مكتب سماحة السيد مرتضى المهري

وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ...

بيان للحكم السابق مع توضيح وتأكيد اكثر لعدم الاضرار بالمراة. والاجل غاية المدة المحددة للشيء كالدين ونحوه. والمراد به هنا العدة.

وهذا الاجل مضروب لهما لان كلا منهما له حكم ينتهي بانتهاء العدة فالرجل يجوز له الرجوع ما لم تنته العدة. والمراة تبقى على الزوجية وتراعي حقوقه مادامت في العدة. ولكنه اسند البلوغ الى المرأة واضاف الاجل اليها ايضا لانها تنتظره لتتخلص من قيد الزوجية واما الرجل فلا ينتظره.

والمراد بالبلوغ المشارفة توسعا وتجوزا لانها اذا بلغت نهاية الاجل فلا يبقى التخيير بين الامساك والتسريح. والتعبير عن قرب الموعد بالبلوغ اليه وارد في كلامهم.

ويلاحظ أنه تعالى قيد التسريح فيما سبق بالاحسان وقيده هنا بكونه بالمعروف اي المتعارف. ولعل الفرق بين الموضعين هو أن التخيير بين الامساك والتسريح في الاية السابقة كان مقدمة للمنع من اخذ مهرها او مطلق المال الذي دفع لها فامر الرجل ان يكون التسريح باحسان اليها فضلا عن عدم الاعتداء على مالها.

وهنا جعل التخيير مقدمة للمنع من الامساك بقصد الاضرار فالتسريح ليس موردا للتقييد هنا بل التقييد في الامساك فلا حاجة الى تقييد التسريح بالاحسان بل يكفي كونه على النحو المتعارف اما اذا امسكها وارجعها الى بيت الزوجية فيجب ان لا يكون للاضرار بها.

 

وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ...

ليس هذا تصريحا بمفهوم الامر بالامساك بمعروف كما قيل لان الامر هناك ليس للوجوب اذ لا يجب الامساك وانما هو للتخيير وهذا نهي تحريمي فلا يجوز امساكهن ضرارا.

والضرار من مصادر باب المفاعلة ومعناه المضارة وهذا الباب لا يختص بكون الضرر من الجانبين كما يتوهم فهناك موارد كثيرة يستعمل في المعنى اللازم كسافر وهاجر وغادر وهناك موارد يستعمل في التعدي من جانب واحد ومنها المضارة قال في الصحاح (وقد ضرّه وضارّه بمعنى والاسم الضرر) وسيأتي ان شاء الله بعض الكلام حوله في تفسير الاية 233.

والضرار هنا اما ان يكون مفعولا لاجله اي لا تمسكوهن بقصد الاضرار بهن او يراد بالمصدر اسم الفاعل ويكون حالا اي لا تمسكوهن في حال المضارة.

وقوله لتعتدوا تعليل للاضرار ومعناه ان الاضرار ليس مقصودا بنفسه بل يراد به الاعتداء عليهن باخذ اموالهن كما كانوا يفعلون حيث يبقون المراة في العدة معلقة الى اخر الاجل ثم يرجعون اليها ويطلقون مرة اخرى وهكذا تبقى المراة تسعة اشهر تقريبا وربما اكثر من ذلك اذا تاخر الحيض كما كانوا يفعلون كرارا قبل هذا التشريع حتى تضطر المراة بدفع مال لتخليص نفسها.

روى الصدوق بسنده عن الحلبي عن أبي عبد الله عليه السلام قال (سألته عن قول الله عز وجل ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا قال: الرجل يطلق حتى إذا كادت أن يخلو أجلها راجعها ثم طلقها يفعل ذلك ثلاث مرات فنهى الله عز وجل عن ذلك). [1]

ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه.. وهو بالطبع يظلم المراة أوّلا ولكنه بالنتيجة يظلم نفسه ايضا لانه يعتدي على مال الغير مع كون المعتدى عليه مظلومة وضعيفة وهذا ظلم للمجتمع واذا انتشر الظلم في المجتمع يصيب الانسان الظالم ايضا ولا يبقى له امان.

ومن جهة اخرى فان هذا الظلم يسجّل عليه عند الله تعالى فهو يتجاوز الحدود الالهية ويعاقب عليه في الآخرة فالضرر الاكبر يعود اليه لان المراة تخسر مالها وتتضرر في دنياها وهو يخسر حياته الابدية.

 

وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (231)

تأكيد شديد على الموضوع وتحذير للرجل. والسبب كما قلنا ان هذا الامر مما لا يمكن الاشهاد عليه غالبا ولا يمكن الوصول الى مخادع الزوجين والرجل غالبا هو القوي فربما يظلم المراة ولا تستطيع ان تقابله بشيء ولا يمكن للمحكمة غالبا ان تحقق العدالة فالله تعالى جعل عليهما وخصوصا على الطرف الاقوى مانعا ذاتيا وهو اعلامه بان خصمه ليس هذه المراة بل خصمه الله تعالى وانك اذا خالفت هذا الامر فان ذلك بمعنى الاستهزاء باحكام الله واياته.

والهُزُو والهُزْء مصدر بمعنى السخرية وهو هنا بمعنى المفعول به اي لا تتخذوا آيات الله مهزوءا بها ولا تستصغروا شأنها ولا تستكبروا عليها والمراد به في المقام عدم الاهتمام بالاحكام المذكورة.

وهو خطاب عنيف جدا خصوصا بملاحظة ان الخطاب موجه للمؤمنين ولا يتوقع منهم الاستهزاء بآيات الله فيظهر ان الغرض منه التنديد بشدة لكل محاولة للتهرب من الحكم الالهي في هذا الموضوع ويشاهد من كثير من الناس الملتزمين بالشريعة التشبث باعذار واهية للتهرب من الاحكام الشرعية التي لا يرونها موافقا لمصالحهم او اهوائهم.

وبما أن الخطاب للمؤمنين ولا يتوقع منهم الاستهزاء بآيات الله تعالى عقبه بما يشتمل على لين في الخطاب لئلا تستوحش نفوسهم فذكّرهم بأنّ ما نزل عليهم من الآيات انما هي نعمة انعم الله بها عليهم وخصّهم بها فيجب ان يذكروا هذه النعمة العظيمة ويشكروه عليها ولا يتحقق الشكر الا بالعمل بها.

ومن هنا يتبين ان الاولى أن يكون عطف قوله (وما أنزل عليكم..) عطف تفسير. وعليه فالمراد بالنعمة نفس هذه الآيات ويكون الكلام مستمرا في التنبيه على عظمة هذه الآيات وما تشتمل عليه من الاحكام وانها نزلت رحمة من الله تعالى على عباده المؤمنين.

وقيل المراد بالنعمة المودة والرحمة حيث جعلهما الله تعالى بين الازواج. وقيل مطلق النعم الالهية. ولا شك ان الانسب بالسياق هو ان يكون المراد نفس الاحكام.

  والكتاب هو المكتوب فيمكن ان يكون المراد به القرآن الكريم باعتباره مشتملا على الاحكام ويمكن ان يراد به نفس الاحكام لانها مكتوبة على الناس ويجب العمل بها كما قال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ..)[2] ونحوها من الآيات.

والحكمة اصلها المنع وتطلق على ما يمنع الانسان من ارتكاب السفاهات والجهالات كما قال تعالى بعد ذكر مجموعة من الاحكام والمواعظ البليغة (ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ..)[3] فالمراد بالحكمة هنا ايضا نفس الآيات السابقة التي تشتمل على مواعظ وتحذيرات بليغة بشأن التعامل مع النساء.

وقوله تعالى (يعظكم به) حال من قوله (ما انزل..) او من الله تعالى اي انزل الكتاب والحكمة حال كونه يعظكم به والضمير يعود الى (ما انزل).

والوعظ على ما في العين هو التذكير بالخير ونحوه مما يرق له القلب. واتّبعه من اتى بعده فيظهر من التعريف ان الوعظ لا يعني مجرد ذكر الحكم او التنبيه على الخير بل لا يصدق الا اذا كان بلسان يوجب رقة القلب وهذا يحصل بالتحذير من العاقبة كما اشتملت عليه هذه الآيات.

