مكتب سماحة السيد مرتضى المهري

وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ...

وهذه نعمة اخرى من النعم الالهية الخاصة ببني اسرائيل وهو انهم بعد تعنتهم وكفرهم اهلكهم الله ثم بعثهم احياءا بدعاء سيدنا موسى عليه السلام كما ورد في الآية التالية.

وإجمال هذه القصة على ما يبدو من مجموع الآيات الكريمة التي سنذكرها فيما يلي – ان شاء الله – هو أن موسى عليه السلام بعد أن استقر مع قومه اعلن لهم أنه سيخرج لموعد بينه وبين ربه لتلقي التوراة كتابا من الله تعالى فيه الشريعة الالهية المطهرة وطلب القوم منه ان يأخذ معه جمعا من مشايخ القوم وصلحائهم.

واختار موسى عليه السلام من بينهم سبعين رجلا لميقاته ولما حضروا رفضوا ان يؤمنوا بما يخبرهم موسى عن ربه الا ان يريهم الله تعالى جهارا فطلب موسى ذلك من ربه استجابة لرغبتهم فجاء الجواب ان ذلك غير ممكن وتجلى الله تعالى للجبل فجعله دكا واغشي على موسى عليه السلام ومات القوم بأجمعهم.

ثم أفاق موسى فلما رآهم امواتا اسقط في يده لانه لا يستطيع ان يعتذر الى قومه بانهم اهلكهم الله لهذا السبب فدعا ربه ان يحييهم فاحياهم الله تعالى.

هذه القصة وردت في ثلاث مواضع في الكتاب العزيز وفي كل منها وردت قطعة من القصة هذه احداها والثانية في سورة النساء قال تعالى (يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا).[1]

وقال في سورة الاعراف (وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ).[2]

وهناك اية اخرى مرتبطة بهذه القصة على الظاهر وهي قوله تعالى (وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ)[3] وجه الارتباط ان طلب موسى عليه السلام للرؤية لم يكن بجدّ لانه أجلّ شأنا من ذلك وانما طلبها استجابة لضغط القوم.

ولكن العلامة الطباطبائي قدس سره أوّل قوله تعالى (رب أرني انظر اليك) بانه عليه السلام لم يطلب الرؤية بالعين اذ لا يمكن لرسول مثله ان يطلب ذلك وانما طلب الرؤية بالقلب ثم أوضح الرؤية بالقلب باسهاب. وملخصه ان الرؤية نوع من العلم الضروري ومنه علم الانسان بنفسه وبشؤونها كحبه وبغضه فان الانسان يعلم هذه الامور بنفسها من دون واسطة ومن هذا الباب قوله تعالى (مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى).[4]

وقال ان المراد بالرؤية هنا (نوع شعور في الإنسان يشعر بالشي‏ء بنفسه من غير استعمال آلة حسية أو فكرية وان للإنسان شعورا بربه غير ما يعتقد بوجوده من طريق الفكر واستخدام الدليل بل يجده وجدانا من غير أن يحجبه عنه حاجب ولا يجره إلى الغفلة عنه إلا اشتغاله بنفسه و بمعاصيه التي اكتسبها).

وقال ما معناه (ان هذه الرؤية تتم للصالحين يوم القيامة كما قال تعالى (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى‏ رَبِّها ناظِرَةٌ) واما في هذه الدنيا فلا يحظون بها. وان موسى عليه السلام طلب هذا العلم الضروري من الله تعالى وقوله «قالَ لَنْ تَرانِي» نفي مؤبد للرؤية وإذ أثبت الله سبحانه الرؤية بمعنى العلم الضروري في الآخرة كان تأبيد النفي راجعا إلى تحقق ذلك في الدنيا... فيئول المعنى إلى أنك لن تقدر على رؤيتي والعلم الضروري بي في الدنيا حتى تلاقيني فتعلم بي علما اضطراريا تريده).

ولكن كيف يمكن ان يقال لم يحصل لموسى عليه السلام هذا العلم الضروري بربه مع انه كان يكلم ربه وهذا تشريف خاص له من بين الرسل قال تعالى (إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا * وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا)[5] فكيف لا يراه بقلبه؟!

وان كان ذلك خاصا بالاخرة فكيف رآه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في المعراج كما استشهد هو بقوله تعالى (ما كذب الفؤاد ما رأى)؟!

