مكتب سماحة السيد مرتضى المهري

وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ...

مجموعة آيات نزلت في احكام الطلاق متابعة للأحكام الخاصة بالنساء وبالعلاقات الزوجية.

وفي هذه الجملة ورد وجوب العدة على المطلقة. والعنوان المذكور في اول الآية عنوان يشمل جميع المطلقات ولكن لهذا الحكم استثناءات:

منها المطلقة قبل ان يدخل بها كما ورد في قوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا).[1] فهذه الآية تخصص الاية التي نفسرها.

ومنها اليائسة والصغيرة التي لم تبلغ سن الحيض ويمكن القول بعدم شمول هذه الآية لهن بقرينة الحكم وهو التربص ثلاثة قروء فلا بد من ان تكون المرأة ذات قروء. وقد ورد حكم من لم تبلغ الحيض في قوله تعالى (وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ..).[2]

واما اليائسة التي تجاوزت سن الحيض فيستفاد حكمها من مفهوم آية سورة الطلاق بناءا على ما ذكرناه في تفسير الآية من أن اليأس فيها ليس بالمعنى المصطلح بل بمعنى عدم نزول الحيض لمدة طويلة فاذا كان محل ارتياب واحتمل انه بسبب الحمل كما اذا كان قبل بلوغ انقطاع الحيض فعدتها ثلاثة اشهر. ومفهوم الاية انه ان لم يكن موضع شك بان بلغت مرحلة عدم امكان الحمل فلا عدة عليها.

وقد ذكرنا تفصيل القول فيه في تفسير سورة الطلاق فراجعه ان شئت.

وقد مر معنى الطلاق ووجه هذا التعبير. والتربص: الانتظار. والمراد عدم الزواج وانتظار ان يمر عليهن ثلاثة قروء. وأتى بفعل المضارع كأنه يخبر عن تربصهنّ مع ان المراد الامر به وهذا من التأكيد على لزومه فكأنه يخبر عنهن ان هذا دأبهن لا يتخلفن عنه. وتعليق التربص بالنفس لعله بتضمين الامتناع والصيانة اي يمنعن انفسهن من الزواج.

وقوله (ثلاثةَ قروء) بالفتح لانه قائم مقام الظرف اي مدة ثلاثة قروء وهو ظرف للتربص. والقروء جمع قرء بضم القاف وفتحها. وقيل ان القياس ان يقال أقرء لانها جمع قلة وقروء جمع كثرة. والنص القرآني يرد على هذه القواعد المستنبطة.

ومعنى القرء محل خلاف في كتب اللغة والفقه بانه بمعنى الطهر او الحيض. كما وقع الخلاف في اصل المعنى اللغوي فحكى في الصحاح عن بعضهم انه بمعنى الوقت ولذلك يصح اطلاقه على الامرين. ونقل في تهذيب اللغة عن بعضهم انه بمعنى الجمع ومنه القراءة. ويطلق على الطهر لانه زمان اجتماع الدم في باطن المرأة. وقال ابن دريد في الجمهرة انه بمعنى الانتقال من حال الى حال ولذلك يطلق على الامرين.    

ولكن رواياتنا تدل على ان المراد به الطهر وهي كثيرة منها ما رواه الكليني بسند صحيح عن زرارة قال (قلت لابي عبدالله عليه السلام سمعت ربيعة الرأي يقول من رأيي أن الاقراء التي سمى الله عز وجل في القرآن انما هو الطهر فيما بين الحيضتين فقال كذب لم يقله برأيه ولكنه انما بلغه عن علي عليه السلام فقلت أصلحك الله أكان علي عليه السلام يقول ذلك فقال نعم انما الطهر يقري فيه الدم فيجمعه فاذا جاء المحيض دفقه).[3]

وفي بعض التفاسير[4] ان القروء جمع القرء بمعنى الطهر والاقراء جمعه بمعنى الحيض وقد استند في ذلك الى كلام في القاموس المحيط حيث عدّ جموع القرء (اقراء وقروء واقرؤ) ثم قال (او جمع الطهر قروء وجمع الحيض أقراء) وكأنه أراد بذلك الاصلاح بين الفريقين ورفع الاختلاف ولكنه مما لا دليل عليه من كلام اللغويين ولا شاهد له.

 

وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ...

هناك من النساء من تخفي حملها لانها لو اعلمت الزوج به بقيت في عدتها الى ان تضع الحمل فربما تكون راغبة في الانفصال عنه قبل ذلك وحيث انه لا يتبين الحمل في كثير من الموارد الا من قبلها فالشرع منعها من الكتمان.

وقيل ان بعضهن في الجاهلية كانت تخفي حملها حتى تتزوج بزوج آخر فتلحقه به لئلا يكون بينها وبين الزوج الاول علاقة او لمصلحة اخرى لها في هذا الالحاق كما كانت بعضهن تلحق ولدها المشكوك نسبه الى الاكثر مالا او الاعلى حسبا او نسبا.

وهناك اختلاف بين الفقهاء في ان المراد مما خلق الله في ارحامهن هو الحمل ام الحيض ولعل الجمع بينهما أصح لان اخفاء الحيض والطهر ايضا له دواع عندهن فربما تخفي حيضها لتطول مدة العدة وتجب عليه النفقة او لرجاء الرجوع فيما اذا كانت لا ترغب في الانفصال وربما تخفي الطهر وتدعي توالي الحيض لتبين منه ولئلا يرجع اليها.

ويستظهر من الآية ان قولهن في دعوى الحيض والحمل مقبول لانه مقتضى وجوب الاعلام عليهن اذ لو لم يقبل قولهن فلا اثر للاعلام هكذا يستدل بعض الفقهاء وان كان من الممكن ان يقال بان وجوب الاعلام مقدمة لحصول الاطمئنان من كلامها فان حصل اخذ به والا فلا حجية لكلامها وتفصيل ذلك في الفقه.

وفي الروايات ما تدل على قبول كلامها في هذا المجال:

روى الكليني قدس سره بسند صحيح عن زرارة عن أبي جعفر عليه السلام قال (العدة والحيض للنساء إذا ادّعت صُدِّقت).[5]

وقيده بعضهم بعدم كونها متهمة في كلامها لما رواه الشيخ الطوسي قدس سره بسند صحيح عن إسماعيل بن أبي زياد عن جعفر عن أبيه عليهما السلام (أن أمير المؤمنين عليه السلام قال في امرأة ادعت أنها حاضت في شهر واحد ثلاث حِيَض فقال كلفوا نسوة من بطانتها ان حيضها كان فيما مضى على ما ادّعت فإن شهدن صدقت وإلا فهي كاذبة).[6]

وقوله (ان كنّ يؤمنّ..) ليس شرطا للتكليف كما هو واضح ولكنه تحذير للمراة بان هذا الكتمان لا يجتمع مع الايمان بالله واليوم الاخر ولم يكتف بالايمان بالله تعالى ليشتمل التحذير على الاشارة الى ان هذا الامر يستوجب العقاب في الاخرة.

 

وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا...

البعولة جمع بعل وهو الزوج وفي تهذيب اللغة والصحاح انه يطلق على الزوجين وفي الصحاح ان الزوجة يقال لها بعل وبعلة ويظهر ذلك من معجم المقاييس ايضا لانه فسره بالصاحب وان منه الزوج ولعله يريد بالزوج المعنى الاعم كما هو معنى اللفظ ولم يرد في القرآن زوجة بل يعبر عنها بالزوج وفي العين والجمهرة ايضا ان البعل الزوج.

