مكتب سماحة السيد مرتضى المهري

وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ...

(اذ) ظرف زمان متعلق بمقدر ويمكن تقدير (اذكر). وهذه الآية تتعرض باختصار لقصة اخرى من بدء خلق الانسان وهي قصة سجود الملائكة لآدم عليه السلام.

والكلام في سجود الملائكة من جهات:

الجهة الاولى: أن هذه القصة وردت في آيات عديدة من الكتاب العزيز وفي بعضها تفصيل اكثر لموقف ابليس لعنه الله ولكن الوارد هنا وان كان مختصرا الا أن سياق الآيات يفيد أن هذه القصة بمنزلة الاستنتاج من الامتحان الذي مرّ ذكره فكأنّ الغرض من كل ذلك كان هو امر الملائكة بالسجود لآدم عليه السلام مما يمكن ان يستظهر منه ان وجه السجود هو ما ظهر من الانسان من القدرة على الابداع وبذلك يمكن ان نفهم معنى خاصا للسجود كما سيأتي ان شاء الله تعالى وهذا التفصيل لم يرد في سائر المواضع.

ولكن ربما يستظهر من بعض الآيات ما ينافي ذلك بلحاظ أن السجدة كانت بعد نفخ الروح فيه مباشرة كقوله تعالى (فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ)[1] وهذه الآية وردت في موضعين من القرآن الكريم في سورة الحجر وفي سورة (ص) فربما يستفاد من هذه الآية ان السجود انما كان لخصوصية في نفخ الروح الالهية فيه.

ولكن الصحيح أن الآية لا تدل على أن السجدة كانت بعد نفخ الروح مباشرة وانما تدل على انه كان بعد النفخ فيمكن أن يقال إن السبب هو نفخ الروح باعتبار أنه هو ميزة الانسان وهو الذي يجعله صاحب الابداع والقدرة على التوسع في المعرفة. ولكن لم يرد في الآية ما يدل على توقيت السجود فلا يبعد ان يكون ذلك بعد الامتحان المذكور حيث تبين للملائكة دور الانسان في الكون وان كان السر في ذلك هو نفخ الروح مضافا الى قوة احتمال أن تكون كل هذه القصص عرضا تمثيليا لحقيقة كونية لا يستلزم تحققها في الواقع وقتا كما يتراءى من هذا العرض.

بل الظاهر أن الآيات الواردة في بدء الخلقة لا تدل على الترتيب فربما يبدو من بعض الآيات أن السجدة كانت بعد دخول الجنة كقوله تعالى (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى * فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى)[2] فقوله تعالى (فلا يخرجنكما) يدل على انهما كانا آنذاك في الجنة.

وربما يستظهر من بعضها انها كانت قبل دخولها مباشرة كقوله تعالى (وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ..).[3] حيث ورد بعد ذلك في عدة آيات التنديد بابليس وما وجّه اليه من الخطاب الالهي الى ان قال (قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ * وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ..).[4] مما يتراءى منه أن إسكان آدم وزوجه في الجنة كان بعد ذلك مباشرة كما تدل كلتا الآيتين على ان ذلك كان بعد خلق حواء.

والحاصل ان الآيات لا تدل على ما ينافي كون الامر بالسجود نتيجة لما مرّ من إعلام الملائكة بخلق الانسان ثم إثبات امتيازه على الملائكة بتعليم الاسماء ليترتّب عليه ما أشرنا اليه من تفسير خاصّ للسجود.

الجهة الثانية: أنّ السجود هل كان لآدم عليه السلام بشخصه لخصوصية فيه او كان للانسان بوجه عام وانما سجدوا لآدم كمثال للنوع؟

الظاهر ان الثاني هو الصحيح ويدل على ذلك قوله تعالى (وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ..).[5] والخطاب بضمير الجمع لكل بني آدم ولا يبعد ان يكون المراد بالخلق خلق جسم الانسان والمراد بالتصوير افاضة الصورة الانسانية عليه بنفخ الروح الالهي فيتّحد مفاد هذه الآية مع قوله تعالى (فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ).[6]

والمراد من خلق البشر بأجمعهم ثم تصويرهم يحتمل أمرين:

الاول: خلقهم وتصويرهم في مرحلة سابقة من مراحل الوجود وهناك شواهد في الكتاب والسنة تدل على وجود هذه المرحلة:

منها قوله تعالى (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى..)[7] وان امكن تأويل الآية كما ذكرنا مرارا.

ومنها ما ورد في الروايات من خلق نور النبي صلى الله عليه وآله وسلم وانوار الائمة عليهم السلام قبل خلق هذا الكون وهي روايات كثيرة:

منها ما رواه الكليني قدس سره بسنده عن أبي عبد الله عليه السلام قال (قال الله تبارك وتعالى يا محمد إني خلقتك وعليا نورا يعني روحا بلا بدن قبل أن أخلق سماواتي وأرضي وعرشي وبحري فلم تزل تهللني وتمجدني ثم جمعت روحيكما فجعلتهما واحدة...) الحديث.[8]

ومنها ما ورد في زيارة الجامعة الكبيرة وهو قوله عليه السلام (خلقكم الله أنوارا فجعلكم بعرشه محدقين حتى منّ علينا بكم فجعلكم في بيوت أذن الله ان ترفع ويذكر فيها اسمه..).[9] وغير ذلك وهي كثيرة جدا.

الثاني: خلق اصلهم وسبب وجودهم وتصويره وهو آدم عليه السلام نظير قوله تعالى (إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ)[10] فعبّر عن حمل الاسلاف والآباء بحمل البشر كلهم فان الخطاب في الآية الى جنس الانسان وذلك لان الآباء هم السبب في وجودهم. ومهما كان فالامتنان على الجميع بهذا الخطاب يدل على أن السجود كان للجنس البشري.

ثم إن الآية المذكورة آنفا اي قوله تعالى (فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ) تؤيد ايضا كون السجود للانسان وانما كان آدم عليه السلام رمزا يمثل النوع وذلك لان الظاهر من التعبير بالوقوع للسجدة لزوم فوريّته وفيه إشارة الى عدم انتظار أمر آخر من بروز صفة خاصة كالعلم والتقوى او النبوة، فيستفاد منه أنّ السجود لنفس صفة البشرية ونفخ الروح لا لأمر آخر.  

الجهة الثالثة: في توجيه سجود الملائكة لآدم عليه السلام او للانسان وقد مر الكلام حول حرمة السجود لغير الله تعالى في تفسير قوله تعالى (اياك نعبد) وقلنا ان هناك اتفاقا على ما يبدو من فقهاء المسلمين عامة على حرمته بل لعله مما يتفق عليه الموحدون جميعا ولعله من جهة ان السجود من اوضح مصاديق العبادة.

بل يصح ان يقال انه عبادة بالذات وان ناقش فيه العلامة الطباطبائي رحمه الله ولكنه صحيح بمعنى ان انطباق عنوان العبادة عليه لا يتبع الاعتبار وان كان ربما يتوقف على القصد او طريقة خاصة فان مجرد وضع الجبهة على الارض قد لا يكون بداعي التذلل او تكون هناك قرائن تدل على انه ليس بقصده ولكن مما لا شك فيه انه في الوضع الطبيعي مما يدل على غاية التذلل. 

ويعترض على هذا بسجود يعقوب عليه السلام وزوجته واولاده ليوسف عليه السلام وكذلك سجود الملائكة لآدم عليه السلام وهناك بعض الروايات تأول هذا السجود:

منها ما في الوسائل عن التفسير المنسوب الى الامام العسكري عليه السلام عن النبي (صلّى الله عليه وآله) قال: لم يكن سجودهم يعني الملائكة لآدم إنّما كان آدم قبلة لهم يسجدون نحوه لله عزّ وجلّ وكان بذلك معظّماً مبجّلاً ولا ينبغي لأحد أن يسجد لأحد من دون الله يخضع له كخضوعه لله ويعظّمه بالسجود له كتعظيمه لله..)

ومنها ما رواه الصدوق قدس سره في عدة من كتبه حول افضلية الانبياء والائمة عليهم السلام من الملائكة في حديث طويل عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وفيه (ثم إن الله تبارك وتعالى خلق آدم فأودعنا صلبه وأمر الملائكة بالسجود له تعظيما لنا واكراما وكان سجودهم لله عز وجل عبودية ولآدم إكراما وطاعة لكوننا في صلبه فكيف لا نكون أفضل من الملائكة وقد سجدوا لآدم كلهم أجمعون...).[11]  

وعن تفسير علي بن ابراهيم عن يحيى بن أكثم (أنّ موسى بن محمّد سئل عن مسائل فعرضت على أبي الحسن علي بن محمّد (عليه السلام) فكان أحدها أن قال له: أخبرني عن يعقوب وولده أسجدوا ليوسف وهم أنبياء؟ فأجاب أبو الحسن (عليه السلام): أما سجود يعقوب وولده فإنّه لم يكن ليوسف إنّما كان ذلك منهم طاعة لله وتحيّة ليوسف كما كان السجود من الملائكة لآدم كان ذلك منهم طاعة لله وتحيّة لآدم فسجد يعقوب وولده ويوسف معهم شكراً لله لاجتماع شملهم..).

وعن الاحتجاج للطبرسي عن أبي عبد الله (عليه السلام) ـ في حديث طويل ـ (أنّ زنديقاً قال له: أفيصلح السجود لغير الله؟ قال: لا، قال: فكيف أمر الله الملائكة بالسجود لآدم؟! فقال: إنّ من سجد بأمر الله فقد سجد لله، فكان سجوده لله إذا كان عن أمر الله). [12]

ومحصل ما يستفاد من الروايات وهي ضعيفة تأويل هذا السجود بوجوه ثلاثة:

الاول أن آدم عليه السلام كان قبلة للملائكة والسجود كان لله تعالى وهذا ما ارتضاه العلامة على ما يبدو فقد قال في تفسير قوله تعالى (وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ..)[13] (ان السجدة كانت من الملائكة لجميع بني آدم أي للنشأة الإنسانية وإن كان آدم عليه السلام هو القبلة المنصوبة للسجدة فهو في أمر السجدة كان مثالا يمثل به الإنسانية نائبا مناب أفراد الإنسان على كثرتهم لا مسجودا له من جهة شخصه كالكعبة المجعولة قبلة يتوجه إليها في العبادات وتمثل بها ناحية الربوبية).

ولكن الآيات كالصريحة في أن السجود كان له عليه السلام لا اليه قال تعالى (فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ * فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ * قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ * قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ)[14] وهذا هو ما استكبر عنه ابليس واعتبره منافيا لافضلية عنصره فهو من النار وهذا من الطين.

وأوضح منه قوله تعالى (فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ * فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ * قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ * قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ).[15] ولو كان السجود لله تعالى وانما كان آدم قبلة لهم لم يكن وجه لهذا الاستدلال.

وكذلك السجود ليوسف عليه السلام فان الآية تقول (وخرّوا له سجدا) ويشهد له التعبير الوارد في رؤياه عليه السلام حيث قال (يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ).[16]

والوجه الثاني انهم سجدوا تحية لآدم ويوسف عليهما السلام وطاعة لله تعالى اما كونه طاعة لله تعالى فهو واضح في سجود الملائكة واما في السجود ليوسف عليه السلام فلا بد من القول بأن يعقوب عليه السلام أمر بوحي من الله تعالى أن يسجدوا له وأما كونه تحية فلا يظن أن القائل بهذا الوجه يلتزم بجواز السجود تحية لأحد مهما كانت شخصيته ممتازة والواقع أنه لا فرق من حيث الحكم الشرعي بين السجود للشخص تحيّة والسجود تذلّلا له.

والوجه الثالث ما ورد في الحديث الاخير من أنّ السجود لآدم عليه السلام كان جائزا لانه بأمر من الله تعالى وهو ما ارتضاه السيد الخوئي قدس سره حيث قال (ان السجود هو الغاية القصوى للتذلل والخضوع ولذلك قد خصه الله بنفسه ولم يرخص عباده ان يسجدوا لغيره وان لم يكن السجود بعنوان العبودية من الساجد والربوبية للمسجود له غير ان السجود لغير الله اذا كان بامر من الله كان في الحقيقة عبادة له وتقربا اليه لانه امتثال لامره وانقياد لحكمه وان كان في الصورة تذللا للمخلوق... (الى ان قال) وهذا هو الوجه الصحيح).[17]

ولكن هذا الوجه إنّما يصحّ لو كان السجود لغيره تعالى حراما بعنوانه الخاص لا باعتبار انه غاية التذلل وينطبق عليه عنوان العبادة لان عموم حرمة العبادة لغيره تعالى لا يقبل التخصيص وقيل بانها تستلزم الشرك والكفر وحرمته واضحة فاذا كان السجود هو المصداق الطبيعي للعبادة بحيث لا يتوقف انطباقها عليه على اعتبار وتشريع فلا يمكن تجويز السجود لاي احد.

ومن هنا نجد ان جمعا من الفقهاء استدلوا على حرمة السجود لغيره تعالى بانه غاية التذلل فلا يجوز الا لمن هو في غاية العظمة واذا قلنا بأنه ليس عبادة بالذات فلا دليل على عموم حرمته.

ومن هنا يتبين الجواب عما ذكره بعض مفسري العامة من أن ذلك كان جائزا في الشرايع السابقة وانما حرم في شريعتنا كما ذكره الزمخشري وغيره في قصة سجود يعقوب عليه السلام ومن الواضح أن الشرك في العبادة حرام في جميع الشرايع فلا بد من تأويل ما ورد مما ظاهره ذلك.

ولعل الاولى ان يحمل السجود في قصة يوسف على الانحناء والاحترام ففي جمهرة ابن دريد (اصل السجود ادامة النظر في إطراق الى الارض) وفي الصحاح (سجد: خضع) وعليه يحمل قوله تعالى خطابا لبني اسرائيل (وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا) في ثلاث مواضع من الكتاب العزيز[18] اذ لا يمكن دخول الباب في حال السجود بالمعنى المعروف.

ولا ينافيه التعبير بالخرور فانه بمعنى السقوط ولا يستلزم وضع الجبهة ونحوها على الارض فالمراد أنهم سقطوا على الارض خاضعين له من دون ان يضعوا جباههم عليها.

ويحتمل أن يكون الذين خرّوا هم الإخوة فحسب بقرينة قوله تعالى قبل ذلك مباشرة (ورفع ابويه على العرش) ويبعد خرورهما على الارض وهما على العرش ولا ينافيه قول يوسف عليه السلام (هذا تأويل رؤياي من قبل) فان التأويل لا يجب ان يكون معادلا للمأول تماما فلا يبعد أن يكون يعقوب عليه السلام لم يخرّ على الارض وان خضع ليوسف عليه السلام اكراما له وهذا مهما كان يدلّ على بلوغه مرحلة عالية من الكمال بحيث يخضع له ابوه وهو نبيّ معصوم ولا يبعد أن يكون الغرض من سورة يوسف تكريمه عليه السلام لبلوغه هذا المقام الجليل.

ومما يدل على أن السجود لا يختص بوضع الجبهة على الارض قوله تعالى (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ * وَللّه يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ..)[19] اذ السجود بالمعنى المعروف غير مشهود من الظلال لو اريد سجودها.

ولو اريد سجود كل شيء بسبب وقوع الظلال على الارض فدلالتها على كون السجود متحققا بغير وضع الجبهة على الارض اوضح وكذلك الدوابّ فانها لا تسجد لله بالمعنى المعروف وانما هي تتذلل له تعالى إمّا اختيارا وإمّا قهرا وكذلك البشر غير المؤمنين فان عنوان الدابّة يشملهم ايضا.

وأما سجود الملائكة لآدم عليه السلام فلا شك انه ليس من قبيل وضع الجبهة على الارض فان الملائكة ليست اجساما فلا بد من حمل الامر بالسجدة على معنى اخر مجهول لنا يقتضي نوعا من الاحترام والاكرام إمّا لكونه نبيّا وإمّا لانّ من ذريته من هو أشرف الخلق وهم محمد واهل بيته الطاهرون سلام اللّه عليهم اجمعين كما ورد في بعض الاحاديث ولعلّ له سرّا آخر لا تبلغه افهامنا.

ويمكن ان يكون الامر بالسجود رمزا لما أراده اللّه تعالى من إعطاء القدرة والاختيار للانسان فلا بد من أن تطاوعه القوى الحاكمة في الوجود كما لا بد من مطاوعة القوى الطبيعية له، والملائكة هي القوى الحاكمة في الكون والمدبرة لاموره بامر اللّه تعالى كما قال سبحانه: (فالمدبرات امرا)[20] وهم الوسائط والشفعاء بين الله تعالى وخلقه وهم من ينفذون الاوامر الالهية في جميع شؤون الكون فلعل الامر بالسجود بمعنى تنفيذ طلب الانسان فيما يحاول تحقيقه اذ لا يمكنه الوصول الى اهدافه لولا مساعدة العوامل الغيبية وهي الملائكة فيجب ان يلاحظوا في تدبيرهم لشؤون الارض ان هذا الكائن له حق الاختيار فهو يختلف عن سائر الموجودات والكائنات الارضية.

ولذلك تقدم منه تعالى إعلام الملائكة بانه سيجعل في الارض خليفة ليستعدوا لما يجب عليهم بعد خلقه ولمّا استفسروا او انطوت سريرتهم على استفسار بأنه ما وجه خلقه مع ان العبادة باحسن وجوهها تحصل منهم عرض الله لهم قضية جعل الاسماء ليتبين وجه ترجيح هذا الكائن عليهم فلعل كل هذا كانت مقدمة لامرهم بالسجود ولا شك أن الذي يترتب على هذه المقدمات حقيقة كونية وليس مجرد احترام وخضوع.

 

فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ...

اي فسجد الملائكة كلهم اجمعون كما ورد نفس هذا التعبير في موردين من الكتاب العزيز[21] ومعنى هذا التاكيد أنه لم يشذّ منهم أحد وهذا مقتضى عصمتهم. ولعل السرّ في التأكيد أن استثناء ابليس ربما يوهم احتمال وجود استثناء آخر فأراد بالتأكيد بيان أنّه لم يشذّ منهم أحد نهائيا.

ويمكن أن يكون المراد بقوله (اجمعون) انهم سجدوا مجتمعين فلعل فيه اشارة الى انّ انقياد القوى الحاكمة التي تدبّر الكون للانسان انقياد متناسق فالكل يعمل كأداة واحدة وجهاز واحد بأمره تعالى.

وشذّ من المأمورين بالسجود إبليس لعنه الله فلم يسجد لآدم عليه السلام والمشهور بين المفسرين واللغويين أن كلمة إبليس مأخوذة من الابلاس ومعناها اليأس لانه يئس من رحمة الله تعالى او أيأسه الله منها بل الظاهر اتفاق اهل اللغة عليه.

وحكي عن ابي اسحاق الزجاج كما رواه ابن سيدة في المحكم انه اسم اعجمي ولهذا لم ينصرف والظاهر انه الصحيح والدليل عليه قوله تعالى (قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ)[22] فانه تعالى سماه ابليس قبل ان يطرد من السماء وييأس من رحمة الله. ويشهد لذلك بل يدل عليه ما سيأتي ان شاء الله تعالى في تفسير قوله (فأزلّهما الشيطان) من أنه تعالى سماه ابليس قبل طرده من السماء وسماه الشيطان بعد ذلك هنا وفي سورتي الاعراف وطه.

وقد وقع البحث في أنه هل كان من الملائكة ام هو جنس آخر وان اُمر معهم بالسجود؟

وهناك من يقول انه ليس الا القوة الداعية الى الشر كما في تفسير المنار. اما السابقون فقد ذهب قوم منهم الى انه من الملائكة بل جعلوا له مقاما عظيما بينهم قبل استكباره.

قال في مجمع البيان (ثم اختلف من قال انه من الملائكة فمنهم من قال انه كان خازنا على الجنان ومنهم من قال كان له سلطان سماء الدنيا وسلطان الأرض ومنهم من قال انه كان يسوس ما بين السماء والأرض وقال الشيخ المفيد أبو عبد الله محمد بن محمد بن النعمان قدس الله روحه انه كان من الجن ولم يكن من الملائكة قال وقد جاءت الأخبار بذلك متواترة عن أئمة الهدى عليهم السلام وهو مذهب الإمامية).[23]

وقال في موضع آخر من تفسير الآية (وروي عنه ــ اي ابن عباس ــ أنه قال أن الملائكة كانت تقاتل الجنّ فسُبي إبليس وكان صغيرا فكان مع الملائكة فتعبّد معها بالأمر بالسجود لآدم فسجدوا وأبى إبليس فلذلك قال الله تعالى «إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ» وروى مجاهد وطاووس عنه أيضا أنه قال كان إبليس قبل أن يرتكب المعصية ملكا من الملائكة اسمه عزازيل وكان من سكان الأرض وكان سكان الأرض من الملائكة يُسمَّون الجن ولم يكن من الملائكة أشد اجتهادا ولا أكثر علما منه فلما تكبّر على الله وأبى السجود لآدم وعصاه لعنه وجعله شيطانا وسماه إبليس..).[24]

ومن الغريب ما يتخرصون به على الغيب فمن اين لكم هذه الاخبار وهي لم ترد في القرآن ولا الروايات المعتبرة عن المعصوم وليس هذا من التاريخ في شيء فلعلهم وجدوها او سمعوها نقلا من كتب اليهود او علمائهم حيث تكاثرت منهم الروايات المدسوسة في الثقافة الاسلامية.

وفي المنار (أن كُلَّ قُوَّةٍ مِنْ قُوَى هَذِهِ الْأَرْضِ وَكُلَّ نَامُوسٍ مِنْ نَوَامِيسِ الطَّبِيعَةِ فِيهَا خُلِقَ خَاضِعًا لِلْإِنْسَانِ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ مُسْتَعِدًّا لِتَسْخِيرِهِ لِمَنْفَعَتِهِ إِلَّا قُوَّةَ الْإِغْرَاءِ بِالشَّرِّ وَنَامُوسَ الْوَسْوَسَةِ بِالْإِغْرَاءِ الَّذِي يَجْذِبُ الْإِنْسَانَ دَائِمًا إِلَى شَرِّ طِبَاعِ الْحَيَوَانِ وَيُعِيقُهُ عَنْ بُلُوغِ كَمَالِهِ الْإِنْسَانِيِّ فَالظَّاهِرُ مِنَ الْآيَاتِ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَغْلِبُ هَذِهِ الْقُوَّةَ وَلَا يُخْضِعُهَا مَهْمَا ارْتَقَى وَكَمُلَ)[25]

ومعنى ذلك أن ابليس ليس الا القوة الداعية الى الشر كما أنه يرى تبعا لاستاذه ان الملائكة ليست الا القوى الداعية الى الخير او انه احتمال راجح. كما أن هذا البيان يقتضي أن يكون خضوع الملائكة للانسان وكذا عدم خضوع الشيطان تكوينيا ومقتضى ذلك أن الامر بالسجود امر تكويني ايضا وليس تشريعيا والمفروض ان الامر المتوجه الى الملائكة وابليس امر واحد وهذه الدعوى تصطدم بأن مخالفة الامر التكويني غير ممكن.

اما القول بان ابليس من الملائكة فيمكن ان يستدل عليه بوجوه:

الوجه الاول: استثناؤه عن الملائكة المتكرر في القرآن كما في هذه الآية (فسجدوا الا ابليس) والاستثناء يدل على أنّه منهم اذ الظاهر منه أن يكون استثناءا متصلا لا منقطعا لان اللفظ يجب ان يحمل على حقيقته مع الامكان.

ولكن الصحيح أنّ الاستثناء المنقطع استثناء حقيقة وليس فيه تجوّز كما يتوهم ويقصد بذكره التأكيد على الشمول التام وعدم الاستثناء فالمثال المعروف جاء القوم الا حمارا يفيد أنه لم يشذّ من القوم أحد بل جاءوا بأجمعهم وانما لم يأت الحمار وهو ليس منهم بالطبع ولو كان منهم لأتى. وعليه فالاستثناء لا يدل على كونه من الملائكة وانما يؤكد عدم استثناء أحد منهم عن الاطاعة.

الوجه الثاني: قوله تعالى (مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ)[26] وهذه الجملة مما امر الله تعالى رسوله ان يقولها في مواجهة المشركين. والاختصام المذكور اشارة الى ما كان بين الملائكة وآدم او بينهم وابليس من المحادثة فان الاختصام يطلق على كل منازعة بين شخصين او اشخاص.

وهذه الآية وردت قبل التعرض لقصة خلق ادم عليه السلام والامر بالسجود وإباء ابليس فالتعبير عن مجموع المتخاصمين بالملإ الاعلى يدل على ان ابليس كان منهم. والمراد بالملأ الاعلى عالم الملائكة.

والجواب واضح فان غاية ما يفيد هذا التقرير هو وجود ابليس بين جمعهم لا انه من جنسهم ولا شك في أنه كان في الملأ الأعلى ويدل على ذلك طرده من السماء وأمره بالهبوط بعد استكباره كما قال تعالى (قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ)[27] ومعناه أنّ الاستكبار لا يمكن في السماء فاهبط الى الارض وابق فيها مستكبرا.

الوجه الثالث: ما ورد في نهج البلاغة من كلام امير المؤمنين عليه السلام في الخطبة القاصعة (فَاعْتَبِرُوا بِمَا كَانَ مِنْ فِعْلِ اللَّهِ بِإِبْلِيسَ إِذْ أَحْبَطَ عَمَلَهُ الطَّوِيلَ وَجَهْدَهُ الْجَهِيدَ وَكَانَ قَدْ عَبَدَ اللَّهَ سِتَّةَ آلَافِ سَنَةٍ لَا يُدْرَى أَمِنْ سِنِي الدُّنْيَا أَمْ مِنْ سِنِي الْآخِرَةِ عَنْ كِبْرِ سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ فَمَنْ ذَا بَعْدَ إِبْلِيسَ يَسْلَمُ عَلَى اللَّهِ بِمِثْلِ مَعْصِيَتِهِ كَلَّا مَا كَانَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لِيُدْخِلَ الْجَنَّةَ بَشَراً بِأَمْرٍ أَخْرَجَ بِهِ مِنْهَا مَلَكاً إِنَّ حُكْمَهُ فِي أَهْلِ السَّمَاءِ وَأَهْلِ الْأَرْضِ لَوَاحِدٌ..).[28]

وقال ابن ابي الحديد في شرحه (وكلامه عليه السلام يدلّ على أنّه كان يذهب إلى أنّ إبليس من الملائكة..)[29] ولو صحّ هذا الاستنتاج فلا بد من الاعتراف به فإن الحق مع أمير المؤمنين عليه السلام في كل شيء انما الكلام في صحة إسناد هذا القول اليه عليه السلام.

وقال بعض الشراح إنّ التعبير عنه بالملك من جهة أنّه كان معهم وفي جمعهم.[30] وربما يشهد له تغيير التعبير بعد ذلك عنه بأهل السماء. ومع ذلك فهو تأويل بعيد لا يمكن أن يصار اليه لو ثبت إسناد القول اليه عليه السلام الا من جهة القطع بعدم كون اللعين منهم.

وأبعد منه ما قاله المجلسي قدس سره (ويمكن الجواب بان اطلاق الملك عليه لكونه من الملائكة بالولاء).[31] ويقصد بذلك انه كان مولى لهم وعبدا حيث أسروه في الحرب ولعله أخذ هذا الجواب من رواية يرويها القمي في تفسيره عن الامام الصادق عليه السلام وفيها:

(فقيل له عليه السلام فكيف وقع الأمر على إبليس وإنما أمر الله الملائكة بالسجود لآدم؟ فقال كان إبليس منهم بالولاء ولم يكن من جنس الملائكة وذلك أن الله خلق خلقا قبل آدم وكان إبليس منهم حاكما في الأرض فعتوا وأفسدوا وسفكوا الدماء فبعث الله الملائكة فقتلوهم وأسروا إبليس ورفعوه إلى السماء وكان مع الملائكة يعبد الله إلى أن خلق الله تبارك وتعالى آدم عليه السلام).[32]

والرواية ضعيفة وان كان السند الموجود في التفسير بظاهره معتبرا وذلك لان استناد التفسير الموجود بايدينا الى علي بن ابراهيم غير ثابت ومهما كان فهذا الوجه لا اعتبار به اذ الانتساب بالولاء من الاعتبارات الاجتماعية في بعض الاقوام ولا يمكن حمل مثل هذا الكلام الذي بصدد بيان امر تكويني واقعي عليه مع أن قصة محاربة الملائكة للجنّ من الاساطير.

والاشكال في الخطبة لا يختص بهذه العبارة بل ورد في بداية الخطبة ايضا قوله عليه السلام حسب هذا النقل (ثم اختبر بذلك ملائكته المقربين ليميز المتواضعين منهم من المستكبرين..).

وهذه الجملة تدلّ أوّلا على امكان وجود المستكبرين في جمع الملائكة المقربين وثانيا على أنّ ابليس من الملائكة بل من المقربين وثالثا على أن الهدف من هذا الامر هو اختبار الملائكة لا ما ذكر في تفسير الآية.

ولكنّ رواية الخطبة الشريفة مرسلة كسائر روايات نهج البلاغة وان كان لكثير منها أسناد في كتب اخرى فلا بدّ من البحث عن مصادر اخرى لهذه الخطبة وهي خطبة معروفة لا يمكن انكار اصل صدورها وقد رويت قطع منها في كتب متفرقة وروى الكليني قطعة منها ليس فيها هذه الجملة ورواها مرسلا قال وروي عن امير المؤمنين عليه السلام.[33]

قيل وروى الصدوق ايضا قطعة منها في الفقيه[34] ولم أعثر عليه رغم البحث. الا أن الكلام في صدور هذه القطعة بهذا النحو.

وفي هذه العبارة التي نقلناها شبهة اخرى وهي في قوله (لا يدرى أمن سني الدنيا أم من سني الآخرة) فان كون المدة ستة آلاف سنة لم يذكر الا هنا ومن قِبَله عليه السلام بناءا على هذه الرواية فكيف لا يُعلم انه بأيّ معنى من السنين؟!

قال ابن ميثم البحراني (قال بعض الشارحين: ويفهم من تقديره عليه السّلام تلك المدّة بستّة آلاف سنة لا يدرى من أيّ السنين هي أنّه سمع فيه نصّا من رسول اللَّه صلَّى اللَّه عليه وآله وسلَّم مجملا ولم يفسّره له، أو أنّه سمعه وعلم تفصيله لكنّه لم يفصّله للناس بل أبهم القول عليهم في تعيينه لعلمه أنّ تعيين سني الآخرة ممّا يستعظمونه ولا يحتمله أذهانهم..).[35]

وهو تأويل بعيد اذ لو كان من سني الآخرة كان بامكانه عليه السلام ان يصرّح به وان لم يعلم الناس معناه مع ان ظاهر الكلام انه عليه السلام لا يدري وهو أبعد المحتملات بل ليس محتملا عندنا.

ومهما كان فان الرواية حتى لو كانت صحيحة السند لا يمكن الاعتماد عليها اذا خالف القرآن كما ورد في روايات كثيرة[36] فهي إمّا أن تأوّل او تطرح وقد صُرّح في القرآن بأنّه من الجنّ وانما كان مع الملائكة كما يعلم من قوله تعالى (مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى..).[37]

ويدل على عدم كونه من الملائكة ايضا وجوه:

الاول: قوله تعالى (فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ)[38]  فهذا تصريح بأنه لم يكن منهم بل كان من الجنّ. ولكن بعضهم قال ان الملائكة والجنّ من جنس واحد وأن الجنّ بمعنى المستور عن الاعين وكلاهما مستوران.

قال في روح المعاني نقلا عن بعضهم (لا منافاة بين كونه جنا وكونه ملكا فإن الجن كما يطلق على ما يقابل الملك يقال على نوع منه على ما روي عن ابن عباس وكانوا خزنة الجنة أو صاغة حليهم. وقيل: صنف من الملائكة لا تراهم الملائكة مثلنا أو أنه يقال للملائكة جن أيضا كما قاله ابن إسحاق لاجتنانهم واستتارهم عن أعين الناس وبذلك فسّر بعضهم قوله تعالى: وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبا).[39]

وقال في تفسير المنار (وَلَيْسَ عِنْدَنَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ بَيْنَ الْمَلَائِكَةِ وَالْجِنِّ فَصْلًا جَوْهَرِيًّا يُمَيِّزُ أَحَدَهُمَا عَنِ الْآخَرِ وَإِنَّمَا هُوَ اخْتِلَافُ أَصْنَافٍ عِنْدَمَا تَخْتَلِفُ أَوْصَافٌ كَمَا تُرْشِدُ إِلَيْهِ الْآيَاتُ فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْجِنَّ صِنْفٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَقَدْ أُطْلِقَ فِي الْقُرْآنِ لَفْظُ الْجِنَّةِ عَلَى الْمَلَائِكَةِ عَلَى رَأْيِ جُمْهُورِ الْمُفَسِّرِينَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى (وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا).[40]

ولكن الآية تدلّ على أنه جنس آخر لانه رتّب عليه الفسق بالفاء فالمعنى أنه حيث كان من الجنّ فسق عن أمر ربّه اي لو كان من الملائكة لم يفسق لأنهم لا يعصون الله ما أمرهم.

وقال الشيخ الطوسي قدس سره في التبيان (إن قوله كان من الجن معناه صار. ذكر ذلك الأخفش وجماعة من اهل اللغة) ومعنى ذلك أنه كان من الملائكة ولمّا عصى ربّه تحوّل جنّيـّا وهذه دعوى غريبة مع أن الآية واضحة في أن فسقه كان مترتبا على كونه من الجنّ.

واما ما استدلوا به على كون الملائكة والجن من جنس واحد وهو قوله تعالى (وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ)[41] كما مر نقله من روح المعاني والمنار فالاستدلال مبني على أن هذه الآية تشير الى زعم المشركين أن الملائكة بنات الله كما هو مذكور في موارد في الكتاب العزيز وقد عبّر عنهم هنا بالجنّة.

قال الزمخشري في تفسير الآية (فان قلت: لم سمّى الملائكة جنة؟ قلت: قالوا الجنس واحد، ولكن من خبث من الجنّ ومَرَد وكان شرا كله فهو شيطان ومن طهر منهم ونسك وكان خيرا كله فهو ملك فذكرهم في هذا الموضع باسم جنسهم وإنما ذكرهم بهذا الاسم وضعا منهم وتقصيرا بهم وإن كانوا معظمين في أنفسهم..).[42]

والصحيح أن النسب ليس بمعنى الانتساب بالولادة قال ابن فارس (النون والسين والباء كلمة واحدة قياسها اتصال شيء بشيء) فالظاهر أن المراد بالنسب اعتقادهم باتصالهم باللّه تعالى وقربهم لديه وكثير من الناس يرون أنّ للجن سلطة غيبية وأنّهم يتصرفون في الكون او في مساحات شاسعة منه بلا منازع وكانوا قديما يراجعون الكهنة للتعرف على الغيب وكان الكهنة يدّعون انّهم انّما تصلهم اخبار الغيب عن طريق الجن كما كانت الجنّة ايضا تدعي أنّها تستقي الأنباء من السماء بل كان جمع من البشر يعوذون ويلجأون الى الجن من كل شرّ كما قال تعالى: (وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا).[43]

والدليل على ذلك قوله تعالى في الآية المذكورة (ولقد علمت الجنة انهم لمحضرون) مع أن الملائكة ليسوا من المحضَرين بل هم المحضِرون (بكسر الضاد) فالمحضَرون لا بدّ لهم من محضِرين يأتون بهم قسرا وقهرا وهم الملائكة الكرام كما قال تعالى (وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ).[44]

ويدلّ عليه ايضا قوله تعالى (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ)[45] فلو كانوا من جنس واحد لم يصح النفي والاستدراك.

وعبادة المشركين للجن قد تكون بمعنى إطاعتهم للشيطان وقد قال تعالى (لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ)[46] والناس لا يعبدون الشيطان الا بالاطاعة وقد تكون بمعنى إيمانهم بالكهنة الذين كانوا يخبرونهم عن الغيب بدعوى تلقّي الأخبار من الشياطين او بمعنى آخر والله العالم.

الوجه الثاني: أن الآيات صريحة في عصمة الملائكة وأنهم لا يعصون الله تعالى فلا يمكن أن يكون رأس العصاة منهم وذلك كقوله تعالى (لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ)[47] وقوله تعالى(وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ)[48] وقوله تعالى (وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ * لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ * وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ).[49]

وربما يستفاد من الآية الاخيرة أنّ الملائكة لهم اختيار وإرادة ويستطيعون العصيان ولكنهم لا يعصون الله تعالى فقوله تعالى (ومن يقل منهم اني إله من دونه) فرض غير متحقق ولكنه معقول نظير قوله تعالى في الرسل (وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).[50] وعليه فالعصمة فيهم ليست بمعنى كونهم مسيرين لا اختيار لهم ولا يصح ما في المنار من أنّ الملائكة ليست الا القوى الداعية الى الخير.

ولكن في بعض التفاسير أنّ الضمير في قوله (منهم) لا يرجع الى الملائكة بل الى سائر الخلائق او الى البشر خاصة. ولكنه بعيد عن السياق.

ويمكن أن يقال إن هذا التعبير لا يدلّ على إمكان تحققه منهم ليدل على الاختيار فإن الغرض منه ليس الا التنديد بمن يعبد الاصنام باعتقاد انها تُمثّل الملائكة وأنها هي أرباب من دون الله تعالى فلا مانع من التوصل الى بيان هذه الحقيقة بعرض غير واقعي بل غير ممكن للاشارة اليها كما في قوله تعالى (وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ)[51] فمن الواضح انه عليه السلام لم يقل ذلك ولكن هذا العرض لتبكيت النصارى والتنديد بهم.

ومثل هذا الخطاب يخاطب به الملائكة ايضا كما قال تعالى (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ)[52] بل والاصنام ايضا كما في قوله تعالى (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ..).[53]

وعليه فيمكن أن يقال في هذه الآية ايضا إنّها لا تنظر الى جهة اختيار الملائكة وعدمه وإنّما القصد من هذا البيان أنّ الملائكة ترفض أن تدعى آلهة حتى لو كان هذا الرفض ناشئا من طبيعتها.

ومع ذلك فلا يمكن القول بأنّ الملائكة لا اختيار لها لان قوله تعالى (اسجدوا) يقتضي اختيارهم والا لم يصح توجيه الامر اليهم.

ويبدو من المنار عدم استبعاد أن تكون الملائكة قوى تدعو الى الخير وقال (وَعَبَّرَ عَنْ تَسْخِيرِ هَذِهِ الْقُوَى لَهُ بِالسُّجُودِ الَّذِي يُفِيدُ مَعْنَى الْخُضُوعِ وَالتَّسْخِيرِ)[54] ومقتضى ذلك أن يكون الامر بالسجود تكوينيا ولو كان كذلك لم تمكن مخالفة ابليس مع أن الامر المتوجه اليه والى الملائكة امر واحد فلا بد من القول بأن الامر تشريعي وهو يتوقف على الاختيار.

وهنا ملاحظة اخرى وهي أن الامر قد لا يكون دائرا بين حالتين لا ثالث لهما وهما الاختيار المطلق والتسيير المطلق فيمكن ان يقال ان الملائكة ليسوا كالآلة مسيرين بل يعملون بالاختيار ولكن الله تعالى لم يجعل في طبيعتهم ما يدعو الى مخالفة امر الله تعالى نهائيا بحيث يستحيل ان تصدر منهم المخالفة.

ومن هنا يتبين الفرق بين عصمة الملائكة وعصمة الانبياء والائمة عليهم السلام فالملائكة وان كانوا يعملون بارادة واختيار الا انهم لا يملكون دواعي الشر والمخالفة فليس فيهم دواعي الغضب والشهوة وحب الذات بل لا يحبون الا الله تعالى واطاعة اوامره واما المعصومون من البشر فهم يحملون كل دواعي الشر والذنب ولكن داعي الخير والحب الالهي وعرفانهم به تعالى يغلب كل الدواعي فلا يحصل منهم الا الطاعة.

ومما يوضح موقف الملائكة من اطاعة امر الله قوله تعالى (وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ)[55] على ما فسره به العلامة الطباطبائي قدس سره واوضحناه في تفسير الاية الكريمة.

ومهما كان فعصمة الملائكة مما لا ريب فيها ووردت في عدة من الروايات ايضا وقد مر بعضها وعليه فلا يمكن أن يكون إبليس منهم.

الوجه الثالث: الروايات التي تدلّ على أنّ ابليس ليس من الملائكة:

منها ما رواه الكليني قدس سره بسنده عن جميل بن دراج قال (سألت أبا عبد الله عليه السلام عن إبليس أكان من الملائكة أم كان يلي شيئا من أمر السماء؟ فقال: لم يكن من الملائكة ولم يكن يلي شيئا من أمر السماء ولا كرامة، فأتيت الطيار فأخبرته بما سمعت فأنكره وقال: وكيف لا يكون من الملائكة؟ والله عز وجل يقول "وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس" فدخل عليه الطيار فسأله وأنا عنده فقال له: جعلت فداك رأيت قوله عز وجل "يا أيها الذين آمنوا" في غير مكان من مخاطبة المؤمنين أيدخل في هذا المنافقون؟ قال: نعم يدخل في هذا المنافقون والضُلّال وكل من أقر بالدعوة الظاهرة).[56] والسند فيه ضعف.

وروى بسند صحيح عن جميل ايضا قال (كان الطيار يقول لي: إبليس ليس من الملائكة وإنما أمرت الملائكة بالسجود لآدم عليه السلام فقال إبليس: لا أسجد، فما لإبليس يعصي حين لم يسجد وليس هو من الملائكة؟ قال فدخلت أنا وهو على أبي عبد الله عليه السلام قال فأحسن والله في المسألة فقال: جعلت فداك أرأيت ما ندب الله عز وجل إليه المؤمنين من قوله "يا أيها الذين آمنوا" أدَخَل في ذلك المنافقون معهم؟ قال: نعم والضُلّال وكل من أقرّ بالدعوة الظاهرة وكان إبليس ممن أقر بالدعوة الظاهرة معهم).[57]

والروايتان تختلفان مضمونا ولكن من الواضح انهما تحكيان عن قضية واحدة والمعتمد النص الثاني لصحة سنده والطيار هو حمزة بن محمد من اصحاب الامام الصادق عليه السلام وقوله في بداية الحديث يحكي عن شبهة عرضت له مع العلم بأنّ إبليس ليس من الملائكة والشبهة من جهة أنّ الحكم لا يشمله لأنّ الخطاب موجّه للملائكة فسأل الامام عليه السلام عن شمول الخطابات الموجّهة بعنوان الذين آمنوا للمنافقين مع أنهم ليسوا منهم وقصد بذلك الإشارة الى هذا الموضوع.

فأجاب عليه السلام بأن الخطاب يشملهم كما يشمل الضُلّال. ولعل المراد بالضُلّال الذين آمنوا واقعا من دون نفاق ولكنهم لم يلتزموا بالاحكام. ثم ذكر المناط في هذه الخطابات وهو كل من أقر بالدعوة الظاهرة وان لم يؤمن بقلبه.

ولم يقل أقرّ ظاهرا بالدعوة فالمعنى أنّ هناك دعوتين مترتبتين من الله تعالى: دعوة ظاهرة يقصد بها الدخول في الدين، ودعوة في الباطن يراد بها تزكية النفس والتحلي بالتقوى ومكارم الاخلاق. وكل من آمن ظاهرا فقد أقرّ بالدعوة الاولى فتشمله الخطابات.

ولكنّ هذا الجواب قد لا يرفع الشبهة عن الطيار لان الشبهة هناك في أن الخطاب للملائكة وابليس ليس منهم وما ذكره الامام عليه السلام يبين أن الخطاب هناك لا يراد به الذين آمنوا قلبا بل في الظاهر فيشمل المنافقين واين هذا من شبهة خطاب الملائكة؟!

والصحيح أنّ هذه الشبهة لا اساس لها وذلك لان الخطاب غير مذكور بالصراحة في النص القرآني ومن الواضح أنه كان يشمل ابليس كما يتبين من الاعتراض عليه من قبله تعالى ومن جواب اللعين خصوصا في قوله تعالى (قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ)[58] فقد صرح فيه بانه تعالى امره وهو ايضا لم يردّ بأن الخطاب لا يشمله بل أتى بالدليل على أنه لا ينبغي ان يسجد لمن هو دونه في الفضل. واما التعبير عن الخطاب بقوله تعالى (واذ قلنا للملائكة اسجدوا لادم) فهو من باب التغليب.

وأما التطبيق الوارد في اخر الحديث من أن ابليس كان ممن أقر بالدعوة الظاهرة فلم يتبين أنه من كلام الامام عليه السلام فربما يكون من تعاليق بعض الرواة اوالمصنفين وهذا يحدث في كثير من ذيول الاحاديث لان المصنفين القدماء لم يلتزموا بالفصل بين اصل الحديث والتعاليق الا في قليل من الموارد.

واما لو فرض كونه منه عليه السلام فيمكن ان يقال ان القصد منه الاشارة الى أنّ المناط في شمول خطابات التكليف الإقرار بالدعوة الظاهرة فمن أقرّ بها تشمله الخطابات وإبليس كان مقرّا بها فتشمله التكاليف وإن لم يكن من جنس الملائكة ومعنى ذلك أن الخطاب لم يكن الى الملائكة بل الى المكلفين او الموجودين في الملأ الاعلى او ان الخطاب وان كان موجها الى الملائكة الا ان التكليف لا يختصّ بهم.

ويستفاد من هذا التعبير لو فرض كونه من الامام عليه السلام أن ابليس لم يكن مؤمنا في الباطن وانما اقر بالدعوة الظاهرة فكان منافقا ويستفاد ذلك ايضا من قوله تعالى (وكان من الكافرين) اي في الباطن وسيأتي البحث عن معنى كفره لعنه الله.

ومهما كان فالحديث يدل بوضوح على أنّه ليس من الملائكة.  

وروى الكليني ايضا بسند معتبر عن داود بن فرقد عن أبي عبد الله عليه السلام قال (إنّ الملائكة كانوا يحسبون أنّ إبليس منهم وكان في علم الله أنه ليس منهم فاستخرج ما في نفسه بالحميّة والغضب فقال: خلقتني من نار وخلقته من طين).[59]

وهذه الرواية أوضح من السابقة في نفي كونه منهم.

ومهما كان فان الكلام هنا في أن أمر ابليس بالسجود لآدم عليه السلام رمز لأيّ شيء اذا صح ما احتملناه من أنّ أمر الملائكة بالسجود ربما يكون رمزا لموافقتهم مع ما يريد الانسان أن يفعله وتنفيذهم لارادته؟

لا يبعد أن يكون امره بالسجود رمزا لمنعه من التعرض للانسان بالوسوسة والتضليل وكان في علمه تعالى أنّه من تولاه فانه يضله. وإباؤه عن السجود رمز لعدم مصونية الانسان من تضليل الشيطان.

وعليه فالغرض من هذا العرض تنبيه الانسان على أن هذا الموجود المستور الذي يرانا هو وقبيله من حيث لا نراهم قد عزم على إضلالنا وأن مبدأ هذا العزم يوم اُمر بالسجود فأبى واستكبر.  

والإباء هو الامتناع كما في الصحاح ومعجم المقاييس او شدة الامتناع كما في مفردات الراغب ولا تبعد صحته بلحاظ موارد الاستعمال.

والاستكبار والتكبر واحد وهو أن يعتبر الشخص نفسه أكبر من غيره. فان صيغة الاستفعال لطلب الشيء ومعناه هنا انه يطلب لنفسه الكبر والعظمة وليس له ذلك. وصيغة التفعل بمعنى التلبس بالصفة اي تلبس بصفة الكبر وانه اكبر واعظم من غيره. فكلاهما يفيدان معنى واحدا. وهو هنا متمثل في اعتبار ابليس نفسه أكبر واعظم من آدم عليه السلام فلا ينبغي ان يسجد له وهو بذلك كفر بالله لانه اعتبر أن الله تعالى يجهل ما تقتضيه الحكمة.

ولذلك يقال ان قوله تعالى (كان من الكافرين) بمعنى (صار) اي انه اصبح كافرا بهذا الاباء والاستكبار فالوجه فيه الاعتقاد بأن الله تعالى خفي عليه ما تقتضيه الحكمة والا فاصل الاباء عن الامتثال لا يوجب كفرا.

ويلاحظ هنا أنّ الكفر قد يصدق مع الاعتراف بالربوبية فان ابليس كان يعترف بالرب بل يعبده ويطيعه قبل ذلك على ما يقال كما مر في الخطبة القاصعة وان كانت صحيحة جميل التي نقلناها تدل على نفاقه بناءا على أن قوله (وكان إبليس ممن أقر بالدعوة الظاهرة معهم) من تتمة الحديث.

ولو ابقينا قوله تعالى (وكان من الكافرين) على ظاهره ولم نأوله بأن الكون بمعنى الصيرورة فيمكن ان يستفاد منه ما يؤيد نفاقه لانه يدل على أنه كان كافرا قبل إبائه.

ومهما كان فانه كان معترفا بربوبيته تعالى في الظاهر على الاقل ولكنه في هذا المقام استكبر وطغى وعصى أمر ربه نتيجة مقارنته بين معدنه ومعدن الانسان حيث وجد نفسه اشرف منه لانه مخلوق من النار وهي في رأيه أشرف من الطين الذي خلق منه الانسان.

وهكذا أصبح إبليس امام المستكبرين في الكون وأصبح مثلا للاستكبار والطغيان بوجه الحق. ومن هنا فان الانسان الذي يقيس أحكام اللّه تعالى بعقله واذا لم يعلم فيها وجه الحكمة رفض التسليم والقبول يتبع ابليس بتمام معنى الكلمة وان كان في الظاهر مسلما مؤمنا.

وهذا ما نجده - مع الاسف - في كثير من المؤمنين المصلّين فاذا لم يعجبهم حكم من احكام الله تعالى حتى لو كان من صريح القرآن لم يتورّعوا من التنديد به ورفضه وقد اعتبر هذا الامر هنا كفرا حتى لو كان الانسان معترفا بالربوبية المطلقة.

ثم إن المذكور في موارد اخرى من نقل هذه القصة او العرض مخاطبات بين الرب الجليل وهذا المخلوق الحقير ولم يتعرض لها السياق هنا ففي بعضها الاعتراض عليه بعدم اطاعته لربه من دون اشارة الى وجه الحكمة وهو قوله تعالى (مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ..)[60] وفي بعضها وردت الاشارة الى الحكمة وهو قوله تعالى (قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ..).[61]

والظاهر أنّ التعبير عن آدم عليه السلام بقوله تعالى (لما خلقت بيديّ) للاشارة الى شرافته وامتياز خلقه وأنّه انما يستحقّ السجود لانّ اللّه تعالى خلقه بيديه. وهذا كناية عن مزيد الاهتمام والعناية به كما في قوله تعالى خطابا لموسى عليه السلام (وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي).[62]

ومسوّغ الكناية هنا أنّ الانسان اذا اهتمّ بشأن ما يصنعه او يصلحه استعمل يديه معا فأصبح التعبير باستعمال اليدين كناية عن مزيد الاهتمام بالشيء.

ويمكن ان يكون التعبير كناية عن تركّب خلقه من إنشاءين كما قال تعالى (ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ)[63] والظاهر أنه اشارة الى نفخ الروح الالهية فيه كما قال تعالى (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي)[64] ممّا يدلّ على انّه خلق في مرحلتين: مرحلة التكوّن الطبيعي وهو الخلق من الطين ومرحلة نفخ الروح الكريمة المتشرفة وهو في هذه المرحلة اشرف من حيث الخلق والذات من غيره كما قال تعالى (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ).[65]

كما أنّ التعبير بضمير المتكلم المفرد يتضمن الاشارة الى عناية اخرى فكأنّه تعالى بنفسه باشر خلق الانسان من دون واسطة بخلاف ما ورد في مثل قوله تعالى (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدينا أَنْعاما..)[66] فان ضمير الجمع ربما يحكي عن أن الخلق تمّ في إطار العوامل الطبيعية وأما خلق روح الانسان فكان من اللّه تعالى مباشرة ولعله لذلك أضافه الى نفسه كما في الآية المذكورة آنفا.

والحاصل أن هذا الاستجواب لا يبعد أن يكون ردّا على ما سيجيب به ابليس قبل ان يجيب باعتبار ان نفخ الروح الالهية هو الذي استوجب كونه اشرف من غيره وان كان خلقه من طين فلا وجه لمقايسة الطين بالنار.

 


[1] الحجر: 29  /  ص: 72

[2] طه: 116 - 117

[3] الاعراف: 11

[4] الاعراف: 18 - 19

[5] الاعراف: 11

[6] الحجر: 29  /  ص: 72

[7] الاعراف: 172

[8] الكافي ج1 ص440 باب مولد النبي صلى الله عليه وآله وسلم

[9] تهذيب الاحكام ج6 ص 98 باب زيارة جامعة...

[10] الحاقة: 11

[11] علل الشرايع ج1 ص6

[12] وسائل الشيعة ج6 ص388 باب عدم جواز السجود لغير الله 27 من ابواب السجود

[13] الاعراف: 11

[14] الحجر: 29- 33

[15] ص: 72- 76

[16] يوسف: 4

[17] البيان في تفسير القران ص474

[18] البقرة: 58 / النساء: 154 / الاعراف: 161

[19] النحل: 49

[20] النازعات: 5

[21] الحجر: 30 / ص: 73

[22] الحجر : 32

[23] مجمع البيان ج1 ص190

[24] مجمع البيان ج1 ص 192

[25] المنار ج1 ص 228

[26] ص: 69

[27] الاعراف : 13

[28] نهج البلاغة خ 192

[29] شرح النهج لابن ابي الحديد ج13 ص 132

[30] منهاج البراعة ج 11 ص 278

[31] بحار الانوار ج60 ص 215

[32] تفسير القمي ج1 ص 36

[33] الكافي ج4 ص 198 باب ابتلاء الخلق واختبارهم بالكعبة

[34] مصادر نهج البلاغة واسانيده ص 46

[35] شرح ابن ميثم ج4 ص 247

[36] منها ما في الكافي بسنده عن ابي عبد الله عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: إن على كل حق حقيقة وعلى كل صواب نورا فما وافق كتاب الله فخذوه وما خالف كتاب الله فدعوه .

[37] ص: 69

[38] الكهف: 50

[39] روح المعاني ج1 ص 231

[40] المنار ج1 ص 221 على ما في المكتبة الشاملة

[41] الصافات: 158

[42] الكشاف ج4 ص 64

[43] الجن: 6

[44] ق: 21

[45] سبأ: 40 - 41

[46] يس: 60

[47] التحريم: 6

[48] الانبياء: 19

[49] الانبياء: 26 - 29

[50] الزمر: 65

[51] المائدة: 116

[52] سبأ: 40 - 41

[53] الفرقان: 17 - 18

[54] المنار ج1 ص224 على ما في المكتبة الشاملة

[55] سبأ: 23

[56] الكافي ج8 ص 274

[57] الكافي ج2 ص 412 باب ذكر المنافقين والضلال

[58] الاعراف: 12

[59] الكافي ج2 ص 308 باب العصبية

[60] الاعراف: 12

[61] ص : 75

[62] طه: 39

[63] المؤمنون: 14

[64] الحجر: 29 / ص: 72

[65] التين: 4

[66] يس: 71<