مكتب سماحة السيد مرتضى المهري

آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ...

مر الكلام في تفسير الاية السابقة حول احتمال ان تكون هاتان الآيتان مرتبطتين بالمحاسبة على ما في القلوب وان تلك الاية منسوخة وقلنا ان احتمال النسخ مردود في الآية الكريمة.

والظاهر ان الآيتين كالفذلكة على كل ما في السورة من احكام وهي اكبر سورة في القران وعلى ما قيل فانها اول سورة نزلت في المدينة وقد ورد في مقدمتها ان القران هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب وبما انزل اليك وما انزل من قبلك. ثم ورد تقسيم الناس الى الكفار والمنافقين واهل الكتاب وورد في مجموعة من الايات التنديد باهل الكتاب وتعصبهم لرسولهم وعدم الايمان بسائر الرسل. ففي هاتين الايتين يمدح الله تعالى جمعا من المؤمنين بانهم يؤمنون بكل الرسالات وأنهم يقولون سمعنا وأطعنا خلافا لمن قال من السابقين سمعنا وعصينا.[1]

ولا شك في أن المراد بيان الصورة العامة والسائدة للمجتمع المسلم في مقابل الصورة السائدة لبني اسرائيل وليس المراد التنديد بكلهم فان منهم الانبياء والاوصياء كما لا يراد مدح كل من آمن بالرسول صلى الله عليه وآله وسلم ظاهرا فان منهم المنافقين وضعفاء الايمان.  

وابتدأ الكلام بايمان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم برسالته لانها انزلت عليه من ربه فهناك كثير ممن يدّعون الاصلاح الاجتماعي يبدأون عملهم بشعارات مزيفة ومواعيد يجمعون الناس بها تحت رايتهم ولكنهم لا يؤمنون في قلوبهم بتلك الشعارات ولذلك سرعان ما يخالفونها ويخلفون في ما وعدوه للمجتمع كما رأيناه بوضوح في دعاة الشيوعية.

واما الرسل عليهم السلام فهم معصومون لا يقولون الكذب ولا يرفعون شعارا الا وهم اول من يؤمن به قال تعالى (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ)[2] وقال تعالى (وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ)[3] وقال تعالى في حكاية كلام شعيب عليه السلام (وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ..).[4]

 

وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ...

قيل ان الواو للعطف فالمعنى آمن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنون بما انزل اليه من ربه ثم فصل الاجمال كل آمن بالله.. ولكن الانسب ان تكون للاستيناف او لعطف الجملة لان ايمان المؤمنين يختلف عن ايمان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فهم يؤمنون بما انزل عليه تصديقا له وهو يؤمن به لانه يرى ويسمع فهو ايمان عن حس بل متعلق الايمان ايضا يختلف فهو صلى الله عليه وآله وسلم يؤمن بما انزل اليه وهذا يشمل كل حقائق الغيب والمؤمنون يؤمنون بما ورد ذكره في الآية.

والمعروف أن المراد بالمؤمنين في الآية من آمن بالرسول صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك العصر فتختص الآية بالصحابة ولكن لا يبعد ان تكون عامة لمن آمن في ذلك العصر ومن آمن بعدهم.

بل الظاهر كما مر ان المراد ليس توصيف المؤمنين باجمعهم بذلك فلا شك في ان كل من امن بالرسول صلى الله عليه وآله وسلم حتى في ذلك الوقت لم يكونوا باجمعهم موصوفين بهذا الايمان وانما اتصف به بعضهم ولعل المراد الاشارة الى ما يجب ان يؤمنوا به جميعا.

واما قوله (كل) فلعل الوجه في ذكره ان الايمان الجماعي لا ينفع الانسان بل ايمان كل فرد ينفع نفسه فأكّد على أن كل واحد منهم يؤمن بهذه التفاصيل.

ولعل الغرض من هذا التوصيف التعريض باهل الكتاب الموجودين في عصر الرسالة حيث انهم لم يؤمنوا بها مع أنهم كانوا يعلمون انها الحق تعصبا لدينهم بينما المؤمنون بالرسالة لا يفرقون بين الملائكة والكتب والرسل وقد مر في الايات ان اهل الكتاب كانوا لا يؤمنون بالرسالة بحجة ان الملك الذي نزل بها جبرئيل عليه السلام قال تعالى (قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ).[5]    

وكذلك الايمان بالكتب فان كثيرا من اهل الكتاب لم يؤمنوا بكل كتب السماء فمنهم من كفر برسالة المسيح عليه السلام فانكر ان يكون الانجيل كتابا الهيا وكلهم كفروا برسالة سيد المرسلين صلى الله عليه وآله وسلم فلم يؤمنوا بالقران الكريم.

