مكتب سماحة السيد مرتضى المهري

إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (271)

تستمر الآيات في الحث على الانفاق في سبيل الله وهذه الآية تفرق بين الصدقة جهرا وسرا والصدقة عرفت في كتب اللغة بانها ما يعطى للفقير وفي مفردات الراغب انها ما يخرجه الانسان من مال على وجه القربة ولم يرد هذا القيد في كلام من تقدم عليه ولكن تبعه من تاخر ومنهم ابن سيدة في المحكم.

والغالب في الاستعمال اطلاق الصدقة على المستحب من العطاء وتطلق الزكاة على الواجب منه ولكن القران عبر عن الواجبة بالصدقة في قوله تعالى (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ).[1] وغيرها من الايات.

وفيه ايضا اطلاق الصدقة على العفو في الجنايات كما في قوله تعالى (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ..).[2]

ومهما كان فالظاهر ان المراد بها هنا الصدقات المستحبة وورد ذلك في الاحاديث منها موثقة اسحاق بن عمار عن أبي عبد الله عليه السلام (في قول الله عز وجل "وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم" فقال: هي سوى الزكاة إن الزكاة علانية غير سر).[3]

والابداء: الاظهار. وقوله (فنعما هي) اي نعم الشيء هي والضمير يعود الى الصدقات التي ابديت. والاصل في الكلمة (نعم ما) وما بمعنى الشيء. و(نعم) من افعال المدح وفي العين ان الاصل في مادة (نعم) المسرة.

والاية تدل على ان الصدقات حتى لو اظهرت فنعم العمل مع ان الاظهار ينافي الاخلاص وربما تكون فيه حزازة من جهة جرح شعور الفقير ولعل الوجه في ذلك هو حثّ الاخرين على البذل والعطاء فان النفوس تتأثر بذلك لاسباب عديدة منها حب التفوق ولعل بعضهم بذلك يدفعون اكثر من الاول ومنها التقليد والمتابعة ومنها معرفة مورد الصدقة فان كثيرا من الناس لا يعلمون استحقاق الشخص الا بذلك.

ويمكن ان تختلف الموارد فالاظهار ربما يكون احسن من الاخفاء في موارد الاعانة على المصالح العامة كبناء مسجد او مستشفى والاخفاء افضل في مساعدة الفقراء ولعله لذلك صرح بايتائها للفقراء في القسم الثاني فقط كما ان الفقراء ايضا ربما يختلف حالهم فالاظهار يكون حسنا في بعض الموارد دون بعض.

ويمكن ان تكون هذه الآية استدراكا لما مر من التنديد بالرياء في الانفاق في سبيل الله حيث تدل على ان مجرد اظهار الصدقة ليس رياءا حتى لا يمتنع الناس من دفعها تخوفا من الرياء.

ومهما كان فالاخفاء افضل لقوله تعالى (فهو خير لكم) فقد يكون في الاظهار خير للاخرين او للمورد الذي يتبرع له ولكن الاخفاء خير للمنفق لان العمل يكون خالصا لوجه الله مضافا الى خصوصية اخرى وهي انها توجب تكفير السيئات (ويكفر عنكم من سيئاتكم).

والتكفير: الستر. ومعناه ان صدقة السر تزيل بعض الاعمال السيئة التي ارتكبتموها عن صحيفة اعمالكم فكأنكم لم تفعلوها. والضمير في قوله (ويكفر) يعود الى الاخفاء او الى الله تعالى. و(من) للتبعيض.

وتفيد الآية ان هذه السيئات تزول من دون توبة فان التوبة تزيل كل سيئة. والظاهر ان المراد بها ما لا تبلغ حد الكبائر لقوله تعالى (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ..)[4] حيث ان الآية اعتبرت السيئات مقابلة للكبائر. 

والله بما تعملون خبير.. اي خبير بنياتكم وحقائق اعمالكم فلا يشتبه عليه الامر ويعلم من انفق للرياء والسمعة ومن انفق تقربا الى الله تعالى وان كان جهرا.

