حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (238)
الكلام هنا في مناسبة هاتين الايتين المرتبطتين بالصلاة لما قبلهما وما بعدهما وهي كلها آيات تتحدث عن الطلاق والرضاع وعدة الوفاة ونحوها من احكام الزوجية.
وكثير من المفسرين لم يتعرضوا لهذا الامر ولكن ذكر بعضهم وجوها للمناسبة:
فمما قيل في ذلك ان الغرض منه التنبيه على عدم الاشتغال بامور النساء عن الصلاة.
وقيل انه للجمع بين التعظيم لامر الله تعالى والامور الاجتماعية.
وقيل انه من اجل تحفيز المخاطبين لتطبيق الاحكام السابقة عن طريق حثهم على الصلاة التي تنهى عن الفحشاء والمنكر.
وقيل انه للايحاء بأن الطاعة لله في كل هذا عبادة كعبادة الصلاة ومن جنسها. وقيل غير ذلك.
ولكن لم يثبت لزوم التناسب بين الايات خصوصا في مثل هذه السورة التي تحتوي على احكام وامور متفرقة ونزلت اياتها في مناسبات متباعدة فلا مانع من نزول هاتين الايتين في المدة الفاصلة بين الاية السابقة واللاحقة لكون الحكم موردا للابتلاء في هذا الفاصل. هذا على افتراض ان يكون ترتيب الآيات حسب ترتيب النزول مع انه غير ثابت بل الثابت خلافه.
مضافا الى انه لم يثبت لنا بوضوح ما يقال من ان ترتيب آيات السور انما هو بالوحي او بامر خاص من الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بل لم يثبت لنا ان ترتيب الجمل في الآية الواحدة ايضا تم بالوحي او بامره صلى الله عليه وآله وسلم كما نبهنا عليه في تفسير قوله تعالى (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا).[1] وسيأتي القول بالنسخ في بعض الآيات الاتية بالايات السابقة مع انه غير معقول لو كانت تنزل بالترتيب.
ولذلك فنحن في غنى عن توجيه هذا النظم الموجود وانما يجب علينا جميعا الالتزام به وعدم التغيير حتى لا يصبح تغيير القران سيرة متبعة.
وفسر بعضهم - كما في المفردات - المحافظة بانها بمعنى انك تحفظ الصلاة وهي تحفظك عن الفحشاء والمنكر وذلك لان باب المفاعلة للدلالة على كون الفعل بين الطرفين كالمقاتلة والمضاربة ونحوهما.
ولو تم ذلك لكان الصحيح ان ينسب الفعل اليهما فيقال وحافظوا الصلوات من دون التعدية بالحرف. ولكنه غير صحيح كما هو واضح. وباب المفاعلة لا يختص به كما في سافر وهاجر.
ولكن يبقى السؤال عن الفرق بينها وبين الامر بالحفظ. والظاهر أن في المحافظة معنى اخر غير الحفظ قال في العين (والمحافظة المواظبة على الامور من الصلوات والعلم وغيرها). ولعلها تشمل المحافظة على شروط الصحة والكمال من الوقت والقبلة والطهارة والتوجه والطمأنينة ونحو ذلك.
انما الكلام هنا في المراد بالصلاة الوسطى وقد اختلف فيه الى اقوال كثيرة وغريبة ونحن لا نرى ضرورة للبحث لان الوارد في رواياتنا ان المراد بها صلاة الظهر.
روى الكليني قدس سره بسند صحيح عن زرارة عن ابي جعفر الباقر عليه السلام في حديث قال (وقال تعالى "حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى" وهي صلاة الظهر وهي أول صلاة صلاها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهي وسط النهار ووسط الصلاتين بالنهار صلاة الغداة وصلاة العصر وفي بعض القراءة "حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى صلاة العصر وقوموا لله قانتين" قال: ونزلت هذه الآية يوم الجمعة ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في سفره فقنت فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتركها على حالها في السفر والحضر..).[2] ورواه الصدوق والشيخ ايضا بسند صحيح.[3] وهناك روايات اخرى ايضا تدل على ذلك.[4]
ويلاحظ ان الحديث علل التسمية بكونها وسط النهار ووسطا بين صلاتي النهار الغداة اي صلاة الفجر والعصر.