والايمان بالملائكة لا يختص بملائكة الوحي كما قيل وان كان هذا هو محل التعريض ببني اسرائيل لانهم على ما روي عللوا عدم ايمانهم بالرسالة بان جبرئيل عليه السلام هو ملك الوحي النازل على الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ولكن الايمان بالملائكة لا يختص بملائكة الوحي بل هم الوسائط بين الله تعالى وخلقه لا يخلو منهم موضع في الكون.

والمراد من الايمان بهم الاعتراف بوجودهم مع اننا لا نشاهدهم بل لا نشاهد منهم اثرا ولكن نؤمن بوجودهم لان الله تعالى اخبر عنهم. 

ثم صرح بأن شعار المسلمين هو انهم لا يفرقون بين الرسل وهذه نتيجة حتمية للايمان بالله تعالى ولذلك فان من يكفر ببعض الرسالات فهو لا يؤمن ايمانا كاملا بالله تعالى. وليس معنى ذلك انهم يتبعون الشرائع السابقة بل انهم يؤمنون بان كل شريعة في زمانها شريعة الله تعالى فيجب ان تتبع. وبذلك يكتسب المؤمن امتدادا تاريخيا يربطه بجميع الاديان السابقة فالمؤمن لا ينتمي الى عصر ولا الى قوم ولا الى منطقة.

وقد مر الكلام في تفسير الاية 136 من هذه السورة المباركة حول كلمة (احد) وورود كلمة (بين) عليها مع انها مفرد ولا تعني الجماعة.

 

وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285)

قد مر أن هذا ايضا تعريض ببني اسرائيل حيث قالوا سمعنا وعصينا. ومن لطيف الملاحظة انه لم ينسب الجملة السابقة – اي عدم التفريق بين الرسل - الى قول مستند اليهم وانما ذكرها كأنه حال لهم سواء قالوا ام لم يقولوا وأخر التعبير بالقول الى هذه الجملة. وهذا القول ايضا لا يبعد ان يكون لسان حالهم ولكنه واضح من افعالهم بحيث يصح ان يعبر عنه بالقول.

ولعل الوجه في التصدير بالقول هنا ان هذا لا ينبغي ان يكون مجرد اعتقاد في القلب بل يجب ان يكون قولا وشعارا يرفعه المسلمون في مواجهة من رفعوا شعار العصيان وهكذا يجب ان تكون الدعوة الى الحق فيجب ان نرفع شعار الايمان والعمل الصالح في مواجهة الكفر والعصيان في جميع الاعصار. ويظهر من الاية ان هذا شرط الايمان بالله تعالى.

ثم انهم لم يأخذهم الاعجاب بانفسهم بل اعترفوا بالتقصير امام ربهم فطلبوا منه الغفران واعترفوا بان المصير اليه تعالى وهذا هو السبب في طلب المغفرة. وقوله (غفرانك) منصوب بفعل مقدر اي نطلب غفرانك.

 

لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا...

الظاهر ان هذه الجملة والتي تليها معترضتان بين ادعية المؤمنين ولعل الوجه في هذا الاعتراض بيان من الله تعالى لمّا طلبوا المغفرة فان الانسان اذا طلب المغفرة لذنب صدر منه فهو امر طبيعي كما في قول ادم وحواء (قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ)[6] اما طلب الغفران بعد اظهار الاطاعة فمعناه اظهار الخوف من التقصير والقصور فقال الله تعالى (لا يكلف الله نفسا الا وسعها).

وبذلك اراد تعالى ان يزيل عنهم الخوف اذا لم يتمكنوا من كمال الاطاعة لقصور فيهم فانه تعالى لا يكلف نفسا الا بمقدار وسعها. والوسع: الطاقة والقدرة. وهذا قانون عام وسنة الهية لا تختص بهذا الدين.

وأما ما ورد من التكاليف الشاقة على بني اسرائيل او غيرهم فانما كانت عقوبة لهم نظير تحريم صيد السمك يوم السبت مع ان الاسماك كانت في متناول ايديهم يوم السبت خاصة.

قال تعالى (وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ).[7] وفي آخر الاية اشارة الى ان السبب في هذا التكليف الشاق فسقهم.