وقد قال امير المؤمنين عليه السلام وقد سأله ذعلب اليماني فقال هل رأيت ربك يا أمير المؤمنين فقال عليه السلام أفأعبد ما لا أرى؟! فقال وكيف تراه؟ فقال (لَا تُدْرِكُهُ الْعُيُونُ بِمُشَاهَدَةِ الْعِيَانِ وَلَكِنْ تُدْرِكُهُ الْقُلُوبُ بِحَقَائِقِ الْإِيمَانِ...). فهل كان موسى عليه السلام يعبد ربا لا يراه بهذا المعنى الذي ذكره الامام عليه السلام؟!

وروى الصدوق بسند صحيح عن محمد بن الفضيل قال سألت أبا الحسن عليه السلام (هل رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم ربه عز وجل فقال نعم بقلبه رآه أما سمعت الله عز وجل يقول (ما كذب الفؤاد ما رأى) اي لم يره بالبصر لكن رآه بالفؤاد).[6]

وكيف يمكن ان يحرم رسول عظيم كموسى عليه السلام من رؤية ربه بالقلب والعلم الضروري به تعالى في الدنيا مع ان الله أنعم به على بعض المؤمنين الصالحين ومنها صاحب القصة التالية وهي معروفة:

روى الكليني قدس سره عن محمد بن يحيى عن أحمد بن محمد بن عيسى وعلي بن إبراهيم عن أبيه جميعا عن ابن محبوب عن أبي محمد الوابشي وإبراهيم بن مهزم عن إسحاق بن عمار قال سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول (إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم صلى بالناس الصبح فنظر إلى شاب في المسجد وهو يخفق ويهوي برأسه مصفرا لونه قد نحف جسمه وغارت عيناه في رأسه فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: كيف أصبحت يا فلان؟ قال: أصبحت يا رسول الله موقنا فعجب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من قوله وقال: إن لكل يقين حقيقة فما حقيقة يقينك؟ فقال: إن يقيني يا رسول الله هو الذي أحزنني وأسهر ليلي وأظمأ هواجري فعزفت نفسي عن الدنيا وما فيها حتى كأني أنظر إلى عرش ربي وقد نصب للحساب وحشر الخلائق لذلك وأنا فيهم وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتنعمون في الجنة ويتعارفون وعلى الأرائك متكئون وكأني أنظر إلى أهل النار وهم فيها معذبون مصطرخون وكأني الآن أسمع زفير النار يدور في مسامعي فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه: هذا عبد نوّر الله قلبه بالايمان ثم قال له: الزم ما أنت عليه فقال الشاب: ادع الله لي يا رسول الله أن ارزق الشهادة معك فدعا له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلم يلبث أن خرج في بعض غزوات النبي صلى الله عليه وآله وسلم فاستشهد بعد تسعة نفر وكان هو العاشر).[7]  والسند صحيح.

وغاية ما يمكن توجيه كلامه رحمه الله به هو ان هناك رؤية اخرى غير العلم الضروري والرؤية بالقلب وهي تحصل للمقربين يوم القيامة بشتى مراتبهم حسب اختلاف المقامات وهذا امر مجهول لنا بحقيقته فلعل موسى عليه السلام طلب تلك الرؤية في الدنيا.

ولكنه ايضا بعيد جدا بل غير معقول فموسى عليه السلام يعلم بالفرق بين النشأتين لو فرض الفرق واقعا بين ما يحصل هناك للمقربين وما يحصل لهم في صلاتهم وتوجههم الى الله تعالى خصوصا في ما كان يحصل لموسى عليه السلام في ميقاته مع ربه.

واما النظر الى الرب في قوله تعالى (الى ربها ناظرة) فالظاهر أنه لا يراد بها الرؤية بالقلب لأن هذه الرؤية لا تختص بالمؤمن بل البشر بأجمعهم يرفع عنهم الغطاء كما قال تعالى (فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ)[8] ومعنى ذلك أن الانسان يدرك حقائق الامور بكل وجوده وهو معنى الرؤية بالقلب وهذا الادراك – كما مر – أقوى بكثير من الرؤية بالعين التي يشوبها الخطأ كثيرا.

والعلامة ذكر في تفسير تلك الاية ما ملخصه ان اهل الجنة لا يشهدون مشهدا من مشاهد الجنة إلا وهم يشاهدون ربهم به لأنهم لا ينظرون إلى شي‏ء إلا من حيث إنه آية لله سبحانه والنظر إلى الآية من حيث إنها آية ورؤيتها نظر إلى ذي الآية ورؤية له.

ولكن هذا الامر لا يحقق معنى النظر الى الله تعالى فان مشاهدة الاشياء بما أنها آية لله تعالى حاصلة لكثير من المخلصين في الدنيا بل حاصلة لكثير من عامة الناس مع ان مقتضى هذا التفسير أن هذا النظر أجر خاص وثواب خاص يتلقاه المخلصون يوم القيامة خاصة.

