مكتب سماحة السيد مرتضى المهري

وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ...

هذه الاية مرتبطة بنفس الموضوع السابق وهو كتابة الدين والمعاملة المشتملة عليه وتبين حكم حالة السفر فقد لا يجد المتعاملان من يكتب لهما والغالب في ذلك العصر قلة من يتمكن منها فالافضل لهما ان يجعلا للدين رهنا ويقبض الدائن الرهن.

وقوله (كنتم على سفر) اما بمعنى كنتم مسافرين فتكون (على) للاستعارة عن حالة السفر وكأن الانسان راكب سفره. ومثله يقال في الطريق كقوله تعالى (وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)[1] ويمكن ان تكون (على) للظرفية اي في حال السفر والظاهر ان ذكره من باب كون الغالب في ذلك العصر قلة من يستطيع الكتابة خصوصا في السفر والا فلا خصوصية فيه والمناط عدم العثور على كاتب.

ويمكن ان يكون ذكر الكتابة من باب احد الامرين لامكان الاكتفاء بالشهادة فيكون الحكم خاصا بعدم العثور على الشهود ايضا.

والرهان جمع الرَّهن وهو الشيء المرهون ومثله الرُّهُن. اي فوثائقكم رهان مقبوضة فالمراد ان الدين ينبغي فيه الاستيثاق لئلا يحدث اختلاف بين المتعاملين اما بكتابة او باستشهاد او برهان ووصف الرهان بالمقبوضة لأنه لا يوجب استيثاقا من دون القبض خصوصا في السفر والمراد قبض المرتهن وهو الدائن.

ووقع الكلام في الفقه في دلالة الاية على اشتراط الرهن بالقبض اما في صحته واما في لزومه ويدل على الحكم ايضا موثقة محمد بن قيس عن أبي جعفر عليه السلام قال (لا رهن إلا مقبوضا).[2]

ولكن الاية لا تدل على اشتراط صحة الرهن بالقبض وانما هي ترشد الى وسيلة لاستيثاق الدائن وهو لا يحصل الا بالقبض وهذا واضح خصوصا في السفر وتمام الكلام في الفقه.

وحيث كانت الاية بصدد الارشاد الى ما يوجب الاستيثاق وليس الحكم هنا تعبديا تعرضت بعد ذلك لحالة اطمئنان الطرفين كل منهما بالاخر وأنه لا يجب شيء من الاستيثاق في هذا الفرض وجعل الشرط الامان (فان أمن بعضكم بعضا) ولم يذكر الجزاء المطابق للشرط وهو عدم لزوم الاستيثاق بل اشار اليه بذكر لازمه وهو وجوب أداء الامانة فيعلم منه أن ما ذكر من الكتابة والشهادة والرهن خاص بغير حالة الامان.

ولكن حيث إن الخطر كثيرا ما يكمن في مواضع الاطمئنان حتى بين اقرب الاقارب كالاب وولده او بين الاخوان فلجأت الآية الكريمة الى الوازع النفسي وهو التقوى (فليؤد الذي اؤتمن أمانته وليتق الله ربه) فالامر هنا يعود الى ضميره وخوفه من عذاب الله تعالى.

والذي اؤتمن هو من امنه الطرف الاخر فلم يكتب دينه ولم يستشهد عليه ولم يقبض منه رهانا فيجب عليه أن يؤدي الامانة والمراد بها مورد المعاملة من الثمن او المثمن او المراد الدين الذي في ذمته وانما اعتبر امانة لان البائع ائتمنه عليه وانه سيدفعه في موعده فعليه ان يتقي الله ولا يؤخر الدفع حتى يوما واحدا وهذا مما يلاحظ فيه عدم الاهتمام عند كثير من الناس خصوصا بين الاقارب. والاية تحذر الانسان من ان هذه المماطلة خلاف التقوى ومعناه انه يستوجب عذاب الله تعالى.

وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (283)

مر في الاية السابقة النهي عن الاباء اذا طلب حضور الانسان للشهادة (ولا يأب الشهداء اذا ما دعوا) بناءا على ان المراد بهذه الجملة الدعوة الى تحمل الشهادة وان احتمل ان يكون المراد منها ايضا الاداء ومهما كان فبعد تحمل الشهادة لا يجوز الكتمان.

