مكتب سماحة السيد مرتضى المهري

مجموعة آيات عميقة في المعنى غريبة على اذهاننا تحكي قصة الانسان الاول وخلقه ودوره في هذا الكون وعلاقته بالملائكة وسجودهم له وعداء ابليس له وتسويله ونزوله الى الارض.

وهناك من المفسرين من اعتبرها آيات متشابهة قال في المنار نقلا عن استاذه الشيخ محمد عبده (هَذِهِ الْآيَاتِ مِنَ الْمُتَشَابِهَاتِ الَّتِي لَا يُمْكِنُ حَمْلُهَا عَلَى ظَاهِرِهَا لِأَنَّهَا بِحَسَبِ قَانُونِ التَّخَاطُبِ إِمَّا اسْتِشَارَةٌ وَذَلِكَ مُحَالٌ عَلَى اللهِ تَعَالَى وَإِمَّا إِخْبَارٌ مِنْهُ سُبْحَانَهُ لِلْمَلَائِكَةِ وَاعْتِرَاضٌ مِنْهُمْ وَمُحَاجَّةٌ وَجِدَالٌ وَذَلِكَ لَا يَلِيقُ بِاللهِ تَعَالَى أَيْضًا وَلَا بِمَلَائِكَتِهِ..) ثم قال انه يختار طريقة السلف في التعامل مع هذه الآيات وأمثالها بمعنى انه لا يبحث عن تأويل لها كما يفعله الخلف حسب تعبيره.

ونحن نرى أن الآيات من قبيل الكناية ومعاريض الكلام وكثير من آيات القرآن من هذا القبيل والسر فيه أن التعبير المتعارف لا يمكن أن يبيّن الحقائق الغيبية التي لا تصل اليها أذهان عامة الناس بل حتى الخواص منهم فهذه التعابير وضعت للتفاهم بالنسبة للامور المتعارفة التي نفهمها وتلك الحقائق لا يمكن التعبير عنها الا بالكناية والمجاز.

والبشر على اختلاف افهامهم وثقافاتهم يدركون من هذه الآيات معاني مختلفة ولكنها جميعا توصل الى نفس الهدف المقصود من رسالة السماء وهذا هو الغرض الاساس لا بيان الحقائق الكونية او سرد القصص التاريخية فان القرآن - كما سبقه من كتب السماء - كتاب هداية للبشر يهديهم الى ربهم والى هداياته التي انزلها اليهم ليبلغوا ما اراده الله تعالى لهم من معارج الكمال ويوجههم الى ما لا يمكن الوصول اليه بالطرق المتعارفة اي غيب هذا العالم وملكوته وما هو مصير الانسان ومستقبله الغامض.

وما نراه من الغموض في هذه الآيات مثلا لم يكن المخاطبون بها يشعرون به بل يفهمون منها ما هو المقصود وهو بيان كرامة الانسان ومكانته في الكون فبعد أن استغرب منه في الآيات السابقة كفره مع أن الله منحه الحياة وخلق له ما في الارض جميعا بل ما في السماء ايضا اوضح له هنا كرامته على الله يوم الخلق الاول فكان المخاطب الساذج يعلم من هذه الآيات أن مكانة الانسان عند الله تعالى أعظم من الملائكة ويبدو أن هذا هو الهدف من بيان القصة وليس الغرض من بيانها ذكر تفاصيلها على ما كانت عليه.

وهكذا الامر في سائر ما ينقله القرآن من الحقائق فنراه ينقل قصص الانبياء بوجوه مختلفة مما يثير الاستغراب ولكن الواقع أنه يتابع في كل مورد هدفا من نقل القصة فيرويها بالكيفية التي تحقق ذلك الهدف وكلها صحيحة ومطابقة للواقع وانما يستغرب منها من يتوقع أن يقرأ قصة من قصص الانبياء او يدرس مقطعا من مقاطع التاريخ.

والحاصل ان معاني جزئيات الايات وان كانت مشكلة الا ان لها رسالة صريحة يفهمها كل انسان بملاحظة مجموعها وان توقف في تفسير جزئياتها واضطر الى التاويل كما اضطر اليه الاولون مع ان الرسالة وصلتهم على ما يبدو خلافا لما يدّعى من ان السلف الصالح لم يأوّلوا الايات.

والرسالة الواضحة هي ان الانسان يجب ان يعرف قدره ودوره العظيم في الكون وهو كونه خليفة الله وانه يرتقي الى مكانة لا يصل اليها الملائكة المقربون وانه لذلك امر الله تعالى ملائكته بالسجود له وذلك بفضل ما أودع الله فيه من الروح الالهية والقابلية التي هي مناط خلافته في الارض.

وقد وصل بالفعل سيد البشر صلى الله عليه وآله وسلم في المعراج الى مقام لم يصل اليه سيد الملائكة المقربين كما تدل عليه آيات سورة النجم والروايات الواردة في تفسيرها على ما ذكرناه في تفسير السورة المباركة.

ومن هنا كان المقربون هم العلة الغائية للكون فالكون خلق للبشر كما قال تعالى (وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)[1] وقد مر في الآيات السابقة قوله تعالى (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا) والبشر خلقوا من اجل ان يوجد هؤلاء وهم صنف خاص من البشر فالله تعالى يصنف الناس يوم القيامة ثلاثة اصناف كما في سورة الواقعة. والمقربون صنف اخر في مقابل الابرار والصالحين.

 

وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً...

الواو للاستيناف او لعطف القصة على القصة و(اذ) ظرف متعلق بمقدر اي اذكر اذ قال ربك.. والذكر ليس بمعنى التذكر بل بمعنى التنبه او بمعنى ذكره للناس ومثله كثير في القرآن. وقيل الظرف متعلق بقوله (قالوا أتجعل فيها..).

وهذه القصة لم تذكر في القرآن الا هنا مع أنه تعالى ذكر في موارد عديدة قصة سجود الملائكة لآدم عليه السلام وتسويل ابليس له ولزوجه. والخطاب في قوله (ربك) للرسول صلى الله عليه واله وسلم وهو خطاب تشريف مع أن ذكر القصة يأتي في سياق الخطاب العام للانسان في قوله تعالى (كيف تكفرون بالله..) قبل آيتين.

 

بحث في معنى القول المنسوب الى الله تعالى والملائكة:

هناك كلام في نسبة القول الى الله تعالى فربما يقال انه تعالى خلق كلاما فسمعوه وأجابوه. وقيل: ان اسناده الى الله تعالى بالمجاز. ولكن يبقى السؤال عن حقيقته؟

وهذا السؤال يأتي في موارد من اسناد القول حتى بالنسبة الى غيره تعالى:

منها هذه الآية وأنه تعالى كيف اعلن هذا الخطاب لجميع الملائكة؟ بل وإسناده الى الملائكة بأجمعهم كما هو ظاهر الآية فكيف أجابوه معا جوابا واحدا؟

ومنها كل ما ورد من مخاطبته تعالى لابليس.

ومنها ما ورد في القرآن من حكاية تخاطب أهل النار وهم جماعات كثيرة متفرقة فكيف يتخاطبون؟

وكذلك مخاطبات اهل الجنة والمخاطبات التي تقع بين الفريقين.

ومنها قوله تعالى (وَإِذْ أَخَذَ اللّه مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ)[2] اذ كيف قال النبيون باجمعهم (اقررنا) وكيف خاطبهم الله بعد ذلك وهم لم يكونوا مجتمعين في زمان ولا مكان؟

ومنها قوله تعالى (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ).[3]

ومنها الآيات الكثيرة التي تنسب قولا واحدا الى امة من الامم او الى امم كثيرة متعاقبة.

والاحتمال الاقوى في كل ذلك أنه ليس هناك في الواقع قول وكلام وتخاطب وأن إسناد القول الى من اسند اليه في كثير من هذه الموارد من باب بيان حالهم وما كان يدور في خلدهم كاسناد القول الى الملائكة في هذه الآية بل ربما لا يكون التعبير الوارد في جواب الملائكة مناسبا في مقام التخاطب معه تعالى فلعل ذلك انما كان لسان حالهم فعبّر عنه اللّه تعالى بالقول.

واما خطابه تعالى لهم فالظاهر انه اشارة الى طريقة لالهامه تعالى ووحيه الى جميع الملائكة ونحن لا نعلم كيف يوحي الله الى ملائكته ولم يرد في القرآن بيان عنه وانما ورد بيان طرق تكليمه تعالى للبشر في قوله (وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ).[4]

وكذلك ما اسند الى اهل النار واهل الجنة من الخطاب فلعل ذلك بيان لحالهم ومن قبيل لسان الحال.

واما ميثاق النبيين فلا يبعد ان يكون هناك وحي مكرر من الله تعالى الى كل واحد منهم وجواب من كل منهم على حدة ولكنه تعالى عبر عن ذلك بهذه الطريقة للاشارة الى وحدة الهدف والرسالة.

واما قوله تعالى (واذ اخذ ربك من بني ادم من ظهورهم..) فلا يبعد ان يكون اشارة الى ما اودع في ضمائر البشر وفطرتهم من الانجذاب الى الله تعالى.

ومثله بعض مخاطباته تعالى لابليس واجوبته فلا يبعد ان يكون كل ذلك بيانا لمقتضى طبيعته كما أن الخطاب الموحد للاقوام المتعاقبة من البشر لانبيائهم قد يكون كناية عن وحدة افكارهم وأهوائهم وكأنهم توارثوها.

 

بحث حول الملائكة:

الملائكة جمع ملك وقد يأتي الملك للجمع قال تعالى (وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ * وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا)[5] وقال ايضا (وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا).[6] وربما يستغرب كون الملائكة جمعا للملك اذ لا يوجد في المفرد همزة ولعله لذلك قالوا ان الاصل فيه الملأك.

قال في العين (الملك واحد الملائكة انما هو تخفيف الملأَك والاصل مألَك فقدموا اللام وأخروا الهمزة فقالوا ملأك وهو مفعل الألُوك وهو الرسالة). وقال في ألك (الألُوك: الرسالة وهي المَألُكة على مَفعُلة سميت أَلُوكا لانها تُؤلَك في الفم من قولهم يألَكُ الفرس اللجام اي يعلِكه..).

والظاهر أن التعبير عن الرسالة بالألوك لأنهم كانوا يبعثون الرسول برسالة شفوية وهو يحتفظ بها في قلبه ليبلغها فكان التصور أنه يمضغها.

ولكن للشيخ الطوسي قدس سره في التبيان[7] رأي آخر حيث قال (فسميت الملائكة ملائكة بالرسالة لأنها رسل الله بينه وبين أنبيائه ومن أرسل من عباده هذا عند من يقول إن جميع الملائكة رسل فاما ما يذهب إليه أصحابنا أن فيهم رسلا وفيهم من ليس برسل فلا يكون الاسم مشتقا بل يكون علما أو اسم جنس وإنما قالوا إن جميعهم ليسوا رسل الله لقوله تعالى (يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا..)[8] فلو كانوا جميعا رسلا لكانوا جميعا مصطفين لان الرسول لا يكون إلا مختارا مصطفى وكما قال (وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ).[9]

اما قوله تعالى (ولقد اخترناهم على علم..) فالضمير لا يعود الى الرسل بل الى بني اسرائيل.

