يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ...
هكذا يتدرج البيان في التنديد بالمن والاذى ففي المرحلة الاولى وصف المنفقين في سبيل الله بشرط ان لا يتعقبه منّ واذى بأنّ لهم اجرا عظيما ثم بيّن أن القول المعروف والمغفرة خير من الانفاق مع المن والاذى فالافضل لمن يريد المن على الفقير ان يرده بكلام مناسب وفي مرحلة ثالثة يعلن ان المن والاذى يوجب بطلان الانفاق مع انه كان عملا صالحا حيث فرض انه انفق في سبيل الله.
وابطال العمل اتلافه قال في الجمهرة (بطل الشيء يبطل بطولا اذا تلف) ومعنى اتلاف العمل انه لا يترتب عليه الاثر المقصود.
واستند المعتزلة الى هذه الاية للقول بان مرتكب الكبائر مخلد في النار لانه بارتكابها يبطل كل اعماله الصالحة فلا يبقى له ما يدخله الجنة.
وهو كلام باطل فالآية لا تدل على ذلك وانما تدل على ان المن والاذى بوجه خاص يبطلان الانفاق ولا يقتضي ذلك بطلان كل عمل صالح بارتكاب كبيرة وهناك آيات اخرى ايضا تدل على احباط العمل الصالح ببعض الاعمال ولم ترد آية تدل على الاحباط بكل كبيرة.
ثم شبّه المنفق الذي يمنّ ويؤذي بمن ينفق رياءا. وقوله (كالذي ينفق) تشبيه لابطال الصدقات بالمن والاذى بابطال المرائي اي لا تبطلوا ابطالا كابطال من ينفق رياء...
والرئاء هو الرياء ابدلت الهمزة ياءا وهو من الرؤية والهمزة الاخيرة بدل عن الياء وهو هنا مفعول لاجله اي ينفق طلبا لمراءاة الناس. والفعال من ابواب المفاعلة.
والمرائي من يعمل العمل ليراه الناس ويمدحوه ولا يقصد بعمله التقرب الى الله تعالى ونيل ثوابه وهذا المنفق عمله باطل من اصله ولا يستحق عليه ثوابا بل يستحق عقابا بينما المنفق في سبيل الله عمله صحيح وموجب للثواب فما اخسره اذا ابطل عمله واصبح كالمرائي؟!
ثم وصف المرائي بأنه لا يؤمن بالله واليوم الآخر اذ لو كان مؤمنا لم يرجح مدح الناس على ثواب مضاعف الى سبعمائة ضعف فهو لا يؤمن بالله ولا يصدق قوله ولا يؤمن باليوم الآخر بل يرى الحياة كل ما يناله في هذه الدنيا.
ولا يختص هذا الوصف بالمشركين والكفار كما في بعض التفاسير بل هناك كثير من المسلمين لا يؤمنون الايمان المستتبع للتصدق بالمال طلبا لثواب الله وان كانوا يؤمنون ايمانا يستتبع الصلاة والصوم فالايمان له مراتب ودرجات الى ان يصل الى التضحية بالنفس والاولاد في سبيل الله فهو ارفع الدرجات.
فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (264)
هذا تمثيل للمرائي وعمله. والصفوان: الحجر الاملس ماخوذ من الصفاء وهو الخلوص من الشوائب فهذا الحجر اذا كانت عليه طبقة من تراب والزارع لا يعلم ما تحت الطبقة فأتى وزرع على هذا التراب فاصابه وابل اي مطر غليظ القطر فغسل التراب بما عليه فتركه صلدا اي حجرا املس يابسا لا تراب عليه ولا زرع.
هكذا عمل المرائي فان ظاهره زرع يعجبه ويعجب الناس فهو ينفق على الفقراء وينشر ذلك في وسائل التواصل الاجتماعي فيمتدحه الناس في كل مكان وتكون له سمعة حسنة فعمله حسن في الظاهر والفقير ينتفع به ولكنه في الواقع ليس شيئا.
لا يقدرون على شيء مما كسبوا.. لعله أتى بصيغة الجمع بعد ان كان الضمير مفردا في قوله (فمثله) للاشارة الى كثرة موارد الرياء. وقوله (كسبوا) يدل على انهم كسبوا شيئا بالفعل فنالوا المديح والاحترام وشهرة وعزة بين الناس ولعلهم يكسبون بذلك اموالا ايضا ولكنهم يوم القيامة لا يقدرون على شيء منه فلا يرون في صحيفة اعمالهم شيئا من ذلك.