ولعل العموم يفهم ايضا من التعبير عن المعاشرة الزوجية بالبِعال وهو من صيغ باب المفاعلة فهو مباعلة بينهما كما ورد في الحديث[7] النهي عن الصوم ايام التشريق لانها ايام اكل وشرب وبِعال ولكن في المفردات انه الذكر من الزوجين.

ومهما كان فالمراد هنا واضح اي وازواجهن احق بردهن اي احق بارجاعهن الى بيت الزوجية. وفي بعض التفاسير[8] أن التعبير بالرد يدل على ان الزوجية انتهت بالطلاق فلا تترتب احكام الزوجية في فترة العدة.

وافتى بذلك بعض فقهاء العامة اما في فقه اهل البيت عليهم السلام فالمطلقة الرجعية لها احكام الزوجة فيتوارثان ويجب عليها ان تتزين له وتمكّنه من نفسها وتجوز له مباشرتها فضلا عن سائر الاستمتاعات.

وقوله (في ذلك) اشارة الى التربص بتقدير الزمان اي في زمان التربص والضمير يرجع الى المطلقات ولكن حيث إن هذا الحق مختص بما اذا كان الطلاق رجعيا فاما ان يكون رجوع الضمير من باب الاستخدام بأن يرجع الضمير الى بعض المرجع لا كله او يعتبر هذا القيد قرينة على ان المراد بالمطلقات في اول الآية خصوص الرجعيات.

وفي هذا الحكم مصلحة مهمة للاسر المسلمة فكثيرا ما ينتبه الرجل ان ما بادر اليه من الطلاق يضرّ به او يضرّ بالاولاد مع افتراض وجودهم فيندم على ما بدر منه فجعل الله تعالى له طريقا للعودة وهي الافضل غالبا لان تربية الاطفال لا تتم بالصورة المطلوبة الا بين الابوين وهذا امر مشاهد بوضوح في الاولاد الذين يعيشون في حيرة بين الابوين المنفصلين.

ولعل هذا هو السبب في جعل العدة ثلاثة قروء وهو معادل غالبا لثلاثة اشهر مع أن المحافظة على الانساب تتحقق بالتربص حيضة واحدة كما أن الامن من الحمل ربما يتحقق في كثير من الموارد من دون تربص فلعل السبب الاقوى لايجابه هو المحافظة على الاسر حتى الامكان.

ووقع الكلام هنا في معنى كونه أحق بالرجوع فان الاحقية تدل على ان هناك من يجوز له الرجوع ولكن الزوج احق منه فمن هو الذي يمكنه الرجوع؟

والمعروف في التفاسير ان الاحقية ليست بمعنى التفضيل بل بمعنى كون الزوج الاول حقيقا بارجاع زوجته ولا تدل على افضليته وذلك لانهم لم يجدوا للزوجة حقا في ذلك ليكون الزوج احق منها.

ولكن يمكن ان يقال ان هناك توهما في وجود حق للزوجة في الرفض كما يشاهد ذلك منهن كثيرا فتكون الآية دالة على ان حقه في الرد اولى من حقها المزعوم في الرفض.

وفي الميزان اعتبر المفاضلة بين الزوج وسائر الرجال حيث يمكن ان يخطبوها فتدل الاية على ان الاولوية في ذلك للزوج السابق.

ولكن ظاهر الاية ان الاحقية في الرد وهنا لا يصدق الرد الا للزوج السابق اما غيره فلو صح زواجه فليس ردا فاضطر العلامة الى تقدير جملة فقال (والمعنى وبعولتهن أحق بهن من غيرهم، ويحصل ذلك بالرد والرجوع في أيام العدة) وفيه تكلف واضح.

ومهما كان فحق الرجوع ليس مطلقا بل هو مقيد بما اذا اراد الزوج الاصلاح وسيأتي في قوله تعالى (ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا) الاشارة الى عمل اجرامي كان يصدر من بعض الازواج على ما في التفاسير حيث كانوا يرجعونها في اخر العدة ويطلقونها مرة اخرى وهكذا الى تسعة اشهر لايذائها ولمنعها من الزواج بالغير فمنع الله ذلك باقوى بيان.

ولكن يلاحظ ان التقييد بارادة الاصلاح لا يختص بذلك فربما يرجعها ليؤذيها او ينتقم منها اذا رفعت امرها الى الحاكم الشرعي وطلبت الطلاق.

والمعروف في التفاسير أن هذا ليس تقييدا لجواز الرجوع بل هو بمعنى وجوب ارادة الاصلاح فارادة الاضرار بها محرمة ولكن الرجوع نافذ قالوا لاجماع الامة على ذلك ودعوى الاجماع موجودة في روح المعاني والمنار وغيرهما.

وقال الطبرسي في مجمع البيان (وإنما شرط الإصلاح في إباحة الرجعة لا في ثبوت أحكامها لإجماع الأمة على أن مع إرادة الإضرار يثبت أحكام الرجعة) ومعنى ذلك ان الرجوع حرام ولكنه يؤثر في رجوع احكام الزوجية.

والاجماع غير ثابت ومجرد وجود القول في الكتب المصنفة لا يدل على اجماع الامة وعلى فرض ثبوته لا حجية له وظاهر الآية التقييد فلا بد من القول ببطلان الرجوع مع قصد الاضرار.

الا ان الشأن في اثبات ذلك في مرحلة القضاء فانه امر لا يعلمه الا الزوج نفسه لانه يتبع قصده فيمكنه ان يدعي قصد الاصلاح فان ثبت بقرائن قطعية يمكن الحكم بها والا فيحكم في الظاهر بنفوذ الرجوع ولكنه مؤاخذ بالواقع اذا قصد الاضرار فلا يجوز له ترتيب الآثار.

 

وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (228)

ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف.. جملة قصيرة تتضمن مفهوما واسعا ويظهر منها اهتمام الشريعة الاسلامية بحقوق المراة وتساويها مع الرجل ويلاحظ ان هذا الحكم صدر في مجتمع لا يعترف بحق للمراة بل يعتبرها ملكا للرجل.

وهذه الجملة بمثابة قانون حاكم على جميع ما يصاغ من قوانين ترتبط بحقوق المرأة فاذا توصل الفقيه بمقتضى ظواهر الادلة الى حكم لا يراعى فيه حق المراة وتساويها مع الرجل في ثبوت الحق فان هذا القانون يدل على عدم اعتبار ذلك الحكم وهذا مقدم عليه فلا بد له من البحث عن موضع الخطأ في استنتاجه.

ومعنى هذا القانون أن الشريعة الاسلامية جعلت للمرأة على الرجل حقوقا مماثلة لحقوق الرجل على المرأة وهذا الامر يظهر من اللام و(على) فقوله (ولهن) يدل على ان هناك حقوقا لهن على الرجل وليس معناه انهن يملكن امورا او لهن حقوق اجتماعية على الحاكم وذلك بقرينة مقابلته بقوله (مثل الذي عليهن) فيظهر من هذه المقابلة ان الذي لهن حقوق ثابتة في ذمة الرجل كما أن له حقوقا ثابتة على المراة.

