مكتب سماحة السيد مرتضى المهري

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (243)

الاستفهام هنا في الاصل للتقرير والمراد بالرؤية ما يعم العلم بسبب الاخبار الواصلة فالمعنى في الاصل انك ايها المخاطب تعلم بهذه القصة. ولكن ربما يخاطب بنفس الخطاب من لا يعلم به كما هو الحال في هذا المورد. والمراد في هذا الحال انشاء التعجيب اي ألا تعجب من هذا الحادث؟!

و(تر) مضارع مجزوم من (ترى) والاصل فيها (ترأى) ولكن العرب يحذفون الهمزة في المستقبل ويبقونها في الماضي ويقولون (رأى).

والرؤية تتعدى بنفسها وانما تعدت هنا بالحرف لانها بمعنى العلم او ما يشمله اي ألم ينته علمك الى الذين خرجوا.. فتتعجب من حالهم والتعبير بالرؤية عن العلم قد يكون لوضوحه وان كان خبرا مرويا وقد يكون لاستحضار الحال فكأنّ الحادث أمامه وهو يراهم.

ويمكن ان تكون الرؤية بتضمين معنى النظر اي ألم تنظر اليهم والتعبير بالنظر مع ان القصة قديمة من باب استحضار الحال كما مر.

وقوله (وهم الوف) حال والالوف جمع ألف وهو العدد المعروف ولا علاقة له بالإلف بكسر الهمزة كما توهمه بعضهم.

ولكن هناك قول بأن المراد به ليس العدد. قال الشيخ الطوسي قدس سره في التبيان (وقال ابن زيد معناه هم مؤتلفوا القلوب لم يخرجوا عن تباغض). ويبدو أن هذا القائل استبعد خروج هذا العدد من الناس وموتهم معا.

وفي بعض التفاسير ومنها التبيان انه جمع كثرة قال الشيخ قدس سره (والذي يقضي به الظاهر أنهم أكثر من عشرة آلاف لان بناء فعول للكثير وهو ما زاد على العشرة فأما ما نقص فيقال فيه آلاف على وزن أفعال نحو عشرة آلاف ولا يقال عشرة ألوف).

وقوله (حذر الموت) مفعول لاجله اي لحذرهم من الموت. وقوله (فموتوا) امر تكويني كقوله تعالى (يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)[1] فهذا لا يمكن ان يكون خطابا لشيء اذ المفروض انه غير موجود وانما يوجد بهذا الامر وهو في الواقع ليس امرا بالمعنى اللغوي وانما هو يحكي عن ارادته تعالى وارادته فعله فالمراد بهذه الكلمة انه أماتهم. وانما استخدم هذا التعبير لبيان أن ذلك لم يكن بموت طبيعي ليكون تدريجيا بل بامر من الله تعالى فماتوا باجمعهم دفعة واحدة.

والمشهور في التفاسير ان الاية تشير الى قصة واقعية وليست تمثيلا كما قيل ففي تفسير ابن كثير (وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ قَالَ: هَذَا مَثَلٌ)[2] وأكد عليه في المنار واستحسنه بعض اخر وردّ عليه جمع آخر منهم العلامة قدس سره في الميزان.

