مكتب سماحة السيد مرتضى المهري

يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا...

الخمر هو المسكر المعروف والاصل فيه لغة هو الستر والتغطية واطلاق هذا اللفظ اما باعتبار انه يستر العقل ولا يزيله تماما وانما يغطيه الى زمان فلا يعقل الانسان ما يفعل بسبب سكره وإما باعتبار انه يخالط العقل والمخالطة ايضا من نفس الباب.

ومن هنا يمكن ان يقال ان الخمر يصدق على كل مسكر والظاهر انه كذلك في اللغة ولكن الفقهاء يختلفون في ذلك فمنهم من خصه بما يتخذ من العنب ومنهم من عممه لما يؤخذ من التمر ايضا وبعضهم يرى انه عام لكل مسكر.

ومن الغريب ان بعض الصحابة لم يقتنعوا بهذه الاية في الحكم بتحريم الخمر فقد روى في الدر المنثور قال:

(أخرج ابْن أبي شيبَة وَأحمد وَعبد بن حميد وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَصَححهُ وَالنَّسَائِيّ وَأَبُو يعلى وَابْن جرير وَابْن الْمُنْذر وَابْن أبي حَاتِم والنحاس فِي ناسخه وَأَبُو الشَّيْخ وَابْن مرْدَوَيْه وَالْحَاكِم وَصَححهُ وَالْبَيْهَقِيّ والضياء الْمَقْدِسِي فِي المختارة عَن عمر أَنه قَالَ: اللَّهُمَّ بَين لنا فِي الْخمر بَيَانا شافياً فَإِنَّهَا تذْهب المَال وَالْعقل فَنزلت "يَسْأَلُونَك عَن الْخمر وَالْميسر.." الَّتِي فِي سُورَة الْبَقَرَة فدُعي عمر فقرئت عَلَيْهِ فَقَالَ: اللَّهُمَّ بَين لنا فِي الْخمر بَيَانا شافياً فَنزلت الْآيَة الَّتِي في سُورَة النِّسَاء "يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تقربُوا الصَّلَاة وَأَنْتُم سكارى"[1] فَكَانَ مُنَادِي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا أَقَامَ الصَّلَاة نَادَى أَن لَا يقربنّ الصَّلَاة سَكرَان فدُعي عمر فقرئت عَلَيْهِ فَقَالَ: اللَّهُمَّ بَين لنا فِي الْخمر بَيَانا شافياً فَنزلت الْآيَة الَّتِي فِي الْمَائِدَة فدُعي عمر فقرئت عَلَيْهِ فَلَمَّا بلغ "فَهَل أَنْتُم مُنْتَهُونَ"[2] قَالَ عمر: انتهينا انتهينا).

ويظهر من عدة روايات انه لم ينته عنها نهائيا بناءا على ان كل ما يسكر خمر فانه استمر على شرب النبيذ الشديد المسكر ولكنه كان بمقتضى اعتياده الشديد لا يؤثر فيه فقد روي عن ابن جريج (أن رجلا عبّ في شراب نبذ لعمر بن الخطاب بطريق المدينة فسكر فتركه عمر حتى أفاق فحده ثم أوجعه عمر بالماء فشرب منه).[3]

كما روي عنه في الاعتذار عن ذلك (إِنِّي رَجُلٌ مِعْجَارُ الْبَطْنِ - أَوْ مِسْعَارُ الْبَطْنِ - فَأَشْرَبُ هَذَا السَّوِيقَ فَلَا يُلَاوِمُنِي، وَأَشْرَبُ هَذَا اللَّبَنَ فَلَا يُلَاوِمُنِي، وَأَشْرَبُ هَذَا النَّبِيذَ الشَّدِيدَ فَيُسَهِّلُ بَطْنِي).[4] والروايات في ذلك كثيرة وصناع الحديث اضطروا لذلك ان يضعوا احاديث في ان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم اجاز ذلك بل كان يشرب منه والعياذ بالله مع ان الروايات في تحريم كل ما اسكر قليله متواترة.

وهذه سنة الوضاعين قديما وحديثا وفي جميع الانظمة المتسلطة فهم يتبعون مصالح الحكام ويختلقون الاكاذيب للتقرب اليهم ومما وضعوه ايضا للتخفيف من عبء الحكام الذين ما كانوا يتورعون عن شرب الخمر بصوره المختلفة ما وضعوه من شان النزول في قوله تعالى (ولا تقربوا الصلاة وانتم سكارى) بأن عبد الرحمن بن عوف صنع طعاما ودعا اليه جماعة ومنهم الامام امير المؤمنين عليه السلام فشربوا وسكروا ثم قدموه للامامة فقرا (اعبد ما تعبدون) في صلاته فنزلت الاية.

وقد ورد الحديث في كتبهم بصور مختلفة مما يدل بنفسه على وضعه واختلاقه مضافا الى ان من الواضح ان الامام منزه عن ذلك لانه قد تربى في حجر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وتأدب بآدابه فلا يمكن ان يصدر منه ذلك وحرمة الخمر مما اتفقت عليه شرائع السماء وكان الحكماء من العرب يجتنبونه ومنهم عبدالمطلب وابوطالب عليهما السلام.

ولكن السر في الوضع هو ما اشرنا اليه. ولهذا السبب ايضا شكك بعض المفسرين في دلالة هذه الآية على الحرمة ليكون عذرا لمن اصر على الاستمرار على شربها من الصحابة مع ان دلالتها واضحة كما ورد في الرواية التالية:

روي عن علي بن يقطين أنه قال: سأل المهدي أبا الحسن عليه السلام (اي الامام الكاظم) عن الخمر هل هي محرمة في كتاب الله عز وجل فإن الناس إنما يعرفون النهي عنها ولا يعرفون التحريم لها فقال له أبو الحسن عليه السلام: بل هي محرمة في كتاب الله عز وجل يا أمير المؤمنين فقال له: في أي موضع هي محرمة في كتاب الله جل اسمه يا أبا الحسن؟ فقال: قول الله عز وجل "قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والاثم والبغي بغير الحق"[5] فأما قوله "ما ظهر منها" يعني الزنا المعلن ونصب الرايات التي كانت ترفعها الفواجر للفواحش في الجاهلية وأما قوله عز وجل "وما بطن" يعني ما نكح من الآباء لان الناس كانوا قبل أن يبعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا كان للرجل زوجة ومات عنها تزوجها ابنه من بعده إذا لم تكن أمه فحرم الله عز وجل ذلك وأما الاثم فإنها الخمرة بعينها وقد قال الله عز وجل في موضع آخر "يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس" فأما الاثم في كتاب الله فهي الخمرة والميسر وإثمهما أكبر كما قال الله تعالى قال: فقال المهدي: يا علي بن يقطين هذه والله فتوى هاشمية قال: قلت له: صدقت والله يا أمير المؤمنين الحمد لله الذي لم يخرج هذا العلم منكم أهل البيت قال: فوالله ما صبر المهدي أن قال لي: صدقت يا رافضي).[6]