وقد ذكرنا هناك ان النظر الى الرب تعالى يوم القيامة له معنى اخر ورد في رواية عن الامام الرضا عليه السلام حيث قال: (يعني مشرقة تنتظر ثواب ربها).[9]

وليس النظر هنا بمعنى الانتظار حتى يقال ان الانتظار لا يتعدى بـ (الى) ولا يسند الى الوجه بل بمعنى النظر بالمعنى المعروف الا أنه ليس نظرا بالعين اليه تعالى بل هو كناية عن قطع املهم ورجائهم عن غيره وأنهم ينتظرون رحمته وثوابه ومن هنا جاء الحصر بتقديم الجار والمجرور (الى ربها) وهذا التعبير يرد في محادثاتنا في الدنيا ايضا فيقول الانسان اذا تقطعت به السبل أنه لا ينظر الا الى ربه بمعنى انه لا ينتظر الفرج الا منه تعالى وتراه يرفع ببصره الى السماء كرمز للتوجه الى الله تعالى.

والحاصل ان الايتين ليستا بصدد بيان حال المقربين بل مجموعة الايات الاربع في سورة القيامة بصدد بيان حال اكثر الناس قبل دخول الجنة والنار (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ * وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ * تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ)[10] فقسم منهم ناظرون الى ربهم يتوقعون دخول الجنة وقسم يظنون ان يفعل بهم ما يكسر الظهر.

ونظير ذلك قوله تعالى (وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ * وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)[11] حيث تبين الآية حالة انتظار اصحاب الجنة لدخولها.

فالصحيح في تفسير الاية في سورة الاعراف أن موسى عليه السلام نقل طلب القوم الى ربه وان القصة المحكية في الآيات المذكورة قصة واحدة.

وربما يناقش في وحدة القصة بأن الذي حدث حسب الاية الاخيرة هو تجلي الرب للجبل وانه تدكدك بذلك فاغشي على موسى عليه السلام ولم يكن ذلك عذابا والوارد في قصة القوم انهم اصيبوا بالصاعقة او الرجفة فهلكوا بل صرح في سورة النساء ان الصاعقة اصابهم بظلمهم فالفرق واضح بين الموقفين.

ولكن الظاهر ان ما حدث امر واحد وهو التجلي للجبل وحدوث الرجفة والصاعقة وهذا كما انه علامة لعدم امكان الرؤية جزاء للقوم بظلمهم وتعنتهم.

ويظهر من آيات سورة الاعراف أن هذه القصة كانت معاصرة لعبادة العجل لان القوم اتخذوا العجل حينما خرج موسى عليه السلام لميقاته مع ربه وليتلقى التوراة والظاهر ان هذا الميقات هو بنفسه الميقات الذي اختار موسى فيه هؤلاء الرجال فطلبوا الرؤية فتجلى الرب للجبل فاغشي على موسى وهلك القوم. 

واما قوله تعالى (ثم اتخذوا العجل..) في سورة النساء فلا يدل على التراخي وأن هذه القصة حدثت قبل اتخاذ العجل بل المراد بهذا التعبير عدّ مساوئهم من دون التعرض للتقدم والتاخر مضافا الى أن زمان اتخاذ العجل يمكن ان يكون بعد حدوث الموت والاحياء لان ظرف وقوع القصتين مختلف فالقوم الذين اتخذوا العجل لم يكونوا في الميقات.  

وقد وقع الكلام في هذه الآية أن هؤلاء كانوا مؤمنين بل من خيرتهم فما المراد بقولهم (لن نؤمن لك)؟

فيه احتمالان:

الاول ان يكون المراد لن يكمل ايماننا بك.

والثاني ان المراد ايمان خاص فالعلامة الطباطبائي رحمه الله قال في تفسير سورة الاعراف ان المراد ايمانهم بان التوراة وحي من الله تعالى.

ويمكن ان يكون المراد انهم لم يصدقوه عليه السلام بان الذي يكلمه هو الله تعالى لان المكالمة كانت خاصة به عليه السلام فكانوا يشككون في ان من يكلمه هو الله تعالى فطلبوا منه ان يريهم الله حين مكالمته معه.

والسر في ذلك أنهم ما كانوا يؤمنون الا بما يحسون به في الطبيعة كما هو الحال في الأكثرية الساحقة من الناس ولكن الله تعالى اراد للانسان ان يؤمن بالغيب فهذا هو الذي يوجب تكامله النفسي وارتباطه بعالم الغيب ولكن القوم ما كانوا يؤمنون الا بما يرونه جهرة.