والمراد بالرجل والمراة في هذه المقابلة الزوجان فلا تتعرض هذه الجملة لما لهن من حق على آبائهن او امهاتهن او اولادهن او غيرهم من الرجال والنساء وكذلك ما عليهن من حقوق للاباء وغيرهم.

وهذه المقابلة ايضا تدل على ان المراد ليس هو تساوي الرجل والمراة في الاحكام فلا يتوهم ان هذا الحكم ينافي اختلافهما في الدية والميراث وقبول الشهادة ونحو ذلك من الاحكام. والاختلاف مشهود وواضح فهذا الامر لا علاقة له بحقوق الزوجين.

والمماثلة في هذا القانون ليست بمعنى كون الحق الذي لها والحق الذي عليها متماثلين من جميع الجهات فكما يجب على الرجل الانفاق يجب عليها ذلك وكما تجب على المراة الاطاعة في الفراش وفي الخروج من البيت بناءا على كونه من حقوق الرجل كذلك يجب على الرجل ان يطيعها في ذلك بل المراد اصل ثبوت الحق لها كما هو ثابت عليها.

والحاصل أن هذه الجملة ترد على نوع من التصور السائد في ذلك المجتمع وكثير من المجتمعات البشرية قديما وحديثا حيث يحكم للقوي على الضعيف بقول مطلق. ومن ذلك الحكم بتسلط الرجل على المراة وانها تابعة له في جميع شؤون الحياة لا يحق لها ان تعارضه في امر من امور المعاشرة وادارة الاسرة.

ليس كذلك!! بل هما متكافئان بمعنى ان هناك حقوقا لها في الشرع تستطيع بها ان تقابل الرجل اذا اراد الضغط عليها بممارسة حقه.

فمثلا لو قلنا بان الزوجة لا يجوز لها ان تخرج من بيت الزوجية بدون اذن زوجها ومارس الرجل هذا الحق لمنعها من دون مبرر كما يلاحظ ذلك في كثير من الموارد فيحق للمراة ان تعارضه بعدم استجابة اي طلب منه في شؤون البيت غير الفراش اذ لا يجب عليها ان تكنس او تطبخ او تربي الاطفال او ترضعهم بل يحق لها ان تطلب من الزوج احضار الطعام المطبوخ الى البيت او استيجار من يطبخ لها.

وقوله تعالى (بالمعروف) اي بما هو متعارف بين المسلمين. ومعنى ذلك أن هذه الجملة لا تريد بيان كل ما لها وما عليها وانما يعود ذلك الى ما هو متعارف بين المسلمين بعد نزول احكام الشرع وانما المراد بهذه الجملة لزوم مراعاة ما لها من الحقوق كما يطلب منها ان تراعي حقوق الزوج فلا يتصور الرجل ان الواجب عليها مراعاة حقه فقط كما يتوهمه الرجال.

 وقد تكرر هذا التعبير في هذه المجموعة من الآيات فامساك المطلقة بالرجوع اليها يجب ان يكون بالمعروف كما في الآية التالية اي يراعي كل حقوق الزوجية المتعارفة معها. والتسريح اذا لم يرد الرجوع ايضا يكون بمعروف فلا يظلمها في اي حق من حقوقها ولا يتهمها بشيء ليبرر الطلاق.

وكذلك سائر الموارد كالتراضي بين الزوجين ورزقهن وكسوتهن واجرة الرضاع وغيرها مما ورد في الايات التالية ففي كل ذلك يلاحظ ما هو المتعارف بين الناس.

وللرجال عليهن درجة.. وهنا ايضا لا يفصل في توضيح الدرجة ويكتفي بالاجمال ولعل المراد بالدرجة هو الاختلاف بينهما من حيث المسؤولية فالرجل عليه المحافظة على كيان الاسرة والدفاع عنها وعليه الانفاق على الزوجة والاولاد كما قال تعالى (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ..)[9] فالاختلاف في حدود المسؤولية هو الذي يجعل للرجل درجة اعلى من المرأة.

ولعل التعقيب بقوله (والله عزيز حكيم) للاشارة الى لزوم الاهتمام بهذه الاحكام والامتناع من التهرب عنها بسوء القصد والتظاهر بالاصلاح فانه وان تمكن بهذه الاعذار من التهرب عن ضغط القانون والقضاء فانه لا ينفعه امام الله تعالى.

وهو عزيز اي غالب لا يُغلب على امره وحكيم لم يشرع القانون الا لحكمة او انه غالب يمكنه ان ينتقم من الظالم في الدنيا ولكنه لحكمته يؤخره الى يوم القيامة ليبقى الانسان حرا مختارا في الدنيا. 

وهناك رأي في التفسير بأن المرجع في قوله (ولهن) المطلقات وأن المراد بهذه الجملة ان المطلقات لهن مثل ما عليهن فهن مكلفات أن يتربصن وألا يكتمن ما خلق الله في أرحامهن، وأزواجهن مكلفون بأن تكون نيتهم في الرجعة طيبة لا ضرر فيها عليهن ولا ضرار. [10]

وبناءا على ما ذكره فهذه الجملة لا تحمل حكما شرعيا ولا معنى عاما وانما وردت كفذلكة لما تقدم من الحكم.

ويرده اولا انه لا معنى حينئذ للمماثلة فاحكام الرجل فيما ذكر لا تماثل احكام المراة وانما تصح المماثلة بناءا على ما مر في جميع الحقوق.

وثانيا انه لا وجه للتقييد بكون ما لهن وما عليهن بالمعروف فان الآيات حددت ما لهن وما عليهن في هذا المورد بالتفصيل فلا وجه للارجاع الى المتعارف بعد ذلك.

ولو صح ذلك في الجملة الاولى فلا يصح في توجيه قوله تعالى (وللرجال عليهن درجة) مما يدل بوضوح ان المقابلة بين الرجال والنساء وليس الامر خاصا بالطلاق. وحاول صاحب هذا الرأي بتوجيه الجملة بان المراد حق الرجال في ردهن إلى عصمتهم في فترة العدة.

ومن الغريب ان يعبر عن مثل هذا الامر بان الرجال لهم عليهن درجة وكيف يمكن ان نعبر بالدرجة عن حق الارجاع؟؟!! مضافا الى ان هذا الامر قد ذكر بصراحة وبوضوح فما هو السبب لذكره مرة اخرى بطريقة مبهمة؟؟!!

 

الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ...