والكتمان يحصل تارة بالاباء عن الحضور امام الحاكم الشرعي للادلاء بالشهادة وتارة بعدم بيان الحقيقة او بعدم بيان تمامها فيخفي بعض ما يجب ذكره فكل ذلك من الكتمان وهو الاخفاء والستر كما في معجم المقاييس.

ومن يكتمها فإنه آثم قلبه.. آثم خبر إن وقلبه فاعل الاثم والمعنى ان كاتم الحق قلبه آثم والاثم هو التاخير في الاصل ويطلق على الذنب ومعصية الله لانه يوجب تأخر الانسان وعدم وصوله الى كماله والسر في اسناد الاثم هنا الى القلب أن بعض الناس ربما يستخف بكتمان الحق ويعتبر ذلك من الترك وعدم الفعل فلا يعتبر ذلك جرما فهو لم يأثم في مقام العمل والآية تقول ان هذا قلبه آثم والاثم لا يختص بالجوارح.

والمستفاد من هذه الاية ان هذا وان لم يفعل شيئا ولكن سكوته عن الحق يدل على اثم في قلبه والتاريخ يشهد بفظاعة كتمان الحق في نشوب الحروب وضياع الحقوق وانتشار المذاهب الباطلة ومفاسد كثيرة في المجتمع البشري.

من ذلك كتمان علماء اهل الكتاب ما رأوه في كتبهم من علامات الرسالة المتجلية في الرسول الاكرم صلى الله عليه وآله وسلم فلعل بعضهم لم ينكر وانما سكت عن اظهارها وتوهم ان ذلك ينفعه لانه لم يرتكب جريمة غفلة عن ان هذا السكوت بنفسه جريمة كبرى وخيانة في حق المجتمع وخيانة لما ائتمنهم الله تعالى عليه.

قال تعالى (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ).[3] 

ومن ذلك كتمان بعض الناس ما راوه وسمعوه من الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في تعيين امير المؤمنين عليه السلام اماما من بعده حيث استشهدهم الامام فادعى بعضهم النسيان وبعضهم الكبر وأخفوا الحق بل ان اخفاء الحق في هذه القضية مستمر من قبل علماء القوم الى عصرنا هذا.

والله بما تعملون عليم.. هذه الجملة تحذير وتهديد اذ لا شك في انه تعالى عالم بكل شيء فالغرض من هذا التنبيه تحذير الانسان من كتمان الشهادة مضافا الى ان هذه الجملة اعتبر فيها كتمانه عملا سيئا وليس مجرد ترك لانه عمل قلبي.

لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ...

السماوات والارض تعبير عن عالم الوجود باكمله ولا شك في ان كل ما هو في الوجود ملك لله تعالى بالملك الحقيقي لا الاعتباري بمعنى ان الموجودات قائمة بذاتها ومتقومة في كيانها بارادته تعالى.

ولعل التنبيه على هذه الحقيقة هنا لتعليل ما مر من انه تعالى عليم بما تعملون فهذه الجملة تحتوي على حقيقتين الاولى احاطته تعالى بكل شيء حتى ما في قلب الانسان وحتى ما في ضميره المكنون الذي يخفى عليه ايضا والاخرى انه يحاسب الانسان على ما في ضميره.

والانسان ربما يستغرب الامرين فهذه الجملة تدفع الاستغراب من الجهتين لانه تعالى يملك كل شيء ملكا حقيقيا فهو محيط بكل شيء لا يخفى عليه شيء في الارض ولا في السماء وان كان بمقدار ذرة.

قال تعالى (وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ).[4]   

واما من جهة المحاسبة فربما يستبعد الانسان ان يؤاخذه الله بما في قلبه وبما يقصد ويدور في خلده وبما تنطوي عليه سريرته ويقول في نفسه ان هذه الامور من خصائص دخيلة الانسان لا تتدخل فيها السلطات ولا يمكنها ان تؤاخذ الانسان بها وليس من حقها ذلك ويقارن السلطة الالهية بالسلطات الاعتبارية البشرية ويتوهم ان الله تعالى ايضا لا يملك الحق في ذلك.