ولكن في تفسير المنار (أَنَّ طَائِفَةً مِنْهُمْ قَالُوا: لِمَاذَا اخْتُصَّ مُوسَى وَهَارُونُ بِكَلَامِ اللهِ تَعَالَى مِنْ دُونِنَا؟ وَانْتَشَرَ هَذَا الْقَوْلُ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ وَتَجَرَّأَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ بَعْدَ مَوْتِ هَارُونَ وَهَاجُوا عَلَى مُوسَى وَبَنِي هَارُونَ وَقَالُوا لَهُمْ: إِنَّ نِعْمَةَ اللهِ عَلَى شَعْبِ إِسْرَائِيلَ هِيَ لِأَجْلِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ فَتَشْمَلُ جَمِيعَ الشَّعْبِ وَقَالُوا لِمُوسَى: لَسْتَ أَفْضَلَ مِنَّا فَلَا يَحِقُّ لَكَ أَنْ تَتَرَفَّعَ وَتَسُودَ عَلَيْنَا بِلَا مَزِيَّةٍ وَإِنَّنَا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً).

ومعنى ذلك انهم انما قالوا ذلك حسدا على موسى وهارون عليهما السلام ولكن الظاهر من الايات انهم انما قالوا ذلك تشكيكا في صحة ما ينقله موسى عن الله تعالى ولذلك لم يقولوا لن نؤمن بك اي برسالتك بل قالوا لن نؤمن لك اي لا نصدقك فيما تنقله الا ان نرى الله تعالى لنثق بان من يكلمك هو الله فلعلك تسمع صوتا وتتوهم انك تخاطب الله تعالى.

ثم ان الخطاب متوجه الى بني اسرائيل في عهد نبينا صلى الله عليه وآله وسلم مع ان القصة كانت في عهد موسى عليه السلام وانما خاطبهم بانكم فعلتم وفعلتم باعتبار أنهم كانوا يتبعونهم ويفتخرون بامجاد آبائهم كما انهم كذلك في هذا العصر ايضا.

والرؤية جهرة اي علنا. والجهر يستعمل في الرؤية والسماع. والمراد ان يروه تعالى بوضوح والجهرة مصدر وهي هنا صفة لمفعول مطلق اي نراه رؤية جهرة. ولعلهم يقصدون بذلك ما يقابل الرؤية بالقلب فالمؤمن يرى الله والا لم يؤمن به ولكنهم ارادوا الرؤية بالعين. واذا قلنا بان قول موسى عليه السلام (رب ارني انظر اليك) كان عرضا لطلب القوم فمن الواضح ان المراد الرؤية بالعين.

والصاعقة كل ما يحدث صوتا شديدا. وتطلق على البرق اذا أصاب شيئا على الارض، كما تطلق على كل ما يوجب الهلاك كما تطلق على الموت نفسه قال تعالى (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ..)[12] والظاهر هنا ان المراد بها الموت فجأة او الموت بسبب الصوت الشديد.

ومهما كان فالظاهر ان الذي اصابهم هو الصوت الشديد او الزلزال الشديد لقوله تعالى في سورة الاعراف في نفس القصة (فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ) وبناءا على وحدة القصة مع طلب موسى عليه السلام الرؤية فالظاهر انه حدث بتجليه تعالى للجبل وايجاد الرجفة والزلزال فيه حيث قال تعالى (فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا).

واما قوله تعالى (وانتم تنظرون) فالظاهر ان المراد به رؤيتهم للعذاب حال نزوله وهو أشدّ وقعا على الانسان. ومثله قوله تعالى في قوم ثمود (فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ * فَمَا اسْتَطَاعُوا مِنْ قِيَامٍ وَمَا كَانُوا مُنْتَصِرِينَ).[13]

وقيل ان المراد به (تنتظرون) اي اخذكم العذاب وانتم تنتظرون رؤية ربكم علانية وهذا ايضا مما يوجب شدة الوقيعة بهم فهم بينما كانوا ينتظرون رؤيته تعالى بالعين نزلت عليهم الصاعقة او الرجفة. وقد ورد النظر بمعنى الانتظار في قوله تعالى (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ..).[14]

وقيل ان المراد ان بعضهم اصابه العذاب دون بعض وهؤلاء كانوا ينظرون الى المعذبين وهذا مما ورد في التورة على ما حكى في المنار.