وقوله تعالى (فهل انتم منتهون) في سورة المائدة تدل بوضوح على ان الايات السابقة عليه كانت دالة على الحرمة وبعضهم لا يتركها ولذلك قال الزمخشري في الكشاف (وقوله فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ من أبلغ ما ينهى به، كأنه قيل: قد تلي عليكم ما فيهما من أنواع الصوارف والموانع، فهل أنتم مع هذه الصوارف منتهون. أم أنتم على ما كنتم عليه، كأن لم توعظوا ولم تزجروا؟!).[7]

ولعل هذا السبب هو الذي دعا بعضهم الى انكار ان الخمر محرم في الشرايع السابقة قال في التحرير والتنوير (وَشُرْبُ الْخَمْرِ عَمَلٌ مُتَأَصِّلٌ فِي الْبَشَرِ قَدِيمًا لَمْ تُحَرِّمْهُ شَرِيعَةٌ مِنَ الشَّرَائِعِ لَا الْقَدْرَ الْمُسْكِرَ بَلَهُ مَا دُونَهُ، وَأَمَّا مَا يَذْكُرُهُ عُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ إِنَّ الْإِسْكَارَ حَرَامٌ فِي الشَّرَائِعِ كُلِّهَا فَكَلَامٌ لَا شَاهِدَ لَهُمْ عَلَيْهِ بَلِ الشَّوَاهِدُ عَلَى ضِدِّهِ مُتَوَافِرَةٌ..).[8]

وقد ورد في رواياتنا ان الخمر كان محرما في جميع الشرائع فمنها ما رواه الكليني قدس سره في باب ان الخمر لم تزل محرمة وهي عدة روايات منها صحيحة زرارة (قال أبو عبد الله عليه السلام: ما بعث الله عز وجل نبيا قط إلا وفي علم الله أنه إذا أكمل دينه كان فيه تحريم الخمر ولم تزل الخمر حراما وإنما ينقلون من خصلة إلى خصلة ولو حمل ذلك عليهم جملة لقطع بهم دون الدين قال: وقال أبو جعفر عليه السلام: ليس أحد أرفق من الله عز وجل فمن رفقه تبارك وتعالى أنه نقلهم من خصلة إلى خصلة ولو حمل عليهم جملة لهلكوا).[9]

واستشهد صاحب التحرير والتنوير بعدم ورود هذا الحكم في التوراة المحرفة مع انه يعترف بان ما ورد فيها من اتهام الانبياء بشرب الخمر باطل وقد ورد التحريم في موضع منه:

(وكلم الرب هارون قائلا خمرا ومسكرا لا تشرب أنت وبنوك معك عند دخولكم إلى خيمة الاجتماع لكي لا تموتوا. فرضا دهريا في أجيالكم وللتمييز بين المقدس والمحلل وبين النجس والطاهر ولتعليم بني إسرائيل جميع الفرائض التي كلمهم الرب بها بيد موسى).[10]

ويظهر من اخره ان الحكم عام لجميع بني اسرائيل بل يصرح بنجاسة الخمر ايضا. والتوراة الحالية وان كانت مليئة بذكر الخمر الا ان ذمها ايضا وارد في بعض مواضعه منها ما ورد في سفر (امثال) والظاهر انه من حكم سيدنا سليمان عليه السلام:

(اسمع أنت يا ابني وكن حكيما وأرشد قلبك في الطريق لا تكن بين شريبي الخمر بين المتلفين أجسادهم لأن السكير والمسرف يفتقران..).[11]

ومهما كان فنحن لا نستند الى التوراة المحرفة وهي من انشاء البشر كما هو واضح وانما نستند الى احاديثنا.

وما ورد في الرواية المذكورة آنفا وسائر روايات الباب من النقل من خصلة الى خصلة هو ما ورد في التفاسير من التدرج في اعلام حكم الخمر وذكر العلامة الطباطبائي رحمه الله في هذا السياق أن آية سورة النساء نزلت قبل هذه الآية لانها منعت من الصلاة حال السكر لا عن اصل شرب الخمر قال العلامة (ولا معنى للنهي الخاص بعد ورود النهى المطلق).[12]

ولكن الظاهر أن هذه الآية متقدمة لان هذه السورة من اوائل ما نزل في المدينة وما ذكره العلامة رحمه الله لا وجه له لان النهي في سورة النساء ليس عن شرب الخمر في حالة خاصة ليكون نهيا مقيدا بعد النهي المطلق بل هو نهي عن امر آخر وهو الدخول في الصلاة حال السكر مضافا الى ما ورد في بعض الروايات ان المراد به سكر النوم.[13] 

وقد ورد ترتيب النزول في عدة من الروایات منها رواية مفصلة رواها الكليني قدس سره عن بعض اصحابنا مرسلا قال (إن أول ما نزل في تحريم الخمر قول الله عز وجل "يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما" فلما نزلت هذه الآية أحس القوم بتحريمها وتحريم الميسر وعلموا أن الاثم مما ينبغي اجتنابه ولا يحمل الله عز وجل عليهم من كل طريق لأنه قال: ومنافع للناس ثم أنزل الله عز وجل آية أخرى "إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون" فكانت هذه الآية أشد من الأولى وأغلظ في التحريم ثم ثلث بآية أخرى فكانت أغلظ من الآية الأولى والثانية وأشد فقال عز وجل "إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العدواة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون" فأمر عز وجل باجتنابها وفسر عللها التي لها ومن أجلها حرمها ثم بين الله عز وجل تحريمها وكشفه في الآية الرابعة مع ما دل عليه في هذه الآي المذكورة المتقدمة بقوله عز وجل "قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والاثم والبغي بغير الحق" وقال عز وجل في الآية الأولى "يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس" ثم قال في الآية الرابعة "قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والاثم" فأخبر الله عز وجل أن الاثم في الخمر وغيرها وأنه حرام وذلك أن الله عز وجل إذا أراد أن يفترض فريضة أنزلها شيئا بعد شيء حتى يوطن الناس أنفسهم عليها ويسكنوا إلى أمر الله عز وجل ونهيه فيها وكان ذلك من فعل الله عز وجل على وجه التدبير فيهم أصوب وأقرب لهم إلى الاخذ بها وأقل لنفارهم منها).[14]

والروايات في تحريم الخمر وذمها كثيرة جدا في كتب الفريقين نذكر هنا بعضها:

روى الكليني قدس سره بسند معتبر عن عجلان أبي صالح – وهو ثقة - قال (سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: قال الله عز وجل: من شرب مسكرا أو سقاه صبيا لا يعقل سقيته من ماء الحميم معذبا أو مغفورا له ومن ترك المسكر ابتغاء مرضاتي أدخلته الجنة وسقيته من الرحيق المختوم وفعلت به من الكرامة ما أفعل بأوليائي).