واما اصطفاء الرسل من الملائكة فلا ينافي كون الملائكة باجمعهم رسلا يتوسطون بين الله وخلقه فان الرسالة لا تختص بالوحي الالهي الى البشر فالمراد من الرسل المصطفين في هذه الاية ملائكة الوحي ولكن لا مانع من كون الملائكة باجمعهم رسلا كما هو ظاهر قوله تعالى (جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ..)[10] ولذلك وصفهم بأنهم اولي أجنحة وانها ربما تزداد.

والاجنحة تعبير عما يملكونه من قوة لايصال الرسالة الى كل ذرة من ذرات الكون فان الملائكة هي التي تدبّر امور الكون بامره تعالى والظاهر أنهم هم المقصودون بقوله تعالى (فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا).[11]

والملك مخلوق سماوي لا نعلم عن حقيقته شيئا الا ما وصفه الله تعالى لنا ومن الواجب علينا ان نؤمن بوجوده كما قال تعالى (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ..)[12] فالايمان بالملائكة جزء من الايمان بالغيب.

ويجب ان نذعن بأنّ الايمان بنفسه موضوع مهم واساسي وليس مقدمة للعمل كما يتوهم فالايمان بالله تعالى بذاته مطلوب اساسي سواء عمل ام لم يعمل فلا وجه لما يقول بعض الجهلة من ان الايمان بوجود الامام المهدي عليه السلام لا اثر له في مقام العمل.

والذي يتبين لنا من الايات في حقيقة الملك انه الواسطة بين الله تعالى وخلقه كما قال تعالى (وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى).[13] والشفاعة هي الوساطة وهذه ايضا من الحقائق الغيبية التي لا نعرف كنهها فنحن نؤمن بان الله تعالى هو المؤثر في الكون وهو الخالق وهو الرازق وهو المحيي والمميت ولكن يتحقق كل هذه الافعال الالهية بواسطة الملائكة.

ولكن لماذا تتوسط الملائكة؟ وكيف تتوسط؟

ولماذا لا يصل الامر الالهي في التدبير الى اجزاء الكون من دون واسطة؟ وهم لا يملكون شيئا الا بقدرته تعالى كما قال (وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا).[14] فما هو دورهم في الكون؟

كل ذلك وغيرها اسئلة لا يمكننا الجواب عنها الا باخبار من الله تعالى فهذه امور غيبية.

والذي يظهر من القران الكريم ان الملائكة هم المدبرون للكون لقوله تعالى (فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا).[15] وهم في ذاتهم لا يمكن ان يعصوا ربهم قال تعالى (لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ)[16] فهذا التوصيف يدلّ على أنّهم لا يمكنهم أن يعصوا الامر المتوجه اليهم او ليست لهم دواعي المعصية وان كانوا لا يعصون باختيارهم.

ومن هنا يتبين الخطأ الفادح في نسبة العصيان الى بعض الملائكة كما ورد في بعض الروايات الضعيفة التي لا يمكن الاعتماد على شيء منها مع انها لو كانت صحيحة كانت مردودة ايضا لمخالفتها للكتاب العزيز.

وفي بعضها من الاكاذيب ما يضحك الثكلى:

ففي حديث توبة فطرس في بصائر الدرجات حديث مفصل وفي آخره (قال فمضى فطرس فمشى إلى مهد الحسين بن علي عليهما السلام ورسول الله صلى الله عليه واله وسلم يدعو له قال قال رسول الله فنظرت إلى ريشه وانه ليطلُع ويجري منه الدم ويطول حتى لحق بجناحه الاخر وعرج مع جبرئيل إلى السماء وصار إلى موضعه).[17]

ومن الاكاذيب المفتعلة روايات اسرائيلية تسرّبت الى كتب السنة ومنها الى بعض كتبنا وهي احاديث كثيرة تثير العجب من اصرار المفترين على اتّهام ملائكة الله الكرام حول قصة هاروت وماروت وفي تفسير قوله تعالى (وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ..).[18]

والاختلاف في تفسيرها بلغ غايته يقول العلامة الطباطبائي قدس سره (لا يكاد يوجد نظيره في آية من آيات القران المجيد). وسيأتي البحث عنه ان شاء الله في موضعه ان وفقنا الله تعالى.

ولكن للرد على ما يقال في هذا الباب من التهم ننقل حديثين عن اهل البيت عليهم السلام:

الاول: روى الصدوق قدس سره بسنده عن علي بن محمد بن الجهم قال سمعت المأمون يسال الرضا علي بن موسى عليهما السلام عما يرويه الناس من أمر الزهرة وانها كانت امراة فتن بها هاروت وماروت وما يروونه من أمر سهيل انه كان عشارا باليمن فقال الرضا عليه السلام: كذبوا في قولهم انهما كوكبان... (الى ان قال) وأما هاروت وماروت فكانا ملكين علّما الناس السحر ليحترزوا عن سحر السحرة ويبطلوا به كيدهم وما علما أحدا من ذلك شيئا إلا قالا له (إنما نحن فتنه فلا تكفر) فكفر قوم باستعمالهم لما أمروا بالاحتراز منه وجعلوا يفرقون بما تعلموه بين المرء وزوجه... الحديث.[19] 

الثاني: قال الصدوق قدس سره ايضا بعد ذكر حديث طويل (قال يوسف بن محمد بن زياد وعلي بن محمد بن سيار عن أبويهما انهما قالا فقلنا للحسن بن علي (اي ابي محمد العسكري سلام الله عليه): فإن قوما عندنا يزعمون أن هاروت وماروت ملكان اختارهما الله [من] الملائكة لما كثر عصيان بني آدم وانزلهما مع ثالث لهما إلى دار الدنيا وانهما افتتنا بالزهرة وارادا الزنا بها وشربا الخمر وقتلا النفس المحرمة وان الله عز وجل يعذبهما ببابل وان السحرة منهما يتعلمون السحر وان الله تعالى مسخ تلك المراة هذا الكوكب الذي هو الزهرة فقال الإمام عليه السلام: معاذ الله من ذلك! ان ملائكة الله معصومون محفوظون من الكفر والقبائح بالطاف الله تعالى قال الله عز وجل فيهم (لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ) وقال الله عز وجل (وله من في السماوات والأرض ومن عنده) يعني الملائكة (لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون يسبحون الليل والنهار لا يفترون) وقال عز وجل في الملائكة أيضا (بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون ).[20]

 وقال تعالى ايضا في شأنهم (وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ).[21]

ومثله قوله تعالى (وَللّه يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ * يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ)[22] وقوله (وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ).[23]

وتدل الآيات على ان الملائكة قد تتمثل بصورة بشر ولكن ليس ذلك تبدلا في حقيقتها كما هو واضح وانما يتراءى للانسان انه يكلم بشرا ولعل اكثر موارد إنزال الوحي على الرسل من هذا القبيل وربما كان الرسول او غيره ممن ينزل عليه الملك يشتبه عليه الامر أوّلا كما في قصة ابراهيم ولوط ومريم عليهم السلام وفي غير ذلك هم مخلوقات مجردة ليسوا باجسام ولا يحيط بهم مكان ولذلك يملأون الارض والسماء ولا يتزاحمون لانهم لا يشغلون حيّزا من المكان.

ويتبين من الآيات ايضا ان للملائكة مراتب كما قال تعالى (وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ).[24] وفيهم من هو السيد المطاع بينهم وهو جبرئيل عليه السلام كما قال تعالى (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ)[25] وقد عبر عنه في القران بروح القدس والروح الامين. قال تعالى (قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ..)[26] وقال (وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ).[27]

وقد ورد في القران بعض ما يتميزون به من الصفات...

منها قوله تعالى انهم ذو اجنحة مثنى وثلاث ورباع والمراد بالاجنحة ما اودع الله تعالى فيهم من القوة والقدرة حسبما يطلب منهم من الاعمال وتنفيذ اوامر الله تعالى في اجزاء الكون كما مرت الاشارة اليه.

ومن المضحك ما في بعض التفاسير من محاولة توجيه الاجنحة الثلاث وبيان موضع الجناح الثالث قال في الكشاف في تفسير الآية (فإن قلت: قياس الشفع من الأجنحة أن يكون في كل شق نصفه فما صورة الثلاثة؟ قلت: لعل الثالث يكون في وسط الظهر بين الجناحين يمدّهما بقوة. أو لعله لغير الطيران..).

ومنها انهم حملة الوحي الى الرسل عليهم السلام كما قال تعالى (قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ)[28] وقال ايضا (وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ)[29] بل نسب القرآن الى جبرئيل عليه السلام في قوله تعالى (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ).[30]

ومنها انهم موكلون على الانسان وعلى تسجيل اعماله ولهم تمام القدرة على أداء ما خلقوا من اجله كما قال تعالى (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ).[31]

ومنها انهم يتوفون الانسان ويقبضون روحه حين الموت وهذا من كرامة الانسان على الله تعالى ومن الخطأ ما يتوهمه الناس من أن ملك الموت هو المسؤول عن قتل الانسان واماتته حتى بالنسبة للانبياء والاولياء عليهم السلام وأن كل انسان يموت في اي مكان فان ملك الموت هو الذي يخرج روحه من جسمه فيموت بل حتى الحيوانات والحشرات.

وهذا كلام باطل يتردد على السن الناس حتى بعض الخطباء فالملائكة يقبضون الروح البشري حين الموت وسبب الموت امور طبيعية وان كان تأثير كل ذلك بامر الله تعالى الا ان دور ملائكة الموت امر آخر كما قال تعالى (اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا..).[32]  

ويختلفون في مواجهة المؤمن والكافر كما قال تعالى (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ)[33] وقال (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ).[34]

ومنها انهم يتدخلون في الحرب بين المسلمين والكافرين ويثبّتون المؤمنين ويثبّطون الكافرين كما قال تعالى (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ * وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (الى ان قال) إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ).[35]

ومنها انهم الموكلون بالجنة والنار كما قال تعالى (وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ)[36]. وقال ايضا (عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ)[37] وغيرهما من الايات وهي كثيرة.

وقد عبّر عنهم في القران بالزبانية قال تعالى (فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ * سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ)[38] كما عبّر عن كبير خزنة النار بمالك قال تعالى (وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ)[39] فالملائكة لا ينتهي دورهم بقيام القيامة كما يبدو من كلام العلامة قدس سره في تفسير قوله تعالى (تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ)[40] بل هم مستمرون في تنفيذ الاوامر الالهية في تلك المرحلة من الكون.[41]

ومن أدوارهم يوم القيامة الاحتفال والعرض كما قال تعالى (وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا)[42] وقال (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا)[43] وأسمى كلام في بيان ذلك العرض العظيم قوله تعالى (وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ).[44]

ومن الآيات التي تبيّن دورهم يوم القيامة وقبل ذلك ما اعدوه للحساب مجموعة آيات في سورة ق (إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعيدٌ * ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقيبٌ عَتيدٌ...       وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهيدٌ... أَلْقِيا في‏ جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنيدٍ).[45]

ولا يمكننا استقصاء هذا البحث فنكتفي بهذه العجالة. وسيأتي ان شاء الله تعالى بحث حول عصمة الملائكة في تفسير الآية 34 من هذه السورة عند الحديث عن كون ابليس من الملائكة.

