مكتب سماحة السيد مرتضى المهري

الخطاب مستمر مع بني اسرائيل ومن هنا والى مجموعة كبيرة من الآيات يعدّ عليهم النعم الالهية التي انزلها الله تعالى على اسلافهم ويذكّرهم بها.

 

وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ...

الجملة معطوفة على (نعمتي) المذكورة قبل آيتين في قوله تعالى (اذكروا نعمتي) اي واذكروا اذ نجّيناكم.. والاية ليست بصدد بيان قصة موسى عليه السلام بل بصدد تذكيرهم بالنعم الجسيمة التي خصّهم الله بها فمنها انه تعالى نجّاهم من قوم فرعون حيث كانوا يظلمونهم ويستعبدونهم وابتدأ بذكر هذه النعمة لانها مبدأ سائر النعم التي أتت بعدها ولِما كانوا يشعرون به من المرارة اذا تذكّروا استعباد فرعون لهم.

والنجاة: الخلاص من الشيء كما قال ابن سيدة. ويقال ان الاصل في معناه الانفصال عن الشيء فاذا كشط الجلد عن الحيوان يقول انجيته اي الجلد.

وهناك بحث في اللغة في كون الآل من الاهل لان تصغيره اهيل او من الاول بمعنى الرجوع كما في معجم المقاييس فانه يطلق على اهل الرجل لانه يرجع اليهم. والدليل على ذلك اختلاف موارد الاستعمال بين الاهل والآل فلا يقال آل المدينة مثلا او آل التقوى ويصح الاهل فيدل على اختلاف المعنيين.

كما أنّ هناك بحثا في ان كلمة (آل) هل تضاف الى كل احد او الى خصوص اصحاب الجاه في الدنيا وكذلك في حدود مدلوله فقيل انه خاصة الرجل او اهله او عشيرته وقال ابن سيدة آل الملك رعيته.

ولا يبعد ان يكون الاخير صحيحا في هذا المورد خاصة وكأنه مما يختلف معناه باختلاف المضاف اليه فلا يبعد ان يكون المراد بهم في ما اذا اضيف الى ملك كل الرعية بقرينة قوله تعالى (وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ)[1]  ومن الواضح أن انواع العذاب والآيات كانت تنزل على جميع اهل المدينة وعلى كل حال فالمراد هنا بقرينة السياق كل أتباعه وهم الاقباط.

ومهما كان فان بني اسرائيل بعد ان سكنوا مصر لمجيء ابيهم يعقوب عليه السلام اليها وذلك بعد ان تعاظم شأن سيدنا يوسف عليه السلام في سدة الحكم في مصر بقوا هناك قرونا وتكاثر نسلهم واصبح بينهم وبين الاقباط وهم السكان الاصليون اختلاف شديد كما هو طبيعي في هذه الحالات فراى الاقباط ان هؤلاء مسيطرون على كثير من خيراتهم ومن جهة اخرى كان بنو اسرائيل باقين على دين آبائهم ويرفضون الخضوع لديانة القبط وثقافتهم مضافا الى التنازع في الامور الاقتصادية وبذلك وقع بينهم عداء عميق ونفور شديد.

واضيف الى ذلك على ما يقال ان الكهنة اخبروا فرعون مصر بان هؤلاء سياخذون منه الحكم ويخرجونه من ملكه فامر بان يقتل كل ذكر يولد فيهم وتبقى البنات ليستخدموهن في البيوت وربما يكون هذا التحذير مكيدة من الكهنة او غيرهم لإغراء فرعون بان يبيد بني اسرائيل. وهكذا الانسان اذا اخبر بما يكمنه له القضاء الحتم سواء كان حقا وباخبار من نبي مثلا او كان من اباطيل الكهنة او الاحلام فانه يحاول ان يقاوم القضاء بكل ما اُوتي من قوة.