والملفت في هذا الحديث قوله (معذبا او مغفورا له) فهو يسقى الحميم حتى لو غفر له ذنبه ولم اجد التصريح بهذا الامر في اي ذنب اخر وقد تكرر وروده في روايات اخرى ايضا في هذا الباب واختص الحكم في بعضها بمن سقى صبيا خمرا.

ويحتمل ان يكون المراد غفرانه من دون توبة لانه تعالى ربما يغفر بدونها ايضا فلا ينافي ما ورد من ان التائب من الذنب كمن لا ذنب له. ويحتمل ان لا تكون التوبة رافعة لهذا الاثر وهو امر غريب.

وروى في نفس الباب عن زيد بن علي عن آبائه عليهم السلام قال (لعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الخمر وعاصرها ومعتصرها وبايعها ومشتريها وساقيها وآكل ثمنها وشاربها وحاملها والمحمولة إليه).

وفي صحيحة محمد بن مسلم (من شرب من الخمر شربة لم يقبل الله منه صلاة أربعين يوما). وورد هذا المضمون في عدة روايات.

وفي صحيحته الاخرى عن أحدهما عليهما السلام قال: قال (مدمن الخمر يلقى الله عز وجل حين يلقاه كعابد وثن). وهذا المضمون ايضا وارد في عدة روايات.

وروى بسنده عن منصور بن حازم قال حدثني ابوبصير عن ابن ابي يعفور قالا سمعنا ابا عبد الله عليه السلام يقول (ليس مدمن الخمر الذي يشربها كل يوم ولكن الذي يوطن نفسه أنه إذا وجدها شربها). وهذا المعنى ايضا متكرر في الروايات. [15]

والميسر في اللغة هو القمار مطلقا ولعله مأخوذ من اليسر بمعنى السهولة لان الفائز يتملك اموال الخاسر بسهولة خصوصا اذا لم يكن القمار مبتنيا على علم وحذاقة كما كان هو الغالب في مقامرة العرب آنذاك بالازلام. وهي جمع زلم بضم الزاي وفتحها وفتح اللام وهي سهام لا ريش لها ولا نصل يستقسمون بها الجزور. والجزور البعير ينحر وتقطع اجزاؤه والجزر: القطع.

وقد ورد في الحديث عن ابي جعفر عليه السلام انه قال (كانوا يعمدون إلى الجزور فيجزئونه عشرة اجزاء ثم يجتمعون فيخرجون السهام ويدفعونها إلى رجل والسهام عشرة سبعة لها أنصباء وثلاثة لا أنصباء لها فالتي لها أنصباء الفذ والتوأم والمسبل والنافس والحلس والرقيب والمعلى فالفذ له سهم والتوأم له سهمان والمسبل له ثلاثة أسهم والنافس له أربعة أسهم والحلس له خمسة أسهم والرقيب له ستة أسهم والمعلى له سبعة أسهم والتي لا أنصباء لها السفيح والمنيح والوغد وثمن الجزور على من لا يخرج له من الانصباء شيء وهو القمار فحرمه الله عز وجل). [16]

وقد كان العرب مولعين بالخمر والميسر كما تبين من اصرار بعض الصحابة على شرب الخمر حتى بعد نزول هذه الايات حيث كانوا يتأولونها تهربا من الحكم وفي الدر المنثور (وَأخرج ابْن أبي حَاتِم عَن أنس قَالَ: كُنَّا نشرب الْخمر فأنزلت: يَسْأَلُونَك عَن الْخمر وَالْميسر.. فَقُلْنَا: نشرب مِنْهَا مَا ينفعنا)[17] وقد روى الطبري في تفسير الآية عدة روايات تدل على ان جمعا من الصحابة كانوا يأولون الآيات ويستمرون في شربها الى ان نزلت (فهل انتم منتهون).

واما الميسر فقد روي عن ابن عباس انه قال (كان الرجل في الجاهلية يخاطر على أهله وماله، فأيهما قمر صاحبه ذهب بأهله وماله).[18]

والجواب الذي اُمر به الرسول صلى الله عليه وآله وسلم هو أن فيهما اثم كبير. والاثم: الذنب كما في الصحاح وغيره. وهو في الاصل بمعنى التأخر كما في معجم المقاييس والمفردات ولعل وجه التعبير به عن الذنب هو انه يؤخّر الوصول الى الثواب كما قيل او يؤخّر الانسان عن وصوله الى الكمال المطلوب. وتوصيفه بالكبر يدل على أن عقابه شديد.

والمراد بالمنافع ما يحصل للناس من المال بصنع الخمر وبيعها وكذلك ما يحصل لهم من اللذة بشربها وكذلك منافعهم المادية بالميسر ولا شك ان ضررهما اكبر من منافعهما فالخمر يضر بصحة الانسان ويفسد عليه عقله فيرتكب اكبر الجرائم. والقمار يوجب الظلم على المغلوب باخذ ماله بلا موجب عقلائي ويوجب اشتغال الناس والتهاءهم عن الامور المهمة في الحياة وابتعادهم عن وظائفهم الدينية والاجتماعية.

ولكن الاهم من ذلك هو أن اثمهما اكبر من نفعهما بمعنى أن الضرر الاخروي الذي يصيب الانسان من تناول الخمر واللعب بالقمار اكبر من المنفعة المادية ولا شك ان الضرر الاخروي حتى لو كان قليلا فهو اكبر واهم من اكبر منافع الدنيا فكيف اذا كان الشيء تافها ومضرا في النهاية حتى في المقياس الدنيوي باعتبار ان ضرره في الدنيا ايضا اكثر من نفعه.  

 

وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219) فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ...

وهذا سؤال متكرر ولكن الجواب السابق كان عن مورد الانفاق وهنا عن المال الذي ينفق والظاهر أن العفو بمعنى الترك كما في العين ومنه قوله تعالى (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ..)[19] فالمراد هنا ما هو زائد عن حاجتك فتتركه سواء في المأكل والملبس وغيرهما فيكون العفو مصدرا بمعنى اسم المفعول اي المتروك.

وقال بعضهم كما في التبيان وغيره انه بمعنى الزيادة ومنه قوله تعالى (ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ..)[20] والنتيجة واحدة في هذه الآية لان المعنى انفقوا ما يزيد على حاجتكم. وفي المفردات انه بمعنى القصد لتناول الشيء وحاول تطبيقه على موارد الاستعمال وهو بعيد.

وفي الحديث عن أبي عبد الله عليه السلام (في قول الله عز وجل: ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو قال: العفو الوسط).[21] ولعل المراد تفسير مضمون الآية بان تراعي الاقتصاد في الانفاق اي لا تنفق ما تحتاج اليه ولا تبخل عما يزيد على حاجتك والا فالعفو ليس بمعنى الوسط.

