مكتب سماحة السيد مرتضى المهري

إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا...

الآية الكريمة وردت ضمن السياق السابق وهو الدفاع عن مكانة القرآن الكريم وتردّ على بعض اقاويل المشركين واهل الكتاب - على ما روي - حيث كانوا ينتقدون ما ورد في القرآن من التمثيل بالعنكبوت والذباب او ينتقدون مطلق التمثيل. ويرون ان ذلك من طرق البيان التي تستعملها العامة ولا يناسب الشأن الالهي ان يذكر هذه الامثلة ويعتبرون ذلك دليلا على افتراء القرآن على الله تعالى.

وهذا بالطبع ليس انتقادا منطقيا نظير كل ما يوجه من النقد السخيف قديما وحديثا حتى ممن يدعون العلم والثقافة.

ومثل هذا النقد لا يمكن منعه بل هو مما يتداول بكثرة في المجتمعات البشرية فكل حكيم وخبير او قائد سياسي بارز او داع للاصلاح الاجتماعي كثيرا ما يواجه امثال هذا النقد على وجه الاستبعاد. وهذا يدل على ضعف المنطق والتمسك بالمحاولات اليائسة لتبرير الموقف المعادي للحق الواضح.

والجواب من القرآن ان هذا الامر ليس مخالفا للشأن الالهي بحيث يراه الله تعالى غير مناسب لشانه ويمتنع منه. والاستحياء والحياء واحد وهو في الواقع الامتناع عن فعل لا يناسب شأن الفاعل في العرف ولا مانع من اسناده الى الله تعالى وانما التزم بعض المفسرين بتأويله لانهم فسروه بانقباض في النفس يستوجب الامتناع.

والظاهر انه من التعاريف التي لا يعرفها العرب ولا اهل اللغة الاوائل. فمعنى قوله (لا يستحيي) انه تعالى لا يرى ذلك غير مناسب لشأنه.

وذكر البعوض لعله بسبب ان القائل او القائلين أبدوا استغرابهم من التمثيل بالحشرات في قوله تعالى (مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ).[1] وبالذباب في قوله تعالى (يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ)[2] كما ورد في بعض الروايات.

او للاشارة الى ان ضرب المثل باي شيء ليس مما يستحيى منه حتى لو كان ببعوضة وان لم يذكروها حيث ورد ايضا انهم اعتبروا اصل التمثيل منافيا لشأنه تعالى.

وقوله (يضرب مثلا) اي يمثل بمثل والمثل كما قلنا سابقا بمعنى الشيء المنتصب ويقصد به هنا علامة منصوبة للوصول الى المعنى بطريق غير مباشر بذكر ما يشابهه. والتعبير بالضرب إمّا من جهة النصب فقوله (يضرب مثلا) اي ينصبه ومنه ما يقال ان هذا من ذلك الضرب او الضريب اي ذلك الصنف وضرب المثل بناءا على ذلك بمعنى صياغته. وإمّا من جهة ان الضرب ياتي في كل الاعمال كما في كتاب العين.

و(ما) في قوله (مثلا مّا) للابهام اي يضرب ايّ مثل مهما كان ويمكن ان تكون زائدة كما في قوله تعالى (فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ) اي بنقضهم. و(بعوضة) بدل عن (مثلا) فالمعنى انه تعالى لا يستحيي من ضرب اي مثل سواء كان بعوضة او فوقها. والمراد بالفوقية إمّا الفوقية من حيث الصغر والحقارة فيكون ما فوقها أصغر وأحقر من البعوضة وإمّا باعتبار البعوضة احقر شيء فقال من هذا الاحقر الى اعلى شيء.

والسبب هو ان ضرب الامثال مما يقرّب المعاني الى الاذهان وحيث ان القرآن كتاب اُنزل للناس وللتاثير في قلوبهم فالحكمة تقتضي ان ياخذ بكل ما هو الاسهل في هذا الباب. وضرب الامثال من اسهل الطرق. 

 

فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا...

وبهذا التفصيل يحدد ان الذي ينتقد مثل هذا النقد لا يبحث عن علم ولم يتوقف لدليل او برهان وانما انتهج الكفر مسبقا فيبحث عن اي عذر للتشكيك في رسالة السماء والتقليل من شأن كتاب الله تعالى فالذي آمن بالله يعلم ان هذا هو الحق النازل من السماء ومن الرب ليربّي عباده باحسن وجه فينفتح له قلبه ويستبصر بكل مثل يضربه الله تعالى. واما الكافر فلا يمكنه ان ياتي بحجة انما يذكر على وجه الاستبعاد: ماذا اراد الله بهذا مثلا؟!

وقوله (مثلا) منصوب على التمييز. ويقصدون بذلك تكذيب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأن الله لا يمكن ان يضرب الامثال فهذا مثل سائر حججهم قال تعالى (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً)[3] وايضا (لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ)[4] وقال (وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ)[5] وكذلك اهل الكتاب قال تعالى (يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ)[6] ونحو ذلك من الاعذار الواهية.

 

يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا...

قيل ان هذه الجملة من تتمة كلام الذين كفروا. وهو بعيد. بل هي جواب للاستبعاد المذكور حيث كان بظاهره استفهاما بان الله تعالى لماذا يضرب الامثال؟ وان قصد بالاستفهام الانكار.

فالجواب ان القصد منه امتحان الناس فيضلّ به بعضهم ويهتدي به آخرون فالمؤمن يستفيد من ضرب المثل ويدرك به ما لا يدركه بالبيان الصريح. والكافر يزداد عنادا فيزداد ضلالا وليس ضرب المثل بنفسه موجبا لضلاله ولكنه حيث يتشبث بكل حشيش ليبرر كفره وانكاره ومن ذلك استبعاده للامثال في كلامه تعالى فيكون ضرب المثل موجبا لزيادة عناده وكفره كما ان القران بذاته يزيد الكافر خسارا قال تعالى (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا).[7]

فلو لم ينزل القران كان الكل سواسية في الخسارة وبعد نزوله يؤمن بعضهم فيكون لهم شفاءا ورحمة والآخرون يظلمون ويكفرون فيزيدون خسارا لانّ الحجة تمّت عليهم. فالاضلال والهداية ينسبان الى الله تعالى لانه اتى بهذا الامتحان. وهكذا كل امتحان فالتلاميذ لا يعلم النشيط منهم عن الكسلان الا بالامتحان فيصح ان يقال ان المدرس بامتحانه يسقط جمعا وينجح جمعا.

ويمكن ان يعتبر اسناد الاضلال الى الله تعالى باعتبار انه يتركهم وشأنهم لعنادهم فيضلون والا فهو تعالى لا يضلّ من يطلب الهداية. والترك ايضا ليس بالمعنى المعهود فان الله تعالى لا يوصف بالترك كما ورد في الحديث وقد مر ذكره في تفسير قوله تعالى (وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ).[8]

والكثرة في قوله تعالى (ويهدي به كثيرا) باعتبار ان المهتدين ليسوا قلة في انفسهم وان كانوا قلة بالنسبة الى اهل الضلال فلا ينافي قوله تعالى (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ).[9]

 

وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ...

وهذا جواب عن استبعاد اسناد الاضلال اليه تعالى فهو لا يضل الا الفاسق. والفسق الخروج. والاصل فيه خروج الرطب عن قشره قال في الجمهرة (انفسقت الرطبة اذا خرجت من قشرها ومنه اشتقاق الفاسق لانفساقه من الخير اي انسلاخه منه).

ويطلق في الشرع على من خرج عن الدين بالكفر او خرج عن طاعة الله بالمعصية والله تعالى لا يجازي الانسان بعقوبة الا بعد إصراره على الفسق ومعصية امره تعالى خصوصا اذا تمثّل فسقه في معاندة هداياته تعالى ورسالاته.

والتعبير بالفسق عن الخروج عن الدين او عن اطاعة الله تعالى من إبداعات القرآن ولا يوجد في الاستعمال اللغوي.