ويستمر الكلام في التحذير حيث ورد الامر بتقوى الله تعالى والله لا يتقى منه وانما يتقى غضبه وعذابه ففي هذا ايضا تحذير للمخاطبين.

والجملة الاخيرة تستبطن تهديدا واضحا (واعلموا ان الله بكل شيء عليم) وهو امر واضح لمن يؤمن بالله تعالى وهم المخاطبون فليس المراد التنبيه على نفس الحقيقة بل التنبيه على أنه تعالى لا يتسامح في هذا الامر فهو يعلم نواياكم ويعلم تجاوزكم عن الحدود التي رسمها الله تعالى لتطبيق العدالة الاجتماعية ويجازيكم على ذلك فاحذروه.

 

وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ...

العضل: التضييق. قال في العين (تقول عضّلت عليه اي ضيّقت عليه في امره وحلت بينه وبين ما يريد ظلما) وفي معجم المقاييس (يدل على شدة والتواء في الامر. من ذلك العَضَل قال الاصمعي كل لحمة صلبة في عصبة فهي عَضَلة). ومنه ايضا داء عضال اي اعيى الاطباء علاجه. والمراد به هنا منعهن من الزواج.

ويطلق ايضا على منع الولي زواج المرأة التي يتولى أمرها قال في الجمهرة (وعضل الرجل أيّمه اذا لم يزوّجها). والأيّم: الرجل والمرأة لا زوج لهما سواء لم يتزوجا او فقدا زوجهما.  

وهناك احتمالان في الآية الكريمة:

الاول: ان يكون خطابا للازواج الذين طلقوا ازواجهم فلما انتهت العدة منعوهن من الزواج بمن يرغبن فيه. وكان هذا من دأب بعضهم على ما يقال فكان الرجل منهم يغار من ان ينكح غيره زوجته وهذا الامر مشهود في هذا العصر وهو امر طبيعي فهناك أسرار بين الرجل وزوجته لا يحب ان يطّلع عليها غيره مضافا الى الغيرة المذكورة.

الثاني: ان يكون خطابا للاولياء حيث كانوا يمنعون زواج المراة بزوجها السابق بعد انتهاء العدة لانهم يعتبرون ذلك تنقيصا لقومها بل لها ايضا.

والتفاسير غالبا يرجحون الاحتمال الثاني نظرا لما ورد في البخاري عن الحسن (قال حدثني معقل بن يسار انها نزلت فيه قال زوجت أختا لي من رجل فطلقها حتى إذا انقضت عدتها جاء يخطبها فقلت له زوجتك وفرشتك وأكرمتك فطلقتها ثم جئت تخطبها لا والله لا تعود إليك ابدا وكان رجلا لا بأس به وكانت المرأة تريد أن ترجع إليه فأنزل الله هذه الآية فلا تعضلوهن فقلت الآن افعل يا رسول الله قال فزوجها إياه).[4]

وروى الشيخ الطوسي قدس سره في التبيان عن السدي انه نزل في جابر بن عبد الله حيث منع بنت عم له ان ترجع الى زوجها ثم قال الشيخ (والوجهان لا يصحان على مذهبنا لأن عندنا أنه لا ولاية للأخ ولا لابن العم عليها وإنما هي ولية نفسها فلا تأثير لعضلها).

ولكنه قال في اخر كلامه (ويجوز أن يحمل العضل في الآية على الجبر والحيلولة بينهن وبين التزويج دون ما يتعلق بالولاية لان العضل هو الحبس).

وهذا هو الصحيح فالآية لا تدل على ولاية من يعضل المرأة عن الزواج بمن ترغب فيه وانما تدل على ان القوم كانوا يمنعونهن من الزواج فنهى عنه ولا يقتضي ذلك ان اصل الولاية ثابتة لهم كما في الاب بالنسبة للبكر.

وربما يرجح الاحتمال الثاني باعتبار ان الازواج في الاحتمال الاول لا يراد بهم من كانوا ازواجا لهم سابقا بل من يخطبهن من الرجال وهم ليسوا ازواجا فالتعبير عنهم بالازواج تجوز بلحاظ ما يؤول مع ان الأوْل ليس معلوما واما في الاحتمال الثاني فالمراد من كانوا ازواجا لهم سابقا فالتعبير عنهم بالزوج حقيقة.

ولكن الشيخ قدس سره رجح القول الاول لان الخطاب للمطلقين في قوله تعالى (واذا طلقتم النساء) فالمراد بهم نفس الازواج السابقين والمراد بازواجهن من يصيرون ازواجا لهن وقال في الرد على لزوم التجوز (كما أنهم لابد لهم من ذلك إذا حملوا على الزوج الأول لان بعد انقضاء العدة لا يكون زوجا ويكون المراد من كان أزواجهن فما لهم إلا مثل ما عليهم).

وهنا احتمال اخر ذكره الزمخشري في الكشاف واتبعه الشيخ محمد عبده على ما في المنار وهو ان يكون الخطاب للمجتمع لا للازواج ولا للاولياء فاذا تحقق العضل من اي من الفريقين يشمله النهي في الآية.

وهو ليس ببعيد وله نظائر في الكتاب بل لا يبعد ان يكون اكثر الخطاب العام موجها الى المجتمع حتى ما ورد في اجراء الحدود والقصاص.

واما لو اغمضنا النظر عنه فالظاهر ان الاحتمال الاول اقوى فيكون الخطاب للازواج المطلقين والمراد بازواجهن من يرغبن في الزواج معه واما خطاب الاولياء فهو بعيد جدا ولا اظن القوم يقبلونه لولا الروايات التي لا يصح شيء منها عندنا. 

والمراد ببلوغ الاجل هنا انتهاء العدة بخلاف الاية السابقة فقد مر ان المراد قرب انتهائها والفرق انما هو بلحاظ الحكم المترتب ففي الآية السابقة ورد الحكم بعدم الامساك ضرارا فاما أن يرجع اليها الزوج بمعروف او يخلّي سبيلها. وهذا التخيير لا يكون بعد انتهاء الاجل بل قبله اما الحكم هنا فهو عدم منعها من الزواج بالغير او الزواج بنفس الزوج السابق على الاختلاف الذي مر ذكره وهذا الحكم لا يتم الا بعد انقضاء الاجل وانتهاء العدة.

ويلاحظ ايضا ان النكاح في هذه الآية اسند الى المرأة وقد مر نظيره في قوله تعالى (حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ..)[5] ومر البحث عنه. وهذا ايضا مما يدل على عدم الولاية على المرأة المطلقة في نكاحها مع من تحب.

وقوله (اذا تراضوا بينهم بالمعروف) اي تراضى الرجال مع النساء المطلقات. وهذا يدل بوضوح على جواز خطبة الرجل للمراة المطلقة من دون المراجعة الى الولي او الى اهلها ويكفي تراضيهما بما هو متعارف من الحياة الزوجية. وهذا هو المراد بقوله تعالى (بالمعروف). ولعل هذا القيد لمنع كفاية التراضي اذا تم بالخداع من طرف الرجل.

ولكن يبقى السؤال ان هذا القيد هل يدل على أنه في هذا الحال يجوز العضل من الولي باعتبار ان مفهوم قوله تعالى (فلا تعضلوهن... اذا تراضوا..) انهم اذا لم يتراضوا يجوز العضل؟

واذا صح ذلك فيكون قرينة على ان الخطاب للاولياء اما الزوج السابق فلا يحق له التدخل في شأن هذه المرأة مطلقا. بل يدل القيد حينئذ ان الولاية ثابتة للاولياء في زواج المطلقة والا لم يكن وجه لجواز العضل في هذا الحال.

وهذا ايضا مما يدل على ان الصحيح هو كون الخطاب موجها للمجتمع او للحاكم الشرعي وأنه اذا لم يكن التراضي بالمعروف فلا بد للحاكم ان يمنع من تحقق هذا النكاح لما يترتب عليه من المفسدة والظلم.