وقوله (وفي بعض القراءة..) يحتمل ان يكون من كلام الراوي وان كان جمع من فقهائنا يرجحون كونه من كلام الامام عليه السلام.
ولكن هناك اختلاف في نسخ الحديث ففي بعضها (حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر) وفي بعضها بدون الواو كما يلاحظ في النص الذي نقلناه فان كانت مع الواو فالامام عليه السلام يستشهد بها على كون المراد بالوسطى صلاة الظهر لان العطف يدل على أن صلاة العصر غير الصلاة الوسطى وان كانت بدونها فالامام يذكرها لبيان احتمال الخلاف لان الجملة بدون حرف العطف تدل على ان الوسطى هي العصر وهو بكلا شقيه يستبعد ان يكون من الامام عليه السلام.
وهذه القراءة منقولة في كتب العامة ففي صحيح مسلم (عن أبي يونس مولى عائشة أنه قال امرتني عائشة ان اكتب لها مصحفا وقالت إذا بلغت هذه الآية فأذني حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى فلما بلغتها آذنتها فأملت عليّ حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر وقوموا لله قانتين قالت عائشة سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم).[5]
وبناءا على هذه الرواية فالصلاة الوسطى لا تنطبق على صلاة العصر كما يقول اكثر علماء العامة الا ان قبول هذه الرواية ينافي ما اتفقنا عليه من عدم وجود اي تحريف في القران الكريم فان سقوط هذه الكلمة لا يمكن ان يعد من اختلاف القراءة.
واغرب منها ما رواه مسلم بعد هذا الحديث مباشرة عن شقيق بن عقبة عن البراء بن عازب قال (نزلت هذه الآية حافظوا على الصلوات وصلاة العصر فقرأناها ما شاء الله ثم نسخها الله فنزلت حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى فقال رجل كان جالسا عند شقيق له هي اذن صلاة العصر فقال البراء قد أخبرتك كيف نزلت وكيف نسخها الله والله أعلم).[6]
ولا اعلم كيف يمكن الجمع بين الحديثين؟! وكيف يمكن القول بصحتهما معا؟! مضافا الى عدم تعقل نسخ القراءة.
وروى البيهقي في سننه روايتين كالرواية السابقة عن عائشة الا انهما عن حفصة كما روى عن ابن عباس انه قرأ الآية هكذا اي وصلاة العصر.[7]
والروايات في هذا الموضوع من طرق القوم كثيرة جدا رواها الطبري في جامع البيان فمنها ما تفسرها بالعصر ومنها ما تفسرها بالظهر ومنها ما تفسرها بصلاة الصبح ومنها غير ذلك.
ومهما كان فالمعول عليه عندنا رواياتنا الصحيحة عن ائمة اهل البيت عليهم السلام والعامة نسبوا الى امير المؤمنين عليه السلام انها صلاة العصر ولكن رايه لا يؤخذ الا من اهل بيته.
واستشهد بعض الفقهاء بهذه الآية على كون صلاة الظهر أهم من سائر الصلوات لان الله تعالى أكد عليها بوجه خاص.
وهذا امر محتمل ولكن يحتمل ايضا ان يكون الوجه في تخصيص ذكرها ان الناس غالبا ينشغلون في هذا الوقت باشغالهم في التجارة وغيرها من الاعمال ولا يحضرون الجماعة او يؤخرون الصلاة عن وقت فضيلتها فالتأكيد من هذه الجهة وليس بسبب خصوصية في هذه الصلاة.
وقوموا لله قانتين.. الظاهر ان هذه الجملة اشارة الى القيام في الصلاة ومنه يظهر ان القيام في الصلاة من اركانها ومن فرائض الله تعالى وان الاصل في الصلاة ان تكون عن قيام فلا يجزي الجلوس الا في حالات الضرورة.
ولعل فيه اشارة الى صلاة الجماعة حيث خاطب الجمع وأمرهم بالقيام حال كونهم قانتين. واللام في قوله (لله) لام الغرض اي قوموا لامتثال امر الله تعالى ويمكن ان يتعلق بالقنوت اي قوموا قانتين لله.
والقنوت: الطاعة. والظاهر ان المراد هنا هو الخضوع ومنه القنوت في الصلاة وهو الدعاء. ومنه يظهر ان روح الصلاة هو الخضوع والخشوع لله تعالى. ويقال ان هذه الآية لما نزلت التزم المؤمنون بالسكوت والتوجه وعدم الالتفات في الصلاة.
فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (239)
هذه الآية تدل على اهمية الصلاة وانها لا تسقط بحال حتى في حال الخوف. والحكم في هذه الآية لا يختص بالخوف من العدو ولا يختص بالحرب كما في التحرير والتنوير بل حتى لو خاف من سبع او لص وسيأتي الحديث الدال عليه ان شاء الله تعالى.
وقد ورد ذكر صلاة الخوف من العدو وفي حال الحرب بالتفصيل في قوله تعالى (وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ..).[8]
فالغرض من هذه الآية ان الانسان اذا لم يتمكن من الاتيان بالصلاة مستقرا على الارض مع رعاية كل الشرائط في ركوعه وسجوده وقيامه يصلي وهو متحرك اما راجلا او راكبا فتسقط هذه الشروط في هذا الحال.
روى الكليني قدس سره بسنده عن عبد الرحمن بن أبي عبد الله قال (سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قول الله عز وجل "فإن خفتم فرجالا أو ركبانا" كيف يصلي؟ وما يقول؟ إذا خاف من سبع أو لص كيف يصلي؟ قال : يكبّر ويؤمي إيماء برأسه).[9] وفي الباب عدة روايات.
والرجال جمع راجل وهو في مقابل الراكب. والركبان جمع راكب. وهما حالان اي فان خفتم فصلوا حال كونكم راجلين او راكبين. والفاء في (فان خفتم) تفريع على شرطية القيام في الآية السابقة. والفاء في (فاذا امنتم) تفريع على (فان خفتم).
ومعنى قوله (فاذا أمنتم..) ان الحكم بجواز الصلاة في حال المشي راجلا او راكبا خاص بحال الخوف ولا يعني ذلك جواز الصلاة بهذه الكيفية مطلقا لان الجملة الاولى ربما توهم جواز الصلاة مطلقا في حال المشي بمعنى ان لا يكون الحكم خاصا بحال الخوف وليس كذلك بل يجب في غير حال الخوف ان يكون ذكره تعالى وهو كناية عن الصلاة كما علمنا الله تعالى اي بتمام شروطها ومنها القيام والاستقرار والركوع والسجود بشروطهما.
فقوله (كما علمكم) صفة لمفعول محذوف اي اذكروه ذكرا مماثلا لما علمكم وهو طريقة الصلاة في الحالات الاعتيادية. ومثل ذلك ورد في بيان صلاة الخوف في قوله تعالى (فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا).[10]
وقيل ان المراد بقوله (فاذكروا الله..) ذكره تعالى بوجه عام وشكره على ما علمنا من كيفية الصلاة حال الخوف وعليه فالكاف في قوله (كما علّمكم) للتعليل.
وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (240)
الكلام في هذه الاية يعود الى حقوق المرأة والموضوع هنا المرأة المتوفى عنها زوجها وقد مرّ في تفسير الاية 234 بعض الكلام حول هذا العنوان اي (الذين يتوفون منكم ويذرون ازواجا) ودلّت تلك الآية على أن عدتها اربعة اشهر وعشرة ايام وفي هذه الآية ورد الامر بالوصية لهن بان يمتّعهن الوارث حولا كاملا من بعد الوفاة وان لا يخرجهن من بيته.
فقوله (وصية) مفعول لفعل مقدر اي يوصون وصية لازواجهم او ليوصوا وصية.. والوصية بمعنى الموصى به وقرئت بالرفع ايضا وعليها فالتقدير فعليهم وصية.. ومعنى الجملة طلب الايصاء لهن قبل ان يتوفى الزوج فالتعبير بالذين يتوفون من باب المشارفة.
و(متاعا) مفعول الوصية او منصوب بنزع الخافض اي وصية بمتاع والمراد به ما تتمتع به المراة من مال الى حول كامل. وظاهر الآية وجوب هذه الوصية.
وقوله (غير اخراج) بدل عن (متاعا) وهو مصدر مؤكِّد للمتاع لان المتاع الى الحول يستلزم عدم الاخراج ومثله كثير كقوله تعالى (مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ).[11]
والمشهور أن هذه الآية منسوخة بآية العدة وآية الميراث فقوله تعالى (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا..)[12] ينسخ حكم بقائهن حولا في بيت زوجها وانما كان هذا إبقاءا على عادة العرب قبل ذلك حيث كانت المرأة تبقى في الحداد سنة كاملة وتحت قيود صعبة في بيت الزوج. والآية المذكورة حددت عدتها اربعة اشهر وعشرة ايام فنسخت حكم هذه الآية.
وآية الميراث اي قوله تعالى (وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ..)[13] تنسخ وجوب الايصاء لهن بالامتاع الى الحول خصوصا على مذهب العامة لما رووه في صحاحهم من انه لا وصية لوارث.
ومن الغريب ان بعض مفسرينا وفقهائنا ايضا صرحوا بالنسخ وقال العلامة الطباطبائي قدس سره (وتعريف الحول باللام لا يخلو عن دلالة على كون الآية نازلة قبل تشريع عدة الوفاة أعني الأربعة أشهر وعشرة أيام فإن عرب الجاهلية كانت نساؤهم يقعدن بعد موت أزواجهن حولا كاملا فالآية توصي بأن يوصي الأزواج لهن بمال يتمتعن به إلى تمام الحول من غير إخراجهن من بيوتهن).
وغرضه ان الالف واللام في الحول للعهد فالمراد به الحول المعهود بكونه غاية للحداد لدى العرب الجاهلي. وورد مثل ذلك ايضا في التحرير والتنوير.
ولكن الظاهر أن المراد الى الحول بعد وفاة الزوج فهو عهد ذهني يستدعيه السياق. ومن المستبعد جدا ان يكون المراد الى الحول الذي اعتبره العرب الجاهلي عدة لها.
وهناك اشكال على القول بالنسخ وهو ان هذه الآية متأخرة عن الاية الناسخة في ترتيب القران ولا يلاحظ ما يستوجب التاخير مع كونها منسوخة لان النسخ يستلزم ان يكون الناسخ متاخرا في النزول فما الموجب لتغيير الترتيب في السورة الواحدة؟!
واجاب عنه في الكشاف بانه يشبه تأخر قوله تعالى (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا..)[14] عن قوله (سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا..)[15] فان ترتيب مضمون الآيات يقتضي العكس لان الاولى هي التي نسخت حكم القبلة والمناسب أن تكون قوله (سيقول السفهاء..) نزلت بعد الاية الاولى لانه قول مترتب على النسخ ولكنها وردت في المصحف بعد آيتين.
ولكن لهذا التأخير سبب وقلنا في موضعه إن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كان يطلب تبديل القبلة في اكثر من مقام كما هو واضح من قوله (قد نرى تقلب وجهك..) ولعله كان موضع اهتمام في اوساط المسلمين ايضا فهذا التقديم للاشارة الى ما سوف يحدثه هذا الحكم من الاستياء لدى المناوئين فقدّمه الله تعالى ليكون المجتمع على اهبة الاستعداد لمواجهته. ولا موجب هنا لتقديم الآية الناسخة على الاية المنسوخة.
هذا مضافا الى ان اية تعيين العدة لا تنافي هذه الآية لتكون ناسخة لحكمها فهنا لم تذكر لها عدة وانما فرضت لها وصية بالتمتيع الى اخر الحول ولا يدل ذلك على ان عدتها لا تنتهي الا بعد الحول كما كانوا يرونه في الجاهلية ومن الغريب ما في بعض الكتب الفقهية من استظهار ذلك من الاية الكريمة لتكون الاية الاخرى ناسخة.
قال فخر الدين الحلي قدس سره (نزلت عدة الوفاة مخالفة لعدة الطلاق في قوله تعالى والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول غير اخراج ثم نسخ بقوله تعالى والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا).[16] وكذلك قال الشهيد قدس سره في المسالك.[17]
بل الظاهر أن الاية الاولى مكملة لحكم هذه الاية لان ظاهر قوله تعالى (فان خرجن فلا جناح عليكم..) جواز خروجها وزواجها اثناء الحول وانها ليست ملزمة بقبول الوصية مع انه لا يجوز لها الزواج في العدة سواء اوصى الزوج لها ام لم يوص فهذه الآية لا تبين عدتها ولا بد من ضم الاية الاولى.
وقيل ان المراد خروجها بعد الحول مع أن هذا لا حاجة الى ذكره اذ لا شبهة فيه حتى في التقاليد العربية وانما هو توضيح لقوله (غير إخراج) وبيان لعدم كونه ملزما لها.
والحاصل ان مضمون هذه الآية امر الازواج بان يوصوا الورثة ان لا يخرجوا المراة من بيتها الى سنة حتى تدبر امرها فليست كل امراة لها اولاد او لها ملجأ تلجأ اليه وهذا لا علاقة له بالعدة اصلا فهي تجب عليها التربص بنفسها في العدة من اجل الزواج كما يجب عليها الحداد حسبما ورد في الروايات.
واما نسخ اية الميراث لهذه الآية فهو انما يتم على مبنى القوم حيث رووا انه لا وصية لوارث واما نحن فلا نقول به ورواياتنا تنفي هذا الحكم.[18]
بل لا يصح حتى على قولهم فلو صحت الرواية لكانت هي الناسخة لهذه الآية لو جاز نسخ الاية بالرواية وليست اية الميراث ناسخة اذ لا منافاة بين الارث وجواز الوصية وقد قال تعالى (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ).[19]
بل يمكن ان يقال ان هذه الآية تخصص حكم الحديث لو صح سنده فيحكم بصحة الوصية في هذا المورد حتى لو منعنا عنها في غيره.
وانا استغرب جدا من تساهل المفسرين بل الفقهاء في الحكم بنسخ الآية مع انه لا موجب له اساسا.
واستند بعضهم في القول بالنسخ الى الروايات العديدة واجماع العلماء.[20]
اما الاجماع فليس حجة على شيء حتى لو ثبت مع انه غير ثابت ونسخ هذه الاية غير مذكورة في الكتب الفقهية الا نادرا وصرح بعضهم ان الالتزام بالنسخ انما هو على افتراض دلالة الآية على كون العدة الى سنة.
قال في الجواهر (ولا ينافيه قوله تعالى "والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول" بناء على أن المراد منها الاعتداد بالسنة لأنها حينئذ منسوخة بالأولى).[21] وقد بينا ان الآية لا تدل على ذلك بل على امر آخر زائد على العدة.
واما الروايات فهي مروية في كتب التفسير ولم ترد رواية واحدة في كتب الحديث المعتبرة حتى مرسلا ففي تفسير العياشي روايتان مرسلتان ورد فيهما التصريح بالنسخ وفي تفسير القمي ورد الحكم بالنسخ من دون استناد الى حديث. وروى في الوسائل[22] رواية مرسلة عن تفسير النعماني بنفس المضمون فهي في المجموع ثلاث روايات مرسلة.
وقوله (فان خرجن..) نظير قوله تعالى (فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ..)[23] وما ذكرناه هناك يأتي هنا ايضا. ولا فرق بينهما الا في التعبير عما يجوز فعله هناك بقوله (بالمعروف) وهنا (من معروف). والمعنى واحد ومن بيانية.
والله عزيز حكيم.. عزيز اي غالب على امره وفي هذا نوع من التهديد ولعله يناسب كون الحكم الزاميا سواء الحكم بالايصاء او بعدم التعرض لهن فيما يفعلن في انفسهن من معروف بعد العدة وهو حكيم فما يصدر من احكامه تتبع المصالح المترتبة وليست جزافا.
وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (241)
مرّ الامر بتمتيع المطلقة في الاية 236 والحكم هناك خاص بالمطلقة غير المدخول بها وغير المفروض لها مهرا ولكن الحكم هنا عام لجميع المطلقات وهناك اعتبره حقا على المحسنين وهنا على المتقين.
فتبين بذلك ان الاية لم تتكرر ولو فرض التكرار فلا يستبعد ايضا اذ يدل على اهمية الحكم ولعل الحكمة في الاهتمام به ان الله تعالى يعتبر المؤمنين اخوة فيجب ان لا يوجب الطلاق والانفصال بين الزوجين فجوة في العلاقات بين الاسرتين او بين الشخصين بل تبقى علاقة الاخوة بين المؤمنين باقية فحكم الشارع بدفع المتاع بعد الطلاق كرمز لابقاء العلاقة.
وظاهر الآية الوجوب خصوصا بملاحظة انه تعالى اعتبره حقا على المتقين فالتعبير بكونه حقا عليهم صريح في الوجوب كما أن اللام في قوله (وللمطلقات) تدل على أن هذا حق ثابت لهن بل قيل انها للملكية ولكن الظاهر انها للاختصاص.
وقال العلامة الطباطبائي قدس سره (وتعليق ثبوت الحكم بوصف التقوى مشعر بالاستحباب). وقد مر مثل ذلك في الاية السابقة ولكن لو فرض صحة ما قال في التعليق على وصف الاحسان كما في الاية السابقة فلا يصح هنا قطعا لان التقوى واجبة وليست كالاحسان.
ولذلك ورد في تفسير الطبري (قال ابن زيد في قوله "ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره متاعا بالمعروف حقا على المحسنين" فقال رجل: فإن أحسنت فعلت وإن لم أرد ذلك لم أفعل! فأنزل الله "وللمطلقات متاع بالمعروف حقا على المتقين".
وهذا يدل على ان الرجل حمل الاية الاولى على الاستحباب فنزلت الثانية لتدل على الوجوب. ولا نقصد بذلك الاستدلال بهذا النقل على الحكم بل على فهم المعنى من اللفظ.
ولكن اكثر فقهائنا ذهبوا الى الاستحباب وقيل انه اجماعي وان الوجوب خاص بما ذكر في تلك الاية واستدل بعضهم في الفقه ببعض الروايات وبعضهم بان الاية السابقة تقيد هذه الآية.
ومما استدل به على الاستحباب رواية الحفص بن البختري عن أبي عبد الله عليه السلام (في الرجل يطلق امرأته أيمتعها؟ قال: نعم أما يحب أن يكون من المحسنين أما يحب أن يكون من المتقين؟).[24]
وجه الاستدلال انه عليه السلام علل الحكم بالامتاع بقوله ألا يحب.. ومعنى ذلك انه ليس واجبا وانما يفعله من يحب ان يكون من المتقين والمحسنين.
والصحيح ان هذه الرواية لا تنافي الوجوب نعم لو لم يكن وجه له الا هذه الرواية لم يمكن الاستدلال بها على الوجوب والا فمجرد الحثّ على فعل لترتب اثر مطلوب عليه لا يدل على نفي الوجوب كما هو واضح والمفروض ان الاية بنفسها تدل عليه.
واما الاجماع كما في الجواهر وغيره فلا يدل على شيء مع انه مما لا يمكن اثباته خصوصا في مسالة لم يتعرض لها الجميع وخصوصا مع بيان المستند في اقوالهم فالمناط هو المستند والروايات مختلفة وتفصيل البحث عن الموضوع في الفقه.
كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (242)
(كذلك) اشارة الى ما اشتملت عليه الايات السابقة من طريقة بيان الاحكام الشرعية اي بهذه الطريقة وبهذا النحو يبين الله آياته لكم حتى تعقلوا.
ولعل المراد بالطريقة الخاصة انه تعالى لا يبين الاحكام كما نفعله من سرد القوانين وبيان الوظائف بل يبينها بطريقة توجب ترسيخ التقوى في النفوس وتؤثر في قلوب الناس وتجعلها خاشعة لله تعالى فالاهتمام في التشريع الالهي ليس بنفس العمل بالقانون كما هو هدفنا بل المهم تربية الانسان ليكون صالحا لدخول الجنة ونيل رضوان الله تعالى والوصول الى غاية الكمال البشري.
والعقل في اصل اللغة بمعنى الحبس ومنه عقال البعير يقال لما تربط به يداه. ويطلق ايضا على ما يمنع الانسان من السفاهة والطيش والعمل الباطل ويقابله الجهل ويطلق العقل ايضا على إدراك الانسان للحقائق لانه يحبسها في ذهنه ويستخدمها لمعرفة المزيد من حقائق الكون.
ولكن الظاهر ان المراد بالعقل هنا ليس هو ادراك هذه الاحكام فانه يترتب على بيانها باي نحو كان بل المراد الادراك والعمل وهو ايضا نوع من التعقل فان العقل كما قلنا بمعنى الحفظ والحبس.
وادراك الاوامر الالهية والارشادات قد يكون بمجرد معرفتها وهذا نوع من الحفظ وقد يكون بنحو يؤثر في حياة الانسان ونشاطه وهذا نوع اخر من التعقل والحبس. ولعل هذا هو المقصود من طريقة بيانه تعالى للاحكام.
وهذا هو الذي يعبر عنه في القرآن بالذكر ويقابله النسيان مع ان التارك لوظائفه الشرعية قد لا يكون جاهلا بالحكم ولا ناسيا له بل ربما يكون عارفا بها متذكرا لها وربما يكون أعلم من الانسان الملتزم بدينه ولكنه ينساها بمعنى انه لا يتاثر بها في حياته العملية.
فقوله تعالى (لعلكم تعقلون) يظهر منه ان الانسان بعيد عن مرحلة التعقل وان الله تعالى يهدف في طريقة بيانه لايات الاحكام ان يحثه على التعقل ويظهر منه ايضا ان هذا البيان يمهد الطريق للتعقل ولذلك اتى بما يقال انها للترجي وهي كلمة (لعل) فانتم لا تعقلون ولكن بهذا البيان يرجى لكم التعقل وهذه مرحلة وراء إدراك الحكم وحفظه وهي مرحلة العمل.
[1] الاحزاب : 33
[2] الكافي ج 3 ص 272 باب فرض الصلاة
[3] من لا يحضره الفقيه ج 1 ص 195 وتهذيب الاحكام ج 2 ص 241
[4] راتجع وسائل الشيعة ج 4 ص 22 باب وجوب المحافظة على الصلاة الوسطى وتعيينها
[5] صحيح مسلم ج 2 ص 112
[6] نفس المصدر
[7] السنن الكبرى للبيهقي ج 1 ص 461
[8] النساء : 102 - 103
[9] الكافي ج3 ص 457 باب صلاة الخوف
[10] النساء : 103
[11] النساء : 24
[12] البقرة : 234
[13] النساء : 12
[14] البقرة : 144
[15] البقرة : 142
[16] ايضاح الفوائد ج 3 ص 336
[17] مسالك الافهام ج 9 ص 271
[18] راجع وسائل الشيعة ج 19 ص 287 باب جواز الوصية لوارث
[19] البقرة : 180
[20] تفسير نمونه ج 2 ص 214
[21] جواهر الكلام ج 32 ص 274
[22] راجع وسائل الشيعة ج 22 ص 237
[23] البقرة : 234
[24] الكافي ج 6 ص 105