ولكنه غير صحيح لان قول موسى عليه السلام على ما في سورة الاعراف (رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ) يدل كما اشرنا اليه على انه وقع في حرج من ذلك ولا يوجد ما يوجب الحرج الا اعتراض قومه وربما كانوا يتهمونه بانه قتلهم بسحر ونحوه فلو كان بعضهم شاهدا لما وقع لم يكن يحذر ذلك مضافا الى ان ظاهر قوله تعالى في الايات المباركات (فاخذتهم الصاعقة) او (اخذتهم الرجفة) انهم ماتوا باجمعهم. 

ولا يبعد ان يكون السر في التصريح بانهم كانوا ينظرون العذاب النازل عليهم او يرون الجبل وقد جعله الله بالتجلي دكا الاشارة الى انهم علموا بموتهم ليكون في بعثهم أحياءا نعمة عليهم وآية لهم فلو كانوا يموتون فجأة بالصاعقة ثم يحيون فقد لا يعلمون بما حدث لهم.

وهذه الآيات والقصة بأسرها تدل على عدم امكان رؤيته تعالى بالعين وهو واضح لمن كان له أدنى تأمل فالرؤية لا تكون الا للاجسام بل للالوان فقط وهو تعالى منزه عن التحيز والجسمية والكيفيات. والرؤية بالعين تستلزم كونه تعالى محدودا ومتحيزا وان يكون مكيّفا بكيفية خاصة وكل ذلك باطل عقلا ونقلا.

ولذلك اعتبر طلب الرؤية ظلما في قوله تعالى (فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ..)[15] ولو كانت الرؤية ممكنة في الآخرة كما يقول العامة بل واقعة كما تقول رواياتهم لم يكن طلبه في الدنيا ظلما ولم يستوجب نزول العذاب.

ولكن القوم مصرون على ان استحالة الرؤية خاصة بالدنيا لاعتقادهم بان المؤمنين يرون ربهم في الجنة حيث ورد ذلك في الصحاح ولا مناص لهم من التسليم لما ورد فيها بل هو في نظرهم ظاهر بعض الآيات كقوله تعالى (الى ربها ناظرة) وقد مر الكلام حول دلالة الآية.

وأغرب ما رأيت من اصرار القوم ما نسب الى ابن حنبل قال ابن تيمية (وعَنْ حَنْبَلِ بْنِ إسْحَاقَ قَالَ سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ – يَعْنِي أَحْمَد بْنَ حَنْبَلٍ – يَقُولُ: أَدْرَكْت النَّاسَ وَمَا يُنْكِرُونَ مِنْ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ شَيْئاً – أَحَادِيثِ الرُّؤْيَةِ – وَكَانُوا يُحَدِّثُونَ بِهَا عَلَى الْجُمْلَةِ يُمِرُّونَهَا عَلَى حَالِهَا غَيْرَ مُنْكِرِينَ لِذَلِكَ وَلَا مُرْتَابِينَ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ {كَلَّا إنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} فَلَا يَكُونُ حِجَابٌ إلَّا لِرُؤْيَةِ فَأَخْبَرَ اللَّهُ أَنَّ مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَمَنْ أَرَادَ فَإِنَّهُ يَرَاهُ وَالْكُفَّارُ لَا يَرَوْنَهُ. وَقَالَ: قَالَ اللَّهُ {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} وَالْأَحَادِيثُ الَّتِي تُرْوَى فِي النَّظَرِ إلَى اللَّهِ حَدِيثُ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَغَيْرِهِ {تَنْظُرُونَ إلَى رَبِّكُمْ} أَحَادِيثُ صِحَاحٌ وَقَالَ {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} النَّظَرُ إلَى اللَّهِ . قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: أَحَادِيثُ الرُّؤْيَةِ نُؤْمِنُ بِهَا وَنَعْلَمُ أَنَّهَا حَقٌّ وَنُؤْمِنُ بِأَنَّنَا نَرَى رَبَّنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا نَشُكُّ فِيهِ وَلَا نَرْتَابُ قَالَ: وَسَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ : مَنْ زَعَمَ أَنَّ اللَّهَ لَا يُرَى فِي الْآخِرَةِ فَقَد كَفَرَ وَكَذَّبَ بِالْقُرْآنِ وَرَدَّ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى أَمْرَهُ يُسْتَتَابُ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ).[16]

وهذا كلام غريب لا يصدر من متفقه فضلا ان يكون فقيها كما يزعمون فان الرؤية لم ترد في القرآن بل في رواياتهم المكذوبة واما آية (الى ربها ناظرة) فقد بينا انها لا علاقة لها بالنظر بل بمعنى انتظار الرحمة ولا علاقة لها بالثواب في الجنة ولو فرض كونه ظاهرها فيقابلها صريح قوله تعالى (لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ)[17] ولا شك أن القول بالتجسيم هو الكفر محضا ولا يختلف ان يعتقد الانسان جسميته تعالى في الدنيا او في الاخرة.

