مكتب سماحة السيد مرتضى المهري

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ...

هذه أطول آية في القرآن الكريم وتتعرض لموضوع الدَّين وتنصح بكتابته والاستشهاد عليه ومما يلفت النظر في هذه الآية وكل الآيات التي تحدد المسؤوليات الاجتماعية وتشرع قوانين للحياة البشرية في الدنيا انها لم تغفل جمال التعبير بل انشئت كغيرها من الايات بطريقة ادبية راقية تبلغ حد الاعجاز.

ومن الصعب جدا لمن ينشئ القانون ان يلاحظ الجمال الادبي في صياغته كما ان الجمل التي تحمل مضمونا علميا دقيقا يصعب جدا ان تصاغ بطريقة ادبية وهذا الاعجاز لا يوجد الا في القرآن الكريم.

والتداين تفاعل من الدين اي المال الغائب قال في العين (وكل شيء لم يكن حاضرا فهو دين). وفي معجم المقاييس (يقال داينت فلانا اذا عاملته دينا اما اخذا وإما إعطاءا). فكل معاملة فيه دين اما في الثمن واما في المثمن يعتبر مداينة وعليه فالاية تشمل القرض كما تشمل البيع بنسيئة او شراء كلي في الذمة بثمن حال وهو ما يسمى ببيع السلف او السلم.

وحكي عن ابن عباس ان الاية خاصة ببيع السلم او انها نزلت بهذا الشأن والظاهر أنه كان يرى تناسب الآية لما قبلها من جهة ان الله تعالى حيث حرم الربا أجاز لصاحب المال ان يستخدم راس ماله بهذه الطريقة وكان هذا النوع من البيع متعارفا عندهم بحيث يشتري الرجل طنا من الحنطة مثلا مع تعيين الاجل والبايع لا يملك الحنطة حين البيع وانما هو زارع فيبيع حنطته بثمن اقل لحاجته الى المال ويشترط في صحة هذه المعاملة دفع الثمن نقدا.

ويمكن ان يشهد لهذا القول التقييد بكون الدين الى اجل مسمى فان القرض لا يشترط فيه ان يكون مؤجلا وان يعين اجله وانما يشترط ذلك في بيع السلم وفي البيع بنسيئة.

والظاهر ان قوله (بدين) للتأكيد كما تقول ضربته ضربا وربما يفيد هذا التاكيد ان المراد بالضرب ليس معنى مجازيا بل هو ضرب حقيقي وهنا ايضا يفيد ذلك لان التداين يستعمل بمعنى المجازاة فالتاكيد يفيد ان المراد التعامل بالدين. وقيل في ذلك بوجوه اخرى بعيدة.

الى اجل مسمى.. الاجل غاية المدة المحددة للشيء كالدين ونحوه وهو هنا قيد للدين لان البيع ربما يكون بدين من دون ذكر الاجل فيكون حالا ويجب على المدين ان يدفعه فورا او يستجيز في التاخير كما هو الحال في المعاملات المتعارفة فان الثمن فيها دين عادة ولكن يسدده المشتري في نفس الوقت.

والمسمى اي ما ذكر له اسم. والاسم: العلامة التي بها يعرف الشيء وهي ماخوذة من (السُّمُوّ) اي الرفعة لان العلامة ترفع على الشيء. والتقييد بكون الاجل مسمى – أي تكون له علامة يعرف بها – يفيد ان الاجل يجب ان يكون محددا حسب التاريخ بحيث لا يستلزم جهلا وغررا فلا يجوز تعيين وقت الحصاد مثلا.

والضمير في قوله (فاكتبوه) يعود الى الدين بأجله وربما يستظهر من الامر الوجوب وقيل بالاستحباب ولكن الظاهر انه حكم ارشادي وليس وجوبا تعبديا بقرينة ذكره تعالى للحِكَم المترتبة على الكتابة كما ستأتي.  

وقوله (بينكم) يفيد ان المتعاملين يجب ان يتفقا على كاتب معين ليكون بينهما و(بالعدل) قيد للكتابة ومعناه انه يجب ان يراعي العدالة في كتابته فلا يظلم احدا منهما ويكتب الاجل بدقة كما يسجل الشروط من كل من الطرفين وكذلك اوصاف البضاعة المشتراة وغير ذلك من متعلقات المعاملة.