و(فرعون) على ما هو المعروف اسم يطلق على مجموعة من ملوك مصر القدماء وفي التفاسير والتاريخ العربي يذكر لهذا الرجل اسم عربي يقال انه الوليد بن مصعب بن الريان وهذا لا اصل له لانه لم يكن من العرب.

وانما نسب الفعل الى آل فرعون دون شخصه مع انه هو الآمر للاشارة الى عمومية البلاء فلو كان ذلك مقتصرا على من يقع في يد الشرطة مثلا لكان البلاء أهون ولكن اذا باشره كل اتباعه فالامر أشقّ.

والسوم لا يبعد ان يكون اصله من سام السلعة اذا طلبها فقام بالسؤال عن سعرها اي يطلبون لكم العذاب ولا مانع من كون (يطلبونكم) بمعنى يطلبون لكم نظير قوله تعالى (يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ)[2] اي يبغون لكم. ومن السوم سامت الماشية اي طلبت المرعى فهي سائمة. ولكن قال في العين (والسوم ان تُجشّم انسانا مشقة وخُطّة من الشر) ومثله تقريبا في الجمهرة. والفعل المضارع يدل على الاستمرار وانه لم يكن بلاءا موقتا.

وسوء العذاب تاكيد فان العذاب سيّء بنفسه فاذا وصف بالسوء دلّ على غاية الشدة وهو كذلك. ولذلك عقّبه بأنّ في ذلك بلاءا عظيما من ربهم.

وباب التفعيل في قوله (يذبّحون) للمبالغة بمعنى أنّهم كانوا يتتبّعونهم في كل مكان لقتل رجالهم او المواليد الذكور خاصة كما هو الظاهر واستحياء النساء بمعنى إبقائهن احياء لاستخدامهن ولانهن لا يشكلن خطرا على المجتمع في ذلك العصر.

وقوله (يذبّحون) بدل عن يسومونكم ولذلك لم تأت الجملة بالعطف فهي تفسر السوم. ويحتمل ان تكون مستانفة وتدل على عذاب آخر ويشهد لذلك ورود حرف العطف في قوله تعالى (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ).[3]

وعليه فسوء العذاب كان امرا اخر ويقال انهم كانوا يستخدمون رجالهم في الاعمال الشاقة كبناء الاهرام فيموتون بذلك وبقتل المواليد الذكور يقضون عليهم تماما هكذا كانت خُطّتهم الخبيثة.

ويشهد له ايضا انه لم يقابل الابناء بالبنات في جميع موارد ذكر هذا البلاء مما يدل على انهم كانوا يقتلون المواليد الذكور ويبقون على النساء والبنات والرجال. 

والبلاء بمعنى الامتحان وكل ما يقع في هذه الحياة من خير وشر فهو بلاء من الله تعالى أما أنّه بلاء فلأن الانسان يمتحن به من جهة رد فعله تجاهه قال تعالى (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً)[4] وأمّا أنه من الله تعالى وان كان الذي يفعله انسان ظالم فلأنّ كل شيء يرجع اليه ولو كان الله تعالى يريد ان يدفع عنهم البلاء لم يتمكن احد من إذلالهم فلولا انه تعالى أذن في ذلك لم يتحقق. 

والظاهر ان البلاء في مجموع الامرين او الامور اي إذلال الرجال واستعبادهم وتكليفهم الاعمال الشاقة وقتل الابناء واستحياء النساء ولعل في إبقائهن واستخدامهن اكبر اهانة واذلال لهم. ولذلك اعتبر عمله هذا من الافساد في الارض في قوله تعالى (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ).[5]

ويمكن ان تكون الاشارة في قوله (وفي ذلكم) الى سوم العذاب والانجاء معا فيكون احدهما بلاءا لكونه مصيبة والاخر لكونه نعمة والثاني ألصق بالمخاطبين فان النعمة شملتهم ولولا إنجاء الآباء ما كانوا يعيشون في هذه النعمة.