وقال ايضا (وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ).[8]

ولكن لا ينبغي ان يتوهم أن الآية تدل على التساهل في الدين لانه تعالى حدّد التكليف بمقدار الوسع والطاقة فيجب على الانسان ان يبذل كل جهده وطاقته في تطبيق احكام الله تعالى ولا يتسامح في شيء من ذلك فان نسي او أخطأ فانه يعتبر فوق طاقته لانه لا يستطيع ان يمنع من عروض النسيان والخطأ.

 

لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ...

الظاهر انه لا فرق بين الكسب والاكتساب في اللغة فيجوز في كل منهما الاستعمال في الخير والشر وانما اتى بالتعبيرين ليفرق بين كسب الخير والشر ولكن يعلم الخير والشر من حرف الجر فقوله (لها) اي ما كسبت من الخير فهي التي تنتفع به وقوله (عليها) اي ما كسبت من الشر يعود بالضرر عليها ايضا.

وقد ورد في القران الكريم استعمال اللفظين في الخير والشر اما استعمال الكسب في الشر فكثير منها قوله تعالى (وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا..)[9] واستعمل الاكتساب في الخير في قوله تعالى (لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ..).[10]

ويتبين من هذه الجملة اولا أن السمع والطاعة المذكورين في الاية السابقة يعود نفعهما الى الانسان والله تعالى غني عن عباده لا ينتفع بشيء من طاعاتهم ولا يضره عصيانهم وتمردهم ويتبين ثانيا ان الانسان يوم القيامة يجازى بعمله فلا يضره عمل غيره وان كان قريبا منه كما لا ينفعه ايضا عمل غيره. واما الثواب من الله تعالى لما يعمل للانسان بعد موته كقضاء الصلاة والصوم فهو فضل منه تعالى وليس ثوابا له على عمله.

 

رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا...

لعل هذه الادعية مما يعلمنا الله تعالى لندعو بها ويمكن ان تكون لسان حال المؤمنين. والنسيان في مقابل الحفظ. والخطأ تجاوز الصواب وهذا قد يكون عن عمد وقصد وقد يكون من غير عمد فالخطأ يشملهما.

ومن الاول قوله تعالى (وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا).[11] والخِطئ والخطأ واحد. ومن الثاني قوله تعالى (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً..).[12] وهو المراد هنا بقرينة ضم النسيان.

والمؤاخذة مفاعلة من الاخذ وهو تناول الشيء ويعبر به عن المجازاة بالعقوبة كما في قوله تعالى (كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ)[13] والمؤاخذة ايضا بنفس المعنى ولكن هذه الصيغة اي المؤاخذة تستعمل غالبا في المحاسبة على الذنب ولا تدل على ترتب العقاب.

وربما يقع السؤال في الاية من جهة أن النسيان والخطأ ليس فيهما اثم بل هما خارجان عن اختيار الانسان فلا يعقل ان يؤاخذ الله عليهما فما هو الوجه في هذا الدعاء؟

والجواب ان النسيان والخطأ ليسا دائما خارجين عن الاختيار وذلك بسبب ان الانسان اذا اهتم بأمر فقلما يعرض عليه النسيان والخطأ وانما يعرضان غالبا فيما لا يهتم به الانسان فالمؤاخذة من جهة عدم الاهتمام بالحكم الشرعي.

ومن هنا وجبت الكفارة في قتل الخطأ مضافا الى الدية فلا يجوز للانسان ان يرمي مثلا قاصدا حيوانا الا بعد التاكد من عدم وجود انسان يحتمل ان يصيبه ولا يجوز له ان يقود سيارته بسرعة غير متعارفة الا بعد الاطمئنان بعدم وجود خطر على الركاب وغيرهم.  

 

رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا...

تكرار النداء للاسترحام وللتأكيد على أن توقع الاستجابة من جهة انه دعاء من عبد ذليل الى ربه فمقتضى ربوبيته المطلقة ان يستجيب دعاء العبد. والاسترحام ليس بمعنى التاثير فيه تعالى وإثارة الشفقة فيه فهو امر مستحيل وانما هو تحول في العبد يجعله مشمولا للرحمة الواسعة.

واختلف اللغويون في معنى الاصر ففي العين والجمهرة انه الثقل وهو يناسب الحمل في الآية الكريمة اي لا تحمل علينا تكليفا شاقا ثقيلا علينا ولكن في معجم المقاييس ان الاصل فيه الحبس والعطف وفي المفردات انه عقد الشيء وحبسه بقهره. ومهما كان فالمراد به هنا واضح وهو التكليف الشاق ولذلك ورد بعده (كما حملته على الذين من قبلنا).