وقيل ان هذا القيد يدل على اعتبار العدالة في الكاتب وهو غير ظاهر.

وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ...

الاباء: الامتناع. وهذا نهي عن امتناع من يطلب منه الكتابة ان يكتب صك الدين. والسر في ذلك أن الغالب على القوم في ذلك العصر الامية فهذا حثّ للمتعلم ان يكتب الكتاب المذكور بينهما والظاهر من النهي التحريم ومعناه انه اذا طلب منه ذلك فلا يجوز له الاباء ويؤكد ذلك الامر بالكتابة بقوله (فليكتب).

وقوله (كما علمه الله) تعليل للحكم كقوله تعالى (وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ)[1] وقوله (وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ)[2] ونحوهما فان الانسان بذاته لا يعلم شيئا والله تعالى هيّأ له المقدمات من الاستعداد والظروف الخاصة حتى تعلم الكتابة وغيرها.

وقيل ان قوله (كما علمه الله) متعلق بقوله فليكتب ومعناه انه يكتب مثل ما علمه الله من كتابة الوثائق لا يزيد ولا ينقص فهذا ليس تعليلا بل هو تقييد للكتابة.

وليملل الذي عليه الحق.. الاملال هو الاملاء وهو معروف والاصل فيه ملو او ملي بمعنى الامتداد في الشيء على ما في معجم مقاييس اللغة ومنه قوله تعالى (إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا..)[3] وفي المفردات (واصل امليت امللت فقلب تخفيفا).

وقد وردت الكلمة في القران بالوجهين فهنا بالاملال وورد الاملاء في قوله تعالى (وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا).[4]

ومهما كان فالاملاء يجب ان يكون ممن عليه الحق اي المدين لانه في الواقع اقرار منه ولكن الله تعالى استوثق منه بالتقوى في الاملاء وان لا ينقص من الحق الذي عليه شيئا. والبخس: النقص.

ويحتمل ان يكون الضمير في قوله (وليتق) وقوله (ولا يبخس) عائدا الى الكاتب باعتبار انه الذي يمكنه ذلك اما المدين فلا يمكنه لحضور الدائن عادة. ولكن الاول اظهر لفظا لانه اقرب ولا ينافيه حضور الدائن لامكان عدم تنبهه او عدم قدرته على السماع.

ثم تعرّضت الاية الكريمة لحالات لا يمكن فيها للمدين - وهو المراد بالذي عليه الحق في الاية - ان يملي على الكاتب:

الحالة الاولى: ان يكون سفيها لا يدرك الامور. والسفاهة في الاصل بمعنى الخفة وتطلق على من يكون خفيف العقل إمّا لطيش الشباب فيرتكب ما يرفضه العاقل الحليم او لقلة ادراكه وفهمه. والمراد هنا هو الثاني وفي مثله فالمعاملة من اساسها بيد الولي.

الحالة الثانية: ان يكون ضعيفا كما لو كان طفلا او شيخا كبيرا لا يتقن هذه الامور لكبره لا لسفهه فالمعاملة في هذا الحال ايضا بيد الولي.

الحالة الثالثة: ان يكون عاقلا ومدركا ولكنه لا يستطيع المباشرة في الاملاء لخرس مثلا او لعدم علمه باللغة او بالالفاظ المناسبة في مثل هذا المقام فهذا يباشر اصل المعاملة بنفسه ولكنه لا يستطيع المباشرة بالاملاء فيقوم وليه مقامه. ولذلك اتى بالضمير المنفصل في قوله (ان يمل هو) ليدل على انه قادر على المعاملة ولكنه عاجز عن مباشرة الاملاء.

ويجب ان يكون الاملاء من قبل الولي ايضا بالعدل فلا يبخس من حق احدهما شيئا.   

 

وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا...

لم يكتف الشرع بكتابة المعاملة بل امر بالاستشهاد لان الكتابة تنفع الطرفين ان لم يحصل خلاف بينهما والشهادة تنفع في تحصيل الحكم القضائي من الحاكم الشرعي. والاستشهاد طلب الشهادة بمعنى الطلب من رجلين ان يشاهدا المعاملة على وجهها ويتحملاها لاداء الشهادة وقت الحاجة.