وهذا هو ما يفيده قوله تعالى (وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا).[22] وكذلك قوله تعالى (وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا)[23] على احتمال ويحتمل ان يكون المراد بالانفاق في هذه الآية مطلق صرف المال لا الانفاق على الغير.

وبناءا على تفسيره بالترك او الزيادة ربما يقع البحث عن مناط الزيادة فهل كل ما يزيد على قوت يومه ينفقه ولا يبقي شيئا لغده ام المناط الزيادة في الشهر ام السنة؟

الآية لم تحدد ذلك فربما يقال انه يتحدد حسب عرف الزمان والمكان ولكن ورد في بعض الروايات ان المناط الزيادة على قوت السنة كما نسبه في مجمع البيان الى الامام الباقر عليه السلام الا انها مرسلة. ولكن هناك عدة روايات تدل على استحباب ادخار قوت السنة[24] فيظهر منها ان الافضل في الانفاق ما يزيد على قوت السنة.

والمراد بقوت السنة او مؤونتها هو ان يمتلكها بالفعل او بالقوة فاذا لم يكن له من المال بمقدار مؤونة السنة كما هو الغالب في الموظفين ولكن له عمل مستمر يعتمد عليه ويحصل على الراتب بالمقدار الذي يكفيه لمؤونته التدريجية اثناء السنة فهذا ايضا يملك قوت سنته فان كان يملك اكثر من ذلك تشمله الآية.

ويلاحظ مضافا الى ذلك ما يحتاج اليه في الحالات الطارئة فان الحياة لا تسير دائما بالنهج المعتاد فربما يحتاج الى علاج مرض لنفسه او لاحد افراد اسرته او اقربائه وربما يكون العلاج متوقفا على صرف اموال طائلة او ربما يحتاج الى مال كثير لزواج او لبناء دار او مساعدة من هو اقرب او اولى بالمساعدة من هذا الذي طرق بابه.

ومهما كان فان العمل بهذه الآية تغير حياة الانسان فاذا كان الاساس عنده ان يتصدق بما هو زائد عن حاجته فانه لا تبقى له الاموال الطائلة والكنوز ولا يحاول الدخول في مسابقة اثرى الاثرياء ولا يحاول جمع المال ولو عن الطريق الحرام ويجتنب الطرق المشبوهة في المعاملات ولا يزيد في سعر البضائع خصوصا في التعامل مع المؤمنين وفي بيع المواد الاستهلاكية ولا يحتكر الاطعمة ليبيعها باغلى الثمن ولا يغش الناس ولا يبيع المحرمات ولا ياكل الربا لانه لا يبقى له حافز لطلب الزيادة اذا كان المطلوب منه ان يتصدق بالزائد.

وقوله (كذلك) اشارة الى نفس هذا البيان اي وبمثل هذا البيان يبين الله تعالى لكم اياته والمراد بالآيات الاحكام الواردة في الشرع او في خصوص الكتاب او خصوص ما ورد في هذه الآية من الاحكام.

وقوله (لعلكم تتفكرون في الدنيا والآخرة) يبين الغرض من تحديد الاحكام بهذه الطريقة حيث حثّ الانسان على الانفاق لينال ثواب الآخرة ولكنه حدّده بما لا يضر بدنياه فلا يستحب له ان ينفق على الناس بكل ما عنده فيقعد ملوما محسورا.

وبذلك يتبين ان المراد بالتفكر في الدنيا والاخرة ان لا ينحاز الانسان الى الامور المعنوية تماما فيهمل شؤونه في الدنيا ولا ينحاز الى الامور المادية تماما كما هو الغالب فيخسر حياته الابدية كما قال تعالى (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ..).[25]

ويمكن ان يكون المراد ما مر ذكره من ان اثم الخمر والميسر اكبر من نفعهما كما ورد في الكشاف وغيره او يكون المراد ما يشمله فالمعنى حينئذ أن من يقدم منفعة الدنيا لا يهتم باثم الاخرة ومن يقدم الحياة الاخرة لا يهتم بمنفعة الدنيا وعليه فالمراد بقوله لعلكم تتفكرون في الدنيا والاخرة الحث على التفكر فيما هو الاهم منهما وترجيح ما يؤمن المصلحة بحسبه.

ولكن العلامة الطباطبائي قدس سره استفاد من الآية (اولا انها تحث على البحث عن حقائق الوجود ومعارف المبدأ والمعاد وأسرار الطبيعة وبالجملة جميع العلوم الباحثة عن المبدأ والمعاد وما بينهما المرتبطة بسعادة الإنسان و شقاوته.

وثانيا أن القرآن وإن كان يدعو إلى الإطاعة المطلقة لله ورسوله من غير أي شرط وقيد غير أنه لا يرضى أن يؤخذ الأحكام والمعارف التي يعطيها على العمى والجمود المحض من غير تفكر وتعقل يكشف عن حقيقة الأمر). [26] انتهى ملخصا.

ولكن الواقع أن هذه الجملة لا يفهم منها اكثر من الحثّ على التدبر وترجيح ما هو الاهم من الدنيا ومنافعها والاخرة وثوابها ولا تحث على الاهتمام بمنافع الدنيا والاخرة معا فضلا عن الدلالة على الوجوب الكفائي في الاهتمام بشؤون الدنيا خاصة لتحقيق مصالح المجتمع كما هو مذكور في الفقه وفضلا عن الحثّ على البحث عن (جميع العلوم الباحثة عن المبدأ والمعاد وما بينهما المرتبطة بسعادة الانسان وشقاوته!!!).

واما قوله (وثانيا..) فيقصد به أن الآية تحث على معرفة السبب في الحكم فحرمة الخمر والميسر تتبع كون الاثم اكبر من المنفعة فكأنه تعالى أراد بذلك بيان حكمة الحكم. وتبع العلامة على ذلك بعض من اتى بعده.[27]

ومن الواضح ان الاية لا تنظر الى هذا الامر حتى لو اعتبرنا هذه الجملة ناظرة الى حكم الخمر والميسر فطريقة بيان الحكم لا تشير الى علة الحرمة وانها بسبب كون الاثم اكثر من المنفعة بل هو نفس الحكم وليس بيانا للسبب وانما اشار الى وجود منافع فيهما وهذا امر واضح اذ لولا وجود المنفعة المادية ما كان الانسان يشرب الخمر ويمارس القمار فالذي يدعوه الى ارتكابهما هو النفع المادي ولكن الاثم اعظم واكبر فيجب الاجتناب ولا تشير الاية الى سبب التحريم وحكمته.