 

الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ...

اسم الموصول صفة للفاسقين والمراد بهم من مر ذكرهم بعنوان (الذين كفروا) وهم من يستنكر ذكر الامثال في القرآن ويقصد بذلك انكار الرسالة وانكار كون القرآن نازلا من السماء.

وورد نظيره في قوله تعالى في سورة الرعد وهي مكية (أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ * وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ)[10] الى ان يقول (وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ).[11]

فالوارد في سورة الرعد مقارنة بين من يؤمن بالرسالة ويعلم بأن ما انزل الى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم هو الحق وبين من هو اعمى وذكر من خصائص الاولين أنهم يوفون بعهد الله و يصلون ما امر الله به ان يوصل ثم أتبعه بذكر خصائص منكري الرسالة وهي مثل ما ورد في هذه الآيات.

وهنا ايضا قارن بين الذين آمنوا ويعلمون ان ما نزل على الرسول صلى الله عليه وآله وسلم هو الحق وبين الذين كفروا واستنكروا ضرب الامثال في القرآن ثم ذكر في اوصاف الفريق الثاني الفسق ونقض العهد وقطع ما امر الله به ان يوصل والفساد في الارض.

وهذا يدل بوضوح على ان هذه الآية وردت لتحديد صفات الفاسقين المنكرين للرسالة كما هو الحال في سورة الرعد وليست هذه جملة استينافية كما قيل.

وذكر لهم ثلاث صفات:

الصفة الاولى: نقضهم لعهد الله من بعد ميثاقه. والنقض على ما في العين (إفساد ما أبرمت من حبل او بناء) وفي بعض النسخ (من عقد او بناء) وهو ضد الابرام كما في الجمهرة فالانسان ربما يفتل حبلا او ما يشبهه ثم يفسخه ويفتحه فيعود خيوطا وهذا هو النقض وكذلك اذا هدم البناء او فكّ تركيب اي شيء.

ومن هذا القبيل نقض العهد فان الانسان اذا تعهد بشيء او عاهد احدا فانه يحدث علاقة قوية بينه وبين هذا الامر فاذا خالف العهد فكأنه هدم بناءا وفسخ حبلا مفتولا قال تعالى (وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ..).[12]

قيل ان امرأة كانت تغزل من الغداة الى الظهر مع جواريها ثم تامرهن بنقض الغزل فيعود خيوطا والله تعالى شبّه نقض العهد بنقض الغزل الذي يعتبر في العرف امرا سخيفا ودليلا على الغباء والسفاهة.

والعهد على ما في العين: الوصية. واضاف في الصحاح (الامان واليمين والموثق والذمة والحفاظ). ولكن قال في معجم المقاييس (أصل هذا الباب عندنا دالّ على معنى واحد قد أومأ اليه الخليل قال اصله الاحتفاظ بالشيء وإحداث العهد به) ثم قال (والذي ذكره - اي الخليل - من الاحتفاظ هو المعنى الذي يرجع اليه فروع الباب).

وعلى ما ذكره فالعهد بمعنى ما يجب ان يحفظه الانسان ويتعهد بحفظه. ومن هنا يطلق على الوصية وعلى كل ميثاق وقد ورد في القرآن التعبير به عما اودع في الفطرة كقوله تعالى (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ)[13] فان توجيه الخطاب الى بني آدم اي جنس الانسان يقتضي أن يكون مما جبلت عليه فطرته لا ما ورد في الشرايع.

واما الميثاق فهو مصدر ميمي من الوثوق وهو الإحكام ويطلق على العهد بنفسه ايضا قال في العين (والميثاق من المواثقة والمعاهدة). وقد ورد في القران بهذا المعنى في عدة ايات كقوله تعالى (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ..).[14] واما اذا ذكر مع العهد فيمكن ان يكون المراد نفس انشاء العهد لانه ميثاق بنفسه ويمكن ان يكون المراد استيثاق العهد وإحكامه بعد انشائه.

وهنا ينبغي التأمل في أنه ما هو العهد الذي عاهد الانسان فيه ربه ثم أحكم العهد ومع ذلك نقضه كثير منهم؟ فيه احتمالان:

الاحتمال الاول: أن يكون المراد العهد الفطري الذي أشار اليه تعالى بقوله (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ).[15]

وهناك بحث طويل وعميق في تفسير الآية والظاهر أنها تشير الى ما اودع في فطرة الانسان من حيث لا يشعر من معرفة ربه والتوجه اليه خصوصا اذا ضاقت به السبل كما قال تعالى (قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ).[16]

والآية تدل على كون هذا العهد امرا قطعيا ولذلك رُتّب عليه ثبوت الحجة على الانسان يوم القيامة حتى لو لم تبلغه رسالات السماء فلا يمكنه ان يعتذر بكونه غافلا عن ربوبيته تعالى او بأنه اتّبع في ذلك آباءه بل نسب الى الانسان انه اعترف في قرارة نفسه بربوبيته تعالى وشهد بها (قالوا بلى شهدنا) وهذا التعبير يحكي عن معاهدة بين الانسان وربه وليس امرا اُلقي اليه فحسب.

ولعل التأثر الطبيعي لما يلقى في فطرة الانسان اي خلقته يعتبره الله قولا وقبولا نظير ما ورد في السماء والارض قال تعالى (ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا فقَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ)[17] اذ لا يبعد ان يكون اسناد القول اليهما تعبيرا عن التسليم الطبيعي فكذلك تسلم الانسان للفطرة قبول للعهد.

ويمكن ان يكون قوله تعالى (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ..)[18] اشارة الى هذا العهد ايضا فان الاعتراف بربوبيته تعالى يقتضي توحيد العبادة وعدم اطاعة الشيطان فان الاطاعة المطلقة هي العبادة.

وأما ميثاق عهده تعالى وتحكيمه فهو ما حصل بدعوة الانبياء وارسال الكتب فاستحكم العهد واستوثق قال تعالى (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ)[19] والانسان مع ذلك ينقض عهد ربه.

وقال تعالى (وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ)[20] والخطاب للمؤمنين. ومنه يتبين أن بيعتهم مع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وقولهم (سمعنا واطعنا) ميثاق مع الله سبحانه وتعالى.

ويشهد لذلك ايضا قول امير المؤمنين عليه الصلاة والسلام (فَبَعَثَ فِيهِمْ رُسُلَهُ وَوَاتَرَ إِلَيْهِمْ أَنْبِيَاءَهُ لِيَسْتَأْدُوهُمْ مِيثَاقَ فِطْرَتِهِ..)[21] ومعنى (واتر) اي ارسل الرسل واحدا بعد واحد كما قال تعالى (ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى..).[22] وقوله عليه السلام (ليستأدوهم) اي ليطلب الرسل من الناس أن يؤدوا ويعملوا وفق العهد الذي اودعه الله في فطرتهم وهو التوحيد.

والفعل المضارع في قوله تعالى (ينقضون) يدل على الاستمرار في النقض وانه ليس امرا عابرا ونادرا.

ومن موارد العهد بين الله وبين البشر ما ورد في قوله تعالى (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِين * فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ). [23]

والاصر: العهد. فهذا عهد وميثاق من الله تعالى مع جميع النبيين بأن يؤمنوا بالرسول الذي يأتي بعدهم والمراد أتباع النبيين واممهم فان الرسل ما كانت ترسل جمعا بل تباعا وبعد عهد طويل من عهد الرسالة السابقة فالغرض من هذا العهد منع التعصب للرسول السابق كما يلاحظ في اهل الكتاب.

وعلى هذا الاحتمال فالفاسق من لم يؤمن بالرسالات او لم يؤمن بالربوبية او اشرك بالله تعالى فيها سواء اعلن كفره أم أظهر الايمان وأبطن الكفر كما هو الحال في المنافق.

ويلاحظ ان التعبير عن المنافقين بالكفار ورد في عدة موارد منها قوله تعالى في الآيات السابقة بعد ذكر المنافقين (وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ). وسياق الآيات تدل على أن الاهتمام في كل هذه الآيات بالنفاق لا بالكفر البواح والسورة من اوائل السور المدنية.

والتعبير المنقول عنهم في قوله تعالى (ماذا اراد الله بهذا مثلا) يناسب النفاق ايضا لان الكفار ما كانوا ينسبون هذه الاقوال الى الله تعالى ويتحاشون عن هذه النسبة وانما ينسبه المنافق الى الله بحسب ظاهر حاله حيث اسلم ظاهرا ولكنه يستنكر بهذا الاستفهام ليلقي الشبهة في قلوب المؤمنين.

الاحتمال الثاني: ان يكون المراد بالعهد ما عهد الله الى الانسان لا ما اخذ منه العهد فالمراد به الوصية اي ما اوصى به الله عباده من الاحكام والشرايع. وقد ورد التعبير عنه بالعهد في القرآن الكريم قال تعالى (وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ).[24] والظاهر أن منه ايضا قوله تعالى (وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا)[25] فان المراد به على الظاهر نهيه عن الشجرة.

وعلى هذا فيكون المراد بالميثاق التعهد بالعمل بالاحكام بمقتضى البيعة والايمان بالرسالة ولو ظاهرا. وعلى هذا الاحتمال فالفاسق يختص بالمنافق الذي اسلم ظاهرا وأعلن ايمانه بالله وبالرسالة ولكنه خالف العهد ولم يعمل باحكامه تعالى.

ولكن ليس المراد كل من يخالف الشريعة ولو في حكم واحد فانه لا يبقى احد الا المعصومين او من كان قريبا منهم والتعبير بنقض العهد بعيد عن مثل ذلك. بل المراد نقض العهود المهمة في الشريعة كعهد الولاية فالذي سمع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يعلن للامة جمعاء ان الولي بعده امير المؤمنين عليه السلام او بلغه ذلك ومع ذلك ينقض العهد ويتولى غيره بل يتبع من يعاديه ويسبه ويقتل ذريته والائمة من بعده هو المنافق الفاسق الذي نقض عهد الله من بعد ميثاقه.

روى الكليني عن خيثمة قال قال لي أبو عبد الله عليه السلام (يا خيثمة نحن شجرة النبوة وبيت الرحمة (الى ان قال) ونحن عهد الله فمن وفى بعهدنا فقد وفى بعهد الله ومن خفرها فقد خفر ذمة الله وعهده).[26]

ومعنى كونهم عليهم السلام عهد الله انه تعالى اخذ العهد من الناس بواسطة رسوله ان يتبعوا اهل بيته في مواقف عديدة بصورة الامر ونصب الولي وفي مورد بصورة البيعة كما تمّت في يوم الغدير حيث بايع الناس امير المؤمنين عليه السلام وبخبخ بعضهم له بانك اصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة ثم نسوا بيعته. وما نسوه بل تناسوه واجتمعت كلمتهم على نقض عهد الله وذمته.

والظاهر ان في الحديث تصحيفا والصحيح (ومن اخفرها فقد اخفر ذمة الله) فان الخفر هو العهد والاخفار نقض العهد. قال الخليل في العين (الخفارة: الذمة وانتهاكها اخفارها). وقال ابن دريد في الجمهرة (والعرب تقول اُخفُرني اي اجعل لي عهدا ولا تُخفِرني اي لا تنقض العهد الذي بيني وبينك).

وبما ذكرناه تبين فساد ما في الكشاف حيث قال (والمراد بهؤلاء الناقضين لعهد اللَّه أحبار اليهود المتعنتون أو منافقوهم أو الكفار جميعاً..) فنقض العهد الالهي لا يختص بهم بل هو في المسلمين او من يدعون الاسلام اوضح واوسع على كلا الاحتمالين في معنى العهد.

ومما يدل على أن المراد بهؤلاء الفاسقين المنافقون قوله تعالى (وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ * طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ * فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ).[27]

ولا شك أن هذه الآيات وردت بشأن المنافقين لقوله تعالى قبل ذلك (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا..) وتوصيفهم بالذين في قلوبهم مرض وقوله بعد ذلك (إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ) وقوله (فلو صدقوا الله) اي صدقوا في عهدهم وهو معنى عدم نقض الميثاق إمّا عهد الفطرة وإمّا البيعة او الايمان بالرسالة ولو في الظاهر وقوله (ان توليتم) اي اعرضتم عن الايمان.   

وقلنا في تفسير الآية أن المعنى هل المتوقع منكم ان أعرضتم عن الدين وارتددتم أن تفسدوا في الارض وتقطعوا ارحامكم كما كنتم في الجاهلية. ومعنى ذلك أن الجاهلية تحقق الارضية المستعدة للفساد في الارض وقطع الارحام وأن هذا هو المتوقع من القوم لانه من طبعهم المتأصّل فيهم وانما منعهم من الاستمرار فيه تظاهرهم بالدين.

ويبدو من الآية أن بعضهم كانوا يشيعون في الناس أنه لا ينبغي محاربة مشركي مكة لأنه من الفساد في الارض وقطع الارحام ولعلهم من بعض المهاجرين ولا يستغرب وجود منافقين فيهم وقد قلنا في تفسير قوله تعالى (وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ)[28] أن النفاق كان في مكة ومن أوائل الاسلام.

وتبين بما ذكرناه أن المراد بالتولي هو الاعراض عن الدين والرجوع الى الجاهلية وهو الانسب بالسياق وبما سيأتـي من توصيفهم بالارتداد الذي هو الامر المناقض للصدق في قوله (فلو صدقوا الله..) في الآية السابقة.

فالمعنى انكم ان أعرضتم ولم تصدقوا في عهدكم مع الله تعالى وعُدتم الى جاهليتكم الاولى فالمتوقع منكم أن تعودوا الى صفاتكم وعاداتكم في الجاهلية من الفساد في الارض بالقتل والغصب وقطيعة الرحم وغيرها من الجرائم والكبائر كما فعلت ذلك بنو امية وبنو العباس.

وأما احتمال أن يكون المراد بعهد الله ما ينشئه الانسان من العهد مع الله تعالى بان يقول عاهدت الله ان افعل كذا او عليّ عهد الله ان افعل كذا او اترك كذا وهو ما يذكر في الفقه قسيما للنذر واليمين فهو غير وارد هنا قطعا وليست هذه العهود والنذور والايمان بهذه الاهمية مع أن ميثاق العهد اي تحكيمه غير متحقق في هذه الموارد.

  

وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ...

الصفة الثانية: أنهم يقطعون ما أمر الله به أن يوصل وقوله (أن يوصل) بدل عن الضمير في قوله (ما امر الله به) اي يقطعون ما أمر الله بوصله. والمراد بالوصل الارتباط بالشيء والتعلق به ويقابله القطع اي الانفصال عنه.

واختلف المفسرون في المراد بما امر الله به ان يوصل.

قال في مجمع البيان (معناه أُمروا بصلة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين فقطعوهم... عن الحسن. وقيل أُمروا بصلة الرحم والقرابة فقطعوها... عن قتادة. وقيل أُمروا بالإيمان بجميع الأنبياء والكتب ففرقوا وقطعوا ذلك. وقيل أُمروا بأن يصلوا القول بالعمل ففرقوا بينهما بأن قالوا ولم يعملوا. وقيل معناه الأمر بوصل كل من أمر الله بصلته من أوليائه والقطع والبراءة من أعدائه. وهذا أقوى لأنه أعم ويدخل فيه الجميع).

ولا باس بما ذكره وقواه واما التخصيص بما ورد في سائر الاقوال فلا وجه له حتى قطع الرحم الذي ذكره كثير من المفسرين فانه وان كان محرّما ولكن لا يمكن ان يكون مناط الفسق بهذا المعنى لا سلبا ولا ايجابا فهناك كثير من الفسقة والكفار والمنافقين يصلون الرحم وهناك من لا يصلهم ولكن ليس فاسقا بهذا المعنى وان ارتكب محرّما فان الآية بصدد بيان صفات الفاسقين الخارجين عن الدين من الكفار والمنافقين ولا ينطبق هذا على كثير ممن يقطع الرحم من المؤمنين وان كان قطع الرحم مما تواترت الاحاديث في ذمه كما تواترت في الامر بصلته.

هذا ولكن هناك من الروايات المعتبرة ما ورد فيها تفسير هذه الآية بقطع الرحم او تفسير قوله تعالى (وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ..)[29] بصلته. الا ان بعض الروايات تفسر الرحم بمعنى عام مما يظهر منها تصحيح ما ورد من تفسير الآية بالرحم فقد روى الكليني بسند صحيح عن عمر بن يزيد قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام (الذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل)؟ قال: نزلت في رحم آل محمد عليه وآله السلام وقد تكون في قرابتك. ثم قال: فلا تكوننّ ممن يقول للشيء إنه في شيء واحد).[30]

والرحم بمعنى القرابة. وان كان هناك اختلاف في كتب اللغة في ان الاصل في هذه الكلمة هل هو الرقة والعطف والقرابة بمعنى عام ثم اطلقت على رحم المراة او الامر بالعكس.

ولكن مهما كان فهي تطلق على القرابة بمعنى عام والمراد برحم آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم القرابة المعنوية التي يجب ان تكون بين الرسل والائمة عليهم سلام الله من جانب وبين أتباعهم من جانب آخر.

ومن هذا الباب قوله صلى الله عليه وآله وسلم (انا وعليّ أبوا هذه الامة)[31] وفي بعض الروايات خاطب امير المؤمنين عليه السلام وقال (انا وانت ابوا هذه الامة فلعن الله من عقّنا..).[32]

وما ورد في ذيل الحديث من قوله عليه السلام (فلا تكوننّ ممن يقول..) هو ما يشير الى تصحيح ما ورد في الروايات على ألسنة الناس من تفسير الآية بالرحم والمراد عدم الاختصاص بقرابة الانسان وذلك لما ذكرناه من انه لا يمكن ان تكون الآية خاصة به وان يكون هو المناط في صدق الفسق بالمعنى المراد في الاية الكريمة.

وروى ايضا بسنده عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه السلام قال سمعته يقول (إن الرحم معلقة بالعرش تقول: اللهم صل من وصلني واقطع من قطعني وهي رحم آل محمد وهو قول الله عز وجل "الذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل" ورحم كل ذي رحم).[33]

وهناك روايات فسرت الآية بالرحم بالمعنى المعروف ولعلها من باب ذكر المصداق دون الحصر:

منها ما رواه الكليني قدس سره بسنده عن أبي عبدالله عن أبيه عليهما السلام قال قال لي علي بن الحسين صلوات الله عليهما (يا بني انظر خمسة فلا تصاحبهم ولا تحادثهم ولا ترافقهم في طريق فقلت يا أبه من هم؟ قال إياك ومصاحبة الكذاب فإنه بمنزلة السراب يقرب لك البعيد ويباعد لك القريب وإياك ومصاحبة الفاسق فإنه بائعك بأكلة أو أقل من ذلك وإياك ومصاحبة البخيل فإنه يخذلك في ماله أحوج ما تكون إليه وإياك ومصاحبة الأحمق فإنه يريد أن ينفعك فيضرك وإياك ومصاحبة القاطع لرحمه فإني وجدته ملعونا في كتاب الله عز وجل في ثلاث مواضع قال الله عز وجل "فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم * أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم" وقال "الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار" وقال في البقرة "الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك هم الخاسرون).[34]

وفي رواية اخرى عن عمر بن يزيد قال (سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قول الله عز وجل "الذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل" فقال: قرابتك).[35]

وفي رواية عن سماعة بن مهران عن أبي عبد الله عليه السلام قال (إن الله عز وجل فرض للفقراء في أموال الأغنياء فريضة لا يحمدون إلا بأدائها وهي الزكاة بها حقنوا دمائهم وبها سُمُّوا مسلمين ولكن الله عز وجل فرض في أموال الأغنياء حقوقا غير الزكاة.. (الى ان قال) ومما فرض الله عز وجل أيضا في المال من غير الزكاة قوله عز وجل "الذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل"... الحديث).[36]

والظاهر ان المراد به صلة الرحم بالمال.

وأصل وجوب صلة الرحم والاهتمام به مما أكّد عليه الشرع ولا أدلّ عليه من قوله تعالى (وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا).[37] وقوله (والارحام) عطف على اسم الجلالة اي اتقوا الارحام اي اتقوا قطيعتها وهذا غاية في تشديد الحكم ثم عقب الكلام بالتنبيه على كونه تعالى رقيبا على الانسان مما يدل على أن الاضرار بالرحم مورد للمؤاخذة حتى لو كان غائبا عنك فان الله رقيب عليك.

والروايات في هذا الباب كثيرة جدا في كتب الفريقين نذكر تيمنا وتذكّرا بعض الاحاديث من الكافي الشريف[38]:

منها ما ورد في تفسير الآية السابقة في حديث صحيح عن جميل بن دراج قال (سألت أبا عبدالله عليه السلام عن قول الله جل ذكره "واتّقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا" قال فقال: هي أرحام الناس إن الله عز وجل أمر بصلتها وعظّمها ألا ترى أنه جعلها منه). اي عطفها على الاسم الجليل تعظيما لامره.

وبسند صحيح عن اسحاق بن عمار قال (بلغني عن ابي عبدالله عليه السلام ان رجلا اتى النبي صلى الله عليه واله وسلم فقال يا رسول الله اهل بيتي أبوا الا توثّبا عليّ وقطيعة لي وشتيمة فارفضهم؟ قال اذاً يرفضكم الله جميعا قال فكيف اصنع؟ قال تصل من قطعك وتعطي من حرمك وتعفو عمّن ظلمك فانك اذا فعلت ذلك كان لك من الله عليهم ظهير).

وعن ابي عبدالله عليه السلام قال قال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم (لا تقطع رحمك وان قطعتك).

وفي رواية معتبرة عن الامام الرضا عليه السلام أنه قال (يكون الرجل يصل رحمه فيكون قد بقي من عمره ثلاث سنين فيصيرها الله ثلاثين سنة ويفعل الله ما يشاء).

وفي رواية معتبرة قال أبو عبد الله عليه السلام (ما نعلم شيئا يزيد في العمر إلا صلة الرحم حتى ان الرجل يكون أجله ثلاث سنين فيكون وصولا للرحم فيزيد الله في عمره ثلاثين سنة فيجعلها ثلاثا وثلاثين سنة ويكون أجله ثلاثا وثلاثين سنة فيكون قاطعا للرحم فينقصه الله ثلاثين سنة ويجعل أجله إلى ثلاث سنين).

وفي رواية عن أبي عبد الله عليه السلام قال قال أمير المؤمنين عليه السلام (صلوا أرحامكم ولو بالتسليم يقول الله تبارك وتعالى "واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا).

والرحم موضع الجنين في بطن المرأة. والمراد بالارحام من يشارك الانسان في رحم مع كونه في نفس الوقت يعدّ من الاقارب عرفا فيشمل الوالدين والاخوة والاعمام والاخوال واولادهم وغير ذلك.

والمراد بقطع الرحم ترك المواصلة معهم بالاحسان اليهم حين الحاجة والتفقد عنهم وزيارتهم ان اقتضته المناسبة وعيادة مرضاهم وحضور جنائزهم وقضاء حوائجهم فترك المواصلة قطع للرحم فضلا عن الاساءة اليهم.

 

وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ...

الصفة الثالثة للفاسقين المنكرين للرسالة انهم يفسدون في الارض.

وقد مر الكلام حول معنى الفساد في تفسير قوله تعالى (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ)[39] وقلنا ان الفساد ضد الصلاح وهو بقاء كل شيء على حالته الطبيعية ليُنتفع به كما أراده الله تعالى فكل تغيير في الوضع الطبيعي بحيث يستلزم عدم استقامة الشيء للانتفاع به فساد فيه.

والمراد بالافساد في الارض نشر هذه الحالة اي تخريب ما وضعه الله تعالى لمصلحة الناس كما قال تعالى (وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ).[40] والظاهر أن إهلاك الحرث والنسل عطف تفسير على الافساد ويمكن ان يكون ذكر الحرث والنسل كناية عن إفساد مقومات الحياة البشرية بوجه عامّ.

 

أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ...

هذا التعبير يدل على حصر الخاسرين فيهم وهو حصر اضافي ولعل وجه الحصر تشديد الرد عليهم حيث إنهم يرون أنفسهم غانمين فائزين كما هو شيمة المنافقين.

وهناك اختلاف في كتب اللغة في اصل معنى الخسران فالغالب فسروه بالنقص فقط ولكن ابن دريد في الجمهرة قال انه في الاصل بمعنى الضلال. والضلال هو الضياع والهلاك كما في الصحاح وغيره. وقال العسكري في الفروق (واصل الخسران في العربية الهلاك).

ويظهر من بعضهم تعدد المعنى فقد روى الازهري في تهذيب اللغة عن ابن الاعرابي انه قال (خسر اذا نقص ميزانا او غيره وخسر اذا هلك). وقال في الصحاح (خسرت الشيءَ - بالفتح - وأخسرته: نقصته) الى ان قال (والتخسير: الاهلاك) وقال ايضا (الخسار: الضلال والهلاك) وعليه فلا يبعد ان يكون المعنى انهم هم الهالكون.

ويلاحظ أنّ الآية الكريمة وردت في ذكر اوصاف الفاسقين الذين لا يهتدون بهدايات الله بل تزيدهم الآيات ضلالا وكفرا وفسوقا ولكن لم تتعرض لعقائدهم في الله تعالى وفي الرسالة بل تعرّضت لما برز او يبرز منهم في العمل والسيرة فيما يتعلق بعلاقتهم بالله تعالى ورسله واوليائه والمجتمع البشري فانهم ينقضون عهد الله ويقطعون علاقتهم بمن ولّاهم الله على البشر وامر بمتابعتهم وينشرون الفساد والظلم في الارض.

من هؤلاء؟!

والى من يوجّه هذا الخطاب؟!

واين اولوا الالباب؟!

ومن الغريب اننا نجد كثيرا ممن يتلون القرآن ويفسّرونه وينادون بلزوم متابعته يتبعون هذا الصنف من الناس!!

من هم هؤلاء الذين نقضوا عهد الله..؟!

نقضوا بيعتهم مع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وهو عهد الله كما قال تعالى (وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ)[41] فحينما قالوا سمعنا واطعنا وبايعوا الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وبايعوا من امر الرسول بمبايعته فقد عاهدوا الله ثم نقضوا ميثاقهم وقطعوا الصلة التي امر الله به مع اوليائه وافسدوا في الارض وقتلوا خيار المؤمنين وسادتهم ائمة اهل البيت عليهم السلام.

وأهمّ ما افسدوه دين الناس فتجد الآن معظم من يتلون آيات الله ويدّعون متابعتها ينادون بوجوب متابعة المفسدين الناقضين للعهد والقاطعين أواصر الولاية الالهية!!

 

كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ...

يمكن أن يكون الخطاب في هذه الآية للبشر لا لخصوص الكفار إمّا بلحاظ أنّ كثيرا من البشر يكفر بالله فيصحّ لذلك توجيه خطاب عام اليهم: (كيف تكفرون ايها البشر بالذي احياكم) وإمّا بلحاظ أن الغالب من المؤمنين ايضا لا يخلو باطنهم من كفر بالربوبية المطلقة كما قال تعالى (وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ).[42]

وقال ايضا (قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ).[43] فان الخطاب في هذه الآية لا يخصّ الكفار.

ويمكن ان يكون الخطاب في هذه الآية للكافرين سواء أظهروا الايمان كالمنافقين ام أعلنوا الكفر. ويبعد ان يكون الخطاب لليهود والنصارى كما قالوا في الآيات السابقة لانهم لا يكفرون بالله ظاهرا.

والاستفهام للاستنكار وإنشاء التعجب من كفرهم بالله إمّا بمعنى إنكارهم لوجود الله كما كان يظهر من بعضهم او بمعنى إنكارهم لربوبيته تعالى فانه ايضا كفر بالله وليس كفرا بأنعمه فحسب لان الذي يكفر بالربوبية ينكر وجود إله يدير شؤون الكون ويرى نفسه مستغنيا عن توفيق الله وعطائه المستمر ويرى الله خالقا للكون بعيدا عن التدخل في شؤونه ويكتفي بتوسله بالوسائل الطبيعية للوصول الى مقاصده. وهذا النوع من الكفر هو ما اشرنا اليه آنفا انه ربما يصيب كثيرا من المؤمنين بظاهر الاسلام ايضا.

اما المؤمن بالربوبية المطلقة فيرى نفسه مشدودا الى ربه دائما لا يستغني عنه لحظة ويرى أنّ كل ما يتنعّم به انما هو فضل من الله لا في اصل الخلقة بل بتوفيقه تعالى حيث مكّنه من الوصول الى هذه النعمة او أبعده عن ذلك الشرّ.

ولا شك ان الانسان يجب ان يتوسل بالوسائل الطبيعية التي وضعها الله تعالى وسائط للوصول الى المقاصد فالجائع لا يشبع الا بالاكل ولا يجد الطعام الا ببذل الجهد ولو بقي على حاله ودعا ربه ان يشبعه فسيموت جوعا ولو لم يخرج لكي يحصل على طعام وطلب من الله الرزق فلن يُرزق شيئا ولكن الذي يوفقه لكسب الطعام عن الطريق الطبيعي هو الله تعالى.

وقد لا يرى الانسان هذه اليد الخفية في شؤونه ولكنه يراها في مواضع خاصة وكلنا قد رأى في حياته كيف ان الله تعالى كفاه الشر بطريق لم ينتبه له فيجد نفسه مثلا مبتلى بامر لا يرضى به وهو يلعن حظّه ثم يعلم بعد حين انه لولا ذلك لوقع في مصيبة اكبر.

وكلنا قد راى في حياته كيف ان الله تعالى اوصله الى خير غير متوقع وهذه الامور تنبه الانسان ان هذه اليد الغيبية هي التي تمهّد له الطريق في كل ما يصل اليه من خير وتدفع عنه الشر.  

وقوله (وكنتم امواتا فاحياكم) جملة حالية ولا حاجة الى تقدير (قد) كما قيل بل لا يصح تقديره لان الاستنكار ليس من جهة انهم كانوا امواتا فأحياهم حيث يكون حالا ماضيا فيحتاج الى تقدير (قد) بل الاستنكار من كفرهم وهم يعلمون ذلك والعلم امر موجود في الحال اي كيف تكفرون وانتم تشعرون انكم كنتم امواتا قبل ان يبعث الله في اجسامكم الحياة كما بعث في كل الأحياء. والاموات جمع ميّت اي ما لا روح فيه فيشمل كل الجمادات والنباتات.

وهذا الخطاب يمكن تفسيره بوجوه:

الوجه الاول: أن الانسان اصله من هذه الارض ومن المواد الطبيعية التي يتغذى بها فتتكون منها النطفة التي هي مبدأ تكوّن الجنين ثم الانسان الكامل وهذه الموادّ لا حياة لها وان كانت نباتا فان المراد بالحياة هنا الحياة الحيوانية التي تنشأ منها الحركة بالارادة والاحساس.

وعليه فالمراد بقوله تعالى (كنتم أمواتا) اي كان مبدأ خلقكم مادة لا حياة لها وانما دبّت فيه الحياة بامره تعالى والله عبّر عن هذا الاصل بالتراب.

وقد تكرر في القرآن التنبيه على أنه تعالى خلقكم من تراب ثم من نطفة.. منها قوله تعالى (يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ..).[44]

الوجه الثاني: أنه لو فرضنا أن اطلاق هذا الاصل على الانسان غير مناسب فلا يصح ان يقال كنتم ترابا او طعاما ولكن لا شك أن الانسان متحقق بالتطور من النطفة وهي وان كانت خليّة حية تتكاثر وتكون علقة ثم مضغة وهكذا يتكامل الجنين وهو مركب من خلايا حية الا أنّ هذه الحياة ليست مستقرة ولا مستقلة وانما هي حياة الامّ تدبّ في الجنين فاذا قطع الارتباط بالام مات الجنين فيصح ان يقال انه بذاته ميّت لا حياة له الى أن تدبّ فيه الحياة المستقرة المستقلة فلا يموت بقطع الحبل السُرّي. وبهذا الاعتبار يخاطب الانسان بأنه كان ميتا فأحياه الله بمعنى أنه لم يتمتع بحياة مستقلة.

والحياة من أشدّ ما في الطبيعة تعقيدا ولم يصل الى حقيقتها البشر حتى الآن بالرغم من كل ما حصل عليه من تقدّم في العلم ولعله لا يصل اليه اصلا. وحتى لو وصل فالكلام في أن هذا الامر الغريب قد خلقه الله تعالى ومنّ به علينا ولولا الحياة لكنّا جمادا كالحجر والشجر فكيف تكفرون بالله تعالى وهل يمكن أن تسند هذه الحقيقة الى موجود آخر؟!

ولغرابة هذه الحقيقة يستبعد الانسان ان يحيي الله الموتى حتى ان بعض الانبياء ايضا استغرب الإحياء كما قال تعالى (أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).[45] بناءا على انه عزير او ارميا ومهما كان فهو من الانبياء كما يبدو من الآية.

ومنهم من كان يطلب من الله ان يريه الإحياء ليطمئن كما قال سيدنا ابراهيم عليه السلام فيما ورد في قوله تعالى (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ).[46]

الوجه الثالث: يمكن ان يقال بأن قوله تعالى (وكنتم امواتا) لا يراد به حالة كون الانسان ترابا او نطفة لان الانسان في الواقع ليس هذا الجسم المخلوق من التراب والا لكان يفنى كما يفنى سائر انواع الحيوان بل حقيقته النفس البشرية التي عبر الله تعالى عنها بانها روحه قال تعالى (فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ)[47] والاضافة الى الله تعالى من باب التشريف.

ويمكن ان يستدل على أن حقيقة الانسان هي الروح الالهية بقوله تعالى (اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ).[48]

فان التوفّي لا يصدق الا باخذ الشيء بكامله تقول استوفيت ديني اي اخذته تماما فمعنى الآية أن الله تعالى يأخذ الانفس اي انفس البشر في نومهم مع أن الحياة الحيوانية باقية حال النوم فتدل الآية على أن حقيقة الانسان هي روحه التي تقبض حين الموت وحين النوم. 

وهناك من الناس حتى المؤمنين بل علماء الدين من ينكر وجود روح خاص بالانسان غير ما به الحياة وهو ايضا يسمى روحا وهذا الروح مشترك بينه وبين سائر الحيوانات ويعتقدون بأن الانسان ليس الا هذا الجسم.  

ومن هنا يتبين ان محاولات الماديين في انكار ان يكون الانسان اصلا بنفسه لانه انما تطور من حيوان اخر كالقرد محاولات فاشلة حتى لو صحت هذه الفرضيات البائسة فان اصل الانسان ليس هذا الجسم بل اصله نفسه وروحه وهو لم ينحدر من حيوان.

وهذا هو الذي يشير اليه تعالى بقوله (ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ).[49]

فقوله تعالى خلقا آخر يعني أنه ليس حاصلا من تطور هذا الجسم فضلا عن جسم حيوان آخر ولعظمة هذا الخلق عقبه تعالى بقوله (فتبارك الله احسن الخالقين) ولم يقل ذلك في خلق سائر الخلائق.

وعليه فقوله تعالى (كنتم امواتا) إمّا ان يراد به موت هذا الجسم قبل ولوج الروح فيكون الخطاب بانكم كنتم امواتا نوع من التجوز اذ الميت هذا الجسم المرتبط به لا الانسان بذاته. وإما ان يراد به موت الانسان باعتبار عدم ارتباط روحه البشرية بجسمه او عدم نفخ الروح الالهية فيه وهو نفس الحالة التي تعرض بالموت حيث ينتقل الروح ويفارق جسمه فيكون التعبير بالموت بهذا اللحاظ سواء قلنا بأن الارواح مخلوقة قبل الاجسام كما ربما يستفاد من بعض الروايات ويقول به بعض الفلاسفة او قلنا بانها تخلق بعد الجسم وبتطور فيه كما يقول به بعض اخر.

ولعل ما يقوله الفقهاء من أن الجنين يدبّ فيه الروح بعد اربعة اشهر او أقل او أكثر يراد به ارتباطه بالروح الانسانية لا الحياة بالمعنى المعروف.

وقوله (ثم يميتكم ثم يحييكم) قيل انها جملة اخرى تعرّض لذكرها بالمناسبة وللتنبيه على المراحل الآتية للتكامل البشري وليست مكمّلة للجملة السابقة اذ ليس في الإماتة منّة على البشر حسب الميل الشخصي. واما الإحياء بعد الموت فهو امر لا يشعر به الانسان بل ربما لا يُصدّق به فليس من ضمن ما يوجب التعجّب من كفره.

ولكن لا يبعد أن يكون المراد بالآية تنبيه الانسان بأنّ كفره بالخالق الذي منحه الحياة عجيب بلحاظ أنه يحييه بعد الموت ويرجع اليه فيحاسبه فليس كسائر الأحياء تنتهي حياته بالموت في هذه الدنيا.

ثم إن الموت يعدّ ايضا من النعم الالهية بملاحظة حال المجتمع البشري وحياة الانسان على الارض كمجموعة اذ لو لم تمُت الاجيال السابقة ما كانت الارض تسع للاجيال اللاحقة ولا مواردها تكفيهم بل هو نعمة على كل انسان لانه بذلك يبلغ الى غاية ما يتمناه الانسان وهو لقاء ربه.

ونحن ندعو في دعاء ابي حمزة (حبب إلي لقاءك وأحبب لقائي واجعل في لقائك الراحة والرحمة والكرامة)[50] وفي زيارة امين الله (اللهم فاجعل نفسي مطمئنة بقدرك راضية بقضائك... (الى ان يقول) مشتاقة إلى فرحة لقائك).[51]

وقد قال تعالى (مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ..)[52] اي من كان يرجو ويحب لقاء الله تعالى فليستقبل الموت فانه اجل الله الذي يلقى به ربه.

وقال تعالى (قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)[53] وهذه الآية تدل بوضوح على أن اولياء الله تعالى يجب ان يتمنوا الموت ليحظوا بلقاء الله تعالى.

وهذا لا ينافي ما ورد من النهي عن تمنّي الموت فإنّ الظاهر أنّ المراد به تمنّي الموت تهرّبا من مصائب الدنيا ولا ينبغي للمؤمن أن يتمنى الموت لذلك وأما تمنّيه شوقا الى الله تعالى فهو غاية الكمال.

والذي يحصل بالموت وبسببه يحظى الانسان باللقاء هو تخلّص الروح الانساني من محبس الطبيعة واتصاله بحقيقة الكون اتصالا مباشرا فيدرك حينئذ بكل وجوده كل حقائق الكون ويعبّر عنه باللقاء لانه علم حضوري نظير علم الانسان بنفسه.

والموت فقدان الحياة وهو من الحقائق المرّة في هذه الحياة التي تصيب الحيوان والانسان ويتهرّب منه كل ذي حياة حتى الحشرات الصغار وهو امر غريب مع انه يصيب الجميع لا محالة ولا مفرّ منه ولا يمكن للانسان ان يتجاهله فكل نفس ذائقة الموت.

وفي الآيات الاخيرة من سورة الواقعة تصوير بديع لضعف الانسان امام هذه الظاهرة المتكررة سواء في ذلك الانبياء والاولياء والعصاة من الناس وسواء ايضا جبابرة الملوك والاقوياء والابطال وعامة الناس وسواء ايضا العلماء والاطباء والاذكياء والجهال والاغبياء قال تعالى (فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ * وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ * وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ * فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ * تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ).[54]

يبقى الكلام في أنّ المذكور في هذه الآية إماتة وإحياء وربما يتنافى ذلك مع قوله تعالى (قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ).[55] وانما يقولون ذلك يوم القيامة لان هذا التكرر يبعث فيهم الأمل بان يتكرر الموت والحياة مرة اخرى فيعودون الى الحياة الدنيا او يخرجون من النار ولو موقتا.

وربما يقال ان الموتة الاولى في هذه الاية هي نفس ما ذكر هنا اي الموت قبل الحياة الدنيا.

ولكن ذلك موت وليس إماتة والتعبير في هذه الاية انهما إماتتان والإماتة لا تصدق الا مع سبق الحياة مع ان هذا الموت لا يؤثر في بعث الامل المذكور كما هو واضح فالمراد أنهم كانوا أحياء في الدنيا فأماتهم الله ثم بعثهم ثم أماتهم ثم بعثهم وهذا لا يتم الا بالقول بالحياة البرزخية في البعث الاول.

وهذا مما دلت عليه آيات عديدة:

منها قوله تعالى (وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ).[56]

ومنها قوله تعالى (وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ * النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ).[57]

وقوله (وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ).[58]

وقوله (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ)[59] وفي الآية الاخيرة بعض تفاصيل عالم البرزخ. 

ويمكن ان يقال في الجواب ان قوله تعالى (ثم يحييكم) ربما يقصد به الحياة البرزخية فيكون قوله تعالى (ثم اليه ترجعون) بمعنى الإحياء في الآخرة بعد الإماتة في البرزخ. ولعله لم يتعرض للاماتة في البرزخ لانه قد لا تكون هناك إماتة عامّة فلا نعلم كيفية انتقال الناس من عالم البرزخ الى المحشر.

ويمكن أن يستغنى عن ذكر الحياة البرزخية بأنها تتحقق بنفس الاماتة في الحياة الدنيا فالموت ليس الا انتقالا للانسان من عالم الى عالم وحقيقة الانسان روحه لا جسمه الذي يموت ويفنى وعليه فيكون المراد بقوله (يحييكم) الاحياء في الآخرة ولا ينافيه قوله (ثم اليه ترجعون) فان الرجوع الى الله للحساب متأخر عن الإحياء رتبة بل زمانا ايضا.

وأتى بقوله (تُرجعون) مبنيّا على المجهول للاشارة الى أنّ الانسان مسيّر هناك وليس الامر باختياره.  

 

هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا...

الآية في سياق الآية السابقة وانشاء التعجب من كفر الانسان بربه الذي أحياه وذلك ببيان النعم الالهية عليه ولذلك قدّم الضمير المنفصل الذي يعود اليه تعالى للاشارة الى أن من أحياكم هو الذي أنعم عليكم بكل هذه النعم.

وهذه الجملة تدلّ بوضوح على أنّ الهدف من خلق الارض وما فيها وما عليها هو تكريم الانسان. ومثلها بل واوسع منها بكثير قوله تعالى (وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)[60] وقوله تعالى (جميعا) في الموردين للتأكيد والدلالة على انه لا يشذّ من ذلك شيء.

وهذه الآية ربما تفسّر التسخير في سورة الجاثية اذ ليس المراد ان الانسان له القدرة في التصرف في كل ذلك بل بمعنى انّها مسخّرة لمصلحة الانسان وهذا هو المستفاد من كونها مخلوقة من اجله فكل حركة الافلاك والنجوم والمجرّات الهائلة تصبّ في مصلحة الانسان فضلا عن كل ما على وجه الارض وما في باطنها.

ومن جهة اخرى فان كون الارض وما فيها للانسان يستلزم كون الافلاك كلها له لانّ النظام الكوني مجموعة واحدة متناسقة يشدّ بعضه بعضا ويؤثر كل منها على نظام حركة الارض وما نجده من الليل والنهار وغير ذلك.

وهناك فرق بين الآيتين من جهة التعبير في سورة الجاثية بالتسخير وهنا بالخلق الا أن التسخير تعلق بكل ما في السماء والارض والخلق بكل ما في الارض فيظهر منه أن ما في السماء لم يخلق له ولكنه مسخر لمصلحته ويمكنه ان يستفيد منه اذا تمكن من الوصول اليه او الى آثاره وأما ما في الارض فقد خلق له وهذا يشمل ما على وجه الارض وما في باطنه مما اكتشفه الانسان حتى الان او لم يكتشف.

ولكيلا نغترّ بانفسنا يجب ان نستذكر قوله تعالى (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)[61]  فالكون وان خلق للانسان الا انّ الانسان خلق ليعبد الله تعالى فالكون انما خلق لعبادته تعالى وحيث لا يقوم بالعبادة حق القيام الا الانبياء والاولياء الخالصون المخلصون - بفتح اللام - فالكون مخلوق من اجلهم لا من اجل الظلمة والطغاة والمفسدين في الارض والهمج الرعاع أتباع كل ناعق والذين يميلون مع كل ريح.

ويجب على الانسان المخاطب بهذا الخطاب الكريم من الرب الجليل ان ينتبه الى دوره في الكون فاذا كان الله تعالى خلق الكون من اجله فلا شكّ في أنّ ذلك لغرض خطير يترتب على وجوده كما قال تعالى (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ)[62] فيجب عليه أن يعرف قدره ولا يتوهم أنه لا يختلف عن سائر الحيوانات وأنّ عليه أن يتلذذ بكل ما يتمكن منه في الحياة الدنيا قبل ان يموت ويعود جمادا.

 

ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ...

لا يبعد أن يكون الوجه في التعرض لخلق السماء بعد الاشارة الى أن كل ما في الارض خلق للانسان يقصد به أنّ ما في السماء ايضا كذلك خصوصا اذا كان المراد بها الاجرام الفلكية فان مجموعة هذا الكون - كما مرّ - متماسكة يشدّ بعضها بعضا وتؤيد ذلك الآية التي وردت بهذا الشأن في سورة الجاثية وقد مر ذكرها.

و(ثمّ) للتأخير في البيان كقوله تعالى (ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ)[63] فان ايمانه قبل اقتحامه العقبة المذكور قبل هذه الاية.

وليست (ثم) هنا للتأخر في الزمان بحيث يكون خلق السماء بعد خلق الارض وخلق ما فيها جميعا وذلك بدليل قوله تعالى (أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا * رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا * وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا * وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا * أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا * وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا)[64] فإنّ قـوله (بعد ذلك) أظهر في التراخي الزماني من (ثم). مع أن الامر واضح بملاحظة طبيعة الخلق.

وأمّا قوله (استوى) فهو افتعال من السواء اي التساوي بين شيئين واذا اُسند الى شيء واحد فالمراد اعتدال أجزائه ولذلك يطلق الاستواء على الاعتدال والاستقامة كما في معجم المقاييس.

فالاستواء مثلا في قوله تعالى (كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ..)[65] بمعنى استقامة الزرع واعتداله. واذا تعـدى بـ (على) كان بمعنى الاستقرار كقوله تعالى (وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ..)[66] والجودي اسم جبل كما قيل. او بمعنى الاستيلاء كقوله تعالى (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى)[67] واذا تعدى بـ (الى) كان بمعنى قصد وتوجّه الى الشيء باهتمام.

والظاهر أنّ هذه الكلمة وان ضُمّنت معنى الاستيلاء في ما اذا تعدّت بـ (على) الا أنّ اختيار هذا التعبير قد يكون للتدليل على استواء نسبة الاشياء اليه تعالى والى سلطانه فلا شيء أقرب اليه من شيء ولا أهون عليه من شيء.

ومثل ذلك ايضا ملحوظ فيما اذا تعدّى بـ (الى) فقوله (استوى الى السماء) ربما يفيد أنّه تعالى قصد السماء مع استواء نسبة كل جزء منها اليه فان اللّه تعالى لا يشغله شيء عن شيء.

والسماء جهة العلو من السُّمُوّ بمعنى الارتفاع فيحتمل ان يراد بها هنا الاجرام الفلكية والتعبير عنها بالسماء باعتبار اننا نجدها فوقنا. ويحتمل ان يراد بها عالم الملائكة فيكون العلوّ معنويا. وهي عوالم غيبية لا نعلم عنها شيئا الا أنّها ليست أجساما فوق هذه الافلاك.

وهذه العوالم مساكن الملائكة الكرام كما قال تعالى (وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللّه لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى)[68] وورد ذلك في تعبير أمير المؤمنين عليه السلام حيث قال (مِنْ مَلَائِكَةٍ أَسْكَنْتَهُمْ سَمَاوَاتِكَ وَرَفَعْتَهُمْ عَنْ أَرْضِكَ)[69] ولكن لا نعلم كيفية تعلقهم بها.

وقوله عليه السلام (ورفعتهم عن أرضك) لا يعني أنهم ليسوا على الارض فهم موجودون في كل مكان ومع كل انسان منهم رقيب عتيد وهم كرام كاتبون يعلمون ما تفعلون بل المراد أنهم مع ذلك ليسوا من عالم الطبيعة فهم على الارض ايضا في سماء وترفّع ولذلك لا نراهم ولا نسمع كلامهم واذا ارادوا الارتباط بالانسان فربما يكون ذلك بالتمثّل كما قال تعالى في شأن مريم عليها السلام (فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا).[70] وكما تمثّلت الملائكة لابراهيم ولوط عليهما السلام.

والضمير المؤنث في (فسوّاهنّ) يعود الى السماء بلحاظ المعنى لتعدّدها او يكون ضميرا مبهما لا يعود الى شيء ويفسّره قوله سبع سماوات فكأنّه يعود في المعنى الى السماوات السبع. ومثل ذلك قوله تعالى (ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ * فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ..).[71]

والتسوية بمعنى الخلق والصنع وانما عبّر عنه بالتسوية بلحاظ جعل كل جزء من الشيء مساويا لسائر الاجزاء في أداء وظيفته لا في الحجم والوزن ونحوهما اذ لا يمكن ذلك وليس من الصنع الصحيح في شيء انما تصح التسوية باعتبار وضع كل جزء من الشيء في موضعه وبالمقدار الذي لا بدّ منه والكيفية التي لا بدّ منها ليتكون الشيء صحيحا سويّا يؤدي كل جزء منه وظيفته تماما.

وتحديد عدد السماوات بالسبع يحتمل ان يكون من باب الكثرة فانّ السبع والسبعين يؤتى بهما للتعبير عنها كقوله تعالى (وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ..)[72] اذ لا شك أنّ هذا العدد لا خصوصية له في هذا الحكم. وكذلك قوله تعالى (إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ..).[73] ويحتمل ان يكون عددا واقعيا بلحاظ كثرة تكرار هذا العدد في بيان خلق السماوات.

وبناءا على هذا الاحتمال فان اريد بها العوالم الغيبية فلا علم لنا بها وان اريد بها الاجرام الفلكية والمجرات التي نشاهدها او نعلم بوجودها فتقسيمها الى سبعة لا نعلم له وجها لعدم وصول الانسان الى حدودها وعدم معرفته بهذا الكون وما وراءه.

ولعلّ الانسان يصل في المستقبل الى السرّ في ذلك فيجد مثلا أنّ هذه المجرات وما تحتوي عليها من أجرام تنقسم الى سبع طبقات مختلفة بل يمكن ان يكون هناك عوالم مثل عالمنا سبعا او سبعين او الى ما لا يحصى فقد قال تعالى (قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا)[74] ومثلها آية سورة لقمان التي ذكرناها آنفا.

 

وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ...

تعقيب خلق السماوات والارض بسعة علمه تعالى للتنبيه على عظمة الخلق ودقّته كما قال تعالى (الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ * ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ).[75]

ومن هنا كان ذكر كونه تعالى عليما اولى من توصيفه بالقدرة فهو عليم بكل ما يحتاجه الشيء ليكون تامّا سويّا وبكل ما يحتاجه كل جزء منه ليؤدّي وظيفته.

وحقّا إنّ صنع الكون والسماوات والارض وكل ذرّة من ذرّات الكون وكل ما نراه على الارض يشتمل على الدقّة واختيار الكيفية الخاصة والنسبة الخاصة مما يثير الدهشة وقد اعترف العلماء بأن طروّ النقص او الزيادة على اي جزء صغير من الكون يفسد النظام الكوني بأكمله فسبحانه تعالى من عليم قادر حكيم.

والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وآله الطاهرين

 


[1] العنكبوت: 41

[2] الحج: 73

[3] الفرقان: 32

[4] الحجر: 7

[5] الزخرف: 31

[6] النساء: 153

[7] الاسراء: 82

[8] البقرة: 17

[9] سبأ : 13

[10] الرعد: 19 - 21

[11] الرعد: 25

[12] النحل: 92

[13] يس: 60

[14] ال عمران: 187

[15] الاعراف: 172

[16] الانعام: 63- 64

[17] فصلت: 11

[18] يس : 60

[19] النساء: 165

[20] المائدة: 7

[21] نهج البلاغة ص43 الخطبة الاولى

[22] المؤمنون: 44

[23] ال عمران: 81 - 82

[24] البقرة: 125

[25] طه: 115

[26] الكافي ج1 ص221 باب ان الائمة معدن العلم

[27] محمد صلى الله عليه واله وسلم 20 - 23

[28] الحاقة: 49

[29] الرعد: 21

[30] الكافي ج2 ص156 باب صلة الرحم

[31] ورد في عدة روايات راجع علل الشرايع ج1 ص 127 وعيون الاخبار ج1 ص91 وكمال الدين ص 261

[32] معاني الاخبار ص118

[33] الكافي ج2 ص151 باب صلة الرحم

[34] الكافي ج2 ص641 باب من تكره مجالسته ومرافقته

[35] الكافي ج2 ص156 باب صلة الرحم

[36] الكافي ج3 ص498 باب فرض الزكاة

[37] النساء: 1

[38] الكافي ج2 ص150 باب صلة الرحم

[39] البقرة: 11

[40] البقرة: 205

[41] المائدة: 7

[42] يوسف: 106

[43] الانعام: 63 - 64

[44] الحج: 5

[45] البقرة : 259

[46] البقرة : 260

[47] الحجر : 29 /  ص : 72

[48] الزمر: 42

[49] المؤمنون: 14

[50] مصباح المتهجد ص 169

[51] مصباح المتهجد ص 738

[52] العنكبوت: 5

[53] الجمعة: 6

[54] الواقعة: 83 - 87

[55] غافر: 11

[56] المؤمنون: 100

[57] غافر: 45 - 46

[58] البقرة: 154

[59] ال عمران: 169 - 170

[60] الجاثية: 13

[61] الذاريات: 56

[62] المؤمنون : 115

[63] البلد: 17

[64] النازعات: 27 - 32

[65] الفتح: 29

[66] هود: 44

[67] طه: 5

[68] النجم: 26

[69] نهج البلاغة الخطبة 109

[70] مريم: 17

[71] فصلت: 11 - 12

[72] لقمان: 27

[73] التوبة: 80

[74] الكهف: 109

[75] الملك: 3 - 4<