ليس علينا منهم باس فلما اطمأنوا ووضعوا السلاح حمل عليهم عبد الله بن جحش فقتل ابن الحضرمي وأفلت أصحابه واخذوا العير بما فيها وساقوها إلى المدينة وكان ذلك في أول يوم من رجب من اشهر الحرم فعزلوا العير وما كان عليها ولم ينالوا منها شيئا فكتبت قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إنك استحللت الشهر الحرام وسفكت فيه الدم واخذت المال وكثر القول في هذا وجاء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالوا يا رسول الله أيحل القتل في الشهر الحرام فأنزل الله "يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير.." قال القتال في الشهر الحرام عظيم ولكن الذي فعلت قريش بك يا محمد من الصد عن المسجد الحرام والكفر بالله وإخراجك منها هو أكبر عند الله والفتنة يعني الكفر بالله أكبر من القتل..).[17]

والصدّ: المنع. وهذا كان دأب المشركين في مكة حيث كانوا يبذلون غاية الجهد في منع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم عن تبليغ دعوته ومنع الناس من الوصول اليه والاستماع لحديثه وبالغوا في ايذاء المؤمنين الضعفاء وقتلهم الى ان اضطروا الى الهجرة من مساكنهم.

مضافا الى كفرهم بالله او بسبيله اما كفرهم بالله لانهم يشركون به وينكرون ربوبيته المطلقة وان لم ينكروا وجوده واما كفرهم بسبيله لانكارهم الرسالة. وهناك اختلاف في مرجع الضمير ولكن الظاهر ان المراد كفرهم بالله تعالى.

وكذلك كفرهم بالمسجد الحرام كما هو ظاهر الآية ومعنى كفرهم به عدم احترامهم لشؤونه فوضعوا الاصنام في الكعبة المعظمة وجعلوا المسجد معبدا للاصنام وارتكبوا فيها الآثام ومنعوا المؤمنين من عبادة الله تعالى فيه.

ويحتمل ان يكون (والمسجد الحرام) معطوفا على (سبيل الله) اي وصد عن المسجد الحرام لانهم كانوا يمنعون المؤمنين من العبادة فيه كما قال تعالى (وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ..).[18]

ومضافا الى اخراج اهله منه وذلك حيث اخرجوا الرسول والمؤمنين من مكة وهم اهل المسجد الحرام والمراد باخراجهم الضغط عليهم بالايذاء والتهديد بالقتل بحيث اضطروا الى الخروج صونا لانفسهم.

كل هذا من اعمال المشركين في مكة وهذه الاعمال اكبر عند الله اثما من القتال في الشهر الحرام والسبب واضح لان حرمة القتال في هذه الاشهر انما شرعت احتراما للمسجد الحرام ولكي يتمكن الناس من أداء فرائض الله تعالى من الحج والعمرة بأمان فالمحافظة على احترام المسجد وما يتعلق به من عبادة الله تعالى اهم من حرمة القتال.

مضافا الى أن حرمة القتال في الشهر الحرام تختص بمن يحفظ حرمات الله اما المشركون الذين قاتلوا في الشهر الحرام فلا حرمة لهم كما قال تعالى (الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ..).[19] كما ان من قاتل في الحرم قتل فيه ولا حرمة له كما مر في قوله تعالى (وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ).[20]

ولكن كل ذلك لا يصحح القول بنسخ تحريم القتال في الاشهر الحرم كما نسب الى بعض العامة وانما يجوز قتل من قاتل فيه لانه لم يحترم حرمة الشهر وهو صريح قوله تعالى (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ..).[21]

والقائلون بالنسخ يقولون ان المراد بهذه الاشهر ما ورد في قوله تعالى (بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ..)[22] قال الالوسي (والأكثرون على أن هذا الحكم منسوخ بقوله سبحانه: فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ فإن المراد بالأشهر الحرم أشهر معينة أبيح للمشركين السياحة فيها بقوله تعالى: فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وليس المراد بها الأشهر الحرم من كل سنة).[23]

ولكن من الواضح ان التعبير بالاشهر الحرم لا يراد به في مصطلح الشرع الا الاشهر المعلومة واما هذه الاشهر الاربعة فقد اجيز لهم فيها ان يسيحوا في الارض ولم يحرم فيها القتل ولا القتال ولا يناسب التعبير عنها بهذا العنوان.