ولكن يمكن ان لا يكون هذا قيدا في النهي عن العضل وانما ذكر هنا للحث على ان يكون التراضي بينهما بالمعروف وللنهي عن استغلال ضعف المراة خصوصا بعد الطلاق وانتهاء العدة وخصوصا في ذلك العصر حيث كانت بحاجة غالبا الى من ينفق عليها. واذا لم يكن قيدا فلا مفهوم له ولا يفهم من الكلام انه اذا لم يكن التراضي بالمعروف يجوز العضل.

كما يمكن ان يكون المراد جواز التدخل لمن له شأن في الموضوع وان لم يكن له ولاية شرعية كالاخ والعم فينصح المرأة ويدلها على ما هو خير لها او يمنع الرجل ولو بطريق غير مباشر من الاستمرار في هذا الامر وعليه فيكون المراد بالعضل التضييق في مقام العمل لا المنع شرعا ليدل على الولاية.  

 

ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (232)

يعود السياق مرة اخرى للتأكيد على الالتزام بهذه الحدود والقوانين الشرعية والاهتمام بها وعدم التهاون واخذها هزوا بل يجب الاخذ بجد ولذلك اعتبر الاهتمام بها من مقتضيات الايمان بالله واليوم الاخر فعدم الاهتمام يدل على عدم الايمان. وقوله (ذلك) اشارة الى الحكم السابق اي النهي عن عضل المراة من الزواج بمن تحب.

ومع ان الخطاب للمؤمنين الاوائل فانه أشار الى ان الخطاب خاص بمن كان منكم يؤمن بالله واليوم الاخر مما يدل على أن هناك من المؤمنين ظاهرا من لا يؤمن في دخيلة نفسه بالله واليوم الآخر.

وهو كذلك قطعا لان الايمان الحقيقي يستتبع التقوى وكان في القوم منافقون وكان فيهم من في قلبه مرض وكان فيهم من هو ضعيف الايمان فهذه المواعظ لا تؤثر فيهم وانما تؤثر فيمن يؤمن واقعا بالله ويخاف العذاب يوم القيامة. ومر الكلام في معنى الوعظ.

ويلاحظ من هذه الآية ونحوها من الايات أن القوانين الاجتماعية التي وضعها الله تعالى لحفظ النظام وسعادة الانسان في الدنيا انما يقصد بها تهذيب الانسان وبث روح التقوى فيه ليسعد في الآخرة كما قال عزّ من قائل (تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ..)[6] اي يريد سعادتكم في الآخرة.

ولذلك يربط بين القانون والايمان بالله واليوم الآخر فالقانون لا يقصد بوضعه وتطبيقه مجرد حفظ النظام وبسط العدل وان كان هذا مهما ايضا الا ان الغرض الاسمى هو تربية الانسان ليكون لائقا للعروج الى الله تعالى وكسب رضوانه.

ومن هنا فان علاقة القانون الديني بالتقوى والخوف من عذاب الآخرة من جهتين فان التقوى من جهة خير ضامن لتطبيق القانون في الدنيا. ومن جهة اخرى الالتزام بهذه القوانين بدوره يؤثر في تحقق التقوى في نفس الانسان وتربيته ليبلغ اعلى درجات الكمال.

والاشارة في قوله (ذلك يوعظ به) الى الحكم السابق وهو النهي عن العضل ولذلك أتى باسم الاشارة خطابا للمفرد ليكون ظاهرا في خطاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم لان الوعظ بالاحكام من وظائف الرسالة ولكن الخطاب بالوعظ موجه للجميع ولذلك اتى بضمير الجمع في قوله (منكم).

والاشارة في قوله (ذلكم) الى ترك العضل وليس الى النهي عنه ولذلك اتى بخطاب الجمع فترك العضل ليس من وظائف النبي صلى الله عليه وآله وسلم بل من وظائف الامة.  

وقوله (أزكى) من الزكاة وهي بمعنيين: النماء والطهارة ولا يبعد أن يكون الاصل فيها النماء والزيادة كما في معجم المقاييس ولكنه يستعمل كثيرا في الطهارة الا ان الاولى هنا ان يكون بمعنى النماء لئلا يكون قوله (وأطهر) تكرارا.

ولعل المراد بالنماء التطور الحضاري للمجتمع في إشارة الى أن هذا الحكم من الاحكام الراقية التي تؤثر في التقدم الحضاري والابتعاد عن الجاهلية القديمة وعاداتها السخيفة فان العضل كان من سنن الجاهلية يبتغون بذلك المحافظة على الشرف الموهوم.

ولعل المراد بكون ترك العضل أطهر انه أبعد من الوقوع في المفاسد الاجتماعية والخلقية وذلك لان احد الدواعي للعضل ربما يكون الحفاظ على شرف المراة ومكانتها باعتبار عدم تناسبها مع الرجل خصوصا لو لم يكن ملتزما بالدين ولكنه لا يمنع من وقوع المفاسد في الخفاء خصوصا اذا كانت المرأة راغبة فيه وخصوصا اذا كان المنع بالنسبة للزوج السابق وايضا اذا كان بينهما اولاد فان العضل مضيعة لهم ومدعاة الى مفاسد اخرى.

ومن هنا صح التعبير بالاطهرية لان العضل ربما يكون موجبا للطهارة في بعض الموارد والا لم يقصده الاولياء ولم يصروا عليه ولكن تركه اقرب الى الطهارة غالبا وهذا لا يمنع رجحان النصح والتوجيه اذا راى الولي او غيره مفسدة في هذه الزيجة. 

وأخيرا فان الانسان كثيرا مّا يظن أنه أعلم بمصلحة نفسه واسرته ولا يتعظ بالمواعظ الالهية وكنا نسمع من بعض من يدعون الثقافة أن الانسان يجب ان لا يتبع اي تشريع يفرض عليه الا من المجالس التشريعية التي يكون هو ايضا مساهما في اقامتها وانتخاب مشرعيها بل كان بعضهم يصرح بانه يرجح ان يرتكب خطأ ولكن لا يتبع ارادة غيره حتى لو كان هو الله تعالى.

وهذه السفاهة حتى لو لم يصرح بها المسلمون وحكامهم ولكنهم يعتنقونها عمليا ولذلك نجد كثيرا من المثقفين المدعين للاسلام التبجح بانهم علمانيون وان حكومتهم علمانية وأن قانونهم علماني اي لا يتبعون شريعة الله تعالى وهذا مما يعدّونه من مفاخرهم.

والجملة الاخيرة ترد على هذه السفاهة (والله يعلم وانتم لا تعلمون) فالانسان لا يعلم ما يصلح دينه ودنياه وحتى لو علم ما يصلح دنياه فهو لا يعلم ما يصلح دينه ولا يعلم ما هو الاصلح لآخرته وصلاح الآخرة هو الغاية القصوى في التشريع الالهي.

والامر لا يختص بهذا العصر فمنذ فجر التاريخ الاسلامي ظهر على الساحة زعماء اعلنوا انهم يغيرون حكم الله تعالى ويعاقبون من يعمل به وهذه الجملة معروفة عن عمر (متعتان كانتا على عهد رسول الله وانا انهى عنهما واعاقب عليهما)[7] وكذلك قوله في صلاة التراويح (بدعة ونعمت البدعة)[8] ومن الغريب انه لم يتلق رد فعل قوي من الامة بل تجد اكثرهم يهتمون ببدعته اكثر مما يهتمون بسنة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.  

 

وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ...

هذه الآية تتحدث عن إرضاع الاولاد وهذا حكم عام للوالدات ويمكن ان يترتب عليه اختصاص حكم الرضاع الموجب لانتشار الحرمة بالحولين وانه لا اثر للرضاع بعدهما كما يترتب ايضا استحباب الفطام بعدهما وغيرهما من الاحكام.

وقيل إن المراد خصوص المطلقات بمقتضى سياق الآيات حيث إنها وردت ضمن الآيات التي تتطرق لاحكام المطلقات ولان الآية أوجبت على الرجل رزق المرضعة وكسوتها وهذا يختص بالمطلقة اما الزوجة فهي تستحق نفقة الزوجية وان لم ترضع الولد.