والتعبير بالشهيدين باعتبار اتصافهما بالشهادة بعد الطلب والا فهما ليسا شهيدين قبلها ويمكن ان يكون المراد بالشهيدين رجلان ممن حضر المعاملة. والشهادة تاتي بمعنى الحضور. وحيث كان الخطاب للذين آمنوا فقوله تعالى (من رجالكم) يدل على أن شهادة غير المؤمن لا تكفي. وسيأتي ما ربما يدل على اعتبار العدالة.

والضمير في قوله (فان لم يكونا) يعود الى الشهيدين فان كان بمعنى الحاضرين فالمعنى واضح اي ان لم يحضر رجلان وان كان بمعنى من يتحمل الشهادة فالمراد ان لم يكن من يمكن ان يتحمل الشهادة رجلين. وقوله (فرجل وامراتان) اي فليشهد رجل وامراتان.

والظاهر ان قوله (ممن ترضون) قيد لكل شهيد حتى الرجلين وليس خاصا بالمراة ولعل المراد بالرضا الوثوق به او عدالته لما ورد من اشتراط عدالة الشاهد في الكتاب والسنة في موارد اخرى كقوله تعالى في الطلاق (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ).[5]

ثم اشار الى السبب في اشتراط تعدد المراة في الشهادة. والمعروف في تقرير ما ورد في الاية من ذكر السبب في ذلك ان المراة معرضة كثيرا للنسيان او للخطأ فاذا نسيت او اخطأت احداهما بعض شؤون المعاملة تذكرها الاخرى فقوله (ان تضل) بتقدير مخافة وهي مفعول لاجله اي استشهدوا امراتين مخافة ان تضل احداهما اي تنسى او تخطئ فتذكرها الثانية.

وبناءا على هذا التقرير الوارد في كثير من التفاسير يتوهم أن الايجاز يقتضي ان يقال فتذكرها الاخرى والضمير يعود الى الناسية فلا حاجة الى تكرار (احداهما) واختلفت كلماتهم في توجيه العبارة.

والظاهر أن المراد ليس تذكير المتذكرة للناسية بل كل واحدة منهما تذكر الاخرى ببعض الشؤون وبعد تبادل المعلومات والتشاور فيما بينهما تصلان الى شهادة واحدة ولذلك قيل انه لا تجوز اداء شهادة النساء الا مع بعض.

وعليه فالشرط في تذكير احداهما للاخرى ليس هو نسيان احداهما بل خوف النسيان او الخطا من احداهما فتتذاكران ما شهدتاه قبل اداء الشهادة وتصلان الى الشهادة الصحيحة وتدليان بها حتى لا تقع احداهما في الخطا وليس المراد انتظار ان تخطئ احداهما فتذكرها الاخرى وهذا الامر لا يتبين الا بهذا التعبير ولو قيل فتذكرها الاخرى لم يتبين المراد.

وهنا سؤال آخر وهو أنه ما الفرق بين الرجل والمرأة واحتمال الخطأ والنسيان وارد فيهما وضعف الذاكرة ايضا موجود في الصنفين؟

والجواب أن الدين يحاول إبعاد المرأة عن مجال التجارة والعمل الاقتصادي واذا ابتعدت عن هذا المجال فهي تنسى او تخطئ ما يرتبط به وان كانت قوية الذاكرة في مجال اخر وفي الرجال ايضا من يكون بنفس المثابة اذا كان بعيدا عن التعامل في المجال الاقتصادي.

ولا يأب الشهداء اذا ما دعوا.. اي لا يمتنع الشهداء اذا طلب منهم الشهادة. والظاهر أن الآية تشمل من يطلب منه تحمل الشهادة ليؤديها بعد ذلك امام الحاكم الشرعي ومن تحمل الشهادة فيطلب منه الحضور لدى الحاكم الشرعي لادائها.

ولكن صدق الشاهد على من يطلب منه تحمل الشهادة باعتبار ما يؤول حيث انه لم يحضر وبالتالي لم يشهد الامر وانما يطلب منه ان يحضر ليشهد ويدلي بشهادته وقت الحاجة فلا يصدق عليه الشاهد الا باعتبار ما يؤول اليه امره واما القسم الثاني فيصدق عليه الشاهد حقيقة.

وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا...