قال تعالى (وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا)[1] والهباء: دقاق التراب او الذرات التي لا ترى الا عند سطوع الشمس من نافذة ضيقة في مكان مظلم وهو لا ينفع شيئا. فهؤلاء المراءون ايضا لا يقدرون على شيء مما كسبوه من اعمالهم في الدنيا من خير لان الله تعالى جعلها هباءا.
والله لا يهدي القوم الكافرين.. فلا يعلم الطريق الصحيح للوصول الى منفعة دائمة خالدة من عمله والمرائي كافر في الواقع حتى لو كان في الظاهر مسلما مؤمنا خيرا صالحا.
وفي الحديث عن الامام الصادق عن أبيه عليهما السلام قال: (إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سئل فبم النجاة غدا؟ قال إنما النجاة في أن لا تخادعوا الله فيخدعكم فإنه من يخادع الله يخدعه وينزع منه الايمان ونفسه تخدع ولو بشعرة قيل له فكيف يخادع الله؟ قال يعمل بما أمر الله عز وجل ثم يريد به غيره فاتقوا الله في الرياء فإنه الشرك بالله ان المرائي يدعى يوم القيامة بأربعة أسماء يا كافر يا فاجر يا غادر يا خاسر حبط عملك وبطل أجرك فلا خلاص لك اليوم فالتمس أجرك ممن كنت تعمل له).[2]
ومن هنا يعلم ان المراد بالقوم الكافرين ليس من اعلن كفره وحارب الرسالة كما يتوهم بل يشمل كثيرا من المؤمنين وكفر المرائي من جهة انه لا يقر في سريرة نفسه بما بلغه من الله تعالى عن طريق الرسالة ولو كان يقرّ به لم يتوقع الثواب من غيره تعالى.
وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (265)
وفي مقابل المرائين يذكر الذين ينفقون اموالهم ابتغاء مرضاة الله اي طلب مرضاته. والبغي: الطلب. والابتغاء مفعول لاجله او المصدر بمعنى اسم الفاعل وهو حال اي مبتغين وجه الله ولعل الثاني اولى لأن (تثبيتا) معطوف عليه وسيأتي توجيهه على كونه حالا.
واختلفوا في المراد بقوله (وتثبيتا من انفسهم) وذكر له في الكشاف ثلاثة وجوه وتبعه بعض من تاخر عنه نذكرها بتوضيح منا:
الاول ان (من) تبعيضية فالذي ينفق ابتغاء مرضاة الله يثبّت بعض نفسه فالاعمال الصالحة ترويض للنفس وتثبيت لها ومن ذلك الانفاق بالمال حيث انه صعب على الانسان فيتسلط على نفسه ويكبح جماحها بهذا العمل ولكنه كبح جزئي لانه من جهة حب المال فقط فيبقى عليه ان يروض نفسه من جهات اخرى ايضا فالنتيجة ان هذا تثبيت لبعض النفس.
وهو بعيد من التعبير والا لقال وتثبيتا لانفسهم كما ان التعبير عن الترويض بالتثبيت ليس مناسبا ولا متعارفا.
الثاني أن (من) لابتداء الغاية والمراد بالتثبيت تثبيت الجزاء فهو يثبت جزاءه عند الله باخلاصه وتصديقه وهو ناش من نفسه كقوله تعالى (حسدا من عند انفسهم) فقوله من انفسهم بمعنى ان تثبيت الجزاء حصل من ذواتهم.
وهذا أبعد من الاول لان الجزاء ليس باستحقاق ليكون عمله موجبا لتثبيته وكيف يستحق اضعاف ما عمل بتثبيت من نفسه؟!
الثالث ان المراد تثبيت انفسهم عند المؤمنين بأنها صادقة مخلصة قال ويعضد هذا الاحتمال قراءة مجاهد (وتبيينا من انفسهم).
وهو ابعد الوجوه لمنافاة التبيين مع الاخلاص وابتغاء مرضاة الله تعالى.
واختار الطبري ان معناه وتصديقا من انفسهم على ان ما وعده الله حق قال والتثبيت اليقين.
وهناك وجوه اخرى اضعف منها.
وللعلامة الطباطبائي قدس سره توجيه اخر لعله افضل وهو أن المراد تثبيت من انفسهم لانفسهم على النية الخالصة اي ابتغاء مرضاة الله في مقابل من يتبع انفاقه المن والاذى فالذي ينفق رياءا عمله باطل من اوله والذي يتبعه بالمن والاذى يبطل عمله بذلك وانما يبقى العمل صحيحا بتثبيت النفس على ابتغاء رضا الله تعالى وهذا التثبيت ينشأ من نفسه فهو تثبيت للنفس من النفس. وعليه فيمكن ان يكون تثبيتا بمعنى مثبتين انفسهم فيكون حالا كما مر.
والجنة: البستان الذي تستر اشجاره الارض. والجَنّ: الستر. والربوة: الارض المرتفعة. والظاهر ان هذا الوصف في مقابل الزرع الذي كان على صفوان في التمثيل السابق وجرفته السيول فهذه الجنة على مرتفع من الارض فلا يصيبها السيل مضافا الى ما يقال من ان اشجارها تكون اغلظ وانها تكون اكثر جمالا وبهاء وابعد من الاوساخ والقذارات.
والوابل: المطر الغليظ القطر كما في العين والشديد الوقع كما في الجمهرة واذا كان المطر كثيرا فان الشجر تنتج ثمرا اكثر. وقوله (فآتت) اي اعطت. والاُكْل والاُكُل ما يؤكل كالثمرة. والضعف: المثل واكثر منه. قال الخليل (اضعفت الشيء اضعافا وضاعفته مضاعفة وضعفته تضعيفا وهو اذا زاد على اصله فجعله مثلين او اكثر) وعليه فالتثنية هنا بمعنى التكرار وهذا التعبير تفيد كون الثمر اكثر من ثمر غيره مثلين او اكثر.
فان لم يصبها وابل فطل.. قال الخليل (الطل: المطر الضعيف القطر الدائم وهو ارسخ المطر ندى) وروى الازهري عن الاصمعي انه قال (اخف المطر واضعفه الطل ثم الرذاذ ثم البغش). فالمراد في الآية ان هذه الجنة تؤتي اكلها باحسن وجه فاما ان يصيبها وابل من المطر او طل ولكنها بطيب تربتها وموقعها تؤتي ثمرتها ضعف سائر البساتين ولعل الفرق بين الحالتين بملاحظة نية صاحبها فكلما زاد في اخلاص نيته وتثبيته زادت الجنة حسنا وانتاجا.
والله بما تعملون بصير.. فالنية والاخلاص فيها ربما لا يعلم بهما الناس مهما لاحظوا العمل ولكن الله تعالى بصير بحقائق الاعمال وخبايا النفوس وربما يغفل الانسان بنفسه ايضا عما يخالط نيته ولكنه لا يخفى على الله تعالى فيثيب الانسان حسب خلوص عمله.
أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ...
الاستفهام للانكار اذ من الواضح ان الانسان لا يود ذلك. والود له معنيان الحب والتمني. وهو ايضا نوع من الحب. و(يود) يجوز ان يكون باي من المعنيين.
وكون الجنة من نخيل واعناب باعتبار كثرة شجرهما فيها لانه وصفها بان له فيها من كل الثمرات. وقوله (تجري من تحتها) اي من تحت اشجارها او من تحت النخيل والاعناب.
وقوله (واصابه الكبر) جملة حالية بتقدير (قد) والمراد به كبر السن ووصف ذريته بالضعفاء فلا يقدرون على اعادة الحياة للجنة ومن جهة اخرى لا يبقى لورثته الضعفاء ما يقتاتون به. ولعل المراد ضعفهم عقليا او جسميا او ماليا لا كونهم اطفالا اذ لا يناسب كبر سنه.
والاعصار على ما في تهذيب اللغة (الريح التي تهب من الارض كالعمود الساطع نحو السماء وهي التي يسميها بعض الناس الزوبعة وهي ريح شديدة لا يقال لها اعصار حتى تهب كذلك بشدة).
وهذه الريح الشديدة تكفي لتخريب هذه الجنة واشجارها ولكن الآية فرضت انها تحمل نارا ايضا ولعل المراد بها رياح السموم التي تكون مع درجة حرارة عالية مما تتسبب في احتراق الاشجار.
وفي كثير من التفاسير ان هذا تمثيل للمرائي فان عمله في الظاهر كهذه الجنة وفي الواقع كأنّ اشجارها محترقة فلا تنفع شيئا.
ولكن الظاهر انه تمثيل لمن يتعقب انفاقه منّ او اذى لان المرائي لا يملك جنة من اول يوم فان الرياء افسد عمله من البدو اما هذا الذي يمن على الفقير ويؤذيه فقد كانت له جنة بانفاقه وحسن نيته فارسل فيها نارا واحرقها بمنه وأذاه.
كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (266)
اي بهذه الدقة وعن طريق التمثيل والتشبيه يبين لكم آيات الاحكام لعلها تؤثر فيكم فتتفكرون فيما هو اصلح لكم وتختارون ما هو الاصلح لاخرتكم.
[1] الفرقان : 23
[2] ثواب الاعمال ص 255