مضافا الى أن هذه الآيات تدل بوضوح على أن طلب الرؤية مستلزم لغضب الرحمن ولكنهم حاولوا التاويل فقال بعضهم في استحقاق بني اسرائيل للعذاب بانهم طلبوا ما لم يأذن به الله تعالى قال في فتح القدير (و إنما عوقبوا بأخذ الصاعقة لهم لأنهم طلبوا ما لم يأذن اللّه به من رؤيته في الدنيا).

ولو صح ذلك فاكثر الناس يستحقون العذاب لانهم لا يعلمون ان الله تعالى اذن لهم في طلب هذه الحاجة ام لا فلا يجوز لهم طلبها.

وقال الالوسي (وقد استدل المعتزلة وطوائف من المبتدعة بهذه الآية على استحالة رؤية البارئ سبحانه وتعالى لأنها لو كانت ممكنة لما أخذتهم الصاعقة بطلبها، والجواب أن أخذ الصاعقة لهم ليس لمجرد الطلب ولكن لما انضم إليه من التعنت وفرط العناد كما يدل عليه مساق الكلام حيث علقوا الإيمان بها، ويجوز أيضا أن يكون ذلك الأخذ لكفرهم بإعطاء الله تعالى التوراة لموسى عليه السلام وكلامه إياه أو نبوته لا لطلبهم، وقد يقال: إنهم لما لم يكونوا متأهلين لرؤية الحق في هذه النشأة كان طلبهم لها ظلما فعوقبوا بما عوقبوا، وليس في ذلك دليل على امتناعها مطلقا في الدنيا والآخرة).[18]

والجواب عما ذكره من الجواب انه لو صح ذلك في هذه الاية فلا يصح في سورة النساء حيث انه تعالى قارن بين طلبهم انزال الكتاب من السماء وطلبهم الرؤية من موسى عليه السلام واعتبر الثانية اعظم وان العذاب اخذهم من اجل ظلمهم بذلك قال تعالى (يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ..).[19]

واما انهم لم يكونوا متاهلين لرؤية الحق في هذه النشأة فلا يوجب كون الطلب ظلما يستوجب العقاب الشديد وكان يكفيهم ان يقال لهم ان ذلك لا يحصل في الدنيا.

وقال في تفسير سورة النساء (بِظُلْمِهِمْ أي بسبب ظلمهم وهو تعنتهم وسؤالهم لما يستحيل في تلك الحالة التي كانوا عليها وإنكار طلب الكفار للرؤية تعنتا لا يقتضي امتناعها مطلقا)[20]

ولكن هل الانكار يستوجب هذا العذاب؟! والتعبير عنهم بالكفار غير صحيح فلم يكن على وجه الارض مؤمن غيرهم بل كانوا من خيرة المؤمنين حسب الظاهر ولم يرد في الاية انهم طلبوه تعنتا فالظلم انما كان من جهة طلب الرؤية لان ذلك يقتضي الاعتقاد بانه تعالى جسم ولا يجوز للمؤمن ان يعتقد ذلك فهم قد كفروا وظلموا بهذا الاعتقاد.

وقال ابن عاشور في تفسير هذه الاية (قوله: فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ أي عقوبة لهم عما بدا منهم من العجرفة وقلة الاكتراث بالمعجزات. وهذه عقوبة دنيوية لا تدل على أن المعاقب عليه حرام أو كفر لا سيما وقد قدر أن موتهم بالصاعقة لا يدوم إلا قليلا فلم تكن مثل صاعقة عاد و ثمود. وبه تعلم أن ليس في إصابة الصاعقة لهم دلالة على أن رؤية اللّه تعالى مستحيلة وأن سؤالها والإلحاح فيه كفر كما زعم المعتزلة وأن لا حاجة إلى الجواب عن ذلك بأن الصاعقة لاعتقادهم أنه تعالى يشبه الأجسام فكانوا بذلك كافرين إذ لا دليل في الآية ولا غيرها على أنهم كفروا، كيف وقد سأل الرؤية موسى عليه السلام).[21]

اقول: لم يبد منهم في الآية عجرفة وقلة اكتراث بالمعجزات وانما اخذتهم الصاعقة لطلبهم الرؤية ومن الغريب قوله ان العقوبة الدنيوية بهذا الحجم لا يدل على انه كفر بل ولا حرام واما ان الموت لم يدم فانما كان بدعاء موسى عليه السلام واما طلبه للرؤية فقد أجبنا عنه.