وهذا الامر ربما يظهر على فلتات لسان الناس فيرون للانسان كرامة وحرية حتى امام ربه ومن لا يقوله بصراحة فربما يعتقد بذلك سرا والله تعالى يرد على هذا التوهم ايضا ويخبر الانسان انه مع كل ما يملك ملك لله تعالى يتصرف فيه كما يشاء ولا يمكن لاحد ان يحاسب الله تعالى فيما يفعل كما قال تعالى (لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ).[5]

 

وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ...

آية واضحة وخطيرة جدا فما في النفس يشمل الصفات المستقرة والملكات ويشمل النيات والعقائد وما يعزم عليه الانسان.

وإبداء ما في النفس يتم بالعمل على طبقه وإخفاؤه يتم بترك العمل فاذا حسد الانسان أخاه المؤمن على أمر فربما يتكلم بما يسقطه من اعين الناس وهذا إبداء للحسد وربما يخفيه ولا يظهره ولا يتكلم بشيء فضلا عن عمل فوق الكلام بل ربما يمدحه او يدعو له وهو في باطنه يحسده وظاهر الاية ان ما في النفس يحاسب عليه الانسان فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء ويظهر منها ان المحاسبة على نفس الصفة التي في النفس لا على العمل الجوارحي.

ومن هنا وقع الكلام في التفاسير قديما وحديثا وذهب جمع من المفسرين الى انها منسوخة ورووا في ذلك رواية مروية في عدة من الكتب ومنها صحيح مسلم فلا يمكنهم ردها.

روى مسلم بسنده عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ (لَمَّا نَزَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} قَالَ: فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَتَوْا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ بَرَكُوا عَلَى الرُّكَبِ فَقَالُوا أَيْ رَسُولَ اللهِ كُلِّفْنَا مِنَ الْأَعْمَالِ مَا نُطِيقُ الصَّلَاةَ وَالصِّيَامَ وَالْجِهَادَ وَالصَّدَقَةَ وَقَدِ اُنْزِلَتْ عَلَيْكَ هَذِهِ الْآيَةُ وَلَا نُطِيقُهَا، قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "أَتُرِيدُونَ أَنْ تَقُولُوا كَمَا قَالَ أَهْلُ الْكِتَابَيْنِ مِنْ قَبْلِكُمْ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا بَلْ قُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ" قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ، فَلَمَّا اقْتَرَأَهَا الْقَوْمُ ذَلَّتْ بِهَا أَلْسِنَتُهُمْ فَأَنْزَلَ اللهُ فِي إِثْرِهَا {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} فَلَمَّا فَعَلُوا ذَلِكَ نَسَخَهَا اللهُ تَعَالَى فَأَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ {لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} قَالَ: نَعَمْ {رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} قَالَ: نَعَمْ {رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} قَالَ: نَعَمْ {وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} قَالَ: نَعَمْ).[6]

ولا شك ان الاية لا تقبل النسخ فليس مضمونها حكما شرعيا ليكون خاصا بزمان دون زمان لان النسخ بمعنى تبدل الراي غير ممكن في شريعة الله تعالى واحكامه وهذه الآية انما تخبر عن حقيقة تظهر يوم القيامة وهي من سنن الله تعالى التي لا تتبدل وقال صاحب المنار ان الحديث لا يتضمن اسناد القول بالنسخ الى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وانما هو امر ظنه الصحابة.

وهذا احسن توجيه له الا أن الحديث يتضمن انهم انما اطمأنت نفوسهم لانهم ظنوا انها نسخت ولم يبين الرسول صلى الله عليه وآله وسلم عدم نسخ الاية ولا فسرها بحيث يزول عنهم ما نزل بهم.

ومهما كان فنحن في غنى عن الاهتمام بالحديث انما الكلام في معنى الاية بعد رد القول بالنسخ فقيل انها تختص بالكفار وقيل تختص بكتمان الشهادة وقيل تختص بكل ما ورد قبلها من الاحكام وقيل ان المراد بها ان الاعمال بالنيات فاذا كان العمل رياءا يعذب عليه وان كان تقربا الى الله تعالى يثاب عليه.