وقد وردت القصة في روايات كثيرة عن طرق العامة ووردت ايضا في الكافي الشريف بسند فيه ارسال وضعف تارة عن الامام الباقر واخرى عن الامام الصادق عليهما السلام (في قول الله عز وجل "ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم" فقال: إن هؤلاء أهل مدينة من مدائن الشام وكانوا سبعين ألف بيت وكان الطاعون يقع فيهم في كل أوان فكانوا إذا أحسوا به خرج من المدينة الأغنياء لقوّتهم وبقي فيها الفقراء لضعفهم فكان الموت يكثر في الذين أقاموا ويقلّ في الذين خرجوا فيقول الذين خرجوا لو كنا أقمنا لكثر فينا الموت ويقول الذين أقاموا: لو كنا خرجنا لقلّ فينا الموت قال: فاجتمع رأيهم جميعا أنه إذا وقع الطاعون فيهم وأحسّوا به خرجوا كلهم من المدينة فلما أحسّوا بالطاعون خرجوا جميعا وتنحّوا عن الطاعون حذر الموت فساروا في البلاد ما شاء الله ثم إنهم مروا بمدينة خربة قد جلا أهلها عنها وأفناهم الطاعون فنزلوا بها فلما حطوا رحالهم واطمأنوا بها قال الله عز وجل: موتوا جميعا فماتوا من ساعتهم وصاروا رميما يلوح وكانوا على طريق المارة فكنستهم المارة فنحوهم وجمعوهم في موضع فمر بهم نبي من أنبياء بني إسرائيل يقال له حزقيل فلما رأى تلك العظام بكى واستعبر وقال: يا رب لو شئت لأحييتهم الساعة كما أمتّهم فعمّروا بلادك وولدوا عبادك وعبدوك مع من يعبدك من خلقك فأوحى الله تعالى إليه: أفتحب ذلك قال: نعم يا رب فأحيهم قال: فأوحى الله عز وجل إليه أن قل كذا وكذا فقال الذي أمره الله عز وجل أن يقوله - فقال أبو عبد الله عليه السلام: وهو الاسم الأعظم - فلما قال حزقيل ذلك الكلام نظر إلى العظام يطير بعضها إلى بعض فعادوا أحياءا ينظر بعضهم إلى بعض يسبحون الله عز ذكره ويكبرونه ويهللونه فقال حزقيل عند ذلك: أشهد أن الله على كل شئ قدير. قال عمر بن يزيد: فقال أبو عبد الله عليه السلام: فيهم نزلت هذه الآية).[3]

وروى الصدوق رحمه الله رواية محاجّة الامام الرضا عليه السلام مع بعض النصارى وفيها (فمتى اتخذتم عيسى ربا جاز لكم ان تتخذوا اليسع وحزقيل ربا.. لأنهما قد صنعا مثل ما صنع عيسى بن مريم عليه السلام من احياء الموتى وغيره وان قوما من بني إسرائيل خرجوا من بلادهم من الطاعون وهم ألوف حذر الموت فأماتهم الله في ساعة واحدة فعمد أهل تلك القرية فحظروا عليهم حظيرة فلم يزالوا فيها حتى نخرت عظامهم وصاروا رميما فمر بهم نبي من أنبياء بني إسرائيل فتعجب منهم ومن كثرة العظام البالية فأوحى الله عز وجل إليه: أتحب ان أحييهم لك فتنذرهم؟ قال: نعم يا رب فأوحى الله عز وجل إليه ان نادهم فقال: أيتها العظام البالية قومي بإذن الله عز وجل فقاموا احياء أجمعون ينفضون التراب عن رؤوسهم..)[4] والرواية ضعيفة ومرسلة.

وفي تفسير العياشي روى مرسلا عن حمران بن أعين عن أبي جعفر عليه السلام قال (قلت له حدثني عن قول الله "ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم" قلت: أحياهم حتى نظر الناس إليهم ثم أماتهم من يومهم أو ردهم إلى الدنيا حتى سكنوا الدور وأكلوا الطعام ونكحوا النساء؟ قال: بل ردهم الله حتى سكنوا الدور وأكلوا الطعام ونكحوا النساء ولبثوا بذلك ما شاء الله ثم ماتوا بآجالهم).[5]

وروى الطبري في جامع البيان عن وهب بن منبه أنه قال (أصاب ناسا من بني إسرائيل بلاء وشدة من الزمان فشكوا ما أصابهم وقالوا: يا ليتنا قد متنا فاسترحنا مما نحن فيه! فأوحى الله إلى حزقيل: إن قومك صاحوا من البلاء وزعموا أنهم ودوا لو ماتوا فاستراحوا وأي راحة لهم في الموت؟ أيظنون أني لا أقدر أن أبعثهم بعد الموت؟ فانطلق إلى جبانة كذا وكذا فإن فيها أربعة آلاف قال وهب: وهم الذين قال الله: "ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت" فقم فيهم فنادهم وكانت عظامهم قد تفرقت فرقتها الطير والسباع فناداهم حزقيل فقال: يا أيتها العظام إن الله يأمرك أن تجتمعي! فاجتمع عظام كل إنسان منهم معا ثم نادى ثانية حزقيل فقال: أيتها العظام إن الله يأمرك أن تكتسي اللحم فاكتست اللحم وبعد اللحم جلدا فكانت أجسادا. ثم نادى حزقيل الثالثة فقال: أيتها الأرواح إن الله يأمرك أن تعودي في أجسادك.. فقاموا بإذن الله وكبروا تكبيرة واحدة).