ورد في تفاسير العامة ان العرب كانوا قبل ذلك يطلقون ويراجعون من دون تقيد بعدد وكان هذا ايضا من سبل تضييقهم على المراة ورووا في ذلك عدة روايات:

منها ما رواها عدة منهم عَن هِشَام بن عُرْوَة عَن أَبِيه قَالَ: كَانَ الرجل إِذا طلق امْرَأَته ثمَّ ارتجعها قبل أَن تَنْقَضِي عدتهَا كَانَ ذَلِك لَهُ وَإِن طَلقهَا ألف مرّة فَعمد رجل إِلَى امْرَأَته فَطلقهَا حَتَّى مَا جَاءَ وَقت انْقِضَاء عدتهَا ارتجعها ثمَّ طَلقهَا ثمَّ قَالَ: وَالله لَا آويك وَلَا تحلين أبدا فَأنْزل الله: الطَّلَاق مَرَّتَانِ فإمساك بِمَعْرُوف أَو تَسْرِيح بِإِحْسَان).[11]

ولكن ورد في مسائل نافع بن الازرق عن ابن عباس انه ساله (أخبرني عن قول الله عزّ وجلّ: الطَّلاقُ مَرَّتانِ.. هل كانت العرب تعرف الطلاق ثلاثا في الجاهلية؟ قال: نعم كانت العرب تعرفه ثلاثا باتا، ويحك يا ابن الأزرق أما سمعت قول الأعشى وقد أخذه أختانه[12] فقالوا: والله لا نرفع عنك العصا أو تطلق أهلك فإنك قد أضررت بها فقال:

أيا جارتي بيني وبينك طالقة ... كذاك أمور النّاس غاد وطارقة

فقالوا: والله لا نرفع عنك العصا أو تثني لها الطلاق فقال:

وبِيني فإنّ البين خير من العصا ... وأن لا تزال فوق رأسي بارقة

فقالوا: والله لا نرفع عنك العصا أو تثلث لها الطلاق فقال:

وبيني حصان الفرج غير ذميمة ... وموموقة فينا كذاك ووامقة... [13]

فهذه القصة لو صحت تدل على أن الامر لم يكن كذلك في العرب بل كانوا يعتبرون الطلاق الثالث بائنا ولم يرد هذا التعليل في رواياتنا.

روى الصدوق قدس سره عن ابن فضال قال (سألت الرضا عليه السلام عن العلة التي من أجلها لا تحل المطلقة للعدة لزوجها حتى تنكح زوجا غيره فقال: ان الله تبارك وتعالى إنما اذن في الطلاق مرتين فقال تعالى (الطلاق مرتان فامساك بمعروف أو تسريح باحسان) يعني في التطليقة الثالثة ولدخوله فيما كره الله تعالى له من الطلاق الثالث حرمها عليه فلا تحل له حتى تنكح زوجا غيره لئلا يوقع الناس الاستخفاف بالطلاق ولا تضار النساء).[14]

والمراد بقول السائل (المطلقة للعدة) اي لثلاث مرات. وسيأتي بعض الكلام في الحديث.

وربما يخطر اشكال بالبال وهو أن الطلاق لا ينحصر في المرتين فيمكن ان يطلق الزوج زوجته عدة مرات ويرجع في الاولى والثانية ويعقد عليها بعد المحلل في الثالثة ثم يطلقها ايضا ثلاث مرات ويرجعها في الاولى والثانية فما معنى حصر الاية الطلاق في المرتين؟

الظاهر ان هذه الآية تحدد الطلاق الذي يجوز فيه الرجوع بمرتين ولا يراد تحديد الطلاق مطلقا فان الاية التالية تصرح بامكان الثالث فتأويل الآية ان قوله (الطلاق مرتان) يراد به الطلاق الذي مر حكمه من جواز رجوع الزوج وانه احق بردها فيكون الالف واللام للعهد او يحمل على الطلاق بالمعنى العام ولكن يقيد بجواز الرجوع بقرينة الاية التالية حيث منع فيه الرجوع.

ومقتضى الحديث الذي رويناه آنفا عن الامام الرضا عليه السلام ان الطلاق الثالث مكروه وان الله تعالى انما منع فيه الرجوع لذلك مع أن الطلاق مكروه مطلقا فلعل الكراهة فيه أشد وبناءا على هذا الحديث فتحديد العدد بالمرتين لا يحتاج الى تأويل لان المراد ان الطلاق مرتين لا باس بهما والثالث يبغضه الله ولذلك شدد حكمه. الا ان سنده ضعيف كما سياتي ان شاء الله.

وقيل ان المراد بالمرتين تطليقة بعد تطليقة ولا يقصد به العدد بل نفي انشاء الطلاق ثلاثا او اكثر في مرة واحدة بان يقول انت طالق ثلاثا بل يجب تتابع الطلاق مع رجوع او عقد جديد في البين وهذا مثل قوله تعالى (ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ)[15] فان المراد كرة بعد كرة لا خصوص العدد وكذا مثل قولهم لبيك وسعديك.

ولكن ظاهر الاية هو الاول. والجملة وان كانت خبرية الا انها تفيد حكما انشائيا فان المراد بها ان الطلاق الذي يجوز فيه الرجوع لا يصح شرعا الا مرتين.

والمرتان تثنية المرة ومعناها معروف واصله من المرور وهو مضيّ الشيء وانتهاؤه وتطلق المرة على وجود شيء في زمان فكأن زمان وجوده قد مر وانقضى فاذا قلت مرتان فيعني ذلك ان الشيء وجد ايضا في فترة اخرى وانتهى زمان وجوده الثاني ايضا وهكذا.

ومن هنا فقوله الطلاق مرتان لا ينطبق الا بتحقق الطلاق واقعا مرتين بان يمر زمان حدوث الاول ثم يتحقق الثاني وهكذا في الطلاق الثالث فما يقوله بعض العامة من تحقق الطلقات الثلاث بمجرد القول انت طالق ثلاثا مخالف لصريح الآية.

والمسالة وان كان فيها اختلاف عندهم الا ان المشهور بينهم هو وقوع الطلاق ثلاثا بمجرد ان يقول لها انت طالق ثلاثا. ومن الغريب ان هذا مخالف لما رووه عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ولكن بعضهم ملتزمون بسنة عمر اكثر من التزامهم بسنة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كما يشاهد ذلك في غير هذا المورد ايضا كصلاة التراويح التي قال فيها بنفسه (بدعة ونعمت البدعة).

روى ابن شبة في تاريخ المدينة بسنده عَنْ عُرْوَةَ، أَنَّ عُمَرَ دَخَلَ الْمَسْجِدَ لَيْلَةً فِي رَمَضَانَ وَالنَّاسُ قَدِ اجْتَمَعُوا، فَقِيلَ: اجْتَمَعُوا لِلصَّلَاةِ فَقَالَ: بِدْعَةٌ، وَنِعْمَتِ الْبِدْعَةُ، ثُمَّ قَالَ لِأُبَيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: صَلِّ بِالرِّجَالِ فِي هَذِهِ النَّاحِيَةِ وَقَالَ لِسُلَيْمَانَ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ: صَلِّ بِالنِّسَاءِ فِي هَذِهِ النَّاحِيَةِ).[16]

وروى مسلم في صحيحه عَنْ طَاوُسٍ أَنَّ أَبَا الصَّهْبَاءِ قَالَ لِابْنِ عَبَّاسٍ: هَاتِ مِنْ هَنَاتِكَ أَلَمْ يَكُنِ الطَّلَاقُ الثَّلَاثُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَبِي بَكْرٍ وَاحِدَةً؟ فَقَالَ: قَدْ كَانَ ذَلِكَ فَلَمَّا كَانَ فِي عَهْدِ عُمَرَ تَتَايَعَ النَّاسُ فِي الطَّلَاقِ فَأَجَازَهُ عَلَيْهِمْ).[17]

وقوله (ألم يكن الطلاق الثلاث واحدة) يقصد به انه اذا قال طلقتك ثلاثا ألم يكن في عهد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم طلاقا واحدا؟ والتتايع على ما في كتب اللغة تهافت الناس على الشر وقيل على الخير والشر.