السأم: الملل والضجر. وهو الاعراض عن الشيء للانزعاج منه. ويحصل غالبا بكثرة التكرار والمراد هنا ان يتهاون الانسان في كتابة الدين او المعاملة المشتملة عليه بسبب احتقار المبلغ. ويمكن ان يكون السأم بسبب كثرة معاملاته بالدين فنهى الله تعالى عن ذلك وامر بكتابته صغيرا او كبيرا مع ذكر الاجل. والصغير والكبير حالان للضمير الراجع الى الدين.

ثم ذكر للكتابة ثلاث مزايا تترتب عليها وأشار اليها بقوله (ذلكم..).

المزية الاولى: انها اقسط عند الله ويبدو من معجم المقاييس ان القسط له معنيان متضادان العدل والجور وفي تهذيب اللغة انه بكسر القاف العدل وبفتحه الجور وفي المفردات أن القِسط بكسر القاف: النصيب بالعدل. والقاسط: الذي يجور وياخذ نصيب غيره قال تعالى (وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا)[6] والمُقسط: العادل. وفي بعض كتب اللغة أن الهمزة في الاقساط بمعنى رفع القَسط اي الجور قال تعالى (إِنَّ اللّه يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ).[7]

ومهما كان فالاقسط هنا بمعنى كونه اقرب الى القسط بالكسر وهو العدل والمراد بكونه اقرب اليه انه اقرب لتحقيقه والا فالعدل خط واضح لا زيادة فيه ولا نقيصة الا ان الامر حيث يكون مبهما فيحتمل ان لا يصل النصيب الحق الى صاحبه كما لو اضطرا الى التصالح بسبب الشك في المبلغ او في بعض الملابسات اما اذا كتب فلا يبقى شك.

المزية الثانية انها اقوم للشهادة و(اقوم) افعل تفضيل من القوام اي الثبات اي اثبت للشهادة فاذا حصل اختلاف بين المتعاملين ووصل الامر الى القضاء ودعي الشهود للشهادة فان الشاهد ربما ينسى بعض ملابسات الامر الا انه اذا كتب فانه بنفس الكتابة يثبت في الذاكرة مضافا الى امكان الرجوع الى الكتاب للتاكد فهي اثبت للشهادة بالحق.

المزية الثالثة انها توجب الابتعاد عن الريب والظاهر ان هذا الامر لا يرتبط بالشهادة بل القصد منه ان الكتابة توجب عدم حدوث الريب بين المتعاملين فلا تحدث بينهما غالبا ازمة وخلاف يستوجب الرجوع الى المحاكم بل ينحل الامر بينهما بسبب وجود الكتابة فهي ادنى اي اقرب من نفي الريب والشك فلا يحتاجان الى التحاكم.

إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ ...

هذه الجملة استثناء من اصل الحكم بطلب الكتابة في قوله تعالى فاكتبوه اما اذا كانت تجارة حاضرة بمعنى ان الثمن حاضر والمثمن حاضر ويتداور المتعاملان البضاعة والثمن فيما بينهما فلا حاجة الى كتابة فقوله حاضرة وان كانت صفة للتجارة الا انها في الواقع صفة للثمن والمثمن وفي الاسناد تجوز. وكذلك الضمير في (تديرونها) فانه يعود الى التجارة مع ان الدوران انما يقع بين الثمن والمثمن.

وهذا الاستثناء منقطع لان التجارة الحاضرة ليست من التعامل بالدين.

وقوله فليس عليكم جناح ليس بمعنى نفي الاثم ليستدل به على وجوب الكتابة في غير هذا المورد بل بمعنى نفي التضييق كما ورد تفسير الجناح به في كتاب المحيط وان فسرت الكلمة في سائر الكتب بالاثم وهي في الاصل بمعنى الميل فكأن فيه ميلا عن الحق.

وقد ورد نفي الجناح بهذا المعنى في مثل قوله تعالى (وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا..)[8] اذ لا وجه لتوهم الاثم في الصلح.

ومع ذلك امر بالاستشهاد حتى في التجارة الحاضرة (وأشهدوا اذا تبايعتم) فنفي لزوم الكتابة من جهة ان المعاملة تمت بالتقابض فلا يحصل شك في الاجل او في المبلغ ولكن ينبغي ان يستشهد على البيع لاحتمال الشك في كون القبض بعنوان اخر غير البيع كالتاجير او الاعارة وبالطبع فان ذلك خاص بالامور المهمة كالبيت والسيارة لا ما يشتريه الانسان يوميا من الطعام واللباس مثلا.