ويبدو من بعض الآيات ان البلاء المذكور كان مستمرا حتى بعد ان بعث الله موسى عليه السلام رسولا الى فرعون وبعد ان تمكّن من فرض شيء من القوّة على فرعون وملئه بسبب المعجزات والآيات والعذاب النازل عليهم وذلك في قوله تعالى (وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ)[6] 

ومن هنا اعترض قوم موسى عليه السلام على نشاطه واظهروا انه لم يتمكن من إنقاذهم كما قال تعالى (قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ).[7]

 

وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ...

الفرق: الفصل. وفرق الشيء اي قسمه الى قسمين او اكثر. والباء في قوله بكم للملابسة كما تقول جاء به او ذهب به وحيث انهم بهذا التفريق عبروا البحر فضُمّن الفرق معنى العبور وتعدّى بالباء كانه قال وفرقنا البحر وعبرنا بكم البحر فهذا التعبير من لطيف الايجاز.

ونظيره قوله تعالى (خَلَصُوا نَجِيًّا)[8] حيث بيّن بهاتين الكلمتين انهم تخلّصوا من محادثة يوسف عليه السلام وتناجوا فيما بينهم.

وبهذه الجملة بيّن المراد بالانجاء في الاية السابقة بالتفصيل حيث انه تعالى امرهم بالخروج ليلا ومن الواضح ان فرعون سيتبعهم وليس لهم طريق للفرار ووصل موسى عليه السلام واصحابه الى البحر فلم يكن لهم طريق ورأوا فرعون وقومه يلحقونهم كما قال تعالى (فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ).[9]

ولكنه عليه السلام حيث خرج بامر ربه كان يعلم انه سيفتح له الطريق (قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ)[10] فامره الله تعالى بضرب العصا فانفلق البحر وتجاوزه موسى وقومه وتعقّبهم فرعون وجنوده فاغرقهم الله وأهلكهم بايديهم فكانوا كالباحث عن حتفه بظلفه. وهكذا كيده تعالى ومكره بالظالمين (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ).[11]

والمراد بالبحر البحر الاحمر وقال بعض المفسرين ان المراد به النيل وانه يطلق عليه البحر لسعته وهو خطأ فان قوله تعالى (فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ)[12] يدل على انه كان بحرا لان النهر اذا انفلق فان جانبا منه يرتفع الماء ويفيض والجانب الاخر يجري الماء ولا يبقى ليكون كالطود العظيم.

وقوله (وانتم تنظرون) جملة حالية والمراد انهم كانوا ينظرون الى قوم فرعون حال غرقهم وفي ذلك شفاء لما في صدورهم من الحقد عليهم وهذه نعمة اخرى.

 

وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ...

ومن أسوأ الايام التي اتت على بني اسرائيل ومما لا يمكن ان ينسى في تاريخ هذا القوم اتّخاذهم العجل الها فهي وصمة عار في جبينهم الى الابد وهذه الاية تذكّرهم بها وتذكّرهم بما انعم الله به عليهم قبله من مواعدة نبيهم موسى عليه السلام وتشريفهم بانزال التوراة وشريعة السماء وما أنعم عليهم بعده من العفو عن ذنبهم العظيم.

والمفروض ان يعتبر هذا اليوم اي يوم نزول التوراة اعظم يوم في تاريخهم حيث تحقق لهم اعلى المجد واعطاهم الله وسام الرفعة بذلك وفضّلهم بها على جميع العالمين من فجر البشرية الى زمانهم حيث لم ينزل قبل التوراة شريعة وأحكام تضمن سلامة المجتمع وحقوقها بهذا التفصيل. ولكنهم بعبادتهم للعجل أبدلوا هذا اليوم الى يوم عار وشنار.

 والمواعدة وان كانت من باب المفاعلة الا ان الفعل هنا من طرف واحد اي وعدنا موسى وقرئ ايضا (وعدنا) ومثله سافر وهاجر فالمفاعلة ليست دائما تفيد كون الفعل من الطرفين مضافا الى انه يمكن ان يعتبر الفعل هنا بين طرفين ايضا باعتبار انه تعالى وعد موسى وعلم موسى به فكأنه وعد بالاستجابة.