 

وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (220)

ومن اسئلتهم كيفية تعاملهم مع الايتام حيث انهم كانوا يكفلون اليتيم الذي لا كافل له وربما كان لليتيم بعض ما ورثه من ابيه فيقع المؤمن في حرج من التصرف في ماله خصوصا بعد أن نزلت آيات بشأن الايتام وحرمة التصرف في اموالهم ولذلك كان هذا موضع الشبهة عندهم فسألوا الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وجاءهم الجواب من عند الله تعالى. 

وقد ورد في التفسير المنسوب الى علي بن ابراهيم القمي انه قال (حدثني أبي عن صفوان عن عبد الله بن مسكان عن أبي عبد الله عليه السلام انه لما أنزلت "إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا"[28] أخرج كل من كان عنده يتيم وسألوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في إخراجهم فأنزل الله تعالى: ويسألونك عن اليتامى..).[29]

ومقتضى الرواية ان هذه الآية نزلت بعد الاية المذكورة وهي في سورة النساء والمعروف انها نزلت بعد سورة البقرة ولكن لا يبعد نزول هذه الاية بالخصوص قبل سائر آياتها.

وفي مجمع البيان (قال ابن عباس: لما أنزل الله "وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ"[30] و(إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا...) انطلق كل من كان عنده يتيم فعزل طعامه من طعامه وشرابه من شرابه واشتد ذلك عليهم فسألوا عنه فنزلت هذه الآية).[31] وهكذا روي عنه في كتب اهل السنة.

وقوله تعالى (ولا تقربوا مال اليتيم..) ورد في سورتي الانعام والاسراء وكلاهما مكيتان. وهناك آيات اخرى ايضا نزلت بشأن الايتام في مكة كقوله تعالى (كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ)[32] ولكنها لا تشتمل على التحذير والوعيد كما في قوله تعالى (ولا تقربوا مال اليتيم..) وأشد منه قوله (ان الذين ياكلون اموال اليتامى ظلما..) فان الوعيد فيه في غاية الشدة وليس مجرد نهي وتحريم وليس فيه اي احتمال للتاويل.

ومهما كان فان التشديد في امر اليتامى اوقع المؤمنين في حرج في كيفية التعامل معهم فسألوا الرسول صلى الله عليه وآله وسلم عنهم ولم يرد في الآية ذكر مورد الاستفهام كما في سائر موارد السؤال وذلك لان الجواب يفصح عن ذلك والقرآن مبني على الايجاز.

والجواب (قل اصلاح لهم خير) اي كل ما يكون اصلاحا لهم فهو خير لهم وان كان مستلزما للتصرف في بعض مالهم. والاصلاح ايجاد الصلاح وهو نقيض الفساد. والفساد في الشيء ان يخرج عن حالته الطبيعية فلا ينتفع به فيما خُلق له فالاصلاح هو رفع الفساد اذا وجد ومنعه من ان يتحقق واصلاح حال اليتيم يتم بملاحظة جميع شؤونه المادية والمعنوية وهو امر دقيق جدا وصعب للغاية.

والتنكير في قوله (اصلاح لهم) للتعميم اي كل ما يعد في نظر العرف مصلحة لهم فلو كان الانسان يراعي ظاهر الامر ويحتاط في التصرف في ماله وهو يعيش في اسرته فلعله يشتري بمال اليتيم طعاما خاصا له ولا يدعوه الى الاختلاط باسرته وفي هذا تاثير سلبي على نفسيته يفوق اي مصلحة مادية فالطريق الصحيح هو ان يشارك الاسرة في الطعام والشراب والملبس والمسكن وان استلزم بعض التصرف في ماله.

وهذا نظير حضور الانسان في بيت توفي صاحبه لتسلية اهله واولاده وهو يستلزم التصرف في البيت والاثاث وربما يتناول طعاما او شرابا مع وجود قصّر في ورثته ولا شك ان الامتناع عن ذلك للاحتياط في مال اليتيم ليس من مصلحته بل الاصلح له نفسيا ان يرى الناس يحضرون كما كانوا في عهد ابيه ويتفقدون ايتامه وذويه وان استلزم ذلك بعض التصرف في مال اليتيم ولا حاجة الى التعويض وان كان افضل بطريقة لا تثير حزازة فيهم.

والحاصل ان التنكير في قوله (اصلاح لهم) للتعميم خلافا لما ذكره العلامة الطباطبائي رحمه الله من ان التنكير للاشارة الى ان نوعا واحدا من الاصلاح يعتبر خيرا وهو الاصلاح الحقيقي اذ ربما يظهر بعض الناس انهم يريدون لليتيم ما هو الاصلح ولكنهم يفسدون في الواقع ويراءون الناس وهذا النوع من الاصلاح ليس خيرا.

ولكن الصحيح ان هذا ليس اصلاحا بل هو اشد الفساد ولا معنى لتنويع الاصلاح الى واقعي وظاهري فالوجه المقبول في التنكير هو ما ذكره غيره من انه للتعميم.

ولم يرد في الآية (واصلاحهم) بل واصلاح لهم وهذا وجه اخر في التعميم لان الاصلاح اذا اضيف اليهم فيظهر منه اصلاح ذواتهم بحسن التربية والتعليم وملاحظة ما يتوقف عليه صلاح الجسم والروح بل قيد الاصلاح بكونه (لهم) اي لمصلحتهم فيشمل كل نوع من الاصلاح سواء تعلق بذواتهم او باموالهم في حاضرهم او مستقبلهم.

وقوله تعالى (خير) خبر عن قوله (واصلاح) فيحتمل ان يكون الخير بمعنى الافضلية والمراد ان الاصلاح افضل من تركهم مخافة الاعتداء عليهم ويمكن ان يكون المراد انه بذاته يشتمل على خير.

ثم تعرضت الآية الكريمة لحكم المخالطة مع اليتيم بمعنى خلط الاموال فيصرف بالمال المختلط على مجموع الاسرة ومنهم اليتيم فأجازه ولكن لم يصرح بالجواز بل ذكر السبب في التجويز وهو أنهم إخوانكم والمقصود الاخوة في الدين ولكنه لم يصرح بها ايضا لينتقل الذهن الى الاخوة الحقيقية. والقصد من ذلك – والله العالم – التنبيه على أن جوازه يتبع كون التعامل معهم كالتعامل مع الاخوة الحقيقيين فلو كان عندك اخ في البيت اصغر منك بكثير وكأنه ابنك كيف تتعامل معه؟ هذه المعاملة والمخالطة جائزة مع اليتيم.

يلاحظ التعبير الدقيق فهو يرفع الحرج عن تعامل كافل اليتيم معه ويجيز الاختلاط ولكن بدقة متناهية للاهتمام بمصلحة اليتيم ثم يضيف اليه تحذيرا شديدا بلغة هادئة (والله يعلم المفسد من المصلح) فيجعل من الانسان نفسه ومن ضميره مراقبا عليه لا يتركه ليلا ونهارا، وسرا وجهارا ويحذره من غضبه تعالى وهو يعلم المفسد من المصلح فلو تمكنت من اخفاء الحقيقة عن الناس وعن القانون والدولة فلن تستطيع الاستخفاء من الله تعالى وهو رقيب عليك.