قال في المنار بعد ذكر روايتين في تفسير الاية (وَالرِّوَايَةُ الثَّالِثَةُ هِيَ أَنّ حِزْقِيلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَدَبَ قَوْمَهُ إِلَى الْقِتَالِ فَكَرِهُوا وَجَبُنُوا فَأَرْسَلَ اللهُ عَلَيْهِمُ الْمَوْتَ فَكَثُرَ فِيهِمْ فَخَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ فِرَارًا مِنْهُ فَدَعَا عَلَيْهِمْ نَبِيُّهُمْ فَأَرْسَلَ اللهُ الْمَوْتَ عَلَى الْخَارِجِينَ ثُمَّ ضَاقَ صَدْرُهُ فَدَعَا اللهَ فَأَحْيَاهُمْ وَلَكِنَّ هَذَا لَمْ يُذْكَرْ فِي نُبُوَّةِ حِزْقِيلَ مِنْ كُتُبِ الْعَهْدِ الْعَتِيقِ وَلَا فِي غَيْرِهَا).

ولكن ورد في العهد العتيق ما يمكن ان يكون منشأ لهذا القول وان تكون رواية الكافي ايضا اشارة اليه وكذا رواية الطبري وغيرها من روايات العامة قال حكاية عن حزقيال عليه السلام:

(كانت علي يد الرب فأخرجني بروح الرب وأنزلني في وسط البقعة وهي ملآنة
عظاما وأمرني عليها من حولها وإذا هي كثيرة جدا على وجه البقعة وإذا هي يابسة جدا فقال لي يا ابن آدم أتحيا هذه العظام فقلت يا سيد الرب أنت تعلم فقال لي تنبأ على هذه العظام وقل لها: أيتها العظام اليابسة اسمعي كلمة الرب هكذا قال السيد الرب لهذه العظام هأنذا أدخل فيكم روحا فتحيون وأضع عليكم عصبا وأكسيكم لحما وأبسط عليكم جلدا وأجعل فيكم روحا فتحيون وتعلمون أني أنا الرب فتنبأت كما أمرت وبينما أنا أتنبأ كان صوت وإذا رعش فتقاربت العظام كل عظم إلى عظمه ونظرت وإذا بالعصب واللحم كساها وبسط الجلد عليها من فوق وليس فيها روح فقال لي تنبأ للروح تنبأ يا ابن آدم وقل للروح هكذا قال السيد الرب هلم يا روح من الرياح الأربع وهب على هؤلاء القتلى ليحيوا فتنبأت كما أمرني فدخل فيهم الروح فحيوا وقاموا على أقدامهم جيش عظيم جدا جدا...).[6]

قال في المنار ما ملخصه (نَأْخُذ الْقُرْآنَ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ، لَا نُدْخِل فِيهِ شَيْئًا مِنَ الرِّوَايَاتِ الْإِسْرَائِيلِيَّةِ الَّتِي ذَكَرُوهَا وَالْمُتَبَادَرُ مِنَ السِّيَاقِ أَنَّ أُولَئِكَ الْقَوْمَ قَدْ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِسَائِقِ الْخَوْفِ مِنْ عَدُوٍّ مُهَاجِمٍ لَا مِنْ قِلَّتِهِمْ فَقَدْ كَانُوا أُلُوفًا أَيْ كَثِيرِينَ وَإِنَّمَا هُوَ الْحَذَرُ مِنَ الْمَوْتِ الَّذِي يُوَلِّدُهُ الْجُبْنُ فِي أَنْفُسِ الْجُبَنَاءِ... خَرَجُوا فَارِّينَ (فَقَالَ لَهُمُ اللهُ مُوتُوا) أَيْ أَمَاتَهُمْ بِإِمْكَانِ الْعَدُوِّ مِنْهُمْ.. فَفَتَكَ بِهِمْ وَقَتَلَ أَكْثَرَهُمْ.. والْمُرَادَ بَيَانُ سُنَّتِهِ تَعَالَى فِي الْأُمَمِ الَّتِي تَجْبُن فَلَا تُدَافِعُ الْعَادِينَ عَلَيْهَا وَمَعْنَى حَيَاةِ الْأُمَمِ وَمَوْتِهَا فِي عُرْفِ النَّاسِ جَمِيعِهِمْ مَعْرُوفٌ فَمَعْنَى مَوْتِ أُولَئِكَ الْقَوْمِ هُوَ أَنَّ الْعَدُوَّ نَكَّلَ بِهِمْ فَأَفْنَى قُوَّتَهُمْ وَأَزَالَ اسْتِقْلَالَ أُمَّتِهِمْ.. وَمَعْنَى حَيَاتِهِمْ هُوَ عَوْدُ الِاسْتِقْلَالِ إِلَيْهِمْ.. فَجَمَعُوا كَلِمَتَهُمْ.. فَاعْتَزُّوا وَكَثُرُوا إِلَى أَنْ خَرَجُوا مِنْ ذُلِّ الْعُبُودِيَّةِ الَّتِي كَانُوا فِيهَا إِلَى عِزِّ الِاسْتِقْلَالِ، فَهَذَا مَعْنَى حَيَاةِ الْأُمَمِ وَمَوْتِهَا.. وأَمَّا الْمَوْتُ الطَّبِيعِيُّ فَهُوَ لَا يَتَكَرَّرُ كَمَا عُلِمَ مِنْ سُنَّةِ اللهِ وَمِنْ كِتَابِهِ إِذْ قَالَ (لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى)[7] وَقَالَ (وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ)...[8] الى آخر ما قال نقلا عن استاده الشيخ محمد عبده.[9]