 

نعود الى تفسير الآية:

(اني جاعل في الارض خليفة) الجعل هنا يلزمه مفعولان فقوله (خليفة) مفعول اول للجعل والثاني قوله (في الارض) وهو إخبار عن المستقبل وأنه تعالى سيجعل في الارض خليفة. والخليفة من يأتي بعد غيره فيقوم مقامه مأخوذ من الخلف اي الوراء باعتبار أنه يأتي وراءه. ومن هنا يتبين ان للخلافة طرفين فالشخص لا يكون خليفة الا لشخص اخر.

والتاء قيل انها للمبالغة كتاء علّامة فلو صح فلعل المراد انه خليفة في شؤون عديدة او خلافته واضحة. ويمكن ان لا تفيد المبالغة كما قال الجوهري في الصحاح في انواع الهاء - ويقصد هذا التاء - ان منها ما هو لتأنيث اللفظ فقط من دون المعنى ومنها ما كان واحدا من جنس يقع على المذكر والمؤنث. ومهما كان فالخلائف جمع خليفة. والخلفاء جمع خليف.

والسؤال هنا: من هو المراد بالخليفة في هذه الآية؟ وهو خليفة لمن؟

قيل: المراد به جنس البشر وعبر عنهم بالخليفة لانهم يخلفون الملائكة وهم كانوا يسكنون الارض وذكروا لقصة سكناهم في الارض اساطير وقصصا على صورة روايات وربما اندسّت بعض هذه الاحاديث الزائفة في كتبنا ايضا.

وهو كلام غريب فان الملائكة التي في الارض لا يغادرونها ولا يموتون فهم موجودون على الارض ابدا وكما قلنا سابقا فانهم حتى لو كانوا على الارض فهم في سماء بمعنى أنهم مترفعون عن رؤية الانسان وارتباطه بهم. والبشر لا يخلفونهم ولا يمكنهم ان يخلفوهم وليس بينهما مناسبة فجاعل هذه الاساطير يتصور الملائكة كما يتصور الانسان وسائر الاحياء.

وهكذا كان تصور المشركين ايضا وانما اعتبرهم المشركون اناثا وهؤلاء الجهلة من المسلمين يعتبرونهم ذكورا لشرافة الذكر على الانثى بزعمهم. وقد مر حديث جناح فطرس وخروج الدم منه.

وقيل المراد انهم يخلفون خلائق كانوا على الارض قبل الانسان وورد في بعض الروايات أن الجن والنسناس كانوا على الارض قبل البشر وأنهم أفسدوا في الارض. والرواية مروية في علل الشرايع عن امير المؤمنين عليه السلام بسند لا بأس به ظاهرا وان لم يكن صحيحا عندنا الا أن المتن لا يخلو من غرابة بحيث لا يمكننا الوثوق به حتى لو صح السند.[46]

والنسناس بكسر النون مما اختلف اللغويون في تفسيره وذكروا فيه غرائب واساطير قال في العين (خلق في صورة الناس أشبهوهم في شيء وخالفوهم في شيء وليسوا من بني آدم ويقال فيهم كانوا حيّا من عاد عصوا ربهم فمسخهم الله نسناسا لكل انسان يد ورجل من جانب ينقزون نقز الظبي ويرعون رعي البهائم ويقال انهم انقرضوا والذين هم على تلك الخلقة ليسوا من اصلهم ولا نسلهم ولكن خلق على حدة).

وروى الازهري في التهذيب عن ابي هريرة انه قال (ذهب الناس وبقي النسناس قيل وما النسناس قال الذين يشبهون الناس وليسوا بالناس).

وورد في الكافي حديث عن الامام الحسين عليه السلام في الجواب عن سائل وجّه اسئلة الى امير المؤمنين عليه السلام وفيه (واما قولك النسناس فهم السواد الاعظم واشار بيده الى جماعة الناس ثم قال (إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا).[47]

وهناك قصص في مطاوي الكتب حول من رأى هذا الحيوان ومن صاده وأكله ولعل بعضهم تصور أن بعض أنواع القردة من الانسان وقال بعضهم انهم يتكلمون كالبشر ومهما كان فلا نعلم ما هو المراد به في هذه الرواية.

مضافا الى أنه حتى لو صحت الرواية فلا وجه لحمل الخليفة هنا على من يخلف الخلق السابق فان كل مخلوق يأتي بعد من سبقه يصدق انه يخلفه بالطبع فليس بالاخبار عنه امر جديد اراد الله تعالى ان يعلم به ملائكته.

وقيل المراد انهم يخلف بعضهم بعضا كما قال تعالى (هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ..)[48] وقد فسر بهذا المعنى. واوضح منه قوله تعالى (فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلَائِفَ..)[49] فان المراد بهم هنا المؤمنون الذين ركبوا في السفينة وأنهم خلفوا القوم المغرقين اي بقوا بعدهم. وعلى هذا فمعنى الآية هنا أن الله تعالى أخبرهم أنه سيجعل في الارض خلائق يخلف بعضهم بعضا.

وهذا ايضا تفسير غريب كسابقه اذ ليس في ذلك امر جديد ليخبر الله تعالى به ملائكته فالاحياء من جنس واحد يخلف بعضهم بعضا وهو امر طبيعي واضح سواء في الانسان او سائر الحيوانات. مضافا الى ان هذا الامر لا يستوجب استغرابهم وقولهم (اتجعل فيها من يفسد فيها) اذ لا يستوجب مجرد تواتر الاجيال الفساد والقتل.

وقيل المراد به آدم عليه السلام وأنه كان خليفة الله في الارض لانه كان نبيا وقد قال تعالى (يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ..).[50] والظاهر ان خلافة داود عليه السلام بمعنى خلافته عن الله تعالى في الحكم والقضاء ولذلك رتّب عليه الحكم بين الناس بالحق كما هو مدلول الفاء في قوله (فاحكم).

ولكن لا يمكن حمل الآية على هذا المعنى اذ لا يبقى وجه لاستكشاف الملائكة انه يفسد فيها ويسفك الدماء.

والظاهر أن المراد بالخلافة هنا خلافة الله تعالى كما هو ظاهر اللفظ فان هذا التعبير اذا صدر من اي احد يحمل على انه سيجعل لنفسه خليفة ولو اراد الله تعالى خلافة غيره لذكره فقوله (جاعل في الارض خليفة) اي جاعل لنفسي خليفة.

فلا بد من حمل الآية على ان المراد به هو الانسان وان الخلافة صفة له باعتبار انّه يملك الارادة ويتمتع بقوّة الاختيار مما يجعله حرّا نوعا مّا في إنجاز ما يريد فهو من هذه الجهة يخلف اللّه في الارض بمعنى أنّ اللّه تعالى حيث جعل له هذه الحرية والقدرة فكأنّه استخلفه وفوّض اليه بعض الشأن وان كان التفويض الكامل مستحيلا ولذلك كان الاختيار امرا بين الامرين، فلا جبر مطلق ولا تفويض مطلق.

فالخليفة هنا ليس بمعنى من ياتي خلف الاخر لان الله تعالى لا يغيب عن شيء ليخلفه احد وانما المراد انه مفوّض من قبله تعالى فيعمل باختياره ما اراد بحيث لو يلاحظه احد يتصور انه حرّ مطلق لا يكبح جماحه شيء يفعل ما يشاء مع انه في واقع الامر تحت سلطته تعالى وقدرته كما قال (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ * أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ)[51] وقال (وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ).[52]

ومما اثير في هذا المقام السؤال عن وجه الحكمة في توجيه هذا الخطاب للملائكة؟

قال بعضهم انه استشارة منهم وحيث انه تعالى غني عن الاستشارة وليس لاحد من الخلق علم بشيء الا ما علمه الله قالوا ان الغرض تعليم الناس عمليا ان يستشيروا غيرهم.

وهذا الكلام غاية في السخافة والسقوط بحيث لا يستحق ان يتعرض له بردّ وانما نذكره ليتبيّن مدى الاضطراب في التفاسير في مثل هذه الآيات التي تخبر عن امور غير مأنوسة لنا.

نعم من يعتقد بأن بعض الصحابة كانوا يسبقونه تعالى في إصدار بعض الاحكام الشرعية ويتبعه رب العالمين فينزّل من السماء آية بتصديقه لا يبعد منه ان يقول باستشارته تعالى لملائكته!!! وللقوم روايات عديدة في ما كان يقترحه عمر بن الخطاب قبل ان ينزل الامر به من السماء. [53]

وفي المنار ذكر وجوها من الفائدة في هذا الاعلام منه تعالى لملائكته:

احدها ان الله تعالى يرضى لعباده ان يسالوه عن وجه الحكمة في صنعه فاراد ان يبين لهم ذلك.

والثاني اظهار ان هناك من وجوه الحكمة ما يخفى على الملائكة فكيف بالانسان فاراد بذلك ان يقطع طمع الانسان في معرفة اسرار الخلق.

والثالث ان الله تعالى عرّف الملائكة وجه الحكمة بعد ان نبههم على قلة علمهم كما سياتي في تعليم آدم الاسماء.

والرابع تسلية النبي صلى الله عليه واله وسلم ليتحمل اعتراض الناس على رسالته فاذا كانت الملائكة تعترض على الله تعالى في خلقه فالاجدر بالانبياء ان يتحملوا اعتراض الناس وان يعاملوهم كما عامل الله تعالى ملائكته ويبدو من المؤلف انه يقوّي هذا الوجه الاخير لانه يحفظ الاتصال بالآيات السابقة.

وهذه الوجوه كلها ضعيفة مضافا الى انها وجوه لنقله تعالى لتلك المخاطبة او المحاجّة لو صح التعبير ــ ولا يصح ــ وليست وجوها لاصل تحقق تلك المحادثة.

والصحيح ان هذا إعلام من الله تعالى لملائكته وليس استشارة ولا تهييجا للاستفسار عن وجه الحكمة ولا يسمح الله تعالى لاحد من عباده ان يعترض على امره ونهيه فضلا عن خلقه وابداعه والملائكة عباد مكرمون يفعلون ما يؤمرون ولا يعصون الله تعالى ولا يرتكبون خلافا لامره ونهيه حتى ما نعبر عنه بترك الاولى ويمكن ان يكون هذا الانقياد امرا ذاتيا جُبلوا عليه ولا تمكنهم مخالفته او ليس في ذواتهم دواع للمخالفة كما سيأتي ان شاء الله تعالى والله العالم. 

والظاهر أن الغرض من هذا الاعلام إعدادهم للامر بالسجود فاراد الله تعالى ان يعلم ملائكته بخصوصية هذا الكائن ليكونوا على بصيرة من امرهم حينما يؤمرون بالسجود. ومن جهة اخرى فان الملائكة هم الشفعاء والوسائط بين الله تعالى وخلقه فالحكمة تقتضي إعلامهم بما سيكون.

وكل هذه امور حقيقية دخيلة في اصل الخلقة والتكوين سواء في ذلك هذا الاعلام أم سؤال الملائكة أم سجودهم للانسان ومن الخطأ الفادح حمل هذه الآيات وامثالها على المحادثات التي تقع بيننا والاهداف التي نقصدها من افعالنا.   