والسر في ذلك هو أن الله تعالى يريد تربية الانسان والارتقاء به ثقافيا واخلاقيا ولا ينفع في هذا المجال الشرطة والقانون والحدود بل النافع هو لقاح التقوى يطعّم به البشر لتصلح نفوسهم ويطبقوا القانون الالهي بانفسهم من دون حافز خارجي.   

واعجب من كل ذلك قوله تعالى (ولو شاء الله لاعنتكم) واختلف اللغويون في معنى العنت والغالب فسروه بالمشقة كما عن الخليل وفي معجم المقاييس وقيل المراد به الاثم كما في الصحاح وقيل الهلاك كما رواه الازهري عن بعضهم والذي يظهر من موارد استعماله ان المراد به المشقة الشديدة وهو المناسب هنا لو فرض اختلاف المعنى فالمراد أنه تعالى لو أراد فرض الحكم المناسب للموضوع لوقعتم في مشقة شديدة.

ويظهر منه ان الحكم في الواقع أصعب من هذا وأن الواجب في الاساس هو ملاحظة مصلحة اليتيم بدقة فكان من الممكن ان يحكم الله بوجوب كفالة اليتيم وبوجوب مراعاة مصلحته المادية والنفسية بدقة في شتى المجالات فيقع الناس في حرج شديد ولكن الله تعالى لم يلزم المؤمنين به ارفاقا بهم وبذلك يتبين اهمية الموضوع عند الله تعالى ولعل القصد من ذكر هذه الجملة هو التنبيه على ذلك.

ان الله عزيز حكيم والعزيز هو الغالب فلا يغلب ارادته شيء فلو أراد لحكم به وأعنتكم ولكنه حكيم يلاحظ مصلحة الجميع فكما أن مصلحة اليتيم تقتضي ذلك ولا بد من رعايتها كذلك لا بد من رعاية مصلحة المامورين بكفالته.

وهناك روايات كثيرة حول مخالطة اليتيم نذكر بعضها:

روى الكليني قدس سره بسنده عن عبد الله بن يحيى الكاهلي قال (قيل لأبي عبد الله عليه السلام: إنا ندخل على أخ لنا في بيت أيتام ومعهم خادم لهم فنقعد على بساطهم ونشرب من مائهم ويخدمنا خادمهم وربما طعمنا فيه الطعام من عند صاحبنا وفيه من طعامهم فما ترى في ذلك؟ فقال: إن كان في دخولكم عليهم منفعة لهم فلا بأس وإن كان فيه ضرر فلا وقال عليه السلام (بل الانسان على نفسه بصيرة) فأنتم لا يخفى عليكم وقد قال الله عز وجل (وإن تخالطوهم فإخوانكم في الدين والله يعلم المفسد من المصلح).

وعن علي بن المغيرة قال (قلت لأبي عبد الله عليه السلام: إن لي ابنة أخ يتيمة فربما اهدي لها الشيء فآكل منه ثم أطعمها بعد ذلك الشيء من مالي فأقول: يا رب هذا بهذا؟ فقال عليه السلام: لا بأس).

وعن أبي الصباح الكناني عن أبي عبد الله عليه السلام - في حديث – (قال: قلت: أرأيت قول الله عز وجل: وإن تخالطوهم فإخوانكم، قال: تخرج من أموالهم قدر ما يكفيهم، وتخرج من مالك قدر ما يكفيك ثم تنفقه..).

وعن سماعة قال (سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قول الله عز وجل "وإن تخالطوهم فإخوانكم" فقال: يعني اليتامى إذا كان الرجل يلي لأيتام في حجره فليخرج من ماله على قدر ما يخرجه لكل إنسان منهم فيخالطهم ويأكلون جميعا ولا يرزأنّ من أموالهم شيئا إنما هي النار).[33] وقوله عليه السلام (ولا يرزأنّ) اي ولا يصيبنّ.

 

وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ ...

مجموعة آيات في احكام النساء والعلاقات الزوجية وابتدأها بتحريم النكاح بين المسلمين والمشركين وهذه الجملة حرمت نكاح الرجل المسلم بالمرأة المشركة وبالعكس وجعل غاية الحرمة الايمان (حتى يؤمنّ) و(حتى يؤمنوا) فالشرك لا يوجب حرمة ابدية.

وقوله (لا تَنكحوا) اي لا تتزوجوا و(لا تُنكحوا) اي لا تزوجوهم وهو خطاب لاولياء النساء اي لا تزوجوهم بناتكم او اخواتكم او كل امراة تتولون امر زواجها ولاية او وكالة.

والظاهر أن المراد بالمشركين والمشركات في الآية مشركو العرب وعبّاد الاوثان ولا يشمل اهل الكتاب لان هذا هو مصطلح القرآن وقد تكرر فيه ذكر المشركين مع اهل الكتاب بالعطف مما يدل على تغاير العنوانين.

وهناك اختلاف في الفقه حول جواز الزواج بالكتابية مطلقا او في خصوص الزواج المنقطع كما ان الروايات ايضا مختلفة فيه. واما الايات فقوله تعالى (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ..)[34] يدل على الجواز ويمكن اختصاصه بالمنقطع بقرينة التعبير بالاجور. واما زواج المسلمة بالكافر فلا يجوز مطلقا.

وهناك من يقول بان هذه الآية تنسخ الحكم بالجواز الوارد في سورة المائدة مع ان المائدة نزلت بعد سورة البقرة بل المعروف ان البقرة من اول ما نزل في المدينة والمائدة من اواخر ما نزل بل قيل بان سورة المائدة احكامها لم تنسخ مضافا الى ما ذكرنا من ان المشركين لا يشمل اهل الكتاب.

وقيل بالعكس وأن آية الجواز تنسخ هذا الحكم والصحيح ان هذه الاية لو فرض شمولها لاهل الكتاب تعتبر عامة فتخصص بتلك الاية وليس نسخا مع انها لا تشمل اساسا كما ذكرنا.

وهناك آية اخرى ربما يقال بانها تنسخ حكم الجواز وهي قوله تعالى (وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ)[35] والكوافر جمع كافرة ولا شك في شمول العنوان لاهل الكتاب لانهم كفروا بالرسالة وقد عبر عنهم في القران بالكفر في موارد عديدة.

ولكن القرائن في هذه الآية ربما تقتضي اختصاصها بالمشركات ايضا الا ان الحكم بالنسخ ورد في رواية صحيحة عن الامام الباقر عليه السلام.[36] وتفصيل البحث موكول الى الفقه.

والظاهر أن هذا النهي يقتضي بطلان العقد لا الحرمة فقط وهناك رأي عند مخالفينا بأن النهي يدل على الصحة وان هذا النكاح يقع ولكنه محرم تكليفا والا لم يكن معنى للنهي ومثل هذا يقال في النهي عن بعض البيوع وفي الطلاق ايضا. ولذلك ذهب فقهاؤهم الى صحة الطلاق حال الحيض وفي طهر المواقعة وان كان منهيا عنه لانه يدل على الحرمة فقط.

والصحيح ما ذكره فقهاؤنا من ان النهي يدل على الفساد لان الامر المنهي عنه ان كان مما يطلب بذاته كالاكل والشرب وسائر الاستمتاعات فالنهي يدل على حرمته فقط واما اذا كان الامر مطلوبا للوصول الى غرض اخر شرعا وقانونا فالنهي ليس بمعنى حرمته بل بمعنى انه لا يترتب عليه الاثر الشرعي والقانوني وحيث ان النكاح هنا بمعنى العقد لا بمعنى نفس التمتع الجنسي فهو ليس مقصودا بذاته بل يقصد للوصول الى آثاره الشرعية ومنها جواز الاستمتاع فالنهي يفيد عدم ترتب الاثار وهذا واضح في عرف وضع القوانين.

ثم عقّب ذلك بما يوجب التنفير من الزواج بالمشركين والمشركات وأكّد الجملة بلام القسم فهناك قسم مقدر كأنه قال (والله لأمة مؤمنة..) والامة هي المملوكة وهي تشترى وتباع ولكن يجوز الزواج بها باذن مالكها فالآية تقول بأن امة مؤمنة خير من حرة مشركة ولو أعجبتكم بنسبها وحسبها وجمالها وسائر خصائصها التي توجب الاعجاب بها. وكذلك المملوك المؤمن خير من حر شريف مشرك ولو اعجبكم خصاله وشرفه ونسبه.  

والعرب كانوا يترفعون من الزواج بالاماء وتزويج العبيد والله تعالى ايضا أمضى هذا الترفع في قوله (وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ.... ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ..).[37]

ومع ذلك فالامر المؤكد في هذه الآية هو أن الاصل عند الله في رفعة مقام الانسان وكماله وقربه لدى الله تعالى هو الايمان فالامة المؤمنة وان كانت محتقرة في اصلها ونسبها وربما في جمالها الا ان ايمانها يجعلها ارفع شأنا عند الله من الحرة العربية الشريفة ان كانت مشركة.

وقيل ان المراد بالامة المؤمنة امة الله اي المراة المؤمنة خير من المشركة ولكنه بعيد لان هذا امر واضح عند المسلمين فالمفاضلة في كلامه تعالى ليس بين المؤمنة والمشركة بل بين الامة المؤمنة والحرة المشركة وهذا الامر ربما يخفى على كثير من الناس خصوصا ان الاماء سبق عليهن الكفر وربما لم تؤمن الا خوفا او تحت ضغط المجتمع والظاهر ان المجتمع الاسلامي ما كان يصدّق ايمانهن بل كان الناس يعاملونهن معاملة الكافرات.

ولذلك ورد في الآية المذكورة آنفا قوله تعالى (والله اعلم بايمانكم..) ولعل المراد منه دفع الاستغراب من توصيفهن بالايمان حيث كان المجتمع لا يصفهن به فالله تعالى يقول لهم (والله اعلم بايمانكم) اي لا تظنوا بانفسكم انكم المؤمنون فقط او انكم اكثر ايمانا فلعل الامة التي تحتقرها اكثر ايمانا منك.

وقال بعضهم[38] ان كلمة الخير في الاية للتعيين لا للتفضيل فالخير بمعنى الجيد لا الاجود لان الزواج بالمشرك والمشركة منهي عنه فلا معنى للافضلية ولان المشركين يدعون الى النار وهذا لا خير فيه مطلقا.

والصحيح انه بمعنى الافضلية والا لم يكن معنى لقوله (من مشركة) ولكن المفاضلة ليست باعتبار الحكم الشرعي وما تستتبعه مناكحة المشركين من الضلال ثم النار بل المفاضلة بحسب الدواعي التي تكون محفزة للزواج من الجمال والحسب والنسب وسائر صفات الكمال المادي في هذه الحياة ولذلك يقول (ولو اعجبتكم) ولذلك ايضا وضع المفاضلة بين الامة والعبد المؤمنين مع المشرك والمشركة وان كانا حرين.

أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (221)     

الاشارة بقوله (اولئك) الى المشركين والمشركات والظاهر ان هذه الجملة ايضا كالجملة السابقة أتت في مقام ايجاد النفرة في نفوس الناس ليتركوا هذا الزواج بطبعهم حيث ان الزواج كثيرا ما يتبع العلاقات العاطفية والانجذاب الجنسي وكثيرا ما يصعب على الانسان حتى لو كان مؤمنا مخلصا ان يتخلص من ضغط هذه العاطفة والانجذاب فاراد الله تعالى بلطفه ورافته ان يخفف العبء عنهم بايجاد النفرة الطبيعية ليسهل عليهم امتثال الحكم.

ومن جهة اخرى تشير هذه الجملة الى سبب هذا الحكم والتشدد في الامر ليسهل على المؤمنين قبوله والاهتمام به. وذلك باعتبار أن المشركين يدعون الى النار اي يدعون الى ما ينتهي بالانسان الى دخول النار حتى لو لم يشرك لانهم لا يؤمنون بالشريعة فيحاولون التاثير على الزوج او الزوجة او الاولاد اما بتضعيف الايمان وبث العقيدة الفاسدة او بالدعوة الى الحرام وتزيينه وتسويل النفس او الابعاد عن العبادة وامتثال الواجبات بشتى الطرق.

وهذا امر متحقق في كثير من الزيجات التي لا تلاحظ فيها تدين الطرف المقابل او لا تلاحظ اختلاف المذهب والعقيدة وخصوصا بالنسبة للاولاد فربما يشترط احد الطرفين على الاخر ان لا يحاول التاثير السلبي على الاولاد ولكنه ليس باختياره وهذا الشرط لا اثر له فهو بصورة طبيعية يؤثر على الاولاد بل على الزوجة ايضا وكثيرا ما يؤثر سائر افراد الاسرة فلو كان الزوج بنفسه لا يحاول نشر عقيدته الفاسدة الا ان اسرته يؤثرون على الاولاد بل على الزوجة وكذلك العكس.

وهذا امر مجرب قد راينا اسرا كثيرة تركت دينها او مذهبها او التزامها الديني بسبب هذه الزيجات غير الملائمة.

والحاصل ان الاية الكريمة تشير الى امر مهم في هذا الباب ولا يختص بالمشركين بل يشمل جميع الكفار بل جميع الفرق الفاسدة من المسلمين ايضا بل حتى مع اتحاد المذهب والعقيدة فاذا كان الزوج تاركا للصلاة او شاربا للخمر او مرتكبا للفجور فانه يؤثر على التزام زوجته واولاده بالدين بل يفسد اخلاقهم.  

