يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267)
في هذه الآية يبين ما يجب ان يلاحظه الانسان في جنس ما ينفقه وهذا امر مهم جدا ففي كثير من الموارد ترى الناس يتبرعون بالثياب الممزقة والاطعمة الفاسدة او التي لا يرغب الانسان في اكله وهذا ما ورد النهي عنه في هذه الآية وفي قوله تعالى (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ..)[1]
والمراد بالطيبات ما يستلذه الانسان وبالخبيث ما يستقذره او يتنفر منه وقيل المراد بالطيبات الحلال وبالخبيث الحرام وهو غير صحيح لان الحرام لا يجوز ان ياخذه من غيره حتى بالاغماض.
والمراد بما كسبتم في قبال ما اخرجنا لكم من الارض اي ما صنعتموه من الطعام او اللباس والمراد بما اخرجنا الفواكه والخضار وغيرها مما يستزرعه الانسان فانه مما اخرجه الله من الارض بصورة طبيعية. ومثله قوله تعالى (لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ..)[2] فان المراد بما عملته ايديهم ما يصنعه الانسان من الطعام باستخدام المواد الطبيعية كالخبز والطبيخ. وقوله (ومما اخرجنا) فيه تقدير اي ومن طيبات ما اخرجنا.
وقوله (ولا تيمموا) اصله (تتيمموا) حذفت احدى التاءين اي لا تتوخوا الخبيث والاصل فيه امم اي قصد ومنه التيمم اي توخي الصعيد الطيب للتيمم فالمراد هنا ان الانسان لا يبحث في ممتلكاته فيخرج منها الخبيث لانفاقه على الفقراء بل ينفق ما هو طيب ولا يضر لو كان في بعضه ما لا يستلذ. وقوله (تنفقون) اي تنفقونه اي الخبيث وهذه جملة حالية اي حال كونكم منفقين اياه و(من) للتبعيض.
ثم وصف الخبيث بقوله (ولستم بآخذيه الا ان تغمضوا فيه) اي لو أهدى اليكم احد بطعام من هذا القبيل لا تقبلون به وتردونه الا اذا اغمضتم العين عن عيبه لسبب ما كما لو كان الرد موجبا لتاثر المهدي مما يستوجب تنافرا بينكما. والجملة حالية.
ويمكن ان يكون المراد بالاخذ ما يشمل المعاملات فالمعنى لا تشترون من هذا الخبيث الا ان تغمضوا فيه. ويعبر بالاغماض عن التسامح والتساهل. وفي التبيان في معنى الاغماض في الشراء (قال ابن عباس والحسن وقتادة إلا أن تحطوا من الثمن فيه).
وفي حديث عن أبي عبد الله عليه السلام في قول الله عز وجل "يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون" قال (كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا أمر بالنخل أن يزكّى يجيء قوم بألوان من تمر وهو من أردى التمر يؤدونه من زكاتهم تمرا يقال له الجعرور والمعافارة قليلة اللحا عظيمة النوى وكان بعضهم يجيء بها عن التمر الجيد فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا تخرصوا هاتين التمرتين ولا تجيئوا منها بشيء وفي ذلك نزل "ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه" والاغماض أن تأخذ هاتين التمرتين).[3]
واعلموا أن الله غني حميد.. لعل المراد ان ما ينفق على الفقراء ليس كما تهدونه لنظرائكم فان الذي ياخذ منكم الصدقة هو الله تعالى وهو غني لا يحتاج الى شيء ومن الطبيعي ان الانسان اذا اهدى طعاما الى غني فانه يتوخى الطيب منه.
ويمكن ان يكون المراد ان الله وان امركم بالانفاق على الفقراء الا انه لم يامر به لحاجة فيه فيمكنه ان يغني الفقير ولا يامرك بالانفاق عليه وانما اراد بذلك ان يربي الانسان ويزيل عنه صفة الشح والبخل ليتحلى بالصفات الحميدة ويليق به ان يصعد في درجات القرب الى الله تعالى.
والحميد فعيل بمعنى اسم المفعول اي له الصفات التي يحمد عليها فهو بمعنى محمود ويمكن ان يكون بمعنى اسم الفاعل باعتبار انه تعالى غني عن اعمالكم ولكنه يحمد من فعل الخير اي يثني عليه والاول اولى.
ولعل توصيفه تعالى بالحمد بعد الغنى باعتبار ان غناه يستوجب عدم الامر بالانفاق ولكن اتصافه بما يحمد عليه يقتضي ان ينعم على عباده بتوجيههم نحوما فيه الخير لهم.
الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (268)
المراد من هذه الاية الكريمة حث الانسان على الانفاق في سبيل الله تعالى وعدم الاصغاء الى القاءات الشيطان حيث يخوف الانسان من الفقر اذا انفق من ماله فالشيطان يعد الانسان الفقر اي يخوفه منه. والوعد يستعمل في الخير والشر وان اشتهر انه يختص بالخير والايعاد بالشر ومنه قوله تعالى (النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا..).[4]
وفي كثير من التفاسير ان المراد بالفحشاء البخل قال في الكشاف (والفاحش عند العرب البخيل) واستشهدوا بشعر طرفة بن العبد (ارى الموت يعتام الكرام ويصطفي - عقيلة مال الفاحش المتشدد) وفي الصحاح (يعني الذي جاوز الحد في البخل).
ومع ذلك فحمل الكلمة في الاية على هذا المعنى بعيد لعدم تعارفه في الشرع وان كان معناه في اللغة كل ما يتجاوز الحد من السوء. والبخل ايضا قد يكون من هذا القبيل كما لو بخل الانسان بما يجب عليه من الزكاة الا انه لا يعبر عنه بالفحشاء.
ولعل عطف هذه الجملة للاستشهاد على لزوم عدم الاصغاء الى إلقاءاته فانه يأمر بالفحشاء وهذه سمته بمعنى انه لا يامر بما يكون فيه الصلاح فاذا امر بالبخل فهو ايضا من هذا القبيل لان الانسان ربما لا يرى في هذا الامر قصدا للشر ويتوهم ان فيه مصلحة له فاذا لاحظ ان الشيطان لا يامر الا بالفحشاء علم ان هذه الدعوة ايضا حث على السوء.
والله يعدكم بالمغفرة في قبال امر الشيطان بالفحشاء ان تبتم الى الله وفي قبال تخويفه من الفقر يعدكم بالفضل منه والفضل هو الزيادة بمعنى انه تعالى سيزيد في رزقكم ويوسع عليكم ان تصدقتم وانفقتم في سبيله.
والتنكير في المغفرة والفضل للاشارة الى عظمتهما بحيث يتجاوزان ما يتخيله الانسان فلا يمكن التوصيف. ويكفي في توصيفهما قوله (منه) فاذا كان شيء يتفضل به الله تعالى فما اعظمه والكلمة ذكرت في المغفرة وتقدر في الفضل.
والله واسع عليم.. السعة هنا بمعنى القدرة فليكن الانسان واثقا من جزائه فان الله تعالى قادر على انجاز وعده وعليم بطرقه.
يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (269)
الحكمة هي المنع وتطلق على ما يمنع الانسان من العمل بالسفاهة والجهل وارتكاب ما لا يليق به وربما يطلق على بعض العلوم او كلها وذلك باعتبار انها تمنع من ارتكاب ما يقتضيه الجهل بحقائق الامور، وكذا يطلق على الكلمات التي تنظم حياة الانسان عمليا كما في قوله تعالى بعد ذكر مجموعة من النصائح (ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ..).[5]
فالمراد بالحكمة هنا يمكن ان يكون ما ارسله الله تعالى بالوحي من آيات الحكمة ويراد بايتائها توفيق الانسان بدرك حقائقها والعمل بها. ويمكن ان يكون المراد ما يتلقاه الانسان من ربه من الهدايات الفطرية كما قال تعالى (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا)[6] وهذه الهدايات موجودة لدى الجميع الا أن الانسان يغفل عنها ولا يتذكرها ولا يتأثر منها الا من كان من اولي الالباب.
وهناك من الناس من يتبع هذه الهدايات الفطرية فتكون له حكمة ذاتية وامتناع ذاتي من ارتكاب السفاهات والقبائح من دون ان يتبع دينا او يكتسب علما كما لو كان يعيش قبل ان ينزل الوحي او قبل انتشار الرسالة.
ومن هؤلاء من يسمون حكماء العرب وهم قوم كانوا يأبون متابعة عادات الجاهلية ولا يسجدون لصنم ولا يكذبون ولا يشربون الخمر وهذه حكمة ذاتية في الانسان يؤتيها الله من يشاء. والله تعالى لا يشاء الا لحكمة فلعلهم عملوا اعمالا استحقوا بها ان يؤتيهم الله الحكمة.
ومن يؤت الحكمة فقد اوتي خيرا كثيرا.. فان الحكمة تضفي على الانسان وقارا وهيبة وتكون له مكانة في المجتمع واحترام بين الناس وهو بالعمل بالحكمة يبتعد عن كل ما يضر به في الدنيا والاخرة وكل ما يشينه ويزري به بل ينال به رضا ربه.
وما يذّكّر الا اولوا الالباب.. اي ما يتذكر. وهذا يدل على ان الحكمة يراد بها ما اودعه الله في فطرة الانسان من التوجه الى الخير والابتعاد عن الشر كما شوهد من حكماء العرب الا انه لا يتذكره الانسان غالبا لان عقله ليس خالصا من شوائب الاوهام.
والالباب جمع لب وهو الخالص من كل شيء ويطلق على العقل بمعنى القوة المدركة لانه ميزة الانسان من بين الموجودات الحية فكأن حقيقة الانسان عقله وما عداه شوائب كما ان الفاكهة لبها هو ما يؤكل منها وما عداه شوائب تطرح ولذلك صح التعبير عن العقل باللب.
والمراد به العقل الخالص من الاهواء والبعيد عن متابعة الشهوات فهناك كثير من الناس لهم عقول قوية في ادراك حقائق الطبيعة ولكنها تعجز عن ادراك ما وراءها فهي ليست عقولا خالصة لانها تتبع الميول والاهواء ولذلك فهي لا تتذكر ولا تتأثر بما اودعه الله تعالى فيها من الحكمة ومن هنا اقتصر التذكر باولي الالباب.
ومن هنا يتبين مناسبة هذه الآية لما قبلها فان الانسان ربما يتحير في تمييز إلقاءات الشيطان ووساوسه وبين ما تمليه الفطرة من الحكمة الالهية ففي خصوص مورد الآية من الامر بالانفاق وعدم الاصغاء لما يوعده الشيطان من الفقر هناك موارد ربما لا يجوز للانسان ان ينفق كما لو كان يستلزم ترجيحا لمن لا تجب نفقته على من تجب نفقته فلا يجوز للانسان ان يتصدق برغيفه على فقير مستحق وزوجته او ابواه او اولاده جياع واول من يجب الانفاق عليه نفسه فلا يجب او لا يجوز ان يضحي بنفسه ويتصدق برغيفه وهو احوج اليه.
بل الامر اوسع من ذلك فان الله تعالى يقول (وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا)[7] وقال ايضا (وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا).[8] وكثيرا ما يشتبه الامر على الانسان فلا يميز ما يدعو اليه الشيطان ويلقيه في نفسه وما هو من إلقاء الرحمن من الحكمة في فطرته ولا يتذكر فطرة الله تعالى الا من خلصت نفسه من شوائب الاهواء.
وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (270)
في هذه الآية تبشير لمن ينفق في سبيل الله سواء انفق قليلا ام كثيرا وسرا او جهرا بان الله تعالى يعلم باعمالهم مهما كانت ويعلم بنياتهم ولا يخفى عليه شيء فلا يخشى الانسان ان يذهب عمله سدى كما يتوهم من ينفق سرا او ينفق مالا قليلا لعدم قدرته على المقدار المناسب وفيها ايضا تهديد لمن يترك الانفاق حيث يجب ولا يرحم الفقراء والضعفاء او ينفق رياءا او يعقب نفقته بالمن والاذى.
و(ما) شرطية جزاؤها فان الله يعلمه ويمكن ان تكون موصولة. والضمير في قوله (فان الله يعلمه) اما ان يعود الى الموصول في قوله ما انفقتم بناء على كونه اسم موصول او الى النذر ويقدر مثله للنفقة اي ما انفقتم من نفقة فان الله يعلمها.
والنذر ما يتعهد به الانسان ان يفعله او يتركه فيوجب على نفسه والاصل في النذر التخويف ومنه الانذار ولعل الوجه في التعبير بالنذر ان الانسان يتخوف من مخالفته لانه تعهد به وجعله حقا لله على نفسه فيخاف من عاقبة المخالفة في الدنيا والاخرة والمراد هنا ما ينفقه الانسان بسبب نذر عليه فانه وان كان واجبا الا ان الله تعالى يجازي عليه.
وما للظالمين من انصار.. الظلم في هذا الموضع يتحقق بعدم الانفاق مع فرض وجوبه فهو ظلم بحق الفقير وبحق المجتمع. ويتحقق بالانفاق رياءا وان لم يكن فيه ظلم في حق احد الا انه ظلم على نفسه حيث ينفق ماله ولا يؤجر عليه بل يكون وبالا عليه يوم القيامة.
والظلم لا يعتبر فيه ان يكون على احد فهو في الحقيقة وضع الشيء في غير موضعه كما في الصحاح ومعجم المقاييس والمفردات ويشهد لذلك قولهم من اشبه اباه فما ظلم.
والمراد بنفي الانصار لهم نفيهم يوم القيامة. والانصار جمع ناصر كما في الجمهرة او جمع نصير كما في الصحاح. والنصرة الاعانة على من يريد به شرا. والاتيان بصيغة الجمع لعله للاشارة الى انه لو لم يظلم الفقراء المستحقين حقهم لكان له انصار يشفعون له يوم القيامة وهم اهل الاستحقاق.
[1] ال عمران : 92
[2] يس : 35
[3] الكافي ج 4 ص 48
[4] الحج : 72
[5] الاسراء : 39
[6] الانسان : 3
[7] الاسراء : 29
[8] الفرقان : 67