وروى احمد في مسنده عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ (كَانَ الطَّلاقُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَبِي بَكْرٍ وَسَنَتَيْنِ مِنْ خِلافَةِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ طَلاقُ الثَّلاثِ وَاحِدَةً فَقَالَ عُمَرُ: إِنَّ النَّاسَ قَدِ اسْتَعْجَلُوا فِي أَمْرٍ كَانَتْ لَهُمْ فِيهِ أَنَاةٌ فَلَوْ أَمْضَيْنَاهُ عَلَيْهِمْ. فَأَمْضَاهُ عَلَيْهِمْ).[18]

وروي عن ابن عباس انه قال (قَوْلُهُ ثَلَاثًا لَا مَعْنَى لَهُ لِأَنَّهُ لَمْ يُطَلِّقْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَإِنَّمَا يَجُوزُ قَوْلُهُ فِي ثَلَاثٍ إِذَا كَانَ مُخْبِرًا عَمَّا مَضَى فَيَقُولُ: طَلَّقْتُ ثَلَاثًا فَيَكُونُ مُخْبِرًا عَنْ ثَلَاثَةِ أَفْعَالٍ كَانَتْ مِنْهُ فِي ثَلَاثَةِ أَوْقَاتٍ، كَرَجُلٍ قَالَ: قَرَأْتُ أَمْسَ سُورَةَ كَذَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَذَلِكَ يَصِحُّ، وَلَوْ قَرَأَهَا مَرَّةً وَاحِدَةً فَقَالَ: قَرَأْتُهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ كَانَ كَاذِبًا. وَكَذَلِكَ لَوْ حَلَفَ بِاللَّهِ ثَلَاثًا يُرَدِّدُ الْحَلِفَ كَانَتْ ثَلَاثَةَ أَيْمَانٍ، وَأَمَّا لَوْ حَلَفَ فَقَالَ: أَحْلِفُ بِاللَّهِ ثَلَاثًا لَمْ يَكُنْ حَلَفَ إِلَّا يَمِينًا واحدة والطلاق مثله).[19]

فامساك بمعروف او تسريح باحسان.. اي فليكن امساك من الزوج بمعروف او تسريح لها باحسان والباء للمصاحبة اي مع المعروف والاحسان.

والمراد بالامساك الرجوع في الطلاق فيبقيها زوجة له والتعبير عنه بالامساك دون الرجوع مما يدل على ان المطلقة الرجعية زوجة كما ان التعبير بالتسريح مع انها مطلقة يدل على ذلك ايضا وان اخلاء سبيلها لا يتم الا بترك الرجوع في العدة.

وقيد الامساك بأن يكون بمعروف اي كما هو متعارف بين الازواج والغرض منع الامساك ضرارا كما سياتي في قوله (ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا) وتسريح المراة تطليقها كما في الصحاح والاصل فيه الارسال وهو خلاف الامساك فالمراد اخلاء سبيلها باحسان.

وفي هذا القيد زيادة على قيد الامساك اي الابقاء فهناك يكفي ان يكون بما هو متعارف بين الناس واما اذا اخلى سبيلها ولم يرجعها فليكن ذلك مع الاحسان اليها.

ولعل السر في هذا الحكم ان الغالب في موارد الانفصال هو الايذاء والتشهير ومنع الحقوق السابقة خصوصا اذا كان بينهما ولد فيحاول كل منهما ان يحرم الاخر من رؤيته او من الاجتماع به فلم يكتف الشرع هنا بعدم الظلم والاضرار بل أمر بان يكون التسريح باحسان من الزوج الذي له القدرة غالبا.

والاحسان يتم بان يرضيها ويطلب رضاها ويتحلل مما قد كان بينهما وهذا امر مهم جدا فربما ظلمها او استخف بحقها وهو متعمد او غير متعمد فيجب الاسترضاء كما يجب بالنسبة الى اي مسلم وقع من اخيه المسلم بالنسبة اليه مثل ذلك فالزوجان وان اختلفا وانفصلا فهما مؤمنان ويجب على كل منهما رعاية حق المؤمن.

والظاهر أن هذه الجملة تعود الى كل من الطلاقين فالمعنى ان الطلاق مرتان وفي كل منهما يحق له ان يمسكها ويبقيها بمعروف او يسرحها باحسان بمعنى انه لا يرجع اليها فتنتهي العدة وتبين منه وهذا هو التسريح واما جواز الطلاق الثالث فسيأتي في الآية التالية.

وهناك قول بان التسريح باحسان يتحقق بأن يطلقها الثالثة في الطهر الثالث. وروى الطبري في تفسيره عدة روايات في ذلك.

ومنها ما رواه عن أبي رزين قال (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله"الطلاق مرتان" فأين الثالثة؟ قال: إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان).[20]

وورد ذلك في بعض رواياتنا ايضا منها ما مر ذكره من رواية الصدوق رحمه الله عن الامام الرضا عليه السلام حيث يقول فيه (فقال تعالى: الطلاق مرتان فامساك بمعروف أو تسريح باحسان، يعني في التطليقة الثالثة).[21]

والصدوق يرويها عن محمد بن إبراهيم بن إسحاق الطالقاني وهو مجهول الحال لم يوثق في كتب الرجال وانما استند بعضهم في توثيقه على ان الصدوق قال في حقه (رضي الله عنه) وهذا لا يدل على وثاقته.

وورد في بعض تقارير السيد الخوئي قدس سره[22] التعبير عن هذا الحديث بموثقة ابن فضال والظاهر انه خطا من المقرر فالسيد الخوئي لا يقول بوثاقة الرجل على ما في المعجم ولعله رحمه الله عبر عنه بذلك ثم عدل في معجمه. 

وروى الكليني حديثا صحيحا عن محمد بن مسلم عن ابي جعفر عليه السلام ثم قال في ذيله (قال: وقال أبو بصير عن أبي عبد الله عليه السلام هو قول الله عز وجل الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان التطليقة الثانية: التسريح بإحسان).[23] ولم يتبين مرجع ضمير (قال) في اول الحديث فيبقى مرسلا. والمعنى غريب لانه فسر التسريح بالتطليقة الثانية.

ورواه الشيخ الطوسي قدس سره في التهذيب عن الكافي وفيه (التطليقة الثالثة التسريح باحسان) وهو الصحيح والخلط بين الثانية والثالثة في الخطوط القديمة ليس بعزيز ولكن الشان في السند وفي مرجع ضمير (قال).

ولذلك قال الشيخ الطوسي قدس سره في التبيان (وقوله: أو تسريح باحسان، قيل فيه قولان أحدهما أنها الطلقة الثالثة وروي عن النبي صلى الله عليه وآله أن رجلا سأله فقال: الطلاق مرتان فأين الثالثة؟ فأجابه: أو تسريح باحسان. وقال السدي والضحاك: هو ترك المعتدة حتى تبين بانقضاء العدة، وهو المروي عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما السلام).[24]

وهذه الرواية لم نجدها في كتب الحديث فتعتبر مرسلة عند مشايخنا وان كان في التعبير عنه بالرواية مسامحة. ومن الواضح ان التسريح يتم باحد الامرين اي بالطلاق الثالث فلا يمكنه الرجوع اوبترك الرجوع في الطلاق الاول او الثاني فلا يمكنه ايضا ولا موجب لتحديده بالطلاق الثالث.

واغرب من ذلك ما ورد في بعض هذه الروايات من سؤال السائل (فاين الثالث؟) مع ان الاية التالية صريحة في الطلاق الثالث لوقوعه حسب ظاهر الاية بعد المرتين.

فما ورد في بعض كتبنا الفقهية[25] من تفسير الاية بالطلاق الثالث ليس على ما ينبغي وانما يستند الى روايات العامة وهذه الرواية المشكوكة سندا ومتنا. وكذلك في بعض التفاسير.[26]

 

وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ...

بعد أن أمر الله تعالى ان يكون التسريح بإحسان أشار الى مورد من موارد الظلم على المراة الذي ينافي الاحسان وهو أنه يأخذ منها بعض ما آتاها من المال.

وهذا يشمل المهر والهدايا والنفقات كما افتى بذلك بعض فقهائنا[27] وان كان المشهور ان استرجاع الهدية مع بقاء عين المال جائز ان لم يكن بينهما رحم ولم يكن الدفع قربة الى الله ولا مع التعويض. ومهما كان فالمتيقن منه هو المهر.

وقد ورد هذا المنع بتأكيد أشد في قوله تعالى (وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا)[28] والقنطار على ما يبدو من كتب اللغة ما لا يعد كثرة من المال. ويلاحظ ان التحريم ورد بعنوان اخذ شيء من ذلك في الآيتين وهو يصدق على اقل شيء منه.

واستثنى من حرمة اخذ المهر او مطلق ما دفعه لها حالة واحدة وهي أن يصل التباغض والكراهة بينهما الى احتمال عدم رعاية الحدود التي عينها الله تعالى في الحقوق الزوجية كما اذا وصلت كراهة المرأة لزوجها الى حد بحيث تمنع المرأة نفسها منه وهو من حدود الله وربما يتسبب ذلك في امتناع الرجل الانفاق عليها او في ايذائها وضربها وهذا ايضا من حدوده تعالى فاذا بلغ الامر ذلك جاز له ان يطالبها بمال ليطلقها.

وهذا يدل على أن مطالبة الطلاق وكراهة الاستمرار على الزوجية ان كانت من المراة من دون ظلم واعتداء من الرجل فلا بد لها من ان تتنازل عن شيء من المهر او اي مال اخر لتخلص نفسها فلا ينبغي ان يُحرَم الرجل الذي انفق مالا ليكسب زوجة من الامرين فلا يبقى له ماله ولا زوجته.

اما اذا كان هو الذي يطلب الطلاق فلا تحق له المطالبة بمال كما لا يجوز له ان يؤذيها او يمنعها من حقوقها لتضطر الى تخليص نفسها منه بدفع مال او التنازل عن حق فاذا فعل ذلك وتنازلت له عن شيء فلا يحل له الاخذ ولا يصح الخلع ويمكنها التخلص من ظلمه بالرجوع الى الحاكم الشرعي وطلب الطلاق.

والملفت في التعبير انه لم يعبر عن مبرر الطلاق بالكراهة الشخصية مع انها هي المناط والموجب للافتراق بل عبر عنه بالخوف من عدم رعاية حدود الله تعالى وهذا من اجل تربية الانسان المؤمن بان يكون المحرك له في كل مجالات الحياة كسب رضا الله تعالى واجتناب سخطه حتى الكراهة بين الزوجين مع انها غالبا تنشأ من امور شخصية لا علاقة لها بالدين كقبح المنظر او خبث الرائحة او العادات السيئة او الاعتداء والايذاء او عدم الانفاق ونحوها من الشؤون المادية التي توجب الاشمئزاز والنفرة ولكن ينبغي ان يكون الموجب لطلب الافتراق هو الخوف من عدم تطبيق احكام الله تعالى ورعاية الحدود التي رسمها.

والحدود جمع الحد وهو المنع حقيقة وتكوينا والمراد بها ما منعه الله تعالى تشريعا. ومن هنا فان التعبير بالحدود عن المنهيات يدل على التأكيد على النهي والتحريم وكأنها امور ممنوعة حقيقة وتكوينا.

وللحد معنى آخر وهو طرف الشيء ومنتهاه فيكون المعنى أن هذه الامور منتهى ما يجوز الوصول اليه ولا يجوز التعدي عنها. والمراد هنا الحقوق الشرعية لكل من الزوجين على الاخر مما لا يرضى الله بتجاوزها الا برضا الاخر.

واقامة الحدود بمعنى جعلها قائمة. والقيام تعبير كنائي عن تحقق الشيء بوضوح وتأثيره في شؤون الحياة ومنها ايضا اقامة الصلاة. فمعنى إقامة الحقوق المحددة من الله تعالى هو الاهتمام بها بوضوح وعدم التجاوز عنها والتسامح فيها الا برضا صاحب الحق ولا فرق في ذلك بين الزوجين.

والتعبير بالخوف يشمل الاحتمال القوي الموجب للخوف من تحقق هذا المحذور ولا يتوقف على العلم به او الظن كما قالوا او على حصوله فعلا ومعنى ذلك ان المؤمن يجب ان يستبق الوقوع في هذا المحذور ويمنع منه قبل الوصول اليه فمجرد الخوف منه يبرر المطالبة بالمال من قبله ليطلقها كما يبرر الافتداء من قبلها. 

وهذا الطلاق هو ما يسمى خلعا في الفقه ان كانت الكراهة من الزوجة فقط وان كانت منهما فهو المباراة. وظاهر الآية يشملهما لانها لم تعتبر المناط كراهة احدهما او كليهما وانما اعتبر المناط خوفهما ان لا يقيما حدود الله تعالى وهو يحصل فيهما ولكن المعروف في الفقه والتفسير انها تخص الخلع.

كما أن مفهوم الجملة الاخيرة حرمة الدفع على المراة في غير هذا الحال فان مفهوم قوله تعالى (فان خفتم الا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به) انه اذا لم يكن هناك خوف من عدم اقامة الحدود فالجناح عليهما فيما افتدت به اي ان الاثم على الرجل بالاخذ وعلى المراة بالدفع.

وربما يعلل حرمة دفع المرأة مالا بهذا الصدد بأنه إعانة على الاثم فاذا حرم على الرجل الاخذ حرم على المرأة الاعطاء.[29]

ولكن الظاهر أنه غير وجيه فليس كل إعانة على الاثم محرما خصوصا اذا كان السبب هو الرجل وانما رضيت المرأة بالدفع بل يمكن ان يقال لا حرمة حتى على الرجل اذا رضيت بالدفع فمنع المرأة يجب ان يعلل بوجه آخر.

وفي المنار ان طلب الطلاق من قبلها حرام من دون مبرر فبناءا عليه يمكن ان تكون حرمة دفع المال بسبب حرمة الطلب بذاته الا اذا خافت ان لا تقيم حدود الله تعالى ولو بسبب كراهتها الشخصية للرجل فيجوز لها دفع مال لتجنب مخالفة حدود الله تعالى.

ولكن من البعيد صحة هذا الحكم اذ لا مانع شرعا من ان تطلب الطلاق لمجرد انها تريد ان تعيش باستقلالها فتدفع مالا لارضاء الزوج وليس الطلب هنا باكراه.

ولعل الاقرب هو ما ورد في مجمع البيان نقلا عن بعضهم ان قوله لا جناح عليهما مع ان الاباحة للزوج انه لو خص بالذكر لاوهم انها عاصية وان كانت الفدية لها جائزة.