وبمقتضى التعميم الذي اشرنا اليه في هذا التعليل ذهب بعضهم الى ان الحكم يشمل اهل الكتاب وان لم يشملهم عنوان المشركين والمشركات وهو احتمال قوي بل يشمل غير اهل الكتاب من اصحاب العقائد الفاسدة بل كل من يدعو الى النار سواء بعقيدته او بعمله فلا يبعد تعميم الحكم بمقتضى التعليل المذكور اذا ثبت انه علة للحكم يدور مدارها ولكن يحتمل ان تكون حكمة تترتب على الحكم فلا يحكم بحرمة الزواج في غير المشركين والمشركات.

ويمكن ان يقال بحرمة التزويج في غير موارد الشرك وان كان العقد صحيحا فلا يحكم بالبطلان كما عليه الفتوى بالنسبة للفرق الباطلة من المسلمين ما لم يخرجوا عن الدين كالنواصب والخوارج وكذلك بالنسبة لاهل المعاصي مع ان الروايات وردت بالنهي عن تزويج شارب الخمر.

منها ما رواه الكليني قدس سره عن ابن أبي عمير عن بعض أصحابه عن أبي عبد الله عليه السلام قال: (قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: شارب الخمر لا يزوّج إذا خطب).[39] وغيرها من الروايات في نفس الباب. ويلاحظ ان الكليني وغيره لم يفسروا الحديث بالحرمة بل بالكراهة مع ان ظاهره التحريم ولا يبعد الحكم بذلك وان لم يحكم بالفساد.

وقوله تعالى (والله يدعو الى الجنة والمغفرة باذنه) ايضا بمعنى انه تعالى يدعو الى ما يتعقبه دخول الجنة والوصول الى المغفرة. والمغفرة هي الستر على قبائح الانسان واعماله التي تمنع دخوله جنة رضوانه تعالى ولولا المغفرة لم يستحق الانسان دخولها.

انما الكلام في وجه مقابلة هذه الدعوة مع تلك الدعوة مع ان حق المقابلة – كما في الميزان – ان يقال وهؤلاء اي المؤمنون يدعون الى الجنة فأوله العلامة بما يؤول الى ان هذا التعبير تشريف للمؤمنين وأنه تعالى وليهم فلذلك اسند دعوتهم الى نفسه.

وقال في الكشاف (يعنى وأولياء اللَّه وهم المؤمنون يدعون إلى الجنة وَالْمَغْفِرَةِ..) وقال الالوسي (وَاللَّهُ يَدْعُوا بواسطة المؤمنين من يقاربهم إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ..) وفي المنار ان العقيدة بالله هو الاصل الذي يدعو الى الجنة فكأنه أوّل قوله والله يدعو الى ان العقيدة بالله تدعو الى الجنة.       

وكل هذه المحاولات لانهم اعتبروا ان القرآن كما يدعو الى المنع من مناكحة المشركين يدعو ايضا في هذه الاية الى مناكحة المؤمنين فهذه الجملة لبيان الفرق بين الفريقين فاولئك يدعون الى النار وهؤلاء يدعون الى الجنة مع ان الاية لم تتعرض لبيان من تجوز مناكحته وانما منع من مناكحة اولئك فقوله والله يدعو الى الجنة اكمال لتعليل ذلك الحكم ومعناه انهم يدعون الى النار والله تعالى لا يريد ان تتاثروا بدعوتهم فتدخلوا النار ولذلك منع من مناكحتهم.

واما قوله (باذنه) فربما يستغرب من جهة انه متعلق بقوله والله يدعو ولا يصح تعليق فعله تعالى باذنه فقال المفسرون ان معناه (بتوفيقه وتيسيره) ولكن الاذن لا يعني التوفيق والتيسير.

وقد مر بعض الكلام حوله في تفسير قوله تعالى (فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ..)[40] وحاصل الكلام أن المراد أن دخول الجنة وحصول المغفرة لا يتم الا باذنه فالله تعالى يدعو الى ما يترتب عليه الجنة والمغفرة وهو عمل المؤمن ولكنه لا يحصل على ما يريد الا باذنه تعالى والغرض ان ترتب المقصود ليس حتميا بل منوط باذنه تعالى.

ويبين آياته للناس لعلهم يتذكرون. وهذا عطف على قوله والله يدعو الى الجنة والمغفرة والمراد بالآيات الاحكام المذكورة والجملة تدل على أن الحكم مبين واضح والغريب انه مع وضوحه اختلف في فهمه المفسرون.

ولعل المراد من التبيين انه اشار الى حكمة الحكم لكي يتاثر المؤمنون ولا يرتكبوا هذه المناهي كما امتنعوا من امتثال النهي عن الخمر بتأويل الآيات والمراد بالتذكر التنبه لاهمية الموضوع وأن هذا الزواج يستتبع مفاسد اجتماعية ودينية.

 


[1] النساء : 43

[2] المائدة : 91

[3] مصنف عبدالرزاق الصنعاني ج 9 ص 224

[4] مصنف ابن ابي شيبة ج 5 ص 80

[5] الاعراف : 33

[6] الكافي ج 6 ص 406 باب تحريم الخمر في الكتاب

[7] الكشاف ج1 ص 675

[8] التحرير والتنوير ج 2 ص 338

[9] الكافي ج 6 ص 395

[10] الكتاب المقدس سفر اللاويين الاصحاح العاشر

[11] الكتاب المقدس سفر امثال الاصحاح الثالث والعشرون

[12] الميزان ج 2 ص 194

[13] الكافي ج 3 ص 371

[14] الكافي ج 6 ص 406

[15] كل هذه الروايات تجدها في الكافي ج 6 ص 397 الى ص 405

[16] وسائل الشيعة ج 24 ص 39

[17] الدر المنثور ج 1 ص 606

[18] تفسير الطبري ج4 ص 324

[19] البقرة : 178

[20] الاعراف : 95

[21] الكافي ج 4 ص 52 باب فضل القصد

[22] الاسراء : 29

[23] الفرقان : 67

[24] راجع وسائل الشيعة ج 17 ص 434 باب استحباب ادخار قوت السنة

[25] القصص : 77

[26] الميزان ج 2 ص 197

[27] الامثل ج 2 ص 115

[28] النساء : 10

[29] تفسير القمي ج 1 ص 72

[30] الانعام : 152 / الاسراء : 34

[31] مجمع البيان ج2 ص 82

[32] الفجر : 17

[33] الكافي ج 5 ص 129

[34] المائدة : 5

[35] الممتحنة : 10

[36] الكافي ج5 ص358 باب نكاح الذمية

[37] النساء : 25

[38] تسنيم ج 11 ص 133

[39] الكافي ج 5 ص 247 باب كراهية ان ينكح شارب الخمر

[40] البقرة : 213