ويلاحظ أن الله تعالى قال (اني جاعل في الارض خليفة) مع أنه لم يجعل الانسان من اول ما خلقه في الارض بل قال لآدم عليه السلام وزوجه (يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ).[54] ثم أخرجهما من الجنة وأهبطهما الى الارض بعد ان خالفا نهيه تعالى عن الاكل من الشجرة بوسوسة الشيطان فيمكن ان يكون المراد جعله في النهاية خليفة في الارض فلا ينافي ان يمرّ بمراحل قبل ذلك مقدمة لهبوطه الى الارض كما سيأتي بيانه ان شاء الله تعالى.

 

قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ...

الضمير في قوله (فيها) في الموضعين يعود الى الارض وقد مر ان الفساد ضد الصلاح ومعناه جعل الشيء غير صالح للاستفادة منه في الغرض الذي انشئ له.

والظاهر ان الافساد في الارض معناه نشر الفساد في البلاد ويتبين ذلك بملاحظة قوله تعالى (وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ)[55] بناءا على أن قوله (ويهلك الحرث والنسل) عطف تفسير للفساد في الارض وعطف سفك الدماء من قبيل عطف الخاص على العام بذكر اهم انواع الفساد في الارض وعليه فلا يطلق على من افسد امرا واحدا او اكثر انه مفسد في الارض.

وسفك الدماء إراقتها والمراد الاعتداء على الغير وقتل الابرياء. وليس كل سفك للدم فسادا في الارض فالحيوانات تأكل بعضها بعضا وليس فسادا بل منعها من ذلك فساد كما ان الانسان ايضا يذبح قسما منها للاكل بل يقتل بعض الانسان ايضا دفعا للفساد قال تعالى (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ).[56] وأمر بقتل المفسدين من البشر كما قال تعالى (وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ..)[57] وقال (إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا..)[58]

وقوله (ونحن نسبح...) جملة حالية اي لماذا تجعل في الارض من يفسد فيها مع انا نسبح بحمدك؟ وحذف مفعول (نسبح) لدلالة ما بعده عليه اي نسبحك بحمدك. والتسبيح هو التنزيه والتبرئة ولا يستعمل الا في تنزيه الله تعالى عن ما لا يليق به.

ولكن روى ابن دريد في الجمهرة وروده في بعض الاشعار في تنزيه البشر وقال ان بعضه بمعنى البراءة كقول الاعشى (سبحان من علقمة الفاخر) ومعناه التبري من فخره وبعضه بمعنى التعجب كقول الشاعر (سبحان من فعلك يا قطام).

ولعله يقصد ان التقدير (سبحان الله من فعلك) فانه يستعمل للتعجب. ويمكن ان يكون ما ورد في شعر الاعشى للتعجب ايضا كما في الصحاح فلا دليل على ورود استعمال التسبيح في تبرئة غيره تعالى في اللغة كما قال آخرون. وقال الازهري في تهذيب اللغة (ومعنى تنزيه الله من السوء تبعيده منه من قولك سبحت في الارض اذا أبعدت فيها). ويظهر من معجم المقاييس انه في الاصل بمعنى الصلاة النافلة ثم اطلق على تنزيهه تعالى. ولكن الظاهر انه في اصل اللغة بمعنى التنزيه والتبرئة.

والحمد هو الثناء. والباء في (بحمدك) للمصاحبة اي نسبّحك مع تحميدك اي كما ننزهك مما لا يليق بك نثني عليك بصفاتك الحسنى. ويمكن ان يكون الجار متعلقا بالحال اي متلبسين بحمدك. وقد يكون الحمد على التسبيح اي نحمدك على ان وفقتنا لتسبيحك. ويمكن ان تكون الباء للسببية اي ننزّهك بالثناء عليك بمعنى ان توصيفك بصفات الجمال هو بذاته تنزيه لك عما لا يليق بك.

والتقديس التطهير ولذلك يقال للسطل قَدَس بفتحتين على ما في الصحاح لانه مما يستعمل في التطهير والمراد هنا انشاء التقديس اعتبارا فهو بمعنى التسبيح ايضا واللام في قوله (نقدس لك) للتعدية فالتقديس كما يتعدى بنفسه يتعدى باللام وكذلك التسبيح يتعدى بنفسه كقوله تعالى (كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا)[59] وباللام ايضا كما قال تعالى (سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ..).[60]

والسؤال المطروح هنا أن الملائكة من اين اكتشفوا ان البشر سيفسد في الارض ويقتل الابرياء؟

قال في الكشاف (عرفوه بإخبار من اللَّه أو من جهة اللوح أو ثبت في علمهم أنّ الملائكة وحدهم هم الخلق المعصومون وكل خلق سواهم ليسوا على صفتهم أو قاسوا أحد الثقلين على الآخر حيث أسكنوا الأرض فأفسدوا فيها قبل سكنى الملائكة).

اما الاخبار من الله تعالى فلا دليل عليه ولم ترد في الآية إشارة اليه بل ظاهرها انه تعالى لم يخبرهم بشيء الا انه جاعل في الارض خليفة. وأمّا اللوح فليس في حقيقته لوحا كألواحنا يكتب الله فيه الحقائق فيراه الملائكة!! والملائكة - كما اعترفوا به - لا علم لهم الا ما علمهم الله تعالى وأما انهم هم المعصومون فقط فهو باطل وكيف يعتقد به الملائكة وهم معصومون؟! واما سكنى الجن قبل الملائكة فمن التخرّص بالغيب وقد مر الكلام حول سكنى الملائكة في الارض.

وقد نسب هذا القول الى ابن عباس ففي الدر المنثور (وَأخرج الْحَاكِم وَصَححهُ عَن ابْن عَبَّاس قَالَ لقد أخرج الله آدم من الْجنَّة قبل أَن يدخلهَا قَالَ الله "وَإِذ قَالَ رَبك للْمَلَائكَة إِنِّي جَاعل فِي الأَرْض خَليفَة قَالُوا أَتجْعَلُ فِيهَا من يفْسد فِيهَا ويسفك الدِّمَاء" وَقد كَانَ فِيهَا قبل أَن يخلق بألفي عَام الْجِنّ بَنو الجان ففسدوا فِي الأَرْض وسفكوا الدِّمَاء فَلَمَّا أفسدوا فِي الأَرْض بعث عَلَيْهِم جُنُودا من الْمَلَائِكَة فضربوهم حَتَّى ألحقوهم بجزائر البحور فَلَمَّا قَالَ الله "وَإِذ قَالَ رَبك للْمَلَائكَة إِنِّي جَاعل فِي الأَرْض خَليفَة قَالُوا أَتجْعَلُ فِيهَا من يفْسد فِيهَا ويسفك الدِّمَاء" كَمَا فعل أُولَئِكَ الجان فَقَالَ الله "إِنِّي أعلم مَا لَا تعلمُونَ" وَأخرج ابْن أبي حَاتِم عَن ابْن عمر مثله).

ولا حاجة الى تعليق فالسذاجة والتخرص على الغيب باديان على الحديث.

وقال العلامة الطباطبائي قدس سره (إنما فهموا وقوع الإفساد وسفك الدماء من قوله سبحانه إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً، حيث إن الموجود الأرضي بما أنه مادي مركب من القوى الغضبية والشهوية والدار دار التزاحم محدودة الجهات وافرة المزاحمات مركباتها في معرض الانحلال وانتظاماتها وإصلاحاتها في مظنة الفساد ومصب البطلان لا تتم الحياة فيها إلا بالحياة النوعية ولا يكمل البقاء فيها إلا بالاجتماع والتعاون فلا تخلو من الفساد وسفك الدماء ففهموا من هناك أن الخلافة المرادة لا تقع في الأرض إلا بكثرة من الأفراد ونظام اجتماعي بينهم يفضي بالأخرة إلى الفساد والسفك..).

وحاصل ما ذكره أنّ الفساد وسفك الدماء مقتضى العيش على الارض وهذا ايضا غير صحيح والا لكانت الحيوانات ايضا تفسد في الارض وهي لا تفسد وان قتل بعضها بعضا الا ان هذا القتل ليس فسادا بل هذه سنّة الله على الارض ومنعها من ذلك فساد كما مر.

والظاهر ان الملائكة انما اكتشفوا ذلك من نفس عنوان الخلافة وهو ظاهر اللفظ لانهم صرحوا بذلك بمجرد سماعهم لاعلان الخلافة والسر فيه ان المراد بالخلافة ان الله تعالى يجعل لهذا الكائن قدرة وقوة يهيمن بها على كل مقومات الحياة ويتمكن من تغيير كل شيء على هذا الكوكب وذلك بفضل العقل والتكامل العلمي غير المحدود بحد فليس هو مجرد موجود مختار فان الجن ايضا موجود مختار على ما يبدو من آيات سورة الجن حيث تدل على ان منهم المسلمين ومنهم القاسطين وأن منهم الصالحين ومنهم دون ذلك ولكنهم يفقدون القدرة على التكامل والتحكم في الكون وانما اوتي البشر هذه القدرة بمقتضى الروح الالهية التي اودعها الله فيه كما قال (فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ)[61] فهو موجود يزداد سعة كلما ازداد علما.

والله تعالى ضرب لنا مثالا للمقارنة بين الجن والانس في قصة سليمان عليه السلام حيث قال (قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ * قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ..)[62] فيتبين أن الجن وان كانت له قوة عظيمة وأنه باختفائه عن الاعين يستطيع ان ينجز اعمالا غريبة الا ان الانسان أقوى منه وأغرب اذا ترقى في درجات الكمال.

وهذا لا يختص بمن اوتي من الله تعالى القدرة باعتبار كونه رسولا او اماما بل البشر قادر على تصرفات خارقة للعادة بالرياضات النفسية التي تتسبب في سعة نفسه وروحه وحصوله على طاقات هائلة معنوية ومادية.

وموجود كهذا خطير جدا لان قدرته ليست محدودة وان كانت في النهاية متناهية ولكن عدم محدودية وعائه جعله خليفة الله تعالى في الارض ومنحه الله الحرية في العمل وهنا يكمن الخطر ايضا فلو فرض أن الانسان تمكن من صنع شيء يتكامل بذاته وتزداد قواه من دون سيطرة فانه خطير جدا ولكن ما يصنعه الله تعالى لا يمكن ان يخرج من سيطرته.

ومن هنا علمت الملائكة أن القدرة المطلقة والحرية المطلقة يستتبعان الفساد وهذا قانون عام يجب ان ينتبه له البشر في نظامه الاجتماعي ايضا فلا يسمح لانسان ان تكون له القدرة والحرية بطلاقة الا من عصمه الله تعالى.

وصدقت الملائكة فيما وصموا به هذا المخلوق كما قال تعالى (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ..)[63] وهنا ايضا لم يردّ الله تعالى عليهم بالنفي بل قال (اني اعلم ما لا تعلمون) ويفهم منه تصديقه تعالى لهم. وهم لم يتّهموا كل البشرية وإنّما أبدوا عدم ارتياحهم منه لان مقتضى تكوينه نشر الفساد.

وهنا يُثار سؤال آخر وهو أن الملائكة هل اعترضت بذلك على الله تعالى وأنّ هذا الاستفهام للانكار مع أنهم معصومون ولا يليق بهم الاعتراض على الله تعالى؟

الصحيح أنّ الاستفهام على حقيقته وليس استنكارا وهو مستحيل عليهم وانما أرادوا بذلك السؤال عن أنه ما هو السبب في ايجاد هذا المخلوق المفسد فان كان هو التسبيح والتحميد فنحن نسبّح ونحمد ونقدّس من دون أن نفسد فأعلمهم الله تعالى أنّ في ذلك سرا لا يعلمونه وهو ما أعلمهم بعد ذلك عن طريق تعليم الاسماء كما سيأتي توضيحه ان شاء الله تعالى.

قال العلامة الطباطبائي قدس سره (فملخص قولهم يعود إلى أن جعل الخلافة إنما هو لأجل أن يحكي الخليفة مستخلفه بتسبيحه بحمده وتقديسه له بوجوده والأرضية لا تدعه يفعل ذلك بل تجرّه إلى الفساد والشر، والغاية من هذا الجعل وهي التسبيح والتقديس بالمعنى الذي مر من الحكاية حاصلة بتسبيحنا بحمدك وتقديسنا لك فنحن خلفاؤك أو فاجعلنا خلفاء لك، فما فائدة جعل هذه الخلافة الأرضية لك؟).

ولكن الظاهر أن كلامهم يعود الى أنّهم يستفسرون عن وجه جعل الخليفة لا أنّهم أولى بأن يكونوا خلفاء وأنّ الغاية من الخلق هي العبادة والتسبيح والتحميد ونحن نقوم بذلك فما هو الموجب لجعل الخليفة؟! كما قال قدس سره.

 (قال اني اعلم ما لا تعلمون) اي لهذا المخلوق مزيّة أهمّ من مطلق التسبيح والتحميد وانتم لا تعلمون ذلك ثم أظهر لهم الفرق بين ذواتهم المحدودة بما يلقى فيها وبين هذا المخلوق الذي يتّسع وعاؤه علما وقدرة فيستحق ان يكون خليفة لله تعالى على الارض وأنه وان كان مقتضى تكوين شخصيته ان ينشأ منه مفسدون في الارض الا أنّ مقتضى سعة وجوده ان ينشأ منه من يبلغ من القرب لدى الله تعالى ما لا يبلغه أقرب ملائكته المكرّمين.

ويتبين بما ذكرناه أن النقطة الاساسية في الآيات تفهيم الانسان بدوره واهميته في الكون ليعرف قدره فالله تعالى خلقه لامر مهم لا يقوم به حتى الملائكة الكرام وكل هذه القصة سواء كان تمثيلا ام امرا اخر انما ذكره الله تعالى في كتابه لتنبيه الانسان على هذا الدور المهم الذي استوجب ان يامر ملائكته بالسجود للانسان.

وهذا التنبيه مما يفهمه الانسان من سياق الآيات من دون ان يبحث عن معنى جزئياتها ويبدو ان العرب المخاطبين بالقرآن كانوا يعلمون ذلك بوضوح وان لم يعلموا بالخصوصيات ولم يهتمّوا بها فالغرض الاساس هو إيصال هذه الرسالة الى الانسان وتنبيهه على دوره في الكون.

 

وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ...

هذه الآيات الثلاث تحكي قصة اخرى ولعلها ايضا عرض تمثيلي لحقيقة كونية اراد الله بها ان يردّ على الملائكة قولهم (اتجعل فيها..).

والقصّة بظاهرها انه تعالى علّم آدم الاسماء كلها اي علّمه اسماء كل الاشياء والحقائق الكونية ثم عرض الاشياء والمسميات على الملائكة وطلب منهم ان يذكروا اسماءهم فلم يعرفوها لانه تعالى لم يعلمهم ذلك كما علم آدم عليه السلام فامر آدم ان ينبئهم باسمائهم وبعد ذلك قال الله تعالى ردا على ما قالوه سابقا (الم اقل لكم اني اعلم غيب السماوات والارض...).

هذا مجمل القصة وحيث ان اسم آدم عليه السلام ورد هنا لاول مرة في القرآن الكريم ذكر المفسرون وجوها لتسميته بهذا الاسم وانه هل هو لأُدْمة لون بشرته اي سُمرتها او لانه خلق من أديم الارض اي وجهها. والظاهر ان ذلك لا طائل تحته لان الاسم ليس عربيا فهو مذكور بهذا الاسم في الكتب القديمة وباللغات المختلفة كما نبّه عليه في الكشاف.

وآدم عليه السلام ابو البشر لان الله تعالى يخاطب الانسان بقوله (يا بني آدم) وهناك من ينكر وجود انسان في بدء الخلق ويدّعي بان الانسان كسائر الحيوان وجد بالتطور والتكامل في الاحياء.

وهذا في الواقع فرض واحتمال ربما ساعدته بعض الشواهد وهو ليس امرا قطعيا حتى في سائر الحيوان ولو سُلّم ذلك فلا دليل على شموله للانسان. والكتب السماوية تنفي ذلك قطعا وتدل على وجود انسان في بدء الخلقة وهو آدم عليه السلام كما قال تعالى (خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً).[64]

والاسماء جمع اسم. واختلف في أن أصله الوسم بمعنى العلامة او السمو - بكسر السين - من الرفعة والعلو. والظاهر ان الثاني هو الصحيح. والدليل عليه الهمزة في آخر الاسماء التي هي بدل عن الواو. والتعبير بالاسم عما يوضع علامة للشيء من جهة انه تنويه له ورفعة كأنه علم وضع عليه.  

ولمعرفة المراد بالاسماء هنا يجب التذكير اولا بما مر من ان غرض الملائكة من قولهم (أتجعل فيها..) ليس اظهار كونهم اولى بالخلافة من الانسان لانهم يسبحون ويقدسون كما في بعض التفاسير ومنها تفسير الميزان بل المراد أنه ما هو الداعي لجعل الخليفة فان الغرض من الخلق هو العبادة ونحن نعبدك باحسن وجه؟

ولعل هذا مما طرأ على بال الملائكة او كان هذا مقتضى ذاتهم فاراد الله تعالى ان يبين لهم ان في الخليفة وهو الانسان ميزة لا توجد في الملك ولا يمكن ان توجد وان كانت الخلافة تستوجب ان يظهر منهم من يفسد في الارض.

وبعبارة اخرى الملائكة كانوا يعلمون انهم لا يمكن ان يكونوا خلفاء لان الخلافة كما ذكرنا تستوجب الحرية والقدرة المطلقتين وانما كانوا يتصورون ان الهدف الاساس من الخلق هو العبادة كما قال تعالى (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)[65] وهم يحققون هذا الهدف باحسن وجه فلا حاجة الى الخليفة مع ما يترتب عليه من الفساد.

فهذه الايات تثبت اهمية دور الانسان في الكون بسبب خلافته لا أنّ له خاصية تستوجب جعل الخلافة له فالذي أوقع القوم في الخطأ أنّهم تصوروا خلافة الله بمعنى مقام يمنحه الله للانسان وأنّ الملائكة قالوا هم اولى بها بينما الخلافة ميزة ذاتية لا يمكن ان يتصف بها الملك ولعلهم كانوا يعلمون ذلك ويعلمون أنّ هذه الميزة هي التي تستوجب الافساد ولكن لا يعلمون ما يستوجب خلق هذا الخليفة.

ومن هنا يتبين ان الله تعالى بهذا العرض اعلم الملائكة بجانب من ميزة الانسان الذاتية وهي قدرته على التوسع في المعرفة والعمل. ومن جوانب هذه القدرة بيانه لحقائق الاشياء كما قال تعالى (خَلَقَ الْإِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ).[66]

ومن أنحاء هذا البيان وضع الاسماء على المسمّيات. وبالبيان توسّع علم الانسان وانتقل الى الاجيال المتاخرة ولولاه لبقي الانسان في المربّع الاول. والملائكة بالرغم من عظمتهم وعلوّ قدرهم وقربهم عند الله تعالى لا يتوسّعون قدرة وعلما. والله تعالى اراد ان ينبههم على انه يريد خلق هذا الموجود لانه بهذه القدرة المتكاملة ذاتيا يتمكن من الوصول الى أسمى درجات القرب حيث لا يمكن للملك ان يصل اليه.

والحاصل أنّ تعليم آدم الاسماء كلها بمعنى جعله قادرا على تسمية الاشياء وهو جزء من البيان حيث يراد به بيان الحقائق فالتحدّي للملائكة تحقق من جهة أنّهم لا يملكون القدرة على تسمية الاشياء.

ولذلك لما طالبهم ربّ العزة بان يخبروا عن اسماء الاشياء قالوا (لا علم لنا الا ما علمتنا). وكل عالم علمه من الله تعالى الا ان الفرق بينهم وبين الانسان فرق ذاتي جوهري فهم بذاتهم لا يمكنهم التوسع في المعرفة وانما لهم ظرف محدود فلا يعلمون الا ما علمهم الله تعالى والانسان بقدرته الذاتية التي وهبها الله تعالى له يمكنه التوسع.

وهذا هو ما اراد الله إعلامهم به ليعلموا الفرق بينهم وبين الخليفة بمعنى انهم علموا بذلك ان الخليفة وهو من له القدرة الذاتية يمتاز بخاصية غريبة عليهم ولذلك فلا بد من خلقه لان الله تعالى يريد ان يُعبد من هذا الانسان المتكامل وليس معناه انه اولى بالخلافة.

ولعل قائلا يقول: لو كان المراد تعليم البيان فلماذا اختار هذا التعبير ولم يقل علّم آدم البيان كما قال في سورة الرحمن.

والجواب أنّ الغرض هنا ربما يكون تحدّي الملائكة فلا بد من عرض الموضوع بطريقة يمكن بها الاختبار وهي إبداع التسمية.

ثم إنّ المفسرين ذكروا وجوها في معنى الاسماء فمنهم من قال ان المراد بها اسماء كل الاشياء في اللغة العربية ومنهم من قال في لغة آدم ومنهم من قال في جميع اللغات ومنهم من قال إن المراد اسماء الله تعالى وقيل أسماء ما كان وما يكون إلى يوم القيامة وقيل: اللغات، وقيل: أسماء الملائكة، وقيل: أسماء النجوم الى غير ذلك.

والذي يردّ على كلّ هؤلاء هو أنّ ذلك لا يسبّب ميزة للانسان فالله تعالى علّمه الأسماء ولم يعلّم الملائكة فعدم علمهم ليس نقصا فيهم.

مضافا الى انه لو كان في هذا العلم ميزة فهم ايضا علموه بعد إنباء ادم لهم بل ربما يقال إنّهم اقوى فهما من آدم لانه تعلمها من الله مباشرة وهم تمكنوا من تعلمها بواسطة آدم عليه السلام.

بل ربما يقال كما في - الميزان - ان الملائكة ليسوا بحاجة الى استعمال الالفاظ فهم اقوى من الانسان في إيصال المعلومات لانهم يتوصلون الى ذلك بدون حاجة الى استعمال اللفظ الذي كثيرا ما يوجب الخطأ كما هو المشاهد فليس هذا ميزة للانسان.

ولكن بناءا على ما ذكرنا ليست ميزة الانسان انه يعلم الاسماء بتعليمه تعالى بل ميزته القدرة على التوسع في العلم وعدم محدودية ظرفه. والبيان الذي منه جعل الاسماء احدى صور قدرته وتوسعه. وكما قلنا سابقا أساس هذه القدرة هو الروح الالهية التي نفخت فيه.

ويلاحظ أنّ تخصيص الاسماء ببعضها كاسماء الله تعالى مخالف للعموم المستفاد من الجمع المحلى باللام. مضافا الى تأكيده بقوله تعالى (كلها) مما يجعله كالصريح في عدم الاستثناء وان المراد أسماء جميع الاشياء. ولذلك قال ثم عرضهم على الملائكة اي عرض المسميات وهي جميع الاشياء وليس بمعنى الاسماء في كل لغة او في لغة خاصة فالمراد بتعليم الاسماء قوة البيان واختراع لفظ لتفهيم المعنى.

وربما يتوهم أن الحيوان ايضا فيه نوع من البيان والتفاهم فهو يظهر حاجته الجنسية او حاجته الى الطعام او غضبه وحنانه وحزنه وفرحه بطريقته الخاصة فالبيان لا يختص بالانسان وهناك موارد من تفهيم الحيوان غيره بما يقصده بحيث انتقل الى الانسان ايضا.

ومن هذا القبيل قوله تعالى (قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ)[67] فالنملة هنا خاطبت النمل وعلم به سليمان عليه السلام وكذلك إخبار الهدهد له عن قوم سبأ وعبادتهم للشمس ثم رجوعه اليهم لابلاغهم رسالته فكل هذا نوع من التفاهم بين الحيوان والانسان وهو نوع من البيان.

ولكن الواقع أنّ هناك فرقا واضحا بين ما يظهر من حركات الحيوان او اصواته الدالة على حاجته وكذلك حالة الطفل وبكاؤه حيث يعلم حاجته الى الطعام او شكواه من الالم وبين بيان الانسان لحقائق الكون التي يكتشفها بابداعه وذكائه.

واما قصّة النمل والهدهد وكذا غيرهما ممن كانوا في جيش سليمان عليه السلام فلا نعلم كيف علم من النملة إعلامها للنمل بخطر سليمان وجنوده فهي بالطبع لم تُعلمهم بكلام ولكنه عليه السلام عرف ذلك باعجازه وهكذا اخبار الهدهد عما راته من قوم سبأ.

ومثل ذلك تفاهم الملائكة فانه ليس باستعمال الالفاظ وحتى لو كان ذلك كمالا اعلى رتبة كما قاله العلامة الا انه لا يدل على ابداع فالملائكة لا يظهرون الا ما اودع فيهم والانسان خليفة الله تعالى في الابداع والتكوين واما ما نسب اليهم من الاقوال في القران فقد مرّ الكلام فيها.

وللعلامة الطباطبائي قدس سره راي في تفسير الآية لا بد من ملاحظته.

 قال في الميزان ما ملخصه (ان العلم بهذه الاسماء ليس من قبيل العلم الذي عندنا بأسماء الأشياء وإلا كانت الملائكة بإنباء آدم إياهم عالمين مثل آدم مساوين معه ولم يكن في ذلك إكرام لآدم ولا كرامة حيث علمه الله سبحانه أسماء ولم يعلمهم ولم يكن في ذلك ما يبطل حجتهم. وأي حجة تتم في أن يعلم الله تعالى رجلا علم اللغة ثم يباهي به ويقول تعالى أنبئوني باللغات التي سوف يضعها الآدميون بينهم للإفهام والتفهيم إن كنتم صادقين؟! على أنّ الملائكة لا تحتاج في التفاهم إلى التكلم وإنما تتلقى المقاصد من غير واسطة فلهم كمال فوق كمال التكلم فظهر أن العلم بأسماء هؤلاء المسميات يجب أن يكون بحيث يكشف عن حقائقهم وأعيان وجوداتهم والمسميات المعلومة حقائق خارجية مستورة تحت ستر الغيب والعلم بها على ما هي عليها كان أوّلا ميسورا ممكنا لموجود أرضي لا ملك سماوي وثانيا دخيلا في الخلافة الإلهية. والاسماء جمع محلى باللام ويفيد العموم ومؤكد بقوله: كُلَّها، فالمراد كل اسم يقع لمسمى وقوله: عَرَضَهُمْ دال على كون كل اسم أي مسماه ذا حياة وعلم وهو مع ذلك تحت حجاب الغيب).

ثم استنتج من كل ذلك (ان المراد بالاسماء ما ذكره الله تعالى في قوله (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ)[68] وهي حقائق الاشياء وهي خارجة عن حدود الكون بكامله لقوله تعالى (اني اعلم غيب السماوات والارض) ومعناه ما هو غائب عن السماوات والارض ولذلك لا تعرفه الملائكة لان معرفتهم لا تتجاوز حدود الكون. والمراد بالغيب نفس هذه الاسماء لا علم ادم بها لان الذي جهله الملائكة هو نفس الاسماء لا علم ادم والا لم يكن وجه لقوله (انبئوني باسماء هؤلاء) بل كان يكفي ان يقال يا ادم انبئهم ليعلموا بعلمه. وما تعلمه ادم ليس هو لفظ الاسماء بل علمه بحقائق الاشياء وهذا هو ما لا تتحمله الملائكة وهو مناط الخلافة الالهية).

وهنا عدة ملاحظات تترتب على ما ذكره رحمه الله نذكرها ضمن امور:

الامر الاول: ما ذكره من ان العلم بالاسماء ليس كرامة لادم ولا حجة على الملائكة فهو كذلك ولكن يصح ان نقول ان التحدّي ليس بعلمه بالاسماء التي علّمه الله اياها بل بقدرته على التسمية فقوله (وعلّم ادم الاسماء) ليس بمعنى تلقينه اسماء الاشياء بلغة مّا بل بمعنى تزويده بالقدرة على التسمية وهي من ضمن قدرته على التوسع في العلم والخلق التي هي من مقتضيات الروح الالهية التي نفخت فيه فالله تعالى اراد بهذا الاختبار ان يظهر لهم مثالا على قدرة الانسان وهذه القدرة مما اعطاه الله تعالى ولكنها على كل حال فرق جوهري بين الانسان والملك.

وهذا هو الكمال الذي لا يصل اليه الملك لان وعاءه محدود كما اعترفوا به بقولهم (لا علم لنا الا ما علمتنا) فليست لهم قدرة الابداع.

الامر الثاني: انه استند في توصيف المسميات بانهم احياء وعقلاء الى قوله تعالى (ثم عرضهم) باعتبار أن الضمير يختص بذوي العقول وكذا الى اسم الاشارة في قوله تعالى (باسماء هؤلاء).

وربما يؤيد ذلك بما ورد في بعض الروايات من أنّ المراد اسماء اهل البيت عليهم السلام فقد روى الصدوق بسند ضعيف عن الامام الصادق عليه السلام (أن الله تبارك وتعالى علم آدم عليه السلام أسماء حجج الله كلها ثم عرضهم - وهم أرواح - على الملائكة فقال: أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين بأنكم أحق بالخلافة في الأرض لتسبيحكم وتقديسكم من آدم عليه السلام "قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم" قال الله تبارك وتعالى "يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم" وقفوا على عظيم منزلتهم عند الله تعالى ذكره فعلموا أنهم أحق بأن يكونوا خلفاء الله في أرضه وحججه على بريته ثم غيبهم عن أبصارهم واستعبدهم بولايتهم ومحبتهم وقال لهم ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون).[69]

والرواية ضعيفة وتخالف تأكيد القرآن على أن الله تعالى علّمه الاسماء كلها وتخالف ايضا الروايات الاخرى.

منها ما رواه العياشي مرسلا (عن أبي العباس عن أبي عبد الله عليه السلام سألته عن قول الله "وعلّم آدم الأسماء كلها" ماذا علّمه؟ قال: الأرضين والجبال والشعاب والأودية ثم نظر إلى بساط تحته فقال: وهذا البساط مما علّمه).[70]

ومن الواضح أن تعليم أسماء كل الجزئيات ليشمل البساط المذكور بشخصه كناية واضحة عن أن التعليم انما كان ايجادا لاصل القوة المبدعة التي تمكّن الانسان من وضع الاسم لكل شيء.

وأما الضمير في قوله (ثم عرضهم) وكذلك اسم الاشارة في قوله (بأسماء هؤلاء) فلا ينافي ذلك لان المقصود حيث كان مجموعة اشياء تشتمل على ذوي العقول يؤتى بالضمير الخاص بهم كقوله تعالى (وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ..).[71]

وهناك من يقول بان هذا الضمير لا يختص بذوي العقول اساسا ويستدل بقوله تعالى (إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ)[72] فان الضمير يعود الى الكواكب والشمس والقمر.

ولكن الصحيح أن رجوع الضمير هنا باعتبار أنه أسند الى هذه الاشياء فعلا خاصا بذوي العقول وهو السجود وهذا يصحح ارجاع ضمير ذوي العقول اليها.

الامر الثالث: انه قدس سره تمسك بقوله تعالى (ان كنتم صادقين) في ذيل الآية بأنه يدل على ان الملائكة ادّعوا شيئا ولم يتمكنوا من اثباته مع انهم لم يدّعوا معرفة الاسماء ليقال لهم ذلك فلا بدّ من القول بانهم حيث ادعوا انّهم اولى بالخلافة من آدم عليه السلام وكان هناك علاقة بين الخلافة ومعرفة هذه الاسماء فصحّ ان يقال لهم (ان كنتم صادقين) في دعوى الخلافة او الأحقية بها فانبئوني بأسماء هؤلاء.

ولكن لم يظهر مما سبق انهم ادعوا ذلك اساسا بل الظاهر انهم فهموا من الخلافة او من كون الانسان ارضيا كما قاله رحمه الله معنى يستلزم الفساد في الارض فقالوا ان الهدف حيث كان التسبيح والتقديس فنحن نقوم به باحسن وجه فما الحاجة الى خلق الخليفة؟! وعليه فلا علاقة بين الخلافة ومعرفة أسماء خاصة.

واما وجه قوله (ان كنتم صادقين) فقد اختلفوا فيه ومما قيل في وجهه أن هذا التعبير عادة يقال فيما يستلزم الوضع دعوى من الخصم فيقال له ان كنت صادقا فافعل كذا وان كان لم يدع ذلك فيقال مثلا في موارد التنازع ان كنت صادقا فلنتصارع ومعناه أنه ان كنت صادقا في دعوى انك أقوى مني وهو لم يدّع ذلك ولكن هذه الدعوى مقتضى مخاصمته.

وهنا ايضا أبرز الملائكة أنهم أشرف من آدم عليه السلام لتسبيحهم وتقديسهم مع تجنبهم للافساد خاطبهم الله تعالى بهذا الخطاب كأنّهم يدّعون تمكّنهم من كل ما يتمكن منه الانسان بل اكثر منه.

ويمكن ان يقال ان الصدق هنا ليس بمعنى الصدق في القول او الدعوى لتتوقف صحة التعبير على وجود دعوى محققة او مفروضة بل هو بمعنى الجدّ فالمراد ان كنتم جادّين في مفاخرة آدم عليه السلام او مفاخرة نوع الانسان فهذا مجال للاختبار وحيث لم يعرفوا الاسماء وعرفها آدم عليه السلام تبين انه اشرف واقوى منهم.

الامر الرابع: أنه رحمه الله استند في كون الاسماء محجوبة بحجب الغيب الى ما ذكره من الترديد في غيب السماوات والارض بين أن يكون المراد به نفس الاسماء ويتبين ان الملائكة ما كانوا يعلمون بها وهو مناط الخلافة او يكون المراد انهم يعلمون بها ولكن يجهلون علم آدم بها فتبين لهم بهذا العرض أن آدم يعلم بها ثم نفى الاحتمال الثاني بأنه تعالى طلب منهم بيان الاسماء وعلى هذا الاحتمال لا يبقى وجه لهذا الامر بل يكفي ان يطلب من آدم ان يخبرهم بها.