ولكن اختصاص هذا الحكم بالمطلقة لا يقتضي تقييد موضوع هذه الجملة فالحكم بأن مدة الرضاع حولان حكم عام كما أن التطرق لهذا الامر ضمن احكام المطلقات لا يدل ايضا على اختصاص هذه الجملة بهن وانما تعرض للامر هنا لان الحكم يشملهن. مضافا الى ما سيأتي من استظهار ان مورد الآية غير المطلقات.

وقوله (يرضعن) قيل انه يدل على الوجوب نظير ما مر في قوله تعالى (والمطلقات يتربصن بأنفسهن) فان التربص واجب عليهن. وذكرنا هناك أن الجملة الخبرية في الدلالة على الوجوب اقوى من الامر كأنّ الآمر يخبر أن المأمور يفعل ذلك لا محالة.

ولكن هذا الاحتمال ينافيه ما دل على عدم وجوب الارضاع على الام ومنها قوله تعالى (فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى)[9] اذ لو كان واجبا عليها لم تستحق الاجرة ولم يجز لها ان تتعاسر.

والظاهر انه لبيان ان ذلك من حق الام وأنها اولى بارضاع ولدها فالغرض من الآية نهي الرجل من منع الام من الاستمرار في الارضاع كما يحدث في المطلقات او غيرهن فان كثيرا من الناس يفصلون بين الام وولدها بعد الطلاق او بعد نشوب الخلاف بينهما وهذا يتبع السبب الذي أدى الى الطلاق والخلاف.

وهذه الآية تنهى عن ذلك وتأمر الرجل بعدم منع المرأة من ارضاع ولدها سواء كانت مطلقة ام غيرها مهما كان السبب او فيما اذا لم يكن السبب مبررا لذلك كفسادها الخلقي او كفرها مما يخاف الرجل من تأثيرها السلبي على الولد.

ومهما كان فالآية تدل على أن مدة الرضاع سنتان. والحول سنة بأسرها كما في العين والاصل فيه التغير من حال او زمان او مكان الى غيره.

والتوصيف بالكاملين للتأكيد على عدم الاكتفاء بما يقرب من السنتين للصدق العرفي المبتني على المسامحة وعدم الدقة او لصدق السنتين على استمرار الرضاع الى السنة الاخرى ولو في جزء منها كما تقول زرته في شهرين.

والظاهر أن هذا التحديد ليس للوجوب ولا الاستحباب وانما هو اشارة الى امر طبيعي وهو أن الرضاع الكامل المفيد للطفل سنتان وان كان يجوز الفطام قبلهما كما لا يحرم الاستمرار بعدهما ولا دليل على وجوب الفطام على راس السنتين.

وقد ورد في الروايات ما يستفاد منه هذه الاحكام نذكر بعضها وتفصيل البحث عنها في الفقه. فقد روى الشيخ قدس سره بسند صحيح عن الحلبي قال: قال أبو عبد الله عليه السلام (ليس للمرأة أن تأخذ في رضاع ولدها أكثر من حولين كاملين فإن أرادا الفصال قبل ذلك عن تراض منهما فهو حسن. والفصال: الفطام).

وعن عبد الوهاب بن الصباح قال: قال أبو عبدالله عليه السلام (الفرض في الرضاع أحد وعشرون شهرا فما نقص عن أحد وعشرين شهرا فقد نقص المرضع وإن أراد أن يتم الرضاعة فحولين كاملين). [10]

وروى الكليني قدس سره بسند صحيح عن سعد بن سعد الأشعري عن أبي الحسن الرضا عليه السلام قال (سألته عن الصبي هل يرضع أكثر من سنتين؟ فقال: عامين فقلت: فإن زاد على سنتين هل على أبويه من ذلك شيء؟ قال: لا). [11]

وقال الشيخ الطوسي قدس سره في تفسير الاية (ان قيل: هل يلزم في كل مولود قيل: فيه خلاف قال ابن عباس: لا، لأنه يعتبر ذلك بقوله "وحمله وفصاله ثلاثون شهرا" فان ولدت المرأة لستة أشهر فحولين كاملين وإن ولدت لسبعة أشهر فثلاثة وعشرون شهرا وإن ولدت لتسعة أشهر فاحد وعشرين شهرا تطلب بذلك التكملة لثلاثين شهرا في الحمل والفصال الذي سقط به الفرض وعلى هذا تدل أخبارنا لأنهم رووا أن ما نقص عن إحدى وعشرين شهرا فهو جور على الصبي).[12]

والرواية التي أشار اليها مروية في الكافي وغيره عن سماعة عن أبي عبدالله عليه السلام قال (الرضاع واحد وعشرون شهرا فما نقص فهو جور على الصبي). وفي سندها محمد بن سنان وهو ضعيف.

واما الاستناد الى قوله تعالى (وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا..)[13] بناءا على أنّ ذلك اشارة الى أنّ مجموع الحمل والرضاع ينبغي أن لا يزيد على ثلاثين شهرا وأنّه اذا كان الحمل تسعة أشهر فالرضاع التام واحد وعشرون شهرا فهو بعيد جدا بل غير صحيح لانه يستلزم ان يحمل قوله تعالى (والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين) على خصوص ما اذا كان الحمل ستة أشهر وهو فرض نادر.

نعم يصح الاستناد الى اية سورة الاحقاف والجمع بينها وبين الاية التي نفسرها في تحديد اقل مدة الحمل وانه ستة اشهر وهذا يحصل من طرح الحولين المذكورين هنا للرضاع من ثلاثين شهرا المذكورة في تلك الاية بعنوان انها مجموع الحمل والرضاع فتبقى ستة أشهر.

ولذلك ورد في أحاديثنا أن أقل الحمل ستة أشهر وهو المفتى به في الفقه ويظهر الأثر الشرعي في ما اذا ولدت المرأة بعد ستة أشهر من أول لقاء مع زوجها فان الولد يلحق به شرعا ولا يلحق به اذا كانت المدة أقل من ذلك.

ولكن الغرض من اية الاحقاف ليس بيان الحكم الشرعي بل الاشارة الى المدة الطويلة التي تسهر فيها الام وترضع الطفل لكي يبقى وينمو فتمده بما يحتاج اليه من العناصر في ايام الحمل وبعد الولادة عن طريق اللبن.

مضافا الى سائر ما تستلزمه الرعاية والحضانة من تنظيف وتداوٍ وتدفئة وتعليم وتربية وغير ذلك، فأقل ما تستلزمه هذه العناية من الزمان ثلاثون شهرا وان كان الغالب أكثر من ذلك لان مدة الحمل غالبا تسعة أشهر وربما يزيد.

والتعبير بالوالدات في الآية الكريمة للتصريح بالمقصود فان الوالدة هي المراة التي ولدت طفلا اما الام فتطلق على الجدة وعلى المربية كما تطلق على كل ما كان اصلا لشيء وتطلق على الدين والجماعة وقال الخليل (اعلم ان كل شيء يضم اليه سائر ما يليه فان العرب تسمي ذلك الشيء امّا). ومنه ام القرى وام الكتاب وغيرهما.

واما قوله (لمن أراد ان يتم الرضاعة) فيحتمل أن يراد به الاب فان الارضاع نفقة الطفل وهو واجب على الاب ولذلك وجب عليه الاسترضاع من الام او غيرها.

والمراد بهذه الجملة ان الاب اذا اراد ان يتم الرضاعة فعليه ان يسترضع الام سواء كانت مطلقة ام لا حولين كاملين فان هذه المدة هي مدة الرضاع التام الكامل اما اذا لم يرد ذلك لعدم حاجة الطفل اليه كما يلاحظ في بعضهم بل ربما يضر بعضهم الرضاع الكامل او لأيّ سبب اخر فلا بأس.

وفي الميزان ان المراد به الوالدة قال رحمه الله: (وفي قوله تعالى: لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ، دلالة على أنّ الحضانة والإرضاع حق للوالدة المطلقة موكول إلى اختيارها والبلوغ إلى آخر المدة أيضا من حقها فإن شاءت إرضاعه حولين كاملين فلها ذلك وإن لم تشأ التكميل فلها ذلك، وأما الزوج فليس له في ذلك حق إلا إذا وافقت عليه الزوجة بتراض منهما كما يشير إليه قوله تعالى فَإِنْ أَرادا فِصالا..).