ولا شك ان الاية عامة لا مجال لتخصيصها بما سبق بل هي غير قابلة للتخصيص كما يظن بعضهم فهي آية محكمة واضحة واما تفسيرها بنية الاعمال فغير صحيح لان المحاسبة هنا على العمل لا على ما في النفس وإبدائه وإخفائه فالعمل الذي يقصد به الرياء نوع من الشرك فيعاقب عليه حتى لو كان العمل صلاة او جهادا مضافا الى أن الآية لم تقل يثيب من يشاء ويعذب من يشاء بل ردد الامر بين الغفران والعذاب فالطرفان مما يستوجب العقاب.

نعم لا شك أن الآية لا تشمل الخواطر النفسية التي ترد على الانسان فانها خارجة عن اختياره وانما هي من إلقاءات الشيطان التي ترد على نفوس الصالحين ايضا كما قال تعالى (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ)[7] والتعبير بالطائف يدل على أنه ليس امرا مستقرا في النفس ولا من مبدعاتها. ولعل الصحابة توهموا شمول الآية لها فانتابهم الخوف والقلق على ما في الحديث المذكور.

والحاصل أن الاية الكريمة تحذر الانسان من أن ما تنطوي عليه نفسه من الصفات الرذيلة والمقاصد والاهداف الفاسدة يحاسب عليها. والمحاسبة لا تعني العذاب لانه تعالى رتب عليه انه يمكن ان يغفر له او يعذبه فالمحاسبة بمعنى انها تؤثر في درجته ومقامه عند الله وكل انسان له درجة ورتبة بمقتضى اعماله وصفاته فلا يختص الامر بالعمل بل بما تنطوي عليه نفسه من الصفات ايضا. والاثم كما يكون في مقام العمل يكون في القلب كما قال تعالى في الاية السابقة (وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ).

فيجب على المؤمن ان يزكي نفسه ويزيل عنها الصفات الرذيلة ولا يقتصر بترك العمل حسب مقتضياتها فان كان متصفا بالحسد او البخل او الضغينة والحقد للمؤمنين وغير ذلك مما لا ينبغي للمؤمن فيجب بذل الجهد لتزكية نفسه وتخليتها من الرذائل وتحليتها بما يقابلها من الصفات الحسنة ليفوز بالمقام الاسمى عند الله تعالى.

واما ترتب المغفرة والعذاب فلم تتعرض الآية للمناط فيهما بل علقهما على مشيئته تعالى ومن الواضح ان مشيئته تتبع الحكمة الالهية وتتبع سننه تعالى في خلقه ولكنه لم يذكر ما هو المناط في ترتب العذاب والغفران ليبقى المؤمن بين الخوف والرجاء فهو لا يعلم هل يغفر له ما انطوت عليه نفسه من الرذائل ام لا؟

ولعل المستفاد من الايات والروايات انه تعالى يغفر لمن لم يرتكب اثما في مقام العمل وفقا لما تقتضيه تلك الرذيلة ويعذب من ارتكبه ويبقى ايضا الترديد في ان العفو هل يشمل من لم يوفق للاثم وان كان قاصدا له ام يختص بمن تركه باختياره.. وهل يشترط فيه ان يكون الباعث له على الترك تقوى الله تعالى ام يشمل من تركه لداع آخر. كل ذلك مما يتسبب في بقاء الشك لدى الانسان مما يثير الخوف والقلق كما يبقى له امل ورجاء.

 

وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (284)   

لعل التعقيب بهذه الجملة لرد استبعاد كثير من الناس ان الانسان يحاسب على كل ما يدور في خلده ويمر على قلبه فالله تعالى قادر على كل شيء ويعلم كل ما يخفيه الانسان بل يعلم ما يخفى على الانسان من الاهداف والمقاصد التي يغفل عنها ويخدع نفسه فيها.

 


[1] الانعام : 39

[2] تهذيب الاحكام ج 7 ص 176 ح 779

[3] البقرة : 174 - 175

[4] يونس : 61

[5] الانبياء : 23

[6] صحيح مسلم ج 1 ص 115 باب بيان قوله تعالى وان تبدوا ما في انفسكم

[7] الاعراف : 201