ويدل على عدم النسخ ايضا قوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا..)[24] وسورة المائدة من اواخر ما نزل.

وقوله تعالى (عند الله) يبين أن الاعتبارات في العرف الاجتماعي تختلف عن الاعتبارات عند الله تعالى فربما يكون امر عند الناس قبيحا ولكنه عند الله حسن والعكس صحيح ايضا ومن هنا فالقتال في الشهر الحرام وان كان اثما كبيرا الا ان ما يفعله المشركون وهم لا يعتبرونه قبيحا بل يصرون عليه هو اقبح عند الله واكبر اثما.

وقوله تعالى (والفتنة اكبر من القتل) هو الدليل القاطع على أن اثم المشركين في الصد عن سبيل الله اكبر من القتل في الحرم وردّ على اعتراضهم على ما حدث لابن الحضرمي. ومع ذلك فالآيات هنا لا تدل على جواز قتلهم في الاشهر الحرم ان لم يبدأوا بالقتال كما هو ظاهر قصة عبد الله بن جحش. وسيأتي الكلام حول هذا الامر في تفسير الاية التالية ان شاء الله.

والفتنة في الاصل بمعنى الاحراق ومنه قوله تعالى (يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ)[25] وتطلق على الامتحان الشديد تشبيها له باذابة الذهب والفضة بالنار لمعرفة خلوصهما. وكل ما يعرض على الانسان في الحياة الدنيا فتنة يتبين بها خلوصه وايمانه قال تعالى (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً..).[26] ومن هنا تطلق الفتنة على ما يفعله بعض الطغاة لمنع الناس من الايمان بالله كما كان يفعله المشركون في مكة بالنسبة للمؤمنين الضعفاء ليردّوهم عن الدين.

والوجه في كون الفتنة اكبر من القتل أن القتل يتسبب في حرمان الانسان من التنعم في الحياة الدنيا الزائلة اما الذي يفتن الناس عن دينهم ويصدّهم عن سبيل الله فهو يظلمهم اشد الظلم ويحرمهم من السعادة الابدية والنعيم الدائم.

ومثل هذه  الجملة وردت في تجويز مقاتلة المشركين في الحرم قال تعالى (وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ).[27] وهناك ايضا قيّد جواز القتل ببدئهم بالقتال في الحرم.

 

وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا ...

المقصود من هذه الجملة ان فتنة المشركين لم تنته بهجرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والذين آمنوا معه بل هي مستمرة بعد الهجرة فهم لا يزالون يقاتلونكم ليفتنوكم عن دينكم.

وقوله (حتى يردوكم) حيث انها لبيان الغاية يدل على ان القتال لا ينتهي من جهتهم ما دمتم باقين على دينكم الا ان هذا مجرد محاولة فلو استطاعوا لردوكم عن دينكم وهذا يدل على شدة اصرارهم وبذل غاية جهدهم قدر الاستطاعة لبلوغ هذا الهدف الدنيء الا ان الله تعالى نصر رسوله صلى الله عليه وآله وسلم وفتحت مكة فخابت آمالهم.    

 

وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (217)

وحيث وصل الحديث الى محاولتهم التاثير في ارتداد بعض المسلمين عن دينهم ورد هذا التعقيب للتنبيه على اثر الارتداد عن الدين ولكنه قيد الارتداد باستمراره الى موته فلو ارتد ثم تاب فلا يترتب عليه هذا الاثر والله تعالى رؤوف بعباده فيقبل توبته اما اذا بقي على ارتداده الى الموت فاثره حبط اعماله في الدنيا والاخرة وخلوده في النار.

وللارتداد احكام في الفقه ويختلف حكمه اذا ارتد عن فطرة بان كان ابواه مسلمين او ارتد عن ملة بان لم يكن مسلما واسلم ثم ارتد كما ان حكم المراة يختلف عن الرجل.

والحبط في الاصل داء يصيب الدابة بسبب اكل بعض الاعشاب المسمومة فتنتفخ وتموت وحبط العمل فساده ولعل التعبير عنه بالحبط من تشبيه عمله بحال تلك الدابة حيث ان انتفاخ جسمها ليس من السمن بل من العاهة المميتة وعمل هذا الانسان ربما يكون كثيرا او في الظاهر جليلا وجميلا ولكنه في الواقع فاسد لا ينفع بل يضر.

وحبط اعمالهم في الآخرة بمعنى انها لا تفيدهم ولا يترتب عليها الثواب انما الكلام في حبط اعمالهم في الدنيا فان اعمالهم في الدنيا ان اريد بها مطلق اعمالهم تترتب عليها آثارها الدنيوية فهم ياكلون ويشبعون واذا عالجوا مرضهم يتعافون فكيف تحبط اعمالهم في الدنيا؟

ربما يقال ان حبط اعمالهم في الدنيا باعتبار حالتهم النفسية فهم لا ينتفعون بها كما ينتفع المؤمن كما يتبين من قوله تعالى (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)[28] وكذلك قوله تعالى (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى)[29] فهناك فرق واضح بين اعمال المؤمن والكافر في الدنيا حتى بلحاظ آثارها الدنيوية.[30]

ولكن كون الكافر في ضيق في حياته لا يدل على ان عمله لا ينفعه فيما يريده وهو خلاف الواقع بوضوح والقرآن ايضا يصرح بخلافه كما في قوله تعالى (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ).[31] وتوفية الاعمال في الدنيا بمعنى ترتب آثاره الطبيعية كاملة ومع ذلك فما صنعوا فيها يحبط في الاخرة.

ويمكن ان يراد بالاعمال خصوص الاعمال الصالحة التي يتوقع منها ان تترتب عليها آثار في الدنيا كالصدقة تدفع البلاء والبر بالوالدين وصلة الرحم ونحوها من اعمال الخير مما يتوقع منها طول العمر والتوفيق كما ورد في الروايات فيكون المراد ان المرتد لا تترتب على اعماله الصالحة قبل ارتداده الاثار المطلوبة في الدنيا ايضا.

ويحتمل ايضا كما قال بعضهم[32] ان تبطل اعماله شرعا حتى لو رجع عن ارتداده وتاب فعليه قضاء ما سبق على ارتداده من الاعمال كالحج والصلاة والصوم والزكاة ولا مانع من تأثير الارتداد في بطلان الاعمال السابقة. وهذا مجرد احتمال في التفسير وتفصيل البحث في الفقه.

ويلاحظ ان حبط الاعمال في الدنيا والاخرة ورد ايضا في قوله تعالى (وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ * كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ)[33] والمنافقون ايضا لهم اعمال عبادية واعمال خير يتوقعون منها الاثار الطيبة.

 وكذلك في قوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ).[34] وهذا ايضا وارد في المرتدين من اهل الكتاب او المنافقين منهم حيث كانوا يقتلون انبياءهم ولهم ايضا اعمال يتوقعون منها ذلك.

وورد ايضا الحبط في الدنيا فقط في قوله تعالى (وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ)[35] فان قوله (وهو في الاخرة من الخاسرين) يدل على ان الحبط وقع في الدنيا وموردها ايضا المرتد لانه هو معنى الكفر بالايمان اي كفر بما امن به.

وهناك آيات اخرى ايضا ورد فيها حبط اعمال الكفار والمشركين في الدنيا كقوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ)[36] ومن الواضح بمقتضى السياق ان المراد بها اعمالهم في مواجهة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والذين آمنوا فالله ينصر المؤمنين ويخذل الكافرين.

واما حبط اعمالهم في الاخرة فلعل المراد بالاعمال ما كانوا يرونها خيرا وان لم يتوقعوا منها ان تفيدهم في الآخرة لعدم اعتقادهم بها الا ان كثيرا من الناس يظنون انها تنفعهم وان الله تعالى لا يضيع اعمالهم ونحن نجد من كثير منهم اعمال خير تنفع الناس والفقراء.