وهو بعيد اذ لا يبقى وجه مناسب للتعبير باللام في قوله (لمن أراد) فلو كان هذا هو المقصود لكان الانسب ان يقال (ان اردن إتمام الرضاعة).

واما بناءا على أن المراد بالموصول الوالد فالوجه في اللام هو أن الوالدة ترضع ولدها لمصلحة الوالد ولامره وطلبه فالارضاع واجب عليه أوّلا ولذلك يحق له ان يسترضع غيرها اذا لم يتفقا على اجرة كما قال تعالى (وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى).[14]

ويمكن ان يكون المراد به ما يشمل الوالدين فلا يراد به خصوص احدهما لان الغرض ليس تحديد من له الحق في الاتمام وعدمه بل الغرض بيان المدة الطبيعية للرضاع فالمعنى انه يستمر حولين اذا اريد اتمام الرضاعة اما من قبل الاب لانه الولي او بالتراضي بينهما بل يشمل غيرهما ايضا كما لو ارضعته امراة اخرى باجرة او تبرعا حتى لو كان ذلك بعد وفاتهما فالغرض تحديد مدة الرضاع الطبيعي ولا تنظر الاية الى من له حق التحديد.

واما التراضي والتشاور في اخر الاية فسيأتي الكلام فيه ان شاء الله تعالى.

والاية مع ذلك تثبت للوالدة الاحقية في الارضاع وقوله (لمن أراد أن يتم الرضاعة) يقيد زمان الارضاع ويجعل تحديده باختيار الوالد واما اصل الارضاع فمن حق الوالدة الا اذا لم يتفقا على اجرة كما مر في آية سورة الطلاق.

ومن هنا ورد الحكم باشتراك الحضانة بين الابوين في مدة الرضاع وهي السنتان فقد روى الكليني بسند صحيح عن داود بن الحصين عن أبي عبد الله عليه السلام قال (والوالدات يرضعن أولادهن، قال: ما دام الولد في الرضاع فهو بين الأبوين بالسوية فإذا فطم فالأب أحق به من الام فإذا مات الأب فالأم أحق به من العصبة فإن وجد الأب من يرضعه بأربعة دراهم وقالت الام: لا أرضعه إلا بخمسة دراهم فإن له أن ينزعه منها إلا أن ذلك خير له وأرفق به أن يترك مع اُمه).[15]

 

وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا...

المراد بالمولود له هو الاب ولم يعبر عنه بالوالد كما في سائر الموارد لانه يريد هنا ان يُحمّله تكاليف الرضاع فالانسب ان يعبّر بما يدل على الوجه في ذلك فالولد وان كان منتسبا الى الوالدين ولذلك نسبه الى الوالدة في اول الآية الا ان اكثر منافعه خصوصا في تلك العصور للاب وهو ينسب اليه فكأنّ الوالدة ولدت الولد له فعليه ان يتحمل المؤونة.

وفي الكشاف أنّ الاية تدل على ان الولد منتسب للاب وأنّ الام ليست الا وعاءا للانجاب واستشهد بالشعر العربي القائل (فَإنَما أُمَّهَاتُ النَّاسِ أوْعِيَةٌ ... مُسْتَوْدَعَاتٌ وَلِلآبَاءِ أبْنَاءُ).

ولكن الكلام لا يستند الى دليل علمي ولا مصدر شرعي والشعر لا حجية فيه. والقران ينسب الولد الى الابوين بل استناده الى الام اقرب واوضح والقران ايضا يؤيد ذلك.

ولهذا السبب علل وجوب الاحسان الى الابوين بما تضحي به الام في سبيله لا الاب كما قال تعالى (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ..)[16] وقال ايضا (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا..).[17]

والرزق في الاصل هو العطاء والانعام ولكن ضمّه الى الكسوة وهي اللباس قرينة على أن المراد نوع خاص من النفقة وهو الطعام والشراب ونحوهما مما يتعارف دفعه باستمرار مع الكسوة الى من تجب نفقته. وقوله (بالمعروف) اي بما هو متعارف بين الناس.

ثم ان الاية الكريمة اوجب على الوالد رزق المرضعة وكسوتها حسب المتعارف ايام الرضاع وربما يستظهر من هذا الحكم ان المراد هنا خصوص المطلقة لان الزوجة يجب الانفاق عليها سواء ارضعت ام لم ترضع الا ان الامر ورد في سورة الطلاق بعنوان الاجر لا الرزق والكسوة وانما ذكر الاسكان قبل ذلك في مدة عدتها.

قال تعالى (أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى).[18]

فان كان مورد الايتين واحدا وهو الزوجة المطلقة فلا يمكن الحكم في احداهما بالاجر وفي الاخرى بالرزق والكسوة بالمعروف اذ قد يكون الاجر حسب المتعارف في الزمان والمكان اكثر من الرزق والكسوة او اقل خصوصا اذا فسر الرزق بالنفقة المتعارفة فانها تشمل السكن والعلاج وكل ما تحتاجه المرأة في حياتها حسب شأنها وهو أمر يختلف في العصور والبلدان اما اذا فسر الرزق بالطعام والشراب فهو أقل بكثير ومع ذلك فهو لا يطابق الأجر دائما.

وفي بعض التفاسير ومنها آلاء الرحمن للعلامة البلاغي قدس سره وكذا في بعض عبارات الفقهاء ان الرزق والكسوة كناية عن الاجرة المتعارفة قال البلاغي (الظاهر عدم الخلاف في ان الرزق والكسوة كناية عن الأجرة المذكورة في الآية السادسة من سورة الطلاق. والملحوظ في تقريرها حالتا السعة والضيق كما في السابعة منها ايضا. ولعل اجرة المثل تقارب مالية الرزق والكسوة ولكن عنوانهما اقرب إلى الحشمة من عنوان الأجرة والتماكس فيها).

وهذا توجيه لا باس به ويبدو ان المفسرين والفقهاء ارتضوه كوجه جمع بين الايتين بل ان الاكثر لم يتعرضوا للاشكال ولم يشيروا اليه مما ينبئ عن ارتياحهم وعدم الانتباه الى تناف بينهما مع انه واضح بادنى التفات وهو امر غريب.

والواقع ان هذا التوجيه ايضا لا ترتاح له النفس بملاحظة قوله تعالى (وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى) مما يدل على المماكسة ومحاولة تحديد الاجرة فما ورد في تعابيرهم ومنها عبارة البلاغي السابقة من احتمال تساوي الرزق والكسوة لاجرة المثل ليس على ما ينبغي فان الاية تأمر بتحديد الاجرة لا بدفع اجرة المثل.

وكذلك بملاحظة قوله تعالى في هذه الآية بعد الامر بدفع الرزق والكسوة (لا تكلف نفس الا وسعها) مما يدل على ان الحكم بالانفاق هنا من باب التكليف ولذلك يتحدد بالقدرة والوسع ولو كان الامر من باب الاجارة فعليه ان يدفع ما يتفقان عليه.

واما قوله تعالى في سورة الطلاق (لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا..)[19] فليس في مقام تحديد الانفاق على المرضعة كما في هذه الاية بل في مقام تحديد الانفاق على الولد فلا يجب عليه ان يتحمل فوق طاقته اذا طلبته الام المرضعة في عقد الاجارة.

ومن هنا يظهر الاشكال في قول العلامة البلاغي (والملحوظ في تقريرها حالتا السعة والضيق كما في السابعة منها ايضا) فهناك فرق بين الموردين.

فالاقرب ان يقال ان هذه الآية يختلف موردها عن اية سورة الطلاق فالموضوع هناك خصوص المطلقات فان ارضعن الولد فلا بد من تحديد الاجرة واما هذه الآية فموردها الوالدات من الازواج وهنا لا يجب تحديد الاجرة وانما يجب الانفاق والكسوة بمقدار السعة والقدرة. والله العالم.

والحكم بوجوب الانفاق لا ينافي جواز الاستيجار ايضا بناءا على عدم وجوب الارضاع على الام فاما ان يستأجرها ويدفع الاجرة المعينة او ينفق عليها بما هو متعارف.