وبذلك يتبين الجواب عن قوله في تفسير سورة النساء (والظلم هو المحكي في سورة البقرة من امتناعهم من تصديق موسى إلى أن يروا اللّه جهرة، وليس الظلم لمجرّد طلب الرؤية لأنّ موسى قد سأل مثل سؤالهم مرّة أخرى حكاه اللّه عنه بقوله: وَلَمَّا جاءَ مُوسى‏ لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ..).[22]

والحاصل أن القوم وقعوا في حيص بيص من جهة ظهور الآيات بل صراحتها في عدم امكان الرؤية مع أنه واضح عقلا ونقلا ولا يمكن ان يعتقد بامكانه مؤمن ومن جهة اخرى وجود الروايات الكثيرة الواردة في الصحيحين وغيرهما مما صرح فيها بتحقق رؤيته تعالى يوم القيامة للمؤمنين.

قال صاحب المنار نقلا عن الشيخ محمد عبده (إِنَّ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ مِنَ التَّصْرِيحِ فِي إِثْبَاتِ الرُّؤْيَةِ مَا لَا يُمْكِنُ الْمِرَاءُ فِيهِ).[23]

واول بعضهم الروايات بان المراد الرؤية بالقلب ولكن الرؤية بهذا المعنى تحصل للمقربين في الدنيا ايضا ولا تختص بالاخرة كما مر بيانه بل يحصل بتفاوت في مراتب الايمان لجميع المؤمنين في الدنيا.

مع ان التاويل غير ممكن في بعض الروايات التي تستوجب التجسيم صريحا فمنها ما ورد في كتب القوم وصحاحهم في تفسير قوله تعالى (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ).[24] وبمقتضى هذه الروايات قالوا ان المراد بالساق في الآية ساق الله (تعالى اللّه عما يصفون).

والصحيح في تفسير الآية أن الكشف عن الساق كناية عن شدّة الامر اذ يشمّر الناس ويكشفون عن سوقهم للفرار، او لإنجاز أمر مهم كإطفاء حريق مثلا. وهذا تعبير عن شدّة الأهوال يوم القيامة.

ويقول بعض المفسرين إنّ هذه الاخبار ضعيفة. ولا أدري مع ذلك كيف يقال: إنّ كل ما في البخاري صحيح؟!

ونحن ننقل هنا بعض هذه الروايات لينكشف الفرق الواضح بين معرفة الله تعالى في مدرسة اهل البيت عليهم السلام والمدارس المناوئة لهم.

ففي البخاري (عَنْ أَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللّه عَنْهُ قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ يَكْشِفُ رَبُّنَا عَنْ سَاقِهِ فَيَسْجُدُ لَهُ كُلُّ مُؤْمِنٍ وَمُؤْمِنَةٍ فَيَبْقَى كُلُّ مَنْ كَانَ يَسْجُدُ فِي الدُّنْيَا رِيَاءً وَسُمْعَةً فَيَذْهَبُ لِيَسْجُدَ فَيَعُودُ ظَهْرُهُ طَبَقًا وَاحِدًا) [25]

ورواه ايضا في حديث آخر عن ابي سعيد وهو طويل يشتمل على أعاجيب كثيرة وفيه ايضا (..قَالَ فَيَأْتِيهِمْ الْجَبَّارُ فِي صُورَةٍ غَيْرِ صُورَتِهِ الَّتِي رَأَوْهُ فِيهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ فَيَقُولُ أَنَا رَبُّكُمْ فَيَقُولُونَ أَنْتَ رَبُّنَا فَلَا يُكَلِّمُهُ إِلَّا الْأَنْبِيَاءُ فَيَقُولُ هَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ آيَةٌ تَعْرِفُونَهُ فَيَقُولُونَ السَّاقُ فَيَكْشِفُ عَنْ سَاقِهِ فَيَسْجُدُ لَهُ كُلُّ مُؤْمِنٍ وَيَبْقَى مَنْ كَانَ يَسْجُدُ لِلَّهِ رِيَاءً وَسُمْعَةً فَيَذْهَبُ كَيْمَا يَسْجُدَ فَيَعُودُ ظَهْرُهُ طَبَقًا وَاحِدًا...) [26]

وقد روى السيوطي في الدر المنثور الحديث الاول عن مصادر اخرى وحديثا آخر أغرب بكثير عن عدة مصادر ومنها مستدرك الحاكم قال (وصححه)!!!