فان خفتم ألّا يقيما حدود الله... وقع الكلام في وجه تغيير السياق من الغيبة الى الخطاب ومن التثنية الى الجمع فقال جمع من المفسرين بان هذا خطاب لاولي الامر وعبر بعضهم بالحكام وفي تعبير التبيان ومجمع البيان الفقهاء وقال بعضهم ان هذا التغيير يدل على ان الخطاب من اول الامر الى الحكام وان الامر اليهم في تشخيص تعرض الاسرة لعدم اقامة حدود الله تعالى.

والظاهر أن الاولى في وجه هذا التغيير هو ما ذكره العلامة الطباطبائي رحمه الله من أن الخطاب للعرف وعامة الناس ويمكن ان يقال في وجهه ان الحكم حيث علق على عنوان الخوف فالمناط ليس هو الخوف الشخصي الذي يتبع الحالات النفسية بل الخوف الذي يشعر به عامة الناس في مثل حالهما فان كانت الحالة بينهما مما يوجب تعرضهما لمخالفة حدود الله تعالى جاز للمراة الافتداء وللزوج اخذ المال وصح الخلع.

وقد ورد في تحديد ذلك عدة روايات بعضها معتبرة سندا منها صحيحة الحلبي عن أبي عبد الله عليه السلام قال (لا يحل خلعها حتى تقول لزوجها: والله لا أبرّ لك قسما ولا أطيع لك أمرا ولا أغتسل لك من جنابة ولاوطئن فراشك ولآذنن عليك بغير إذنك وقد كان الناس يرخصون فيما دون هذا فإذا قالت المرأة ذلك لزوجها حل له ما أخذ منها..) الحديث.[30]  

ويظهر من هذه الاحاديث التشديد في امر الخلع وأنه لا يجوز اخذ مال المراة في مقابل الخلع الا في حالات نادرة والظاهر ان المراد من قولها لا اغتسل لك من جنابة عدم تمكينها للمعاشرة الجنسية فلا يجب الغسل والا فعدم غسلها لا يضر الزوج.

ويبدو أن المراد بقوله عليه السلام وقد كان الناس يرخصون فيما دون ذلك أن فقهاء العامة يجيزون الخلع في موارد لا يصل فيها الخلاف الى هذا الحد والظاهر أنه عليه السلام يؤكد بذلك على أن بلوغ هذا الحد شرط وانه لا يجوز في اقل منه. وتفصيل الكلام في الفقه.

 

تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229)

(تلك) اشارة الى الحقوق الزوجية التي امر الله تعالى باقامتها وحيث انها حدود فلا يجوز تجاوزها والاعتداء والتعدي هو التجاوز. والظلم كما قلنا مرارا لا يجب ان يتعدى الى الغير بل يصدق الظلم على كل عمل في غير الموضع الصحيح الذي وضعه الله له.

وسيأتي في الآية 231 أن من يتعد بعض هذه الحدود فقد ظلم نفسه ومعنى ذلك أنه يضر نفسه في الآخرة ويعرضها لعقاب الله تعالى بل يظلم نفسه في الدنيا ايضا لانه لن يكون مرتاح الضمير بسبب اعتدائه على الضعيف مضافا الى ان كثيرا من هذه المظالم تستتبع في الدنيا تبعات شديدة على الانسان وهو امر مشهود ومنقول.

وتعبير الآية ينبئ عن التحذير والتهديد كما تكرر ذلك في الآيات التي تتعرض للحقوق الزوجية خصوصا في موارد ظلم الرجل وهو الاقوى غالبا والسبب واضح وهو غياب السلطة والقانون والعرف فيما يدور بين الزوجين فالرادع هناك غالبا ليس الا الخوف من الله تعالى وغضبه في الدنيا والاخرة والناس يخافون غضبه في الدنيا اكثر لضعف ايمانهم بالاخرة.

ويلاحظ أنه تعالى عبر هنا بالتعدي والاعتداء وعبر في موضع اخر بعد ذكر مجموعة من الاحكام (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا)[31] ولعل الوجه فيه ان الحدود هنا حدود لحقوق الآخرين والانسان يجوز له ان يطالب بحقه ولا يجوز ان يتجاوزه الى حق الغير ولذلك ورد هذا التعبير في ايات الارث ايضا حيث قال (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ..)[32] ولكن الحدود في مورد النهي عن القرب منهيات الهية فيجب الابتعاد عنها.

ولذلك ورد في خطبة منسوبة الى امير المؤمنين عليه السلام (والمعاصي حمى الله عز وجل فمن يرتع حولها يوشك أن يدخلها).[33]

وقوله (فاولئك هم الظالمون) يفيد الحصر لمكان الضمير والالف واللام في الخبر وليس فيه مبالغة فان كل ظلم مرجعه الى التعدي عن الحدود الالهية واما ما يعتبر في بعض الاعراف ظلما مع انه ليس محرما شرعا فليس ظلما بل ربما يكون تطبيقا لحدود الله تعالى كاجراء الحدود الشرعية على المجرمين.

 

فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (230)

وهذا هو الطلاق الثالث لانه فرض ان الطلاق الذي يجوز فيه الرجوع مرتان وأنه بعد كل طلاق اما ان يمسكها بمعروف او يسرحها باحسان فالفاء هنا لترتيب هذا الطلاق على افتراض انه امسكها بعد الطلاق الثاني فيكون طلاقا ثالثا.

وحكمه انها تحرم عليه ولا تحل له برجوع ولا بعقد بعد العدة حتى تتزوج برجل اخر. والنكاح يطلق على العقد كما يطلق على المقاربة الا انه اذا اريد به العقد صح اسناده الى الرجل والمراة يقال نكح زيد ونكحت هند اما اذا اريد به المقاربة فلا يسند الى المراة بل الى الرجل فحسب فقوله (حتى تنكح زوجا غيره) يجب ان يحمل على الزواج لا على المقاربة.

ولكن بمقتضى روايات الفريقين لا تحل له حتى يجامعها الزوج الثاني. وقال الالوسي ان الاية ايضا تدل على ذلك لان المراد بقوله (تنكح) المجامعة باعتبار افتراض كون النكاح مع زوج غيره فالزوجية سابقة على النكاح.[34]

وهو غير صحيح لما مر من ان النكاح بمعنى المقاربة لا يسند الى المراة بل الى الرجل فقط وانما يسند النكاح الى المراة بمعنى العقد واما التعبير فلا يدل على ان الزوجية كانت قبل النكاح بل اطلق عليه باعتبار ما يؤول. فالصحيح ان الآية لا تدل على ذلك وانما يستند في هذا الحكم اي لزوم المباشرة الى الروايات.

وقال الشيخ في التبيان (وقوله "فلا تحل له حتى تنكح زوجا غيره" يدل على أن النكاح بغير ولي جائز وأن المرأة لها العقد على نفسها لأنه أضاف العقد إليها دون وليها).[35] وتبعه على ذلك الطبرسي في مجمع البيان.[36]

وظن بعض المعاصرين ان هذا الكلام يدل على جواز نكاح البنت الباكر باذنها من دون اذن الولي لان الكلام مطلق يشمل البكر وغيره.[37]

وهذا غير صحيح لان مورد الآية المرأة المدخول بها فلا تشمل البكر فان قوله تعالى (فلا تحل له حتى تنكح زوجا غيره) ورد في الطلاق الثالث بعد تطليقتين بعد كل منهما يجوز له الامساك والتسريح وهذا الامر خاص بالمطلقة الرجعية ولا يشمل البكر اذ لا يمكن الرجوع بعد طلاقها.