 

وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ...

المضارة وان كانت من باب المفاعلة الا انها بمعنى الاضرار لا بمعنى تبادل الضرر بين الطرفين. ويحتمل ان يكون قوله (يضارّ) مبنيا للفاعل او للمفعول. والفتحة على الراء من جهة التقاء الساكنين وقرأ بعضهم بالكسر ولا يختلف المعنى عليهما.

فان كان مبنيا للفاعل كان المعنى لا يجوز للكاتب والشهيد الاضرار بالمتعاملين وان كان مبنيا للمفعول كان النهي متعلقا بالاضرار بالكاتب والشهيد ولكن الظاهر هو الثاني بان يكون مبنيا للمفعول فالمعنى النهي عن الاضرار بهما لا اضرارهما. وذلك لان عدم جواز اضرارهما بالمتعاملين قد مر في الاية حيث امر الكاتب ان يكتب بالعدل وان لا يابى الكاتب عن الكتابة وقيد الشهيد بان يكون ممن ترضون.

والاضرار بهما يحصل تارة من الزامهما بالسفر او الانتقال الى موضع الشهادة او الكتابة او الى المحكمة من دون ان تدفع لهما اجرة وربما يحصل بتهديد الكاتب ان لا يكتب الا ما يكون لصالح هذا الطرف او ذاك وبتهديد الشاهد ان لا يشهد بالحق وغير ذلك.

وان تفعلوا اي تضاروا الكاتب او الشهيد فانه فسوق اي خروج من طاعة الله تعالى والباء في قوله (بكم) اما للتعدية بمعنى ان هذا الامر يخرجكم عن طاعة الله تعالى واما للظرفية اي انه يعتبر فسوقا ثابتا فيكم وهو ابلغ في المنع لان المفروض ان يتجنبوا الفسوق وهم مؤمنون.

وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (282)

ثلاث جمل ختمت بها اطول اية في القران وهي لا تحمل حكما بل تنبه على امور مهمة ترتبط بهذه الاحكام وبغيرها فالاولى تحث على التقوى وهي اهم شيء في العمل بالاحكام خصوصا فيما يتعلق بحقوق الناس والثانية تنبه على ان الله تعالى يعلمكم ما لم تعلموا مما يحقق لكم السعادة في الدنيا والاخرة والثالثة للتاكيد على ان الحكم هو ما حكم به الله تعالى لانه العليم بكل شيء.

وقد كرر اسم الجلالة في كل جملة تيمنا وتبركا به ولتعظيم الامر. وللتكرار في الادب موقع خاص فهو مستحسن في مواقع ومستقبح في غيرها وقد ورد التكرار في موارد من الكتاب العزيز للتاكيد على الموضوع كقوله تعالى (وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ).[9]

وقيل ان الاية تدل على ان الله تعالى يعلمكم اذا اتقيتم وهو غير صحيح لمكان الواو والتعليم الالهي لا يتقيد بالتقوى بل هو متاح للجميع وانما يفيد التقوى في تمييز الحق عن الباطل كما قال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا..)[10] وهذا الامر اهم من التعليم فربما يكون الانسان عالما بامور الدين ايضا ولكنه يتبع مذهبا باطلا لعدم تمييزه.

وفي الميزان ان اظهار الاسم الكريم في الجملة الاخيرة ليدل به على التعليل كأنه قيل هو بكل شيء عليم لانه الله.

ولكنه غير واضح الا على القول بان اسم الجلالة يدل على المستجمع لجميع صفات الكمال وهو غير صحيح لان الكلمة لا تدل الا على الذات المتعالية بدون اي وصف لانه علم لا يلاحظ في معناه مدلول الكلمة فليس كل محمد محمدا ولا كل علي عليا بل حتى لو لوحظ الاصل في الكلمة فهو يدل على انه معبود لا على استجماع الصفات.

 


[1] البقرة : 198

[2] القصص : 77

[3] ال عمران 178

[4] الفرقان : 5

[5] الطلاق : 2

[6] الجن : 15

[7] المائدة: 42

[8] النساء : 128

[9] ال عمران : 78

[10] الانفال : 29