وفيه (قال: فينطلق كل إنسان منكم إلى ما كان يعبد في الدنيا ويتمثل لهم ما كانوا يعبدون في الدنيا، فيتمثل لمن كان يعبد عيسى شيطان عيسى، ويتمثل لمن كان يعبد عزيراً شيطان عزير، حتى يمثل لهم الشجرة والعود والحجر ويبقى أهل الإِسلام جثوماً فيتمثل لهم الرب عز وجل، فيقول لهم: ما لكم لم تنطلقوا كما انطلق الناس؟ فيقولون: إن لنا ربّاً ما رأيناه بعد، فيقول: فبم تعرفون ربكم إن رأيتموه؟ قالوا: بيننا وبينه علامة إن رأيناه عرفناه. قال: وما هي؟ قال: {يكشف عن ساق} فيكشف عند ذلك عن ساق فيخر كل من كان يسجد طائعاً ساجداً، ويبقى قوم ظهورهم كصياصي البقر يريدون السجود فلا يستطيعون…) الى آخر الحديث وفيه كثير من الغرائب. [27]

ويحتار الانسان كيف يعلّق على مثل هذه الاحاديث؟! وكيف يعتبر القوم كل ذلك صحاحا؟! ومن أغرب ما فيها أنهم يعرفون ربهم بساقه ومعنى ذلك أنهم رأوا ساقه في الدنيا ايضا والا فكيف تكون الساق علامة لهم يعرفون بها ربّهم؟! (سبحانك اللهم تباركت وتعاليت عمّا يقول الظالمون) ولعل الاولى هو السكوت وإحالة ذلك الى ضمير القارئ، أما نحن فلا نعرف ربّنا بساقه، بل نعرفه بآياته.

ومنها ما رووها في تفسير قوله تعالى (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ)[28] والتزموا بها سلفا وخلفا بالرغم من مخالفتها للعقل وللكتاب العزيز:

ففي صحيح البخاري عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ عِيَانًا).

ثم روى عن جرير قال: (كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ نَظَرَ إِلَى الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ قَالَ إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ هَذَا الْقَمَرَ لَا تُضَامُونَ فِي رُؤْيَتِهِ..).[29]

وروى مسلم الحديث الثاني وروى ايضا بعده (أَمَا إِنَّكُمْ سَتُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّكُمْ فَتَرَوْنَهُ كَمَا تَرَوْنَ هَذَا الْقَمَرَ).[30]

وروى الشيخان واحمد وغيرهم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ (إنَّ النَّاسَ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ نَرَى رَبَّنَا يَوْمَ القِيَامَةِ؟ قَالَ: هَلْ تُمَارُونَ فِي القَمَرِ لَيْلَةَ البَدْرِ لَيْسَ دُونَهُ سَحَابٌ قَالُوا: لاَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: فَهَلْ تُمَارُونَ فِي الشَّمْسِ لَيْسَ دُونَهَا سَحَابٌ قَالُوا: لاَ، قَالَ: فَإِنَّكُمْ تَرَوْنَهُ كَذَلِكَ، يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ القِيَامَةِ فَيَقُولُ: مَنْ كَانَ يَعْبُدُ شَيْئًا فَلْيَتَّبِعْ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَتَّبِعُ الشَّمْسَ وَمِنْهُمْ مَنْ يَتَّبِعُ القَمَرَ وَمِنْهُمْ مَنْ يَتَّبِعُ الطَّوَاغِيتَ وَتَبْقَى هَذِهِ الأُمَّةُ فِيهَا مُنَافِقُوهَا فَيَأْتِيهِمُ اللَّهُ فَيَقُولُ: أَنَا رَبُّكُمْ، فَيَقُولُونَ هَذَا مَكَانُنَا حَتَّى يَأْتِيَنَا رَبُّنَا فَإِذَا جَاءَ رَبُّنَا عَرَفْنَاهُ فَيَأْتِيهِمُ اللَّهُ فَيَقُولُ: أَنَا رَبُّكُمْ، فَيَقُولُونَ: أَنْتَ رَبُّنَا، فَيَدْعُوهُمْ فَيُضْرَبُ الصِّرَاطُ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ جَهَنَّمَ فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يَجُوزُ مِنَ الرُّسُلِ بِأُمَّتِهِ وَلاَ يَتَكَلَّمُ يَوْمَئِذٍ أَحَدٌ إِلَّا الرُّسُلُ وَكَلاَمُ الرