مكتب سماحة السيد مرتضى المهري

مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (261)

مجموعة آيات تحث على الانفاق تتبعها آيات تمنع من المنة على الفقراء وايذائهم ومن الربا ثم يذكر شروطا في الصدقة المستحبة ثم تأتي آيات حول الدين.

ففي هذه الآية يحثّ الناس على الانفاق في سبيل الله بذكر الثواب العظيم الذي أعده الله تعالى للمنفق في سبيله ولعل الانسان يتوهم أن الافضل لحفظ النظام السياسي والاجتماعي ان يؤمر الناس بدفع الضرائب ويجبرون عليه والحاكم الاسلامي ينظم صرف الضرائب في الانفاق على الفقراء وفي سائر الوجوه التي تدخل تحت عنوان في سبيل الله تعالى من مصاريف الجهاد وبناء المدن والمرافق الضرورية كالمستشفيات والمدارس.

ولكن الله تعالى يريد ان يربي الانسان فلا يهمه النظام الحكومي الا بمقدار ما يكون دخيلا في تربيته وليست الحكومة والسلطة هدفا وغرضا للرسالات وانما يحكمون الناس ليصنعوا منهم جيلا صالحا لكسب رضوان الله تعالى.

ومن هنا كان الانفاق مطلوبا ان كان في سبيل الله وابتغاء مرضاته بينما النظم الحاكمة على البشر لا تهتم بقصد الانسان وانما تريد منه المال باي نية دفعه.

والمراد بقوله في سبيل الله كل انفاق يقصد به التقرب الى الله فيشمل الانفاق على الفقراء كما يشمل الانفاق في الجهاد وفي سائر المصالح العامة وقيل انه هنا يختص بالجهاد ولذلك كان الثواب مضاعفا الى سبعمائة ضعف بينما الانفاق على الفقراء يضاعف الى عشرة اضعاف فقط كسائر الاعمال الحسنة.

ولكن الصحيح ان هذه الآيات لو لم نقل انها خاصة بالتصدق على الفقراء فلا اقل من كونها شاملة له كما هو واضح من قوله في الاية التالية ثم لا يتبعون ما انفقوا منا ولا اذى فان الذي يتبع انفاقه الاذى هو من يتصدق على الفقراء فيمنّ عليهم ويؤذيهم وسياتي في الاية 271 وان تخفوها وتؤتوها الفقراء...

ومن الواضح أن المراد بهذا الجزاء المضاعف ثواب الآخرة لا زيادة المال في الدنيا كما ربما يتوهمه عامة الناس فانا نجد ان بعضهم لا يهتمون بالثواب الاخروي بل يهتمون ببركة المال في الدنيا كما يقولون وهم يتوقعونه حتى في الانفاق الواجب.

ولذلك نجد بعضهم يهتمون بالفطرة لانهم سمعوا من الخطباء ان من يعطيها يبقى حيا الى السنة التالية ومن الغريب انهم لم ينتبهوا الى ان الغالب من الناس يدفعها والموت لا يترك احدا ونسمع من بعضهم انه يريد ان يدفع الخمس لتحصل البركة في ماله ولكنا نجد ان اكثر الاثرياء لا يدفعونه بل لا ينفقون اصلا.

ونلاحظ ان الائمة الطاهرين عليهم السلام وعلى راسهم امير المؤمنين عليه السلام كانوا من اكرم الناس وينفقون اموالهم في سبيل الله تعالى ولكن لم يكونوا أثرياء.

ومع ذلك فمما لا شك فيه ان الصدقة تنفع في الدنيا ايضا وقد ورد التصريح به في روايات كثيرة منها ما ورد في الحديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم انه قال (إن الصدقة تزيد صاحبها كثرة فتصدقوا يرحمكم الله وإن التواضع يزيد صاحبه رفعة فتواضعوا يرفعكم الله وإن العفو يزيد صاحبه عزا فاعفوا يعزكم الله).[1]  

وفي حديث اخر عنه صلى الله عليه وآله وسلم (ان الصدقة تدفع ميتة السوء).[2] والروايات كثيرة جدا في هذا الباب وسائر ابواب الصدقة. الا ان البركة في المال والزيادة ليست بهذا الحد اي سبعمائة ضعف وانما يكون ذلك في الاخرة حيث لا حد للمضاعفة.

ثم ان تمثيل الذين ينفقون بالحبة من باب تشبيه المجموع بالمجموع فان هذا المنفق يشبه من زرع تلك الحبة لا نفس الحبة وقد مر نظير ذلك في قوله تعالى (أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ..).[3]

ومثله كثير في القران كقوله تعالى (إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ..).[4]      

ولم يقل ان هذا الانفاق يثاب سبعمائة ضعفا والا لم يكن له هذا التاثير بل شبهه بحبة من حنطة او غيرها يزرعها الزارع ويسقي زرعه ويتعب عليه مدة طويلة وكل امله ان ينتج الزرع من كل حبة ثلاثين او اربعين حبة ولكنه ينتج سبعمائة حبة اذا كان في سبيل الله.

وهذا ليس تحديدا بهذا المقدار من المضاعفة بل هو من باب الاشارة الى اصل التضاعف والا فلا مقارنة بين ما دفعه المنفق وما يلقاه من الجزاء الالهي فهو قد انفق طعاما او شرابا او درهما او دينارا وما يجزى به يوم القيامة ليس من هذا القبيل فضلا عن كونه بهذا المقدار من الضعف فالغرض التقريب الى الذهن بان ما يجازى به امر عظيم لا يقاس بما في الدنيا.

وفي بعض التفاسير ان هذا الامر غير ممكن او غير واقع في الدنيا فلا بد من ان يكون المراد مجرد فرض كما في جامع البيان والكشاف ولكن الالوسي يقول (كما نرى ذلك في كثير من الحب في الأراضي المغلة بل أكثر من ذلك). ومهما كان فكونه فرضا لا يوجب اشكالا في التمثيل كما في بعض التفاسير.

والسنبلة من السبل وهو على ما في معجم المقاييس يدل على ارسال شيء من علو الى سفل وعلى امتداد الشيء. ومن هنا يقال الاسبال لارسال الثوب ولارسال الفرس ذيله ومنه السبيل للطريق لانه امتداد والسنبل ايضا امتداد للحب ولكنه الى علو.

والله يضاعف لمن يشاء.. يمكن ان تكون هذه الجملة تعليلا لما سبق فالله تعالى يضاعف في هذه الدنيا لمن يشاء. ويمكن ان يكون بيانا لامكان المضاعفة اكثر من ذلك لمن يشاء وهو مما لا بد منه فالمؤمن يعيش هناك حياة خالدة ابدية وفي نعمة غير محدودة فلا محالة يكون جزاؤه اضعافا مضاعفة لما عمله بل لا يمكن ان يقارن الجزاء بالعمل كما مر.

والتعبير بانه تعالى يضاعف لمن يشاء للاشارة الى ان الامر بيده وهو يفعل ما يشاء ولا حد لقدرته وجوده وكرمه ولكنه لا يشاء الا لحكمة.

وهو واسع عليم.. الوسع هو الاحاطة والشمول قال تعالى (وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا)[5] اي احاط بكل شيء علما وقال (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ)[6] اي شملت.. والمراد هنا سعة جوده وقدرته وهو ايضا عليم بمن يستحق المضاعفة فيضاعف له. 

 

الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (262)

يُذكر في هذه الآية شرط مهم في كون الانفاق في سبيل الله مفيدا يوم القيامة وهو ان لا يتبعه المنفق منا ولا اذى والاتباع بمعنى الاتيان بشيء بعد شيء و(ثم) للتراخي ولعل المراد به الاستمرار على عدم الاتباع بالمن والاذى فلا ينفع ترك المن في نفس الوقت اذا منّ عليه بعد ذلك بذكر ما انفق عليه سابقا.

والمن هنا بمعنى ذكر الانعام على الشخص تقريعا له واذلالا والاصل في معنى المنّ الانعام او كثرته والله تعالى هو المنّان لأن نعمه لا تحصى وقد قال (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ..).[7]

ويأتي المن بمعنى القطع ايضا كما في قوله تعالى (وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ)[8] اي غير مقطوع ويحتمل ان يكون المن هنا بهذا المعنى كأنه بذكر النعمة وتقريع الفقير وايذائه يقطع نعمته عليه.

وأما الاذى فيتحقق بكل فعل يستوجب ما يكرهه الانسان او الحيوان من ضرر في جسمه او روحه وهذا في مورد الانفاق والصدقة يتحقق بالفخر عليه او اهانته باي فعل وربما بعدم الاهتمام به امام الناس مما يوجب تحقيره.

لهم اجرهم عند ربهم.. لم يذكر ما هو اجرهم كأنه لعظمته لا يمكن ذكره فهو فوق ما يتصوره الانسان وهذا الاجر مذخور لهم عند ربهم وهذا يكسبه عظمة اخرى والتعبير بالرب بناءا على انه يفيد معنى التربية للاشعار بأن هذا الاجر مقتضى التربية الصالحة التي اوصلتهم الى هذا العمل مما يستوجب هذا الاجر الجزيل الجميل.

ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون.. الناس يوم القيامة في حيرة وخوف وحزن شديد حزن على ما فاتهم من الفرص وخوف مما سيستقبلهم من العذاب ان زلزلة الساعة شيء عظيم ولكن هذا الذي انفق في سبيل الله ولم يمنّ على الفقير ولم يؤذه بل هو في قرارة نفسه يشعر بالرضا والطمأنينة من فعله فهو هناك لا يخاف من مكروه يستقبله ولا يحزن على ما عمله في الدنيا.

بل هو في الدنيا ايضا يعيش عيشة راضية فهو لا يحزن لما انفق وليس كمن خسر ماله كما انه لا يخاف من فقر ايضا بسبب فقدان ماله بل هو واثق من ان ما دفعه في سبيل الله تعالى ربح ليس فوقه ربح حتى في الدنيا فالصدقة مضافا الى انها توجب البركة ودفع البلاء تمنح الانسان ثقة وطمأنينة بمستقبله وراحة نفسية بخلاف من يملأ بطنه وهو يعلم بان جاره جائع فانه لو كان له ضمير حي سيؤنبه عاجلا ام آجلا.

 

قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (263)

المعروف اي ما يعرفه الناس وهو هنا الكلام المناسب والمراد ان المسؤول لو كان يرد السائل بقول معروف مناسب مما هو متعارف في هذا المقام كأن يقول له (رزقك الله) ويغفر له زلته اذا تطاول عليه في الكلام كما يحدث كثيرا في موارد السؤال فهو خير من ان يتصدق عليه بمال ثم يؤذيه بكلام جارح او بمنة او بتكبر وتحقير.

ويمكن ان يكون المراد بالقول المعروف والمغفرة ما يصدر منهما في سائر الموارد فيكون المراد ان الانسان اذا واجه الناس بكلام معروف ينشا من حسن الخلق ولطف في المواجهة وغفر لكل من يسيء اليه وعفا عنه فان هذا الخلق الجميل احسن من صدقة يدفعها لفقير ويتعقبها ايذاء له واهانة فان كثيرا من الناس يتوهم ان احسن الاعمال هو الصدقة ولكن هذا لا يصح على اطلاقه فمساعدة الفقير حسن جميل ولعله افضل عمل اجتماعي ولكنه اذا كان بالمن والاذى فلا حسن فيه والافضل ان يحفظ ماله لنفسه ويواجه الناس بوجه طلق وكلام لطيف ويتسامح مع الناس في هفواتهم فان هذا بذاته يعتبر صدقة. 

والله غني حليم.. في تناسب الوصفين مع الجملة السابقة احتمالان في التفاسير:

الاول انه تعالى غني عن عباده فاذا امركم بالانفاق انما هو لدفع رذيلة الشح عن نفوسكم وليس لحاجة فيه تعالى فالمال الذي بايديكم منه وهو حليم لا يعجل بالعقوبة على من ارتكب المنّ والاذى بعد التصدق على الفقير.

الثاني ان المراد حث الناس على الاتصاف بهذين الوصفين الجميلين من صفاته تعالى فالغنى يستوجب ان لا يهتم الانسان بانفاقه على الفقير ليمن عليه وحلمه يستوجب العفو عن بعض ما يسمعه من السائلين بالحاح.

والاول اولى كما هو واضح فان الغنى لا يستلزم ما ذكر.

 


[1] الكافي ج 2 ص 121 باب التواضع

[2] الكافي ج 4 ص 2 باب فضل الصدقة

[3] البقرة : 19

[4] يونس : 24

[5] الانعام : 80

[6] المائدة : 156

[7] ال عمران : 164

[8] القلم : 3