ونعقب على ذلك بان هناك احتمالا ثالثا فالامر لا يدور بينهما وهو أن المراد وجود حكمة في جعل الخليفة في الارض فهذا هو الغيب الذي لا يعلمه احد وهذا الاحتمال هو الانسب لانهم سألوا عن وجه الحكمة في جعل الخليفة مع أنهم يسبحون ويقدسون فجاء الجواب ان وجه الحكمة يعلمه الله ولا تعلمونه انتم (اني اعلم ما لا تعلمون).   

ولكنه رحمه الله فسّر سؤالهم بأنهم ادعوا أنهم اولى بالخلافة من الانسان لانه يفسد في الارض ولكنه بعيد من التعبير الوارد لان الله تعالى لم يخبرهم من هو الخليفة وانما اخبرهم بجعل خليفة في الارض على نحو الابهام والاجمال فالمستفاد من جوابهم السؤال عن وجه الحكمة وان الهدف من الخلق ان كان هو التسبيح والتقديس فهم يقومون به ولا يمكن تفسير كلامهم بالاعتراض على خطابه تعالى فهم منزهون عنه.

وتبين بما ذكرناه الجواب عن توصيفه الاسماء بان العلم بها دخيل في الخلافة الالهية فان ذلك ايضا متوقف على ما فرضه من ان الملائكة احتجوا بتسبيحهم وتقديسهم انهم اولى بالخلافة من الانسان وهو غير صحيح.

الامر الخامس: انه رحمه الله فسّر غيب السماوات والارض بما هو خارج عن حدود الكون فلا تعلم به الملائكة حيث قال:

(وإضافة الغيب إلى السماوات والأرض وإن أمكن أن يكون في بعض الموارد إضافة (من) فيفيد التبعيض لكن المورد وهو مقام إظهار تمام قدرته تعالى وإحاطته وعجز الملائكة ونقصهم يوجب كون إضافة الغيب إلى السماوات والأرض إضافة اللام فيفيد أن الأسماء أمور غائبة عن العالم السماوي والأرضي خارج محيط الكون..)

وفي هذا الكلام نقاط من الابهام:

اولا ان المقام ليس مقام إظهار تمام القدرة الالهية بل مقام إظهار قدرة الانسان. والملائكة ما كانوا يشكّون في قدرته تعالى الكاملة ولا في عجزهم ونقصهم وهم يعلمون ويقرّون بأنهم لا يعلمون شيئا الا ما علمهم الله تعالى.

وثانيا انه لو فرض كونه مقام إظهار تمام القدرة ونقص الملائكة فهذا انما يكون قرينة على ما ذكره رحمه الله اذا كان الملائكة يدّعون علم الغيب ضمن إطار الكون فينبههم الله تعالى ان هذا ليس من الغيب الموجود في السماوات والارض بل هو خارج عن الكون فلا تعلمونه ولكن الملائكة يعترفون انهم لا يعلمون شيئا الا ما علّمهم الله تعالى ولا فرق بين كون الغيب ضمن الكون او خارجه.

وثالثا انه مهما كان تقدير الاضافة فان هذا التعبير لا يفيد المعنى المقصود اي الخارج عن حدود السماوات والارض فتقدير اللام كما ذكره لا يعني أنه غائب لهما بمعنى أنهما لا يشاهدانه اذ انهما لا يشاهدان شيئا ولا يوجد تقدير لهذه الاضافة يفيد هذا المعنى في اللغة العربية.

ورابعا أنه تعالى قال (أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) مع أنه لم يسبق منه هذا القول فيعلم أن المراد به قوله تعالى (اني اعلم ما لا تعلمون) في جواب الملائكة (ونحن نسبح بحمدك..) فيتبين من هذا الحوار أن المراد بالغيب هنا هو ما لا يعلمه الملائكة من شأن آدم عليه السلام او الانسان بصورة عامة مما يجعله خليفة لله تعالى. فما لا يعلمه الملائكة هو هذه الشأنية لا الاسماء كما قاله العلامة وان كانوا يجهلونها ايضا الا ان هذا الجهل لا علاقة له بهذا الحوار.

وخامسا انه ان كانت خزائن الاشياء خارجة عن حدود الكون كما قال؟! فما المراد بها؟ هل هي من علمه تعالى فليست من الحقائق والاعيان المخلوقة بل هي عين الذات المتعالية ام هي موجودات ملكوتية كما يبدو من كلامه فهي في السماوات اي في ما وراء الطبيعة والملائكة يعلمون بها بل هي داخل تحت تدبيرهم بامره تعالى. وليس في كلامه رحمه الله اي دليل على ان الملائكة لا يعلمون تلك الحقائق.

وبعبارة اخرى كل ما سوى الله تعالى داخل في الكون ومخلوق لله تعالى فهو إما في السماوات وإمّا في الارض اي عالم الطبيعة.

وورد مثل ذلك في تفسير الصافي فانه ايضا فسّر الاسماء بحقائق الاشياء وقال في وجه عدم علم الملائكة بها:

(وإنّما لم يعرفوا حقائق الأشياء كلّها لاختلافها وتباينها وكونهم وحدانيّة الصّفة إذ ليس في جبلّتهم خلط وتركيب ولهذا لا يفعل كلّ صنف منهم إلّا فعلًا واحداً فالرّاكع منهم راكع ابداً والسّاجد منهم ساجد أبداً والقائم منهم قائم أبداً كما حكى اللَّه عنهم بقوله: (وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ) ولهذا ليس لهم تنافس وتباغض بل مثالهم مثال الحواس فان البصر لا يزاحم السمع في إدراك الأصوات ولا الشم يزاحمهما ولا هما يزاحمان الشمَّ فلا جرم مجبولون على الطاعة ولا مجال للمعصية في حقّهم لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ فكل صنف منهم مظهر لاسم واحد من الأسماء الإلهية لا يتعداه ففاقهم آدم بمعرفته الكاملة ومظهريته الشاملة).[73]

أمّا أنّ الحواس لا تزاحم بينها فهو خطأ وخروج عن مجال التخصّص وأما البحث عن جبلّة الملائكة فهو تخرّص على الغيب. ولو صح ما ذكره من أن كل قسم منهم على حالة لا يتجاوزها اما راكع او ساجد او قائم فكيف ارسلوا الى عالمنا لتنفيذ احكام الله تعالى؟!

وكيف عرف الملائكة الذين ارسلوا الى ابراهيم عليه السلام كل تلك الحقائق التي ذكروها له ولزوجته؟!

وكيف ذهبوا الى قوم لوط عليه السلام واهلكوهم؟!

وكيف كانوا ينزلون في غزوة بدر ويضربون البنان وفوق الاعناق من الكفار؟!

وكيف يحفظون على كل انسان عمله؟!

وكيف يحفظونه بامر الله تعالى من كثير من الشرور؟!

وكيف يصح ما ذكره وهم المدبرات امرا وهم الصافون والزاجرون والتالون للذكر وهم السفرة الكرام البررة الذين يحملون كتب السماء بايديهم وهم سفراء الوحي بين الله ورسله وهم خزنة النار وحفظة الجنة وهم الشفعاء في الكون والوسائط بين الله وخلقه وهم وهم وهم...

نعم ما يمكن ان يقال كما قلنا انهم يعملون في كل موقف كما دُبّر لهم ودُبّروا له ولا يعلمون الا ما عُلّموا فليس لهم قدرة الابداع.

والذي ينبغي ان يقال هنا انه حتى لو صح ما ذكره العلامة وقبله الفيض ومن يحذو حذوهما فان الآيات لا تنطبق عليه ولا يفهم منها وهناك فرق بين من يحاول معرفة شيء من الآيات ومن يعلم شيئا بدليل خارجي ويحاول تطبيق الآيات عليه فان كنا نحاول المعرفة فالانصاف ان هذه الايات لا تفيد هذا المعنى.

وصاحب المنار فسّر الاسماء بحقائق الاشياء ايضا ولكن بوجه آخر فقال: (عَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا) أَيْ أَوْدَعَ فِي نَفْسِهِ عِلْمَ جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ مِنْ غَيْرِ تَحْدِيدٍ وَلَا تَعْيِينٍ فَالْمُرَادُ بِالْأَسْمَاءِ الْمُسَمَّيَاتُ عَبَّرَ عَنِ الْمَدْلُولِ بِالدَّلِيلِ لِشِدَّةِ الصِّلَةِ بَيْنَ الْمَعْنَى وَاللَّفْظِ الْمَوْضُوعِ لَهُ وَسُرْعَةِ الِانْتِقَالِ مِنْ أَحَدِهِمَا إِلَى الْآخَرِ. وَالْعِلْمُ الْحَقِيقِيُّ إِنَّمَا هُوَ إِدْرَاكُ الْمَعْلُومَاتِ أَنْفُسِهَا وَالْأَلْفَاظُ الدَّالَّةُ عَلَيْهَا تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ اللُّغَاتِ الَّتِي تَجْرِي بِالْمُوَاضَعَةِ وَالِاصْطِلَاحِ فَهِيَ تَتَغَيَّرُ وَتَخْتَلِفُ وَالْمَعْنَى لَا تَغْيِيرَ فِيهِ وَلَا اخْتِلَافَ..).[74]

وهو تأويل بعيد لا يفهم من كلمة الاسم. ويحقّ لنا ان نستغرب لماذا لم يقل بدلا من هذه الجملة (وعلم آدم الاشياء كلها ثم عرضهم على الملائكة)؟! ألم يكن المعنى اوضح؟! وثانيا اذا كان ما تعلمه آدم هو المسميات فما هو الوجه في مطالبة الملائكة بذكر أسمائها؟!

قال في المنار (وَالْغَرَضُ مِنَ الْإِنْبَاءِ بِأَسْمَائِهَا الْإِبَانَةُ عَنْ مَعْرِفَتِهَا) وذلك ليطابق ما تعلمه آدم عليه السلام.

وهو تأويل أبعد اذ لا يصح ان ينسب الى الملائكة الجهل بحقائق الاشياء فلا يميزون مثلا بين الانس والجن او بين البشر والحيوان مع أن قصصهم في القران تدل على انهم يعرفون الانبياء ويعرفون الكفار والمؤمنين والمنافقين.

 

قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ...

(سبحان) مصدر بمعنى التسبيح او اسم مصدر لان المصدر من باب التفعيل لا ياتي من هذا الباب كما قيل وهو منصوب بفعل مقدر اي نسبح سبحانك وهو في الاصل نسبحك سبحانا ثم حذف الفعل واضيف المصدر الى الضمير.

وهو إمّا للتنزيه من جهة أنّهم يريدون ان ينفوا عنهم ما أظهر الله ثبوته وهو علمهم بالاسماء اذ لا يطلب الله منهم شيئا لا يقدرون عليه فنزّهوه من ان يقول ذلك على هذا الوجه وأنّه انما طلب منهم ذلك تعجيزا وإمّا ان يراد به التعجب من طلبه تعالى ذلك مع علمه بانهم عاجزون عنه.