وذهب جمع الى الاختصاص بالمطلقات كما مرت الاشارة اليه في بدء تفسير الاية بقرينة ان الزوجة تستحق النفقة وان لم ترضع فلا وجه للحكم بالانفاق للمرضعة خاصة.

والجواب انه لا مانع من وجوب الانفاق لسببين الزوجية وارضاع الولد وربما لا تستحق بمقتضى الزوجية لنشوز او شرط او اسقاط وتستحق بمقتضى الارضاع. ونقصد بالشرط انه ربما يشترط عليها ضمن العقد عدم الانفاق. ونقصد بالاسقاط ان الزوجة يجوز لها ان تسقط حقها في النفقة حتى النفقة المستقبلية وان كان فيها خلاف.

وقوله تعالى (لا تكلف نفس الا وسعها) تقييد للحكم فان المتعارف من الرزق والكسوة ليس له حد معين. ويختلف العرف في ذلك حسب حال الزوج او الزوجة وربما ينطبق على قدر من النفقة لا يتمكن منه الزوج فقيّد الحكم بهذه الجملة ومقتضاها ان المتعارف اذا كان لا يقدر عليه الرجل فلا يكلف به بل يكفي ان ينفق بما يتمكن.

وهذا ايضا فرق اخر بين نفقة الزوجة ونفقة المرضعة فان الرجل اذا لم يملك نفقة الزوجة بالمقدار المتعارف يتعين عليه الطلاق واما المرضعة فقد اجيز له الاكتفاء بما يتمكن منه حسب هذه الآية.

وهناك اختلاف في كتب اللغة في معنى التكليف. والمستفاد من مجموعها انه الزام الانسان بما فيه نوع من المشقة. و(الا وسعها) مفعول ثان لقوله (لا تكلف). والوسع خلاف الضيق والعسر. والمراد به هنا الجِدَة وقدرة ذات اليد وهو احد معانيه كما في كتاب العين.

وربما يفسر الوسع بالطاقة ومعناه حينئذ ان الانسان لا يكلف ما لا يطيقه فيصح ان يكلف بما يطيقه. والاطاقة صرف تمام القدرة في الشيء ولذلك فسر قوله تعالى (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ..)[20] بالشيخ وذي العطاش وان المراد من يحتاج في الصوم الى صرف كل طاقته فيه ولا يقصد به من لا يقدر على الصوم مطلقا. فلو فسرنا الوسع هنا بالطاقة وجب الانفاق بكل ما يستطيع وان كان موجبا للتضييق على نفسه.

ولكن الوسع لا يعني ذلك كما تبين من كتب اللغة وهو واضح بلحاظ معنى السعة فانها الزيادة على مقدار الحاجة فالسعة في المكان بأن لا يكون محدودا بمقدار ما هو متمكن فيه، والسعة في الحال بأن لا تكون القدرة المالية محدودة بمقدار حاجته.

وهي أوسع من الغنى فان الغنى يصدق في ما اذا ملك مقدار حاجته فحسب، والسعة في المال تدلّ على أكثر من ذلك وعليه فالمستفاد من الاية الكريمة ان الواجب الانفاق من سعته لا بمقدار طاقته بحيث يضيّق على نفسه.

 

لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ...

(تضار) مفاعلة من الضرر وهو النقصان في الشيء على ما في كتاب العين وباب المفاعلة لا يدل دائما على المشاركة - كما يتوهم - لتدل العبارة على ان الاضرار من الطرفين.

قال الازهري في تهذيب اللغة في تفسير الحديث (لا ضرر ولا ضرار في الاسلام) ما ملخصه (فمعنى قوله لا ضرر اي لا يضر الرجل اخاه وقوله لا ضرار اي لا يضر الرجل جاره مجازاة فالضرار منهما معا والضرر فعل واحد).

وهذا غير صحيح فهناك موارد من استعمال هذا الباب ليست فيها مشاركة اصلا بل الفعل فيها صادر من جهة واحدة من قبيل هاجر وسافر وراجع وشاهد وغيرها.

ويحتمل ان تكون المضارّة بمعنى تكرر الاضرار كما هو الحال في مورد حديث لا ضرر واما في مورد الاية الكريمة فتارة يضر الاب والدة الطفل بفعل واحد بسبب الطفل وتارة يحاول بتكرر الاضرار بها اجبارها على ما يريد ولعل هذا هو المقصود.

ويحتمل ان تكون المضارة خاصة بما اذا كان القصد من الفعل هو الاضرار بالذات فان الانسان ربما يضر احدا بفعله ولكن غرضه منه امر اخر ولا يهمه الاضرار بغيره ففي مورد الاية ربما يكون غرض الرجل تقليل الاجرة لمصلحته ولا يهمه الاضرار بالمراة وربما يكون هدفه هو نفس الاضرار ليجبرها على القبول.

والكلمة قرئت بالفتح والكسر وهما بمعنى واحد لان الراء الاولى ساكنة و(لا) للنهي فتكون الثانية ساكنة ايضا فيجوز الفتح والكسر لالتقاء الساكنين. وقرئت بالضم فتكون (لا) للنفي ويصح ايضا باعتبار انه إخبار يفيد معنى النهي بوجه آكد. والفعل مبني للمجهول اي لا يجوز الاضرار بالوالدة من اجل الطفل ولا بالوالد.

واحتمل بعضهم ان يكون مبنيا للمعلوم ولا تختلف القراءة بذلك ويختلف المعنى فانه على هذا الفرض بمعنى انه لا يجوز للوالدين الاضرار بالولد. والطفل بناءا على ذلك هو مورد الاضرار والمراد انه لا يجوز لهما الاضرار به بعدم الاتفاق على اجرة لارضاع الام طفلها.

ولكنه بعيد اذ لا موجب لتكرار النهي حينئذ بل يقال لا يضار الولد فالظاهر ان الفعل مبني للمجهول والمعنى انه لا يجوز الاضرار بالوالدة من اجل ولدها ولا بالوالد.

والظاهر ان الحكم مطلق يشمل كل نوع من الاضرار بهما من اجل الطفل وان كان اوضح موارده حسب الآية هو مورد الرضاع فهذا في الواقع تطبيق لحكم عام على مورد الآية الكريمة فلا يجوز للرجل ان يضر المراة بالزامها بالارضاع مجانا واستغلال عواطفها بالنسبة الى وليدها لانها - بالطبع - لا ترضى ان تسلمه لغيرها ولكنها تحتاج الى مال ومن حقها ان تطالب بالاجرة او تطالب بالنفقة والكسوة كما صرح به في الآية.

وكذلك لا يجوز ان تستغل المرأة عواطف الوالد بالنسبة الى طفله فتحمله اكثر مما يستطيع من النفقة والكسوة او الاجرة مع عدم رغبته من اختيار مرضعة اخرى لعلمه بأن إرضاع الام وحضانتها اصلح لطفله. 

فهذا اوضح مصداق للمضارة ولكن لا يختص الحكم به كما لا يختص بالمطلقات - كما توهم - بل ربما تكون المضارة في نفس الموضوع بين الزوجين مع اختلافهما. وهذا الاضرار يؤثر في حياة الاطفال ايضا وكثيرا ما يتضررون من اختلافهما كما هو واضح.

والحاصل ان الآية كما تأمر بلزوم رعاية حال الطفل وتأمين رضاعه وتربيته كذلك تنهى من استغلال العواطف لمضارّة الزوجين او الوالدين وان لم يكونا زوجين بسبب الطلاق. 

والتعبير بولدها وولده وتكرار التعبير بالاسم الظاهر وعدم الاتيان بالضمير بان يقال في الجملة الثانية (ولا يضار مولود له به) للاشارة الى ما هو سبب للمضارة فان الاضرار اللاحق بكل منهما انما هو من جهة انه ولده فيحاول التضحية في سبيله والطرف الاخر يستغل هذا العطف وليس ذلك للاستعطاف ولا للاشارة الى ما هو كالعلة في النهي كما قاله الالوسي وهو واضح بادنى تأمل.