والتعبير بالاسرائيليات من جهة ان الراوي في بعضها هو وهب بن منبه وهو من اليهود الذين اسلموا وطبقوا بعض ايات القران على ما راوه في كتبهم وليست هذه روايات متصلة الى المعصوم فلا اعتبار بها.

وهذا لا يشمل كل الروايات فهناك روايات في كتب القوم غير ما روي عن اليهود وهناك روايات عن ائمة اهل البيت عليهم السلام وهي بالطبع لا تنتهي الى اليهود ولكنها ضعيفة ومرسلة ويحتمل ان تكون مسرّبة الى كتبنا من كتب القوم. 

واذا سلمنا بطلان كل الروايات فظاهر الآية يكفي للدلالة على انها قصة واقعية ولا موجب لرفع اليد عن الظاهر وهناك شواهد في الآية ربما تدل على ذلك وانها ليست مثلا فمنها قوله تعالى (الم تر..) فان التعبير بالرؤية يبدو منه ان القصة واقعية مضافا الى ان التعجيب لا يكون الا عن قضية واقعية.

ومنها اسم الموصول اي (الذين خرجوا) فانه يدل على وجود اشخاص حقيقيين موصوفين بذلك. ومنها قوله تعالى (ان الله لذو فضل على الناس..) مما يدل على ان الله تعالى تفضل على هؤلاء القوم باحيائهم بعد الموت بالفعل والا لم يكن وجه للمنة على الناس ولا للاستغراب عن عدم شكرهم لانعمه تعالى.

نعم ما ورد في الروايات من انهم خرجوا فرارا من الطاعون مستبعد لانه ليس امرا محرما فيعاقبهم الله بالموت الجماعي مع انه لا يناسب ما جاءت في الاية التالية من الامر بالقتال فالانسب ان يكون خروجهم خوفا من الاعداء فيكون نقل هذه القصة مقدمة للامر بالقتال خصوصا بملاحظة العطف الوارد في بداية الاية التالية.

ومن جهة اخرى لا يتبين وجه لذكر هذه القصة اساسا لو لم يترتب عليه اعتبار كما لو كان خروجهم خوفا من العدو مضافا الى ان توصيفهم بأنهم الوف ايضا يناسب هذا السبب في الخروج اذ لا خصوصية للعدد في الخوف من الموت بالطاعون ولا موجب للتوصيف به.

واما تفسير الاماتة والاحياء بما ورد في تفسير المنار فهو مستبعد جدا عن ظاهر اللفظ ولو كان الامر كما قال لكان التعبير المناسب فاذلهم الله او فسلّط عليهم الاعداء وهو لا يقتضي موت جميعهم بل ولا اكثرهم وانما يقتضي موت البعض واذلال الاخرين.