وهناك روايات كثيرة حول صدقة السر منها رواية ابن القداح عن أبي عبد الله عن أبيه عليهما السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (صدقة السر تطفي غضب الرب).[5]

 

لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (272)  

في المراد بهذه الآية احتمالان في التفاسير:

الاول ان يكون المراد نهي الامتناع عن الانفاق على فقراء الكفار قيل ان بعض المسلمين كان لهم اقارب من المشركين فيمتنعون من مساعدتهم حتى يسلموا وقيل ان الخطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم حيث منعهم من ذلك فنزلت الاية. وروى القوم في ذلك عدة روايات.

فالمعنى بناءا على هذا الاحتمال ان هداية الكفار الى الاسلام ليس بيدك والخطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بل بيده تعالى وانما انت مسؤول عن التبليغ فلا تمنع من الانفاق عليهم لمجرد انهم لم يسلموا.

ويحتمل بناءا على هذا التفسير توجيه الخطاب الى كل مخاطب فاذا كان الشخص يمتنع عن الانفاق على الفقير لانه غير مسلم او ليس من مذهبه او انه ليس ملتزما باحكام الشرع ونحو ذلك مما يمنع من الانفاق فان هذه الاية بناءا على هذا التفسير ترد عليه بان هذا لا يمنع من الانفاق وانت لست مسؤولا عن هدايته.

وبناءا على هذا الاحتمال فقوله (وما تنفقوا من خير فلانفسكم) بمعنى أنك لا تتضرر بالانفاق على الكافر لان خير الانفاق يعود اليك وذلك لان الانفاق على فقرائهم يدفع شرهم حيث ان الفقر من دوافع الشرور وهذه المصلحة توجد في كل انفاق سواء على المسلم او الكافر وعليه فالمراد بكونه لانفسهم مصلحة الدنيا.

ويمكن ان يراد به الاعم من مصلحة الدنيا والآخرة ولا شك في ترتب الثواب على اطعام الفقير وان كان كافرا والآيات التي ورد فيها الحث على اطعام المسكين لا تختص بالمسلمين بل ان بعضها وردت في الكفار لان اطعام الفقير الكافر هو محل ابتلائهم فقوله تعالى (إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ * وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ)[6] ورد في المشركين والمراد بالمسكين في الاية من كان من المتوقع منهم ان يطعموه وهو المسكين المشرك وهكذا غيرها من الايات.

وايضا قوله (وما تنفقون الا ابتغاء وجه الله) يناسب هذا المعنى كأنه يقول ان الانفاق على الكافر ايضا يقصد به وجه الله تعالى لكونه فقيرا فلا يضركم كفره وايضا فالانفاق لا يضركم وان كان لكافر فان الله تعالى يعوضكم عنه فما تنفقونه يوف اليكم وانتم لا تظلمون.

والاحتمال الثاني ان المراد بهذه الجملة تسلية خاطر النبي الكريم صلى الله عليه وآله وسلم حيث كان يرى في اصحابه من لا ينفق حتى مع وجوبه او ينفق ويمنّ على الفقير او يؤذيه او لا ينفق من طيّب ماله او لا يخلص في نيته فيحزنه ذلك فهذا تسلية له بأنك أدّيت الواجب وهو ابلاغ الحكم للناس واما اهتداؤهم ومتابعتهم فأمره الى الله تعالى.

وهذا الاحتمال اقوى اذ لا يوجد مرجع للضمير في قوله (هداهم) بناءا على الاحتمال الاول ولم يسبق ذكر للكفار ولا للانفاق عليهم مضافا الى ان الآية التالية تقتضي ذلك حيث تعيّن مورد الانفاق المذكور في هذه الآيات وانهم الفقراء الذين احصروا في سبيل الله.

وبناءا على هذا الاحتمال فالجمل التالية لبيان ما يوجب هدايتهم فقوله تعالى (وما تنفقوا من خير فلانفسكم) يستدعي عدم المن والاذى لان الانفاق يعود خيره اليك فينبغي ان تكون ممنونا لا مانّا.

وقوله وما تنفقون الا ابتغاء وجه الله يفيد ان الانفاق لا ينفع الا اذا كان لوجه الله فلا خير في الانفاق مع الرياء. والجملة الاخيرة تحث على اصل الانفاق للتاثير على من كان لا ينفق حتى مع وجوبه وذلك لان الانفاق لا ينقص منه شيئا بل يوفيه الله تعالى من دون نقص.