والموعد كان زمانا خاصا والكلام في انه لماذا عبّر عنه باربعين ليلة دون اليوم يمكن ان يكون الوجه ان الليل اول المجموعة عند العرب ويمكن ان يكون الموعد خاصا بالليل بان امره الله تعالى ان يحضر لمناجاته ليلا لكونه انسب للمناجاة مع الله تعالى. وفي التوراة الحاضرة انه كان اربعين يوما واربعين ليلة ومهما كان فالظاهر انه موعد للمناجاة ليتهيأ الرسول لتلقّي الوحي والتشريع الالهي.

وقد ورد ذكر هذا الموعد في قوله تعالى (وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً..).[13]

وهناك بحث في وجه هذا الاتمام ولماذا لم يقل من البدو انه اربعين والظاهر انه لابتلاء بني اسرائيل وامتحانهم فلو كان الموعد اربعين من اول الامر ربما لم يتمكن السامري من ترويج عجله للعبادة ولكن الموعد كان في بدء الامر ثلاثين ثم اضاف الله اليه عشرا ليلقي في قومه الشبهة بانه لن يرجع اليهم وهنا يكمن الامتحان فان الامة يجب ان تسير على نهج الرسول حتى لو مات او قتل كما قال تعالى (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ..).[14]

واما بنو اسرائيل فقد خسروا الامتحان فقالوا ان موسى لن يرجع واتخذوا العجل وتبين أنهم كانوا يعبدون الله بمتابعة النبي بل الامير الذي أنجاهم من فرعون لا للاعتقاد بالله ولزوم عبادته وهذا لا يفيد في تربية الانسان فكان لا بد من هذا الامتحان ليتبين المؤمن بالله تعالى وليعلموا ما هو الصحيح.

والمسلمون ايضا انقلبوا على اعقابهم بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ولم يسيروا على النهج الذي رسمه الله لهم كما ورد التنبؤ به في الآية الآنفة الذكر وتبين أن كثيرا منهم ربما كانوا يعملون بوظائفهم تبعا للنظام الاجتماعي المفروض عليهم من قبل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لا لأنّه رسول الله وما يأمر به حكم من الله تعالى.

ومهما كان فان بني اسرائيل عبدوا العجل بعد ان تاخر موسى عليه السلام حيث اعلن لهم ان موعده ثلاثين ليلة فلم يرجع فجاءهم السامري بالعجل (فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ)[15] (فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي).[16]

و(ثم) في قوله (ثم اتخذتم العجل من بعده) للتراخي اي اتخذتم العجل بعد ذهاب موسى لميعاد ربه والاتيان بهذا التراخي يفيد معنى اخر وهو الاستغراب من فعلهم اي مع انه تعالى واعد رسولكم لارسال التوراة والشريعة لكم مع ذلك اتخذتم العجل. والمفعول الثاني للاتخاذ محذوف اي اتخذتموه الها وقوله (من بعده) اي من بعد موسى اي بعد ان غاب عنكم.

والسبب فيه كما مر انه زاد على موعده عشرة ايام فظنوا انه لن يرجع اليهم وهم كانوا قبل ذلك ايضا يتوقون الى اله يرونه امامهم ويعبدونه ولذلك طلبوا من موسى في اول مسيرتهم ان يجعل لهم الها قال تعالى (وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ * إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ)[17] وهكذا طبيعة الجهلة من الناس فانهم ينظرون الى غيرهم ويعجبهم شأنهم.

والواقع ان بني اسرائيل كانوا مضطهدين طيلة قرون تحت سلطة الاقباط لا يملكون ثقافة ولا نفسية قوية تؤهلهم لحمل رسالة السماء والله تعالى اراد ان يجعل منهم قوما مؤهلين لهذه المهمة فكان من الضروري ان يمرّوا بهذه الفتن الصعبة ليستعيدوا شخصيتهم ويربّوا نفوسهم.

وقوله (وانتم ظالمون) جملة حالية اي اتخذتم العجل والحال انكم تظلمون بذلك لانه شرك والشرك ظلم عظيم وقد قلنا مرارا ان الظلم لا يحتاج في صدقه الى مظلوم بل قد يكون لازما لان الظلم بمعنى العمل المخالف للحق ووضع الشيء في غير محله وان لم يتعلق باحد ويمكن ان يعتبر ذلك ظلما لانفسهم كما ورد في خطاب موسى عليه السلام لهم وسياتي. وفي هذا التعبير اشارة الى انهم كانوا يعلمون عظم جرمهم فلم يكن ذلك عن غفلة او جهل.

 

ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ...

(ثم) هنا ايضا للتراخي ولعلها تشير الى نفس المعنى ايضا اي مع انكم بذلك لا تستحقون العفو بل تستحقون العذاب الشديد ولكنا عفونا عنكم. وهذه الآية مكملة للآية السابقة وليست مستقلة بمعنى ان الآيتين معا تشيران الى نعمة واحدة والنعمة مذكورة في هذه الاية. وأما الاية السابقة فتشير الى الظرف الخاص التي تجعل من العفو هنا نعمة عظيمة.

واختلفت كلمات اللغويين في معنى العفو والاكثر على انه بمعنى الترك والظاهر انه الصحيح ولكن في المفردات انه بمعنى القصد لتناول الشيء وان العفو عن الجاني بمعنى قصد ازالة الذنب عنه. وهو تأويل بعيد.

واذا كان بمعنى الترك فمعنى الاية انا تركناكم ولم نعذبكم ولا يدل على الغفران ولا على ازالة الذنب كما قال الراغب. وكثيرا ما يمرّ الانسان على من يسبه او يعتدي عليه مرّ الكرام فهذا عفو وليس معناه الرضا عنه ولا التجاوز عنه بل لعله ينتقم منه ان سنحت له الفرصة فمجرد تركه ولو لمدة يعتبر عفوا.

والذي حصل لبني اسرائيل هو هذا الامر فان الله تعالى لم يغفر لهم هذا الذنب بل بعد توبتهم ايضا لم يقبل التوبة وانما اشترط عليهم شرطا صعبا وشديدا لقبول التوبة كما سيأتي في الآيات التالية وذلك لعظم هذا الذنب وهذا الارتداد بعد كل هذه المعاجز والآيات التي رأوها باعينهم وبعد كل هذه النعم التي أنعمها عليهم من فلق البحر وإجراء الماء من الحجر وغير ذلك.

ويبدو من الاية انهم كانوا يستحقون عذابا عاجلا من الله تعالى ولكنه عفا عنهم بمعنى انه تركهم ليشكروا ربهم على هذا العفو ومعناه ان الغرض من هذا العفو فتح المجال امامهم ليشكروا نعمه تعالى وتقبل توبتهم.

 

وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ...

وهذه ايضا من اعظم نعمه تعالى عليهم ولكنه أخّر ذكرها عما سبق لتأخره زمانا ولان ما سبق يهيء الارضية الصالحة لنزول هذه النعمة.

والمراد بالكتاب التوراة كما هو واضح والفرقان مصدر بمعنى الفرق ويطلق للمبالغة على ما يفرق بين الحق والباطل ومن هنا سمي القران فرقانا قال تعالى (تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا).[18]

ولعل المراد به هنا الايات الواضحة والمعاجز الباهرة التي ظهرت على يده عليه السلام بحيث اخاف طاغوتا كفرعون فهذه المعاجز كانت توضح الطريق وتثبت بوضوح ان موسى رسول من عند الله تعالى والواقع ان بني اسرائيل كانوا في غاية التخلف الذي نشأ من استعبادهم والا لم يتوقفوا عن تطبيق كل ما يامرهم به نبيهم العظيم سلام الله عليه.

وقوله (لعلكم تهتدون) يبين ان الهدف من ارسال الرسل وانزال الكتب والايات والمعجزات هو هداية الخلق وفي هذا التعبير لطف ورحمة بالعباد. وبالاتيان بكلمة (لعل) يظهر ان الغرض هو تهيئة الارضية الصالحة لهدايتهم واتمام الحجة عليهم فان لم يستجيبوا فليس ذلك الا لتقصير منهم. وليست (لعل) للترجي كما يقال.

 

وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ...

ذكر لنعمة اخرى عليهم وعلى أسلافهم وهي قبول توبتهم بعد عبادتهم للعجل وعدم معاقبتهم على ما فعلوه في الآخرة وهو المهم للانسان المؤمن فهذا امر آخر غير العفو المذكور في الآية السابقة فانه كما قلنا عفو عن التعجيل في انزال العذاب الدنيوي عليهم مما لا يبقي مجالا لتوبتهم ولكن التوبة لا تقبل دائما الا بشروط فقد يجب تقديم النفس للقصاص او دفع الكفارة او القضاء او اداء الدين او رد المظالم او الاسترضاء ونحو ذلك.

ولكن الذنب هنا عظيم جدا فعبادتهم للعجل ليست كعبادة المشركين للاصنام فان الذي تربى في بيت يعبد فيه الصنم لا يقاس بمن كان من اولاد الانبياء وكان بينهم رسول الله بل جمع من الصالحين ومنهم من هو نبي كهارون عليه السلام وراوا بام اعينهم تلك المعجزات العظيمة والآيات الباهرة وانعم الله عليهم بتلك النعم الجسيمة التي اختصهم بها ولم يكن لها نظير في سائر الامم فمثل هذا القوم لا يتوقع منهم ان يرتدّوا ولا يقبل منهم اي عذر.

ومن هنا اخبرهم موسى عليه السلام بامر من الله تعالى ان قبول توبتهم له شرط شديد عليهم وهو القتل ومقدمة لذلك ندد بفعلهم وقال انكم ظلمتم انفسكم لكي ينتبهوا بان ما فعلوه لا يضر الله شيئا وهو غني عن عبادتهم وانما يضرون انفسهم ولعله يستوجب ان يصرف الله عنهم هذه النعم وهذا التفضيل حيث اختارهم امة تحمل رسالة السماء الى البشرية فالله تعالى قادر على ان يهلكهم ويستبدل بهم قوما خيرا منهم.

ثم امرهم بالتوبة الى الله تعالى اي الرجوع الى عبادته والتضرع لديه ليغفر لهم ولم يعبر عنه تعالى بالاسم بل بوصف خاص وهو البارئ وهناك اختلاف في كتب اللغة في معنى البرء فالاكثر على انه بمعنى الخلق وتبعهم المفسرون ولكن العسكري في فروق اللغة فرق بينهما بقوله (البرء تمييز الصورة وقولهم برأ الله الخلق اي ميّز صورهم واصله القطع ومنه البراءة وهي قطع العلقة وبرئت من المرض كأنه انقطعت اسبابه عنك..).

وهذه الصفة من الصفات الحسنى وردت في ثلاث موارد في الكتاب العزيز ففي هذه الاية تكررت مرتين ووردت ايضا في اخر سوة الحشر ضمن مجموعة من الاسماء والصفات الحسنى واذا صح تفسير البرء بالتمييز كما في المفردات والكشاف فان ذكر هذا الوصف – كما قلنا في تفسير سورة الحشر – للدلالة على انه تعالى خلق كل موجود بعينه مميزا عن غيره بخلاف الخلق فانه يدل على ايجاد كل الكون.

ولعل ذكر هذا الوصف لدفع توهم أن الله تعالى خالق اصل الكون بصورة اجمالية واما التفاصيل والجزئيات فليست من صنعه فهناك من يسند صنعها الى ارباب اخرى وهناك من يسنده الى القوانين الطبيعية.