مضافا الى ان سياق الايات يدل على الاختصاص بقرينة قوله تعالى (وبعولتهن احق بردهن) وما ذكره الشيخان انما هو رد على من اشترط من العامة اذن الولي في زواج المراة مطلقا.

وقوله (فان طلقها فلا جناح..) اي ان طلقها الزوج الثاني أمكن للزوجين السابقين ان يتراجعا الى الزوجية بعقد جديد. والتعبير بالتراجع يفيد انه ليس رجوعا من قبل الزوج كما كان سابقا بل هو تراجع من قبلهما معا فالامر يعود الى موافقة المراة.

وفي المنار خلافا لعامة التفاسير أن المراد بقوله (فلا جناح عليهما) الزوج الثاني والمرأة وأن هذا دفع لتوهم أن الرجوع في العدة يختص بالزواج الاول.

وهو بعيد جدا لانه اولا ليس امرا جديدا فقد سبق جواز الرجوع في قوله (وبعولتهن احق بردهن) ولا موجب للتكرار ولا وجه لتوهم الاختصاص بالزواج الاول.

وثانيا لا يبقى وجه للتعبير بالتراجع بل الصحيح هو التعبير بالرجوع لانه فعل الزوج وهو الذي يرجع اليها شاءت ام ابت اما التراجع فانما يتم بين الزوجين السابقين كما تبين. 

ثم إن التعبير بالطلاق يفيد ان الزواج الموقت لا يوجب التحليل لانه لا طلاق فيه. وقد ورد ذلك في رواياتنا.[38]

واشترط في هذا التراجع ايضا الظن باقامة حدود الله تعالى وحيث انه امر يتعلق بالمستقبل فلا يمكن العلم به فيكفي الظن وهو يعود الى ملاحظة نواياهما وظروفهما الخاصة وهذا امر يرجع اليهما ولا شان للعرف او الولاة فيه.

وهذا الشرط لا يوجب بطلان العقد فقهيا لو تراجعا بعقد جديد مع عدم الظن باقامة الحدود بل حتى مع عدم العزم عليه او العزم على عدمه اذ قد تكون هناك مصلحة اخرى لهما كالمحافظة على الاولاد وعدم تشتتهم فيتفقان على عقد الزواج منعا لترتب الحرمة على اختلائهما من دون ان يكون هناك اي قصد لمراعاة الحقوق الزوجية من الطرفين فالعقد يكون صحيحا.

ولكن الظاهر من الآية الحرمة التكليفية في هذا الفرض على اقل تقدير لقوله تعالى (فلا جناح عليهما) ونفي الجناح بمعنى نفي الحرمة فاذا كان نفي الحرمة مشروطا بالظن باقامة حدود الله يكون مفهوم الاية حرمة الزواج مع انتفاء الظن. وتمام الكلام في الفقه.

وتلك حدود الله.. الاشارة الى الاحكام التي حددت حق الزوجين في الطلاق والرجوع والغرض من ذكر هذا الامر التنبيه على أن هذه الاحكام مهمة جدا ليس لانها تحدد حقوق الانسان كما يذكر في الاعلام العصري بل لانها من حدود الله تعالى فلو كانت من حقوق الانسان امكن لبعض الناس ان يتسامحوا فيها لاسباب شخصية كما لو كان له ايضا حق من جهة اخرى ولم يلاحظه الطرف الاخر فهو يعامله بالمثل او يتصور انه يتدارك حقه بعد ذلك بدفع مال ونحوه ولكن هذه الاحكام حدود الله فلا يجوز تجاوزها والخطر عظيم.

يبينها لقوم يعلمون.. المضارع للحال لا للاستقبال كما توهمه الرازي فقال انه اشارة الى ان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم هو الذي يبينها بعد ذلك.

والمراد بعلم القوم ليس علمهم بنفس الحدود والاحكام فانه تعالى بينها لمن لا يعلمها بل المراد انهم يعلمون اهمية حدود الله ويعلمون ان الاحكام يجب ان تؤخذ من الله تعالى وان لا حكم الا له ولا شريعة الا ما شرعه.

واما الذين لا يهتمون باحكامه تعالى بل يشرعون من عند انفسهم او عن طريق المجالس التشريعية قوانين واحكاما مخالفة للشرع يرغمون المجتمع على متابعتها فهم جهلة لا يعلمون شيئا ويجهلون الحقيقة الكبرى في الكون.

ومثله كثير في القرآن كقوله تعالى (قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ).[39]

 


[1] الاحزاب : 49

[2] الطلاق : 4

[3] الكافي ج6 ص89 باب معنى الاقراء وليس في النسخة المطبوعة قال قلت لابي عبدالله عليه السلام وانما ورد في الوسائل

[4] تفسير الامثل

[5] الكافي ج 6 ص 102 باب ان النساء يصدقن في العدة والحيض

[6] تهذيب الاحكام ج 1 ص 398 باب الحيض والاستحاضة

[7] معاني الاخبار ص 200

[8] التحرير والتنوير ج 2 ص 395

[9] النساء : 34

[10] في ظلال القران ج 1 ص 246

[11] الدر المنثور ج 1 ص 662

[12] اختان جمع ختن اي اقارب زوجته

[13] مسائل نافع بن الازرق ج 1 ص 66 باب ط ل ق على ما في المكتبة الشاملة ورواه ايضا في شرح ادب الكاتب ج 1 ص 192 ونقله السسيوطي في الدر المنثور عن الطستي ج 1 ص 664

[14] علل الشرايع ج 2 ص 507

[15] الملك : 4

[16] تاريخ المدينة ج 2 ص 715 على ما في المكتبة الشاملة

[17] صحيح مسلم ج 2 ص 1099 باب طلاق الثلاث على ما في المكتبة الشاملة

[18] مسند احمد ج 5 ص 61

[19] تفسير القرطبي ج 3 ص 132

[20] جامع البيان ج 4 ص 545

[21] علل الشرايع ج 2 ص 507

[22] كتاب النكاح تقرير السيد محمد تقي الخوئي ج 1 ص 420

[23] الكافي ج 6 ص 65 باب تفسير طلاق السنة

[24] التبيان ج 2 ص 244

[25] منها زبدة البيان للاردبيلي ص 600 ومنها جواهر الكلام ج 30 ص 14

[26] الميزان ج 2 ص 134 والامثل ج 2 ص 159

[27] الاردبيلي في زبدة البيان ص 607

[28] النساء : 20

[29] الميزان ج 2 ص 224

[30] الكافي ج 6 ص 140 باب الخلع

[31] البقرة : 187

[32] النساء : 13

[33] من لا يحضره الفقيه ج 4 ص 75

[34] روح المعاني ج 1 ص 535

[35] التبيان ج 2 ص 250

[36] مجمع البيان ج 2 ص 107

[37] تسنيم ج 11 ص 315

[38] راجع وسائل الشيعة ج 22 ص 131 باب انه يشترط في المحلل دوام العقد

[39] الانعام : 97