والاصل في افادته التعجب ان الانسان يسبح الله تعالى اذا رأى امرا عجيبا من خلائقه ثم توسع الاستعمال ومنه قوله تعالى (وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ)[75] اذ لا يمكن حمله هنا على ظاهره من تنزيه الله تعالى.

وقد مرّ الكلام في المراد بقولهم (لا علم لنا الا ما علّمتنا) وأن المراد أنهم لا قدرة لهم على التوسع في العلوم واكتشاف ما لم يصلوا اليه وانما هم اوعية محدودة لا يعلمون الا ما عُلِّموا ولا يقصدون بذلك نفي ما لم يوجده الله تعالى فانه حكم عامّ على الجميع. والانسان ايضا لا علم له الا ما علّمه الله تعالى الا ان الانسان قد أودع الله فيه القدرة على البيان وعلى إبداع العلوم والاستنتاج منها للوصول الى معلومات اخرى وليس كذلك الملك.

ولا بدّ من حمل هذه الجملة على هذا المعنى اذ لو اُبقي على ظاهره لكان اعتراضا على طلبه تعالى باعتبار أنه علّم آدم عليه السلام ولم يعلّمهم فليس هذا ميزة له.. وهم مبرءون من الاعتراض على ربّهم مع انه لو كان اعتراضا فالآية التالية ليست جوابا عنه.

وأما ما يلاحظ من الحوار بين الملائكة وبعض الانبياء فالظاهر أنهم كانوا يتكلمون بما اُودع فيهم فمن ذلك حديثهم مع ابراهيم ولوط عليهما السلام والنداء الذي وجّهوه الى زكريا ومريم عليهما السلام وكذلك تمثّل جبرئيل لمريم عليهما السلام. وهذا كله مما ورد التصريح به في الكتاب العزيز والا فالموارد اكثر من ذلك بكثير.

والجملة الاخيرة تعليل ولعلها تعليل لنفي العلم عنهم بأن هذا من علم الغيب لانك لم تعلّمنا هذه الاسماء. والعليم الذي علمه من نفسه هو الله فحسب. وضمير (انت) لافادة الحصر. فالعليم الحكيم ليس الا الله تعالى وكل عالم انما يتحمل ما علّمه الله تعالى. والعليم - كما قالوا - صيغة المبالغة وتدل على ثبوت الصفة فان علمه تعالى ليس بالاكتساب بل هو عين ذاته. والحكمة بمعنى المنع والمراد انه لا يعمل الا ما فيه مصلحة.

ولعل اضافة الحكمة للاشارة الى السبب في عدم تعليمه اياهم وانه كان لحكمة. ويمكن ان يكون تعليلا لقولهم (سبحانك) وتنزيههم ربهم بأن يطلب منهم شيئا لا يقدرون عليه لانه عليم بحالهم وانما تقتضي الحكمة هذا الطلب تعجيزا.

 

قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ...

لما ظهر عجز الملائكة عن تسمية الاشياء المعروضة عليهم امر الله تعالى آدم عليه السلام أن يخبرهم باسمائها. وقد مر الكلام في المبرر في التعبير عن الاشياء بالضمير الخاص بذوي العقول.

والمراد بإنبائه اياهم بالاسماء بناءا على كون القصة عرضا تمثيليا هو ظهور قدرة الانسان على الابداع للملائكة. ولو فرضت القصة بيانا لحادث وقع في مرحلة من مراحل الكون فالمراد ايضا بروز قدرته عليه السلام لهم على التسمية لا أنّه أخذ يعدّ عليهم أسماء الاشياء بكل جزئياتها.

 

فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ...

الظاهر أن قوله (الم اقل لكم) اشارة الى ما قاله تعالى في جواب قولهم (اتجعل فيها من يفسد فيها) حيث قال تعالى (اني أعلم ما لا تعلمون).

والكلام هنا في وجه التغيير فان هذا القول اي (اعلم غيب السماوات والارض) لم يسبق ذكره والظاهر أن هذا التغيير تعميم لما قاله لهم مما حكي في الآيات السابقة ليشمل كل ما هو غيب لهم او لغيرهم ففي الجواب هناك اقتصر على انه تعالى يعلم ما هو غائب عنهم ولكنه هنا عمّم علمه للغيب فهو كالدليل لما ذكره هناك.

والاستفهام للانكار فيكون نفيا للنفي وينتج الاثبات اي قلت لكم ذلك ولعل الغرض من ذلك تنبيههم على ما غاب عنهم من مزية الانسان فهو غيب جهلوه بالطبع كما يجهلون كل حقيقة لم يشأ الله ان يخبرهم بها والا فانهم يستحيل عليهم أن ينكروا او يجهلوا انه تعالى عالم الغيب فلا يمكن أن يكون الاستفهام للانكار التوبيخي كما قيل.

وهذا هو السر في التبديل ولا اجد وجها لما في الميزان من أن المراد بغيب السماوات والارض ما هو خارج عنهما كما مر ذكره بل المراد ما هو ظاهر اللفظ اي ما هو غائب فيهما ومنه ما هو غائب عن الملائكة والمراد به هذه القوّة المودعة في الانسان التي تؤهّله للخلافة وترجّح جعل الخليفة في الارض حيث كانت الملائكة تجهل السر في جعل الخليفة.

 

وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ...

تكرار قوله (أعلم) لعله من جهة ان العلم بما يكتمون تطبيق لعلمه تعالى بغيب السماوات والارض فليس العلم بما يبدون وما يكتمون خارجا عن علم الغيب ولو لم يتكرر الفعل لأوهم عطف المفردات أنّ ما يبدون وما يكتمون معلومان اخران غير الغيب وأمّا عطف الجملة على الجملة فلا يوهم ذلك.

ثم ان العلم بما يبدون ليس من العلم بالغيب ولكن المراد بهذه الجملة أنّ الابداء والكتمان لا يختلفان عند الله تعالى بل هما سواء في علمه. ومثله قوله تعالى (عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ..)[76] فان العلم بالشهادة ليس مما يختص به تعالى وانما يختص به العلم بالغيب فالغرض من هذا التعبير امر وراء ذلك وهو أن علمه بالغيب كعلمه بالشهادة وليست الشهادة اقرب اليه او اوضح لديه من الغيب. وبتعبير أدق لا يوجد لديه غيب بل كل ما في الكون من اشياء حاضرة لديه بكل كيانها وانما يعبر بالغيب باعتبار كونه غائبا لغيره.

وهناك اختلاف كبير لا طائل تحته بين المفسرين في تعيين المراد بقوله (ما تبدون وما كنتم تكتمون) وايضا في السر في اضافة قوله (كنتم).

ويستظهر من التعبير أنّ الملائكة كانوا فيما سبق يكتمون شيئا ولعل المراد بهذا السبق حينما اخبرهم الله تعالى بانه سيجعل في الارض خليفة واما الابداء فهو امر مستمر.

ويمكن ان يكون ما كتموه بناءا على صحة هذا الاستظهار هو تصورهم أنهم خير ما خلق الله او ان لهم ميزة على الانسان الذي يراد به ان يكون خليفة الله في الارض. والاول اولى لان ظاهر التعبير يقتضي الاستمرار في ذلك فكأنّ هذا كان من مكنونات ضميرهم دائما واراد الله اعلامهم بأن الامر ليس كذلك.

ويمكن أن لا يكون الابداء والكتمان بالمعنى المعهود بأن يظهروا شيئا في أقوالهم ويخفوا شيئا في ضمائرهم كما هو الحال فينا بل بمعنى أنّ هناك صفات او حالات تظهر منهم واخرى لا تظهر والله يعلم كل ذلك فلا يخفى عليه شيء وعليه فالمراد بهذه الجملة التأكيد على علمه تعالى بالغيب وبمكنون الضمائر وبما لا يتبين من حالات كل مخلوق فلا يعلمها احد الا الله تعالى.

واما قوله (كنتم) فيمكن ان لا يكون اشارة الى امر مضى كما يقال بل لتأكيد المضمون نظير قوله تعالى (وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا)[77] وقوله (هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا)[78] ومثله كثير. والمناط فيه بقاء المعنى صحيحا حتى لو حذف التعبير بالكون.

 


[1] الجاثية: 13

[2] ال عمران: 81

[3] الاعراف: 172

[4] الشورى: 51

[5] الحاقة: 16 - 17

[6] الفجر: 22

[7] التبيان ج1 ص130

[8] الحج: 75

[9] الدخان: 32

[10] فاطر: 1

[11] النازعات: 5

[12] البقرة: 285

[13] النجم: 26

[14] مريم: 64

[15] النازعات: 5

[16] التحريم: 6

[17] بصائر الدرجات ص 88

[18] البقرة: 102

[19] عيون اخبار الرضا عليه السلام ج1 ص245

[20] عيون اخبار الرضا عليه السلام ج1 ص 244

[21] سبأ: 23

[22] النحل: 49

[23] الانبياء: 28

[24] الصافات: 164

[25] التكوير: 19 - 21

[26] النحل: 102

[27] الشعراء: 192 - 194

[28]  البقرة : 97

[29] الشعراء : 192 - 195

[30] التكوير : 19 - 21

[31] الانفطار: 10 - 12

[32] الزمر: 42

[33] النساء: 28 - 29

[34] النساء: 32

[35] الانفال: 9 - 12

[36] الرعد : 23 - 24

[37] التحريم : 6

[38] العلق : 17 - 18

[39] الزخرف : 77

[40] المعارج : 4

[41] ولنا في تفسير الآية راي اخر فراجع ان شئت

[42] الفجر : 22

[43] النبأ : 38

[44] الزمر : 75

[45] ق : 17 - 26

[46] علل الشرايع ج1 ص 104

[47] الفرقان : 44 والحديث في الكافي ج 8 ص 245

[48] فاطر: 39

[49] يونس: 73

[50] ص: 26 وينبغي التنبه الى أن هذه الاية تدل على خطورة القضاء وانه منصب الهي وان الحكم لله تعالى وفي الحديث انه لا يقوم به الا نبي او وصي نبي او شقي

[51] البلد: 4 - 5

[52] العنكبوت: 22

[53] راجع صحيح البخاري ج6 ص 20 باب واتخذوا من مقام ابراهيم مصلى وايضا ج2 ص97 باب ما يكره من الصلاة على المنافقين وصحيح مسلم كتاب الطلاق بَاب الْإِيلَاءِ وَاعْتِزَالِ النِّسَاءِ وَتَخْيِيرِهِنَّ ح 2704 على ما في المكتبة الشاملة وغيرهما

[54] البقرة : 35

[55] البقرة: 205

[56] البقرة: 179

[57] البقرة: 191

[58] المائدة: 33

[59] طه: 33

[60] الحشر: 1

[61] الحجر: 29 / ص: 72

[62] النمل: 39 - 40

[63] الروم : 41

[64] النساء : 1

[65] الذاريات : 56

[66] الرحمن : 3 - 4

[67] النمل: 18

[68] الحجر: 21

[69] كمال الدين وتمام النعمة  ص 14

[70] تفسير العياشي ج1 ص 32

[71] النور: 45

[72] يوسف: 4

[73] تفسير الصافي ج1 ص115

[74] المنار ج1 ص218

[75] النور: 16

[76] الانعام: 73

[77] النساء: 17

[78] الاسراء: 93