مضافا الى ان الاتيان بالضمير يوهم الرجوع الى ولدها بعنوانه اي مع انتسابه الى الام مع ان هذا الانتساب غير ملحوظ في حكم الرجل. ولعل هذا هو مراد العلامة الطباطبائي قدس سره وان كانت العبارة غير وافية.

ولكن هذا الوجه ضعيف من اساسه لانه كان من الممكن ان يقال في جانب الوالدة (بالولد) بدلا عن قوله (بولدها) ثم يؤتى بالضمير في جانب الاب. 

وقد ورد تفسير هذه الجملة في رواية صحيحة رواها الكليني قدس سره عن أبي عبد الله عليه السلام قال (الحبلى المطلقة ينفق عليها حتى تضع حملها وهي أحق بولدها أن ترضعه بما تقبله امرأة أخرى إن الله عز وجل يقول "لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده وعلى الوارث مثل ذلك" قال: كانت المرأة (منا)[21] ترفع يدها إلى زوجها إذا أراد مجامعتها فتقول: لا أدعك لأني أخاف أن أحمل على ولدي ويقول الرجل: لا أجامعك إني أخاف أن تعلقي فأقتل ولدي فنهى الله عز وجل أن تضار المرأة الرجل وأن يضار الرجل المرأة وأما قوله "وعلى الوارث مثل ذلك" فإنه نهى أن يضار بالصبي أو يضار أمه في رضاعه وليس لها أن يأخذ في رضاعه فوق حولين كاملين وإن أرادا فصالا عن تراض منهما قبل ذلك كان حسنا والفصال هو الفطام).[22]

وهناك روايات اخرى ايضا بهذا المضمون ولكنها مرسلة او في سندها اشكال وهذا يمكن ان يكون من باب ذكر المصداق وليس تحديدا للموضوع ولكن الالوسي تهجم على الشيعة وعلى راوي الحديث وجزم بانه كذب واعترض عليه بانه (لا يظهر وجه لطيف للتعبير بالولد في الموضعين).

ومما يدل على أن المراد ذكر المصداق في الحديث والاشارة الى ان الاية تشمل كل انواع الاضرار انه فسر قوله تعالى (وعلى الوارث مثل ذلك) بأن الوارث ايضا لا يجوز له ان يضار الصبي او امه في الارضاع وبالطبع فان هذا الاضرار يعود الى مقدار النفقة والكسوة لا الى ما ذكر في مضارة الرجل والمراة من الامتناع من الجماع.

وقد مر الكلام حول وجه التعبير بالولد في الموضعين وان ما توهمه الالوسي في ذلك غير صحيح.

 

وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ...

هذه الجملة تعود الى قوله تعالى (وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن..) وما بينهما اعتراض فالمراد ان وارث الاب (المولود له) يجب ان يلتزم برزق المرضعة وكسوتها اذا توفي الاب. ومن هنا قيل ان هذه الجملة تقتضي اختصاص حكم الوالدات بالمطلقات اما من كانت زوجة للمتوفى فهي ايضا من الورثة.

ولكن هذا لا يقتضي الاختصاص فالمستفاد من الآية أن الوالد اذا توفي يجب ان تدفع نفقة المرضعة من ماله الموروث سواء كانت هي ايضا وارثة ام لم تكن بل ربما يستفاد ان الوارث يجب ان يدفع نفقتها وان لم يرث مالا فيدفع من ماله كما تدل الاية ايضا على ان الوارث كالموروث في عدم جواز المضارة وعدم التكليف عليه الا بمقدار وسعه.

وقد اختلف في تفسير هذه الجملة فقيل ان المراد بالوارث من يرث الصبي وانه يجب عليه الانفاق على المرضعة. وقال الشيخ الطوسي انه الاقوى وتبعه الطبرسي قدس سرهما.

ولا وجه لحمل الآية على هذا المعنى اذ لم يفرض الصبي متوفى فاطلاق الوارث مجاز لا يصار اليه مضافا الى ان الالف واللام بدل عن الضمير وهو يعود الى الاقرب اي المولود له.

وقيل المراد بالوارث نفس الصبي فاذا توفي الاب فان الصبي يرثه فيدفع من حصته من التركة لرزقها وكسوتها.

وهو ايضا بعيد لانه لا موجب للتعبير بالوارث بل الاقرب ان يقال فان توفي ففي مال الطفل مضافا الى ان الصبي لو كان مالكا للنفقة فعليه نفقة نفسه ومنها اجرة المرضعة سواء ورث اباه ام لم يرثه فلا وجه للتعبير عنه بالوارث ولا خصوصية لما يملكه بالارث.

وقيل ان المراد بالوارث الباقي من الابوين وان الوارث يطلق على الباقي كما في الدعاء (اللهم امتعنا باسماعنا وابصارنا وقوتنا ما احييتنا واجعلها الوارث منا)[23] وعليه فمعنى الآية ان الاب اذا توفي فعلى الام ان ترضع الصبي مجانا.

وهذا ابعد التفاسير اذ لا يبقى وجه لقوله مثل ذلك وهذا لا يدل على ان وظيفتها الارضاع مجانا بل قوله مثل ذلك يدل على وجوب رزقها وكسوتها على الوارث.

مضافا الى ان الوارث ليس بمعنى الباقي بل بمعنى من يصل اليه ما بقي من المورّث وهو التراث او الارث وهو الباقي وان كان الوارث ايضا باقيا الا ان اطلاق الوارث عليه ليس بمعنى انه باق بعد مورثه بل بمعنى انتقال التركة اليه.

والتعبير عن السمع والبصر بالوارث في الدعاء النبوي الشريف مجاز والمراد ان يبقى السمع والبصر الى اخر ايام الحياة كانهما يبقيان بعده وهو مستحيل طبعا.     

وقال المحقق الاردبيلي قدس سره (يحتمل كونها واجبة على الورثة في مال الميت بأن كان أوقع الإجارة ومات من غير أن يسلم تمام الأجرة فتكون الآية حينئذ دليلا على عدم بطلان الأجرة بموت المؤجر).[24]

والظاهر ان قوله (بموت المؤجر) من خطأ الناسخ والمراد موت المستأجر وهو الاب. ولعل هذا اقرب توجيه للاية بحيث توافق المذاهب الفقهية كما حاول الفقهاء والمفسرون من الفريقين.

ومع ذلك فهو ينافي ما قدمناه في تفسير قوله تعالى (رزقهن وكسوتهن بالمعروف) ان هذا ليس مطابقا بالضرورة لاجرة المثل كما قال بعضهم. مع ان الاجرة كما في سورة الطلاق تقدر حسبما يتفقان عليه فهذه الآية لا تنظر الى الاجرة اساسا كما مر بيانه.

والحاصل أن ظاهر الآية هو وجوب النفقة والكسوة على من يرث الاب المتوفى وحينئذ فيمكن ان يقال ان الحكم يشمل كل اموال الوارث لا خصوص ما ورثه من المتوفى.

ولكن التعبير عنه بالوارث ربما يقتضي ان يكون الواجب عليه ان يدفع النفقة والكسوة من خصوص ما يرثه من الاب المتوفى فلا اقل من كونه واجبا عليه في التركة.

ولا مناص من الالتزام بما دلت عليه الآية الكريمة وعلى المذاهب الفقهية ان تتبع الآية ولا تحاول تاويلها لتوافق ما ذهبت اليه.

ولعل السر في ذلك أن الله تعالى اراد ان يضمن استمرار ارتزاق الطفل الرضيع وانتفاعه بلبن امه وهو خير ما ينتفع به في هذا الحال فالزم الوارث في هذا الحال ان يستمر في الانفاق على الام ولا يضارها ولكن لا يكلف الا وسعه. وظاهر الآية مطلق الوارث ولا يختص بمن ذكروه في الفقه على اختلاف مذاهبهم.

 

فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا...

الضمير في قوله (ارادا) يعود الى الوالدين. والفصال والفصل هو القطع والابانة. والمراد فصله عن الرضاع لا عن الام بصورة مطلقة وقد ورد تفسير الفصال بالفطام في صحيحة الحلبي التي مرت في تفسير هذه الآية.