ويبدو من بعض المفسرين انهم اعترفوا بان هذا الاحتمال هو الاقوى الا انهم اختاروا الاحتمال الاول لوجود الروايات ولكنها لا تصح عندنا.

وقوله (ليس عليك هداهم) اي ليس من شأنك أن تهديهم او ليس واجبا عليك هدايتهم مع ان الهداية وظيفة الرسول وقد قال تعالى (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)[7] ولكن الهداية التي ليست من شأن الرسول لا يراد بها التبليغ والاعلام بل التوفيق للهداية الى الحق فهذا من الله تعالى كما قال (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ..).[8]

والهداية في الاصل بمعنى التقدم يقال اقبلت هوادي الخيل اي اعناقها ويقال هاديها اول رعيل منها لانه المتقدم كما في معجم مقاييس اللغة وحيث ان هادي القوم ودليلهم في المسير يتقدمهم اكتسب اللفظ معنى الدلالة بل حتى الايصال الى الهدف.

ولكن الله يهدي من يشاء.. الهداية المنسوبة الى الله تعالى في القرآن قد تكون بمعنى الهداية الفطرية حيث جعل في كل شيء من الغرائز ما يجره الى الهدف المنشود من خلقه كما في قوله تعالى (قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى).[9]

وقد تكون بمعنى اراءة الطريق وهي الهداية العامة لجميع البشر كما قال تعالى (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا)[10] وكذلك قوله تعالى (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى..).[11]

وقد تكون بمعنى توفيقه تعالى للانسان بالاهتداء الى الطريق وهو المراد بهداية الله تعالى في موارد كثيرة من ذكرها في القران ومنها هذه الآية. والجمل التالية مما يوجب هداية الانسان الى الانفاق في سبيل الله تعالى.

وما تنفقوا من خير فلانفسكم.. وهذا حثّ بليغ على الانفاق. و(ما) شرطية جازمة. والخير معناه واضح وفي المفردات انه ما يرغب فيه الكل وفي معجم المقاييس ان الاصل فيه العطف والميل. والغرض من الآية ان هذا الخير وان انفقتموه لغيركم فانه يصل اليكم في الدنيا والاخرة اما في الدنيا فالله تعالى يزيد في نعمه عليكم وهو بالطبع يمنع من بروز الشر في المجتمع واما في الاخرة فثواب الله تعالى اعظم منه بما لا يمكن تقديره.

وما تنفقون الا ابتغاء وجه الله.. الظاهر انها جملة استينافية والغرض منها الحث على ان يكون الانفاق في سبيل الله لا الاهداف الدنيوية و(ما) نافية اي انكم بالفعل لا تنفقون الا لوجه الله تعالى وهي جملة خبرية يقصد بها الوجوب بوجه آكد كما مر والوجوب هنا شرطي بمعنى ان الانفاق لا يصح ولا يقبل الا اذا كان لوجه الله تعالى.

والابتغاء بمعنى الطلب والمراد بوجهه تعالى عنايته ولطفه حيث ان الانسان اذا اراد باحد اهتماما واعتناء يتوجه اليه بوجهه فاصبح طلب التوجه بمعنى طلب العناية والاهتمام.

ويمكن ان يكون المراد بالوجه الذات المتعالية كما في قوله تعالى (وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ)[12] فان الرفع في قوله (ذو الجلال) يدل على ان المراد بالوجه هو الرب بالذات لا شيء متعلق به والا لكان الوصف للرب ولكان مجرورا وبناء على ذلك فالمراد بابتغائه تعالى طلب رضاه والاتيان بالوجه للتاكيد على الذات بنفسه لا يقصد بالانفاق غير رضاه.

ويحتمل ان تكون الجملة حالية والمعنى ان الانفاق يكون لانفسكم ان كنتم تنفقون ابتغاء وجهه تعالى وهذا يتم اذا اريد بكونه لانفسكم انه خير لآخرتهم حيث يشترط فيه قصد القربة اما اذا اريد به مصلحة الدنيا كما مر بيانه فربما يستبعد الاشتراط فان المصلحة الدنيوية تترتب على الانفاق باي نية كان.

ويمكن ان يقال ان مصلحة الدنيا تترتب اذا لم يكن في الانفاق ايذاء ومنة وازدراء للفقير واظهار للكبر والخيلاء كما يلاحظ في كثير من الموارد بل هذا الانفاق بنفسه يستتبع شرا في الدنيا فان كثيرا من موارد التصدق يثير غضب الفقير وحقده على الغني بل ربما يقال ان التصدق باي كيفية كانت تثير الحقد والبغضاء فيهم وان لم يظهر عليهم فالاولى لكسب هذه المصلحة ايصال المال اليهم بطريق غير مباشر.

وبناء عليه يمكن ان يكون اشتراط كونه ابتغاء وجه الله لتحقيق هذا الشرط وهو عدم الازدراء والايذاء والمنة بل ينفق بتواضع كما كان الائمة الاطهار عليهم السلام يفعلونه فيحاولون ان لا يرى الفقير وجوههم ويتصدقون ليلا وخفية ولذلك ايضا ورد ان يقبّل الانسان يده اذا تصدق لان يد الله تعالى تسبق يد الفقير فبهذه الطريقة يمكن تفادي اثارة الحقد فيهم ولذلك يكون اشتراط كونه لوجه الله مؤثرا في ترتب مصلحة الدنيا ايضا.

ومع ذلك كله فاحتمال كون الجملة حالية بعيد لفظا.

وما تنفقوا من خير يوفّ اليكم وانتم لا تظلمون.. يحتمل ان تكون هذه الجملة خاصة بثواب الاخرة لان التوفية بمعنى ارجاع ما انفق اليه بتمامه وكماله وهذا لا يحصل في الدنيا دائما وان كان الغالب ان المنفق يزيد خيره وماله ولكن لا تعتبر ذلك ظاهرة عامة اما في الاخرة فيوفي الله تعالى كل ما انفقه المؤمن الصالح في سبيله بتمامه وكماله بل باضعاف مضاعفة.

و(ما) هنا ايضا شرطية جازمة. وجملة (وانتم لا تظلمون) حالية والمعنى انه لا ينقص منكم شيء.   

 

لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (273)

بيان لمصرف الانفاق وقوله (للفقراء) يمكن ان يكون متعلقا بمحذوف اي انفقوا للفقراء او الصدقات للفقراء.. وبناء على ما ذكرنا في تفسير الاية السابقة فان هذه الآية تحدد مصرف الانفاق الذي حثت عليه هذه الآيات في هذا النوع من الفقراء او انها تبين المصداق الاكمل اذ لا شك في رجحان الانفاق على الفقراء من دون هذه الاوصاف ايضا.

والاحصار: المنع. وقد مر الكلام حوله بتفصيل في تفسير قوله تعالى (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ)[13] والمراد المنع من التكسب وهو الموجب لفقرهم والدليل على ذلك قوله تعالى (لا يستطيعون ضربا في الارض) والضرب في الارض كناية عن السفر والمراد به هنا السفر للتكسب بالمال.

ومع قطع النظر عن الروايات الواردة في باب الحج فلا يبعد ان يستفاد من كلام اهل اللغة ان الاحصار لا يختص بمن منعه العدو فيشمل الحكم من كان لا يسافر للكسب لانه يقاوم اعداء الدين ومن يمنعه امر اخر في سبيل الله كمن يتعلم الاحكام الشرعية ليعمل في مجال التبليغ فانه ايضا احصر في سبيل الله ولا يستطيع السفر للكسب.

يحسبهم الجاهل اغنياء من التعفف.. وهذه صفة اخرى لمن يرجح الانفاق عليه ومعنى ذلك انه مع فقره لا تبدو عليه علامات الفقر والمراد بالجاهل الذي يجهل حالهم فيحسب اي يظن انهم اغنياء والسبب فيه تعففهم فربما يكون السبب حب الاناقة والبذخ ولكن هؤلاء سبب ظهورهم بمظهر الغني تعففهم.

والتعفّف تفعّل من العفّة وهي الكفّ عما لا ينبغي وقيل التعفّف تكلّف العفّة ولكن الظاهر انه من التلبس بها لا التكلف فان العفة صفة نفسية فاذا ظهر منه ما يدل عليها فقد تعفف كالكرم والتكرم فالكريم لا يبدو كرمه الا بتكرمه بالفعل. والمراد انهم لا يظهرون امام الناس بمظهر يوحي بفقرهم من حيث الملبس واظهار الحاجة والسؤال.

ومن هنا فان ما ورد في عدة من التفاسير من ان المراد بهم اصحاب الصُفّة غير صحيح لان هذا الوصف لا ينطبق عليهم. والصفة في مسجد النبي صلى الله عليه وآله وسلم موضع كان يجتمع فيه فقراء المهاجرين وغيرهم ممن لا مأوى لهم والمعروف انهم كانوا اربعمائة شخص ولكن الموجود من اساميهم لا يبلغ المائة كما في المنار وغيره. ومن المستبعد ان يكون موضع من المسجد خاصا بهذا العدد من الفقراء لان المسجد على حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن بهذه السعة.

وقوله تعالى تعرفهم بسيماهم خطاب لكل سامع. والسيماء والسيمياء بمعنى العلامة. والياء في الاصل واو. والسوم العلامة تجعل على الشيء. والمراد انهم بالرغم من تنكرهم لئلا يعرف فقرهم يتبين ذلك مما يظهر عليهم من علامات الفقر كرثاثة الثياب او الضعف وصفرة الوجه والغرض انهم يخفون الفقر ولكن الفطن اللبيب يتبين له حالهم.

لا يسألون الناس الحافا.. الالحاف هو الالحاح والاصرار ولعله مأخوذ من اللحاف الذي يتغطى به فكأن السائل يغطي المسؤول بكثرة سؤاله. وهو مصدر بمعنى اسم الفاعل اي لا يسألون الناس ملحفين فيكون حالا او بتقدير فعل اي لا يلحفون الحافا فيكون مفعولا مطلقا.

وهذا القيد انما يراد به انهم لو اضطروا الى السؤال فلا يصرون كغيرهم من ذوي الحاجة لان المستفاد من التعفف انهم لا يسالون لا بالحاح ولا بغيره فلا بد من حمله على ذلك او يراد به التعريض بغيرهم من ذوي الحاجة حيث يلحون في السؤال.     

وما تنفقوا من خير فان الله به عليم.. حيث كانت الاية تحث على الانفاق على الفقراء الذين لا يبدو عليهم الفقر ولا يسالون الناس فبالطبع يكون الانفاق عليهم سرا فلزم التعقيب بان الخير الذي تنفقه في السر ولا يعلم به احد يعلمه الله تعالى ويثيب عليه فلا يضرك جهل الناس به.

 

الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (274)

الظاهر ان المراد بالاية ان هؤلاء يلاحظون ما هو الانسب من طريقة الانفاق فيطعمون الطعام على الفقراء المعوزين ليلا لئلا يشعروا بضيق امام الناس وينفقون على المتعففين سرا وينفقون في الامور العامة كالجهاد في سبيل الله تعالى وبناء المدارس والمساجد والمستشفيات علنا لحث الاخرين على ذلك.

وهكذا كان دأب الائمة الطاهرين عليهم السلام حيث كانوا يحملون الطعام الى بيوت الفقراء ليلا بحيث لا يعرفون من اتى به وينفقون علانية ايضا في مواضع اخرى بل ينقلون ذلك للناس لحثهم على الخير كما يظهر من الحديث التالي.