والقرآن يرد على هذا الظن ويفنده بان الكافر يحبط الله عمله مهما كان وانه لا يتقبل الا من المتقين بل لا يقبل حتى من كثير من المسلمين بل المؤمنين ولا يعني ذلك انها لا تنفع حتى في تخفيف العذاب لا شك انها تنفع ولا شك ان هناك فرقا كبيرا يوم القيامة بين من ظلم الناس واهلك الحرث والنسل ومن اسدى اليهم خدمات الا انها ليست مقبولة عند الله تعالى.

 

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (218)

لعل هذا التعقيب يقصد به تلطيف الجو في مخاطبة المؤمنين فبعد تحذيرهم من الارتداد وانه يوجب حبط الاعمال أشار الى رحمته تعالى وغفرانه للمؤمنين.

ويلاحظ تكرار اسم الموصول ولعل السبب ان الحكم لا يختص بالمهاجرين والمجاهدين بل يشمل كل المؤمنين ولكن ذكرهم بالخصوص من باب ذكر الخاص بعد العام للتأكيد عليهم ولو لم يتكرر اسم الموصول لكان المعنى اختصاص الحكم بالمهاجرين المجاهدين.

ومع ذلك فانه لم يجزم بشمول الرحمة لهم بل اخبر بانهم يرجون رحمة الله تعالى وهذا امتداح لهم بأنهم يعملون ما يرجون به بلوغ رحمته والجملة التالية تدل على انه رجاء في موضعه لانه تعالى غفور رحيم ومعنى ذلك انهم يحق لهم ان يرجوا رحمته.

والمؤمن يجب ان يكون دائما بين اليأس والرجاء. فاليأس من عاقبة عمله لانه لا يرضى من نفسه بما عمل والرجاء بان يشمله الله تعالى برحمته. واما اليأس من رحمته تعالى فهو من الكفر كما قال تعالى في حكاية كلام يعقوب عليه السلام (وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ).[37]

وقيل ان هذه الآية نزلت لتطييب خاطر الجماعة الذين هجموا على المشركين في اول رجب وقتلوا ابن الحضرمي وذلك لان المسلمين كانوا ينتقدون عملهم ويقولون انهم حتى لو لم يحكم عليهم بالاثم فان عملهم لا يرجى له الثواب فهذه الاية ترد على هذا النقد بأنهم يرجى لهم الرحمة والمغفرة.

ولكن لو كانت الاية نازلة فيهم فانها ربما تدل على أن ما ارتكبوه قد يكون اثما ولكن الله غفور رحيم فيغفر لهم ذلك وهذا هو مقتضى ما ذكرناه من عدم نسخ حكم التحريم في قتال الاشهر الحرم.

 


[1] الدر المنثور ج 1 ص 586

[2] البقرة : 189

[3] البقرة : 70 - 71

[4] البقرة : 264

[5] البقرة : 271

[6] الحج : 39

[7] الاحقاف : 15

[8] ال عمران : 83

[9] النساء : 19

[10] التوبة : 53

[11] المنار ج2 ص 249

[12] النساء : 77

[13] محمد صلى الله عليه واله وسلم : 20

[14] الانفال : 5 - 7

[15] ال عمران : 144 - 146

[16] التوبة : 36

[17] تفسير القمي ج 1 ص 72

[18] الانفال : 34

[19] البقرة : 194

[20] البقرة : 191

[21] التوبة : 5

[22] التوبة : 1 - 2

[23] روح المعاني ج 1 ص 503

[24] المائدة : 2

[25] الذاريات : 13

[26] الانبياء : 35

[27] البقرة : 191

[28] النحل : 97

[29] طه : 124

[30] الميزان ج 2 ص 168

[31] هود : 15 - 16

[32] المنار ج 2 ص 253

[33] التوبة : 68 - 69

[34] ال عمران : 21 - 22

[35] المائدة : 5

[36] محمد صلى الله عليه واله وسلم : 7 - 9

[37] يوسف : 87