ولعل تكرارها هنا للتاكيد على هذه الصفة في المقام باعتبار انه تعالى ميّز هذا القوم عن غيرهم ولذلك اضافها اليهم بقوله (بارئكم) وهذا التاكيد والتخصيص لحثّهم على التسليم لامره تعالى في هذا الامتحان الصعب وهو ان يقتلوا انفسهم لتقبل توبتهم.

واختلف في المراد بقتل النفس فهناك من يأوله باذلالها ويستبعد ان يكون بالمعنى المعروف وهو بعيد عن اللفظ ولا وجه لهذا التعبير المجازي البعيد في مثل المقام وان صح في الشعر ونحوه.

وقيل المراد ان يقتل بعضهم بعضا من دون تمييز ويقال انهم في ليلة ظلماء اخذوا السيوف والسكاكين وقتلوا جمعا غفيرا منهم فقيل قتلوا سبعين الفا وقيل ثلاثين الفا ويقال ان في التوراة انهم قتلوا ثلاثة الاف. وقيل المراد ان يُقتل الذين عبدوا العجل فقط وقيل ان يقتلوا هم انفسهم.

وربما يستبعد الحمل على قتل بعضهم وهم الذين عبدوا العجل خاصة باعتبار انه امر بقتل انفسهم فلا بد من الحمل على ان يقتل كل احد نفسه او يقتل بعضهم بعضا من دون تمييز.

ولكن الصحيح انه لا مانع من التعبير بقتل النفس مع انه واقع على بعض اخر منهم كما في قوله تعالى (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ * ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ..)[19] ولا شك ان المراد سفك بعضهم دماء بعض اخر وكذلك في اخراج النفوس وقتلها.

وهناك روايات عامية في هذا الباب ولم اجد رواية عن طرقنا ولو ضعيفة ورواياتهم في هذا الموضوع ايضا لا تتصل الى المعصوم الا ما رواه في الدر المنثور قال (وأخرج ابن أبي حاتم عن علي قال قالوا يا موسى ما توبتنا قال يقتل بعضكم بعضا فأخذوا السكاكين فجعل الرجل يقتل أخاه وأباه وابنه والله لا يبالي من قتل حتى قتل منهم سبعون ألفا فأوحى الله إلى موسى مرهم فليرفعوا أيديهم وقد غفر لمن قتل وتيب على من بقي).

ومهما كان فالذي يظهر من الاية ان الذنب ان كان من المجتمع فالتوبة تحتاج الى عمل جماعي وتضرع من الجميع واذا كان بهذه العظمة فقبول التوبة يتوقف على امتحان صعب وبنو اسرائيل أدوا هذا الامتحان بجدارة فقتلوا جمعا كثيرا بايّ طريقة فرضت عليهم وقبل الله توبتهم وعفا عن الباقين.

وقوله فتاب عليكم اي رجع عليكم بالمغفرة والرحمة وهذه الجملة ليست من كلام موسى عليه السلام بل هي معطوفة على قوله (قال موسى) وفي الكلام حذف وتقدير اي قال موسى كذا فقتلتم انفسكم فتاب عليكم.

انه هو التواب اي كثير التوبة والرجوع على عباده بالمغفرة. وهو الرحيم فحسب ليس غيره فان رحمته وسعت كل شيء وسبقت غضبه. وهذا لا ينافي امتحانه للشعوب التي يريد لها ان تحمل رسالة السماء فلا بد لمثل هذا الشعب ان يبدي ميزة على الاخرين ليكون جديرا بحمل الرسالة.  

 


[1] الاعراف: 130

[2] التوبة : 47

[3] ابراهيم: 6

[4] الانبياء : 35

[5] القصص: 4

[6] الاعراف: 127

[7] الاعراف 129

[8] يوسف : 80

[9] الشعراء : 61

[10] الشعراء : 62

[11] ال عمران: 54

[12] الشعراء: 63

[13] الاعراف: 142

 

[14] ال عمران : 144

[15] طه : 88

[16] طه 86

[17] الاعراف: 138 – 140

[18] الفرقان: 1

[19] البقرة: 84 – 85