واماتة الشعب او المجتمع بمعنى ضعفهم وتسلط الاعداء عليهم لا يعبر عنه باماتة الافراد (فاماتهم الله ثم احياهم) فهذا التعبير صريح في انهم ماتوا بامره تعالى ثم أحياهم الله وكأن صاحب المنار يستبعد الامرين وكذلك غيره ممن يحاول انكار الرجوع الى الحياة في هذه الدنيا. ولكنه تعالى اخبر عن ذلك في عدة موارد:

منها قوله تعالى (وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ * ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ).[10] 

هذه الآية تصرح بأن الجماعة ماتوا ثم أحياهم الله تعالى. والبعث هو الاثارة فاذا تعلق بالموتى كان بمعنى الاحياء. وقد مر الكلام في تفسير الاية ومحاولة المنار تاويل البعث بانه بمعنى كثرة النسل بعد ما وقع فيهم الموت بالصاعقة وكانوا في معرض الانقراض.

وقلنا في رده انه تعالى لم يعوضهم عن الالاف الذين قتلوا في الحروب وفي ايام فرعون وفي توبتهم عن عبادة العجل حيث اُمروا بقتل انفسهم فمن الغريب انه عوضهم عن سبعين رجلا قتلوا في هذه الحادثة وسماه بعثا خوفا من انقراضهم!!!

 ومنها قوله تعالى (وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ * فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ).[11]

وهنا ايضا حاول صاحب المنار تاويل الاية ومر الجواب عنه في تفسير الآية الكريمة.

ومنها قوله تعالى (أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).[12]

وقوله تعالى في بيان الايات التي صدرت على يد سيدنا عيسى عليه السلام (وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ..).[13] وقد تحقق منه ذلك كما هو واضح من قوله تعالى (وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي..).[14]

ولم يسع صاحب المنار ان يأوّل هذه الآية فاعترف بأنه عليه السلام أحيا بعض الموتى.

وأما استدلاله على عدم امكان تكرر الموت في الدنيا بقوله تعالى (لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى) وقوله (وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ) فالجواب عنه أن هذه هي الحالة العامة للناس ولا يدل ذلك على عدم امكان تكرر الموت في بعض الموارد كما دلت الآيات عليه بصراحة.

والحاصل أن الآية لا يبعد ان تحكي عن قصة واقعية وأن هناك جماعة من الناس هربوا من بلدهم خوفا من العدو فأماتهم الله ثم أحياهم ولعل الاماتة من أجل ان يعتبر الاخرون ولا يفرّوا من القتال والدفاع عن الدين والمجتمع خوفا من الموت فان الموت يدركهم وان كانوا في بروج مشيدة والآجال كسائر الاقدار بيد الله تعالى. وقد تكررت الاشارة الى هذا الامر في الكتاب العزيز:

منها قوله تعالى (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا * أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ..).[15]

ومنها قوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ).[16]

ومنها قوله تعالى (قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا).[17]

وأما إحياؤهم بعد ذلك فلم يرد في الكتاب اشارة الى سببه ولا الى الغرض منه ولعل ما ورد في الروايات من ان ذلك كان بدعوة من نبي من انبيائهم هو الواقع وان لم يكن لنا دليل قاطع على صحة ما نقل.

والظاهر أنه تعالى يشير الى ذلك بقوله في ذيل الآية (وان الله لذو فضل على الناس ولكن اكثر الناس لا يشكرون) والفضل هو الزيادة وكل ما يؤتى الانسان زيادة على ما يستحقه فهو فضل والانسان مهما كان لا يستحق شيئا على الله تعالى فكل ما آتاه الله تعالى احدا فهو فضل.

 

وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (244)

عطف هذه الجملة على سابقتها يدل بوضوح على العلاقة بينهما كما سبقت الاشارة اليه والظاهر انه عطف على امر مقدر تستلزمه الاية السابقة اي فلا تحذروا الموت في مواجهة العدو وقاتلوا.. 

والقتال في سبيل الله يشمل كل حرب يكون فيها تقرب الى الله تعالى واعلاء لكلمته ودفع لعدوه او دفاع عن النفس والعرض ونحو ذلك.

وهل ان الجهاد ابتداءا لبسط الاسلام امر مطلوب شرعا في حد ذاته ام انه يختص بما اذا كان تحت ولاية المعصوم ام ان الحرب تحت لوائه ايضا لم تكن الا للدفاع وأن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لم يبدأ القوم بالقتال الا بعد صدّهم عن سبيل الله تعالى ومنعهم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم من نشر دعوته؟ فيه كلام ليس هذا موضع البحث عنه.

ولكن مما لا شك فيه ان الحروب التي يفتخر بها بعض المسلمين والتي تسببت في توسيع رقعة الاسلام وما تسمى بالفتوحات الاسلامية لا تمتّ الى الدين بصلة لان القائمين عليها لم تكن لهم ولاية شرعية والهدف لم يكن الا بسط السلطة الغاشمة وان ترتب عليه انتشار الدين وكثرة عدد المسلمين فان ترتب الامر الصالح لا يدل على شرعية العمل.

وهي مستمرة حتى الان في ما يعرف بالدولة الاسلامية او الامارة الاسلامية من قبل العناصر الارهابية التي زرعها الاستعمار الحديث في قلب المجتمع الاسلامي لاعادة الحروب الصليبية بطريقة اخرى كما اعلنوا عنها.

ولعل تعقيب الجملة بتوصيفه تعالى بالسميع للاشارة الى ما يمكن ان يصدر من بعض المدعوين للجهاد من كلام باطل ينشر الضعف والاختلاف في الصف الاسلامي كما أن توصيفه بالعليم قد يكون للاشارة الى ما تخبئه النفوس من النوايا الفاسدة وتقديم قوله (اعلموا) للتنبيه على ان ما بعده اعلام خطير وبيان مهم في هذا الموضوع المهم.

وهناك آيات عديدة تشير الى محاولة المنافقين نشر ما يوجب ضعف العزيمة في قلوب المؤمنين منها قوله تعالى (الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ).[18] ومنها قوله تعالى (لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ).[19]

 

مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ 245

هذه الآية تدعو الى بذل المال في سبيل الله وهو لا يختص بمساعدة الفقراء بل يشمل كل شؤون الحياة في المجتمع فالمطلوب من المؤمنين ان يجاهدوا باموالهم وانفسهم في سبيل الله كما ورد في آيات عديدة.

والله تعالى لا يريد التجنيد اجبارا ولا الزام الناس بدفع الضريبة لان الهدف في الدين ليس السلطة والحكم كما هو الحال في الحكومات سواء ما كان منها باسم الدين كالخلافة او بعناوين اخرى بل الهدف في الدين هو تربية الانسان ليبلغ اعلى درجات الكمال ويكون صالحا لدخول جنة رضوان الله تعالى.

ولذلك فانه يرغّب الناس في ان يجاهدوا باموالهم وانفسهم في سبيل الله تعالى سواء في مساعدة الفقراء والمساكين او عمارة المساجد وبناء المصالح العامة او المشاركة في الجهاد بالمال واعتبر ذلك اقراضا لله تعالى لانه سيجازيه باضعاف كثيرة فالذي يبذل ماله في اي جهة ترضي الله تعالى فكأنه أقرض ربه وله ان يطالب بالبدل يوم القيامة مع انه لم يدفع شيئا الا ما ملّكه ربه.  

و(من) استفهامية والاستفهام للتحضيض و(ذا) اسم اشارة وهو خبره والموصول بدل عنه او صفة له اي من هذا الذي يقرض الله قرضا حسنا.

وانما يطلق هذا التعبير في مثل هذا المقام مع أنه لا يوجد من يشار اليه للمزيد من الحثّ والتحضيض فكأنه يفرض أن هناك من استجاب لدعوته قبل هذا الاعلان وأن المقرض موجود بالفعل فهو يشير اليه ليبشره بالجزاء.

والتعبير عجيب فكأن الله تعالى يدعو ويطلب من الناس وهم عبيده والفقراء اليه: من منكم يقرضني قرضا حسنا؟ وذكر الاسم الكريم ليتبين ان الذي يقترض هو خالق الكون وله ملك السماوات والارض كل ذلك للترغيب في بذل المال في سبيل الله تعالى.

والقرض: القطع. ويقال لمن دفع جزءا من ماله لاحد ليتقاضاه منه بعد ذلك انه اقرضه من ماله كأنه قطع له منه قطعة.

ومن الخطأ المشهور الاستشهاد بهذه الآية وامثالها للحث على اقراض الناس ومن هنا ايضا سموا القرض بدون فائدة قرضا حسنا مع ان الاية لا ترتبط بالقرض المتداول بين الناس ومع ان هذا القرض الحسن فيه الفائدة اضعافا كثيرة.

وقد تكرر في الكتاب العزيز التعبير عن الانفاق في سبيل الله بالاقراض كأنه تعالى يقترض من المؤمنين بعض مالهم ليرده عليهم أضعافا مضاعفة يوم القيامة. وهذا غاية اللطف والاحسان فالمال مال الله والعبد عبده وكل شيء له وانما يريد أن يمتحن الناس.

وقال امير المؤمنين عليه السلام (وَاسْتَقْرَضَكُمْ وَلَهُ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنْ يَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا).[20]

وهو تعالى لجوده وكرمه ولطفه بعباده اعتبر المال مالا لهم مع ان كل شيء منه وله. ومع ان العبد لا يعمل عملا الا بقدرته وباذنه وبتوفيقه ولا يمكن للعبد ان يستقل بعمله ولكنه تعالى اعتبر العمل عملا له بالاستقلال ووعده أحسن الجزاء.

والمشهور ان التوصيف بالحسن للاحتراز عما اذا كان الانفاق للرياء والسمعة او مع المنة والتحقير للمستحق او مع ايذاء السائل كما يلاحظ في كثير من الموارد.

ولكن هذا صفة الانفاق الحسن لا القرض الحسن والمفروض ان الآية تصف القرض بأنه حسن ولعل المراد من هذا الوصف أنه قرض مضمون بل مضمون انه يعاد اليكم اضعافا كثيرة.

واكثر القراء قرأوا (فيضاعفُه) بالرفع وقرأ عاصم بالنصب قال الشيخ قدس سره في التبيان (وقوله "فيضاعفه" من رفع عطفه على قوله "يقرض" ومن نصب فعلى جواب الاستفهام بالفاء. والاختيار الرفع لان فيه معنى الجزاء، وجواب الجزاء بالفاء لا يكون إلا رفعا "ويضاعفُه" أكثر في الاستعمال).

وهناك اختلاف في كتب اللغة في معنى الضعف قال الخليل كما في العين (أضعفت الشيء إضعافا وضاعفته مضاعفة وضعّفته تضعيفا وهو اذا زاد على اصله فجعله مثلين او اكثر) وفي الجمهرة (وضعف الشيء مثله وقال قوم مثلاه).

وعليه فقوله (أضعافا) بمعنى امثالا فيمكن ان يكون حالا من الضمير المنصوب في (فيضاعفه) اي حال كونه اضعافا او يكون مفعولا به بتضمين يضاعفه معنى يصيره.

ومهما كان فالسؤال هنا عن معنى مضاعفة الجزاء يوم القيامة لان هذا الجزاء لا يقاس بما يدفعه الانسان هنا من مال كالنقود او الطعام مثلا فالله تعالى لا يدفع له اضعافا من ذلك النقد او الطعام لان ثواب يوم القيامة لا يشبه النعم الدنيوية في شيء فهو دائم لا يزول ولا يشوبه أدنى مرارة وشقاء وتعب ولا يعرض بسببه سقم ولا علة فلا يقاس بما هنا من النعم فما هو المراد من كونها اضعافا كثيرة؟

لا يبعد أن يكون المراد بالاضعاف أضعاف ما يتصور له من الجزاء المناسب له وليس معناه أنه يثيبه ضعف ما دفع وقد قال تعالى (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ حَبَّةٍ...)[21] فيكون الجزاء على هذا سبعمائة ضعفا ولا شك ان الغرض ليس هو التحديد بالعدد فالجزاء هناك لا يقاس بهذه المقاييس المادية لا من حيث الزمان فانه ابدي ولا من حيث الكيفية فان ما يثاب به هناك ليس من سنخ ما انفق.

ولذلك ورد التعبير هنا عن الجزاء بانه مضاعف اضعافا كثيرة ولم يحصرها في عدد والكثرة لا يحصيها الا الله خصوصا اذا كان التعبير بالكثرة منه تعالى.

وقد ورد في رواية ابي ايوب الخزاز عن الامام الصادق عليه السلام انه قال (لما أنزلت هذه الآية على النبي صلى الله عليه وآله وسلم "من جاء بالحسنة فله خير منها" قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: اللهم زدني فأنزل الله تبارك وتعالى "من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها" فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: اللهم زدني، فأنزل الله عز وجل عليه "من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة" فعلم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن الكثير من الله عز وجل لا يحصى وليس له منتهى).[22]

والقبض في الاصل بمعنى اخذ الشيء بجميع الكف ويعبر به عن التضييق في المعيشة. والبسط في الاصل مد الشيء وتوسعته ويعبر به عن التوسعة في المعيشة. والغرض التنبيه على ان الله تعالى هو الذي يقبض ويبسط الرزق على من يشاء.

وقد كتب (يبسط) في بعض نسخ المصحف بالصاد (يبصط) ولا فرق بينهما ويجوز التلفظ بهما لان السين تتلفظ بالصاد اذا جاور الطاء او قاربها لسهولة التلفظ وهذا في موارد عديدة من الكتاب العزيز كالصراط ومصيطر وهما ايضا في الاصل بالسين.

والرزق ربما يزيد وينقص بسبب العوامل الطبيعية التي منها معرفة الانسان بالطرق الصحيحة والمؤثرة في زيادة المكسب او عدم معرفته ومنها قدرته الذاتية في العمل ومنها المؤثرات البيئية والاجتماعية التي يمكن تغييرها او لا يمكن. وبعض هذه العوامل تحصل بالتعلم والتمرين وبعضها ليست مكتسبة وانما هي حاصلة باسباب اخرى خارجة عن الاختيار كالارث او الهبات والهدايا من الاشخاص او الحكومات.  

وكل هذه الامور تتبع اسبابا اخرى ربما لا يكون للانسان دخل فيها وانما هي امور طبيعية وكل ذلك امرها بيد الله تعالى وكل ما في الطبيعة من خلقه وكل ما في الانسان من العلم والقدرة من الله تعالى وكل ما يحدث في الكون وما لا يحدث انما هو بامره واذنه فهو الرازق وهو القابض والباسط.

وقضاء الله تعالى في الرزق كما في غيره لا يحتم على الانسان أمرا بحيث لا يكون لنشاطه دخل فيه ولكن هناك اُمور تؤثر في الرزق والاجل وسائر ما يقضي اللّه ويقدر وهي خارجة عن اختيار الانسان ولذلك نجد أنّ السعي ربما لا يفيد بل ربما يضرّ أحيانا.

وليس معنى ذلك أن يترك الانسان نشاطه الطبيعي لبلوغ مآربه، بل لابد من متابعة الأسباب الطبيعية للوصول الى ما يقصده ولتجنّب ما يضرّه، وهو ايضا جزء من القضاء والقدر، فاذا مارس التجارة وربح ينكشف أنّ المقضي هو نجاحه في التجارة، وليس هو حصوله على هذا الربح سواء عمل بالتجارة ام جلس في البيت. وربما يحصل الانسان على ربح من دون تعب فالمقضيّ هو ذاك.

والغرض من هذه الجملة الاشارة الى ان ما تكتسبونه من المال وتنفقونه في سبيل الله تعالى انما حصل لكم بارادته تعالى وتوفيقه فلا تبخلوا به.

وربما تنطوي ايضا على تهديد من جهة أن البسط ربما يحوله الله الى قبض اذا بخلتم به كما ورد التحذير بوجه اخر في قوله تعالى (هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ).[23]

كما أن قوله تعالى (واليه ترجعون) فيه تحذير شديد ايضا كما أن الترغيب ايضا يتوقف على التنبه لهذا الامر وهو الرجوع الى الله يوم القيامة.

 


[1] البقرة : 117

[2] تفسير ابن كثير ج 1 ص 661

[3] الكافي ج 8 ص 198

[4] عيون اخبار الرضا عليه السلام ج 1 ص 144

[5] تفسير العياشي ج 1 ص 120

[6] العهد القديم سفر حزقيال الاصحاح السابع والثلاثون

[7] الدخان : 56

[8] غافر: 11

[9] المنار ج 2 ص 362

[10] البقرة : 55 - 56

[11] البقرة : 72 - 73

[12] البقرة: 259

[13] ال عمران: 49

[14] المائدة: 110

[15] النساء : 77 - 78

[16] ال عمران : 156

[17] الاحزاب : 16

[18] ال عمران : 168

[19] التوبة : 47

[20] نهج البلاغة الخطبة 183

[21] البقرة: 261

[22] معاني الاخبار ص 398

[23] محمد : 38