ويبدو أن القصد من هذه الجملة هو أن الارضاع لا يجب ان يستمر حولين كاملين كما مر في اول الآية الكريمة بل يجوز قطع الارضاع قبل ذلك ولكن يجب ان يكون بتراض منهما وتشاور وهنا ايضا يبدو الاهتمام بمصلحة الطفل. ولا شك ان الآية لا تشمل الفصال بعد الحولين فانه لا حاجة فيه الى تشاور لان الآية حدد الرضاع التام بالحولين.

واعتبرت الآية لزوم امرين التراضي والتشاور فلا يجوز لاحدهما فرض رايه على الاخر بل لا بد من رضا الطرفين وهو لا يحصل الا بالتشاور. وهناك خلاف في كتب اللغة في اصل المعنى وفي العين انه ماخوذ من الاشارة تقول اشرت عليهم بكذا فالتشاور هو ان يبدي كل واحد منهما رايه الى ان يتفقا على امر فيه مصلحة الطفل.

وقوله (عن تراض) بمعنى ان ارادتهما للفصل قبل اكمال الحولين يجب ان ينشأ عن التراضي والتشاور وانما اعتبر التراضي هنا مراعاة لمصلحة الطفل ايضا اذ يبعد جدا ان يتفق الابوان على ما لا يصلح له.

وظاهر الآية ان لزوم التراضي والتشاور في هذا الامر يشمل حالة الطلاق ان لم نقل ان الآية خاصة بالمطلقات ومعنى ذلك ان التنافر الحاصل بينهما المنجر الى الطلاق لا يبرر عدم رعاية مصلحة الطفل فلا بد لهما من الاتفاق في موضوع الفصال قبل اكمال الحولين.  

والجناح في الاصل الميل والانحراف. ومنه قوله تعالى (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا)[25] والجناح: الاثم لانه انحراف عن الحق اي فلا اثم عليهما.

وربما يتوهم التنافي بين هذه الجملة حيث اعتبر فيها التراضي والتشاور في الفصال مع أنه تعالى أوكل الامر الى ارادة الوالد في اول الآية بقوله (لمن أراد ان يتم الرضاعة) ومن هنا ذهب صاحب الميزان الى ان المراد بمن اراد هو الام لا الاب.

وقد مر احتمال ان يكون المراد بمن يريد الاتمام ما يشملهما بل غيرهما ايضا ولا يختص باحدهما مضافا الى انه لو فرض الاختصاص بالاب فيمكن ان يقال ان الجملة الاولى تدل على ان الاب اذا اراد ان يتم الرضاعة من الام او غيرها فالرضاع التام هو ما يستمر الى حولين واما اذا لم يرد فتعيين موعد الفصال يجب ان يتم مع التشاور والتراضي بين الابوين.

والحاصل ان موضوع هذه الجملة يختلف عن موضوع الجملة السابقة فالغرض هناك متعلق بتحديد مدة الرضاع وهنا متعلق بتحديد موعد الفطام قبل ذلك.

 

وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ...

الاسترضاع طلب الرضاع وحيث ان الغالب ان الام ترضع ولدها فالاسترضاع لا يطلق الا اذا طلب له مرضعة غير امه. والتسليم: الاقباض والتسلم الاخذ والقبض. والاتيان: الاعطاء.

والخطاب للآباء وحيث تقدم ان الام اولى بارضاع ولدها فالمراد هنا استرضاع غيرها في حال عدم ارضاعها سواء لعذر كمرض او بعد دار او غير ذلك او بدون عذر لانها لا تلزم بالارضاع ويمكن ان لا يتوافقا على اجر وكان هناك من ترضعه باجر اقل.

وقوله (اولادكم) يمكن ان يكون مفعولا ثانيا للاسترضاع لانه – على ما قيل - يتعدى الى مفعولين: المرضعة والمرتضع يقال استرضعت المراة طفلي فحذف المفعول الاول ويمكن ان يكون منصوبا بنزع الخافض اي تسترضعوا لاولادكم.

وقوله (اذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف) ظاهر في أن جواز الاسترضاع مشروط بهذا الامر فالمعنى ان استرضاع غير الام يجوز اذا سلمتم.. والكلام هنا في أن المراد التسليم لمن: الام او الظئر المسترضعة؟ وايضا ياتي الكلام في أن التسليم والايتاء امر واحد فما هو المراد؟

والظاهر أن المراد به تسليم الام ما يعطيها بالمعروف اي من الاجر المتعارف اي اجرة المثل فنفي الجناح عن استرضاع غير الام مشروط برفض الام الارضاع باجرة المثل.

ولعل التصريح بالتسليم للتاكيد على أن المبرر لترك استئجار الام سواء كانت مطلقة ام زوجة هو رفضها بعد تسليم الاجرة لا مجرد الاتفاق على اجرة محددة لان الايتاء ربما يصدق بتعيين الاجرة وان لم يسلمها. وقيل: المراد بالاتيان ارادته.

وقيل ان المراد اذا سلمتم الظئر المستأجرة اجرتها بالمعروف بمعنى ان يكون التسليم بالمعروف فلا يكون فيه تحقير لها او مماطلة في الدفع حين الاعطاء.

والغرض من ذلك - بناءا على هذا القول – الاطمئنان من سلامة الطفل لان المرأة المستأجرة للرضاع اذا لم تكن راضية بطيب نفسها فانها ربما تؤذي الطفل او لا ترضعه في الوقت المناسب بل ربما يؤثر عدم رضاها في طبيعة اللبن فجواز الاسترضاع مشروط بالتسليم على النحو المتعارف.

 

وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (233)

ومناسبة الامر بالتقوى واضحة فكثير من الناس لا يهمهم الا المال او لا يراعون حقوق الزوجة والطفل والمرضعة للمعاندة التي تحصل بين الناس في مثل هذه الموارد. وحيث ان الامر مخفي عن الناس غالبا فالذي يضمن سلامة المعاملة بينهم ويضمن سلامة الطفل الصغير الذي لا يتمكن من تحصيل حقه هو التقوى والخوف من غضب الله وعذابه.

ولكنه هنا لا يعلل الحكم بان الله تعالى يعلم نياتكم وسرائركم كما في مثل قوله تعالى (وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ)[26] لان الغرض هنا لا يتعلق بالنيات والسرائر بل باصل العمل وان لم يكن بقصد الاطاعة والتقرب الى الله تعالى.

ولذلك وصفه تعالى بالبصير اي انه يرى اعمالكم وقد اشرنا سابقا الى التاثير النفسي لهذا الوصف فلا ينبغي ان يأول بالعلم بالمبصرات لان هذا الوصف يوحي الى الانسان ان هناك عينا عليه لا يشعر بها وان الله تعالى حاضر عنده ويبصر اعماله. 

 


[1] من لا يحضره الفقيه ج 3 ص 501

[2] البقرة : 183

[3] الاسراء : 39

[4] صحيح البخاري ج 6  ص 133 كتاب النكاح

[5] البقرة : 230

[6] الانفال : 67

[7] مر البحث عن هذه الجملة بشيء من التفصيل في تفسير الاية 196 من هذه السورة المباركة

[8] راجع عمدة القاري ج 7 ص 236 وتفسير القرطبي ج 2 ص 86 وتاريخ المدينة للنميري ج2 ص 716 وغيرها

[9] الطلاق : 6

[10] تهذيب الاحكام ج 8 ص 105 باب الحكم في اولاد المطلقات

[11] الكافي ج 6 ص 41 باب الرضاع

[12] التبيان ج 2 ص 256

[13] الاحقاف : 15

[14] الطلاق : 6

[15] الكافي ج6 ص 45 باب من احق بالولد

[16] لقمان : 14

[17] الاحقاف : 15

[18] الظلاق : 6

[19] الطلاق : 7

[20] البقرة : 184

[21] هذه الكلمة وردت في تفسير العياشي (ممن) وحذفت في بعض الكتب الفقهية مما يدل على عدم الوثوق بها

[22] الكافي ج 6 ص 103 باب نفقة الحبلى المطلقة

[23] بحار الانوار ج 2 ص 63

[24] زبدة البيان ص 560

[25] الانفال : 61

[26] المائدة : 7