وقد ورد نظير ذلك في قوله تعالى (وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ..)[14] كما ورد ايضا بمعنى العهد في قوله تعالى (قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي..)[15] وينطبق الاصر بمعنى الحبس على العهد ايضا لان الانسان يكون مقيدا بما عاهد عليه.

والمراد بالاصر الذي حمله الله على من قبلنا ما مرت الاشارة اليه آنفا من الاحكام الشاقة التي نزلت على بني اسرائيل ببغيهم وورد ذلك في مواضع اخرى ايضا. منها قوله تعالى (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا)[16] ومنها قوله تعالى في حكاية كلام المسيح عليه السلام (وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ..).[17] ومنها الاية التي مرت في توصيف النبي صلى الله عليه وآله وسلم من قوله تعالى (وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ).

 

رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ...

الظاهر ان المراد بالتحميل هنا المعاقبة والمجازاة بما لا يطيقه الانسان فالغرض انه اذا خالفنا اوامرك وارتكبنا نواهيك وأردت ان تعاقبنا فلا تحملنا جزاءا شاقا لا طاقة لنا به.

وقيل ان المراد تكليف ما لا يطاق وحيث انه تعالى لا يكلف الانسان ما لا طاقة له به فيحمل على ان المراد لا تكلفنا التكاليف الشاقة.

ولكن هذا يعتبر تكرارا لما مر من عدم حمل الاصر فالاولى ان يكون بمعنى ما ذكرناه وهذا اولى من العكس بان يقال ان المراد بالاصر العقوبة التي لا نطيقها والمراد هنا التكاليف الشاقة وذلك لان التعبير بالحمل علينا الوارد في الاية السابقة انسب بالتكليف. مضافا الى ان التكليف بما لا يطاق معلوم العدم اما المجازاة بما لا يطاق فهو واقع قطعا.

وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (286)

مهما كانت التكاليف فنحن مقصرون في أدائها مع أن الله تعالى لم يكلفنا فوق طاقتنا ولم يحمل علينا الاصر ومع ذلك فانا نخالف امره ونهيه ولذلك نحتاج الى هذا الدعاء ليعفو الله عن هفواتنا و يغفر لنا ويرحمنا.

والعفو هو الترك فاول ما نطلبه من الله تعالى ان يتركنا ولا يعاقبنا اذا تركنا واجبا او ارتكبنا اثما. وتبعات الذنوب قد تكون في الدنيا وقد تكون في الآخرة وهي الاهم. ونحن نرجو من الله ان يترك معاقبتنا في الدارين.

والمرحلة الثانية الغفران وهو الستر فالانسان ربما يعفو عمن ظلمه ويتركه ولكنه يذكره امام الناس ويذكر مساوئه ونحن نطلب من الله ان يستر علينا ولا يفضحنا لا في الدنيا ولا في الاخرة بل حتى امام انفسنا فان الانسان يخجل من نفسه كلما تذكر فضائحه وان لم يعلم بها الناس وهذا الامر لا يترك الانسان في الدنيا ولكنه يدعو ربه ان يغفر له في الاخرة ولا يفضحه على رؤوس الاشهاد وفي الجنة امام المتقين الصالحين بل حتى بينه وبين نفسه.

والمرحلة الثالثة ان تشملنا رحمته الواسعة وهكذا رجاء العبد المذنب العاصي في رحمة ربه فهو يعصيه ويرجو منه ان يتركه بل يستر عليه بل ينعم عليه بالرحمة.

انت مولانا.. اي ليس لنا مولى غيرك والمولى له عدة معان ولكنه هنا بمعنى الناصر بقرينة تفريع طلب النصرة عليه. وهذا الدعاء من المسلمين في الصدر الاول وبعد هجرتهم الى المدينة يدل على خشيتهم من حقد الاعداء المحيطين بهم من كل جانب.

ومن الواضح انهم لا ناصر لهم من القوى البشرية وحتى لو كان لهم ناصر فهو لا يغني عنهم شيئا انما يعتمدون على نصرة ربهم. وهكذا كان فقد نصرهم الله تعالى على القوم الكافرين ورفع كلمة الاسلام فكانت هي العليا والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد واله الطاهرين. 

 


[1] البقرة : 93 / النساء : 46

[2] الانعام : 162 - 163

[3] الاعراف : 143

[4] هود : 88

[5] البقرة : 97

[6] الاعراف : 23

[7] الاعراف : 163

[8] الانعام : 146

[9] يونس : 27

[10] النساء : 32

[11] الاسراء : 31

[12] النساء : 92

[13] ال عمران : 11

[14] الاعراف : 157

[15] ال عمران : 81

[16] النساء : 160

[17] ال عمران : 50