روى الكليني بسنده عن يونس أو غيره عمن ذكره عن أبي عبد الله عليه السلام قال قلت له (جعلت فداك بلغني أنك كنت تفعل في غلة عين زياد شيئا وأنا أحب أن أسمعه منك قال فقال لي نعم كنت آمر إذا أدركت الثمرة أن يثلم في حيطانها الثلم ليدخل الناس ويأكلوا وكنت آمر في كل يوم أن يوضع عشر بنيات[14] يقعد على كل بنية عشرة كلما أكل عشرة جاء عشرة أخرى يلقى لكل نفس منهم مد من رطب وكنت آمر لجيران الضيعة كلهم الشيخ والعجوز والصبي والمريض والمرأة ومن لا يقدر أن يجيء فيأكل منها لكل إنسان منهم مد فإذا كان الجذاذ أوفيت القوام والوكلاء والرجال أجرتهم وأحمل الباقي إلى المدينة ففرقت في أهل البيوتات والمستحقين الراحلتين والثلاثة والأقل والأكثر على قدر استحقاقهم وحصل لي بعد ذلك أربعمائة دينار وكان غلتها أربعة آلاف دينار).[15]

ويحتمل ان يكون المراد ان هؤلاء لا يهمهم الوقت والحال فهم في كل حال وفي كل وقت ينفقون اموالهم في سبيل الله تعالى والاول اظهر.

والابهام في قوله تعالى (لهم اجرهم) للتعظيم كأنه مما لا يمكن توصيفه وهو كذلك في الواقع لان الالفاظ غير مؤهلة لبيان ذلك الاجر العظيم الذي لا يعرف حدوده الا الله تعالى ولا يمكن بيان تفاصيله ونعوته.

ويمكن ان يكون الابهام من جهة اختلاف الاجر حسب اختلاف المنفقين في نياتهم وفيما ينفقونه وفي الظروف المحيطة بهم حين الانفاق فربما ينفق الانسان ما هو بحاجة ماسة اليه في سبيل الله وتقربا اليه كما قال تعالى (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ..).[16]

وقد مر أن هذه الجملة تفيد الضمان منه تعالى بان الاجر لا يضيع عنده وأن الالتزام به من حيث انه تعالى ربهم والرب هو المالك للشيء والمصلح له او هو المربي فهذا الاجر مما يقتضيه اصلاح شأنه وهو نتيجة تربيته الى ان بلغ هذه الدرجة من الكمال.

ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون.. الانسان يخاف من المستقبل المجهول في الدنيا وفي الآخرة ايضا حتى من ينكرها فانه لا يملك دليلا على نفيها وهو يحزن على ما فاته من المنافع المادية والمعنوية كل حسب فكره وثقافته ولكن المؤمن الذي أنفق ماله في سبيل الله لا خوف عليه في مستقبله ولا يحزن مما فاته.

ويلاحظ ان الاية لم تنف خوفهم من المستقبل فالمؤمن يخاف من عاقبة اعماله حتى المطهرون يخافون كما قال تعالى (إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا)[17] وانما قال لا خوف عليهم اي لا موجب للخوف عليهم من المستقبل اما في الدنيا فانها زائلة ولا يهتمون بها ولا يصيبهم منها الا ما كتب الله عليهم واما في الاخرة فهم يعيشون عيشة راضية بفضل ربهم.

ولا هم يحزنون في الدنيا على ما فاتهم من حطامها ولا على ما انفقوا فيها لانهم يعلمون ان ما فقدوه من المال يحصلون في مقابله على ربح ليس فوقه ربح ولا يحزنون يوم القيامة لانهم عملوا في الدنيا ما يرون اثره في الاخرة من رضوان الله تعالى ونعيمه بل يرون اثره في الدنيا ايضا فالصدقة توجب البركة ودفع البلاء وتمنح الانسان راحة نفسية بخلاف من يملأ بطنه وهو يعلم بان جاره جائع.

قال تعالى (أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ).[18]

 


[1] التوبة : 60

[2] المائدة : 45

[3] الكافي ج 3 ص 502

[4] النساء : 31

[5] الكافي ج 4 ص 7 باب فضل صدقة السر

[6] الحاقة : 33 - 34

[7] الشورى : 52

[8] القصص : 56

[9] طه : 50

[10] الانسان : 3

[11] فصلت : 17

[12] الرحمن : 27

[13] البقرة : 196

[14] البنيات بكسر الباء جمع بنية وهي النطع كعنب اي ما نسميه اليوم السفرة كانوا يصنعونه من الجلد

[15] الكافي ج 3 ص 569

[16] الحشر : 9

[17] الانسان : 10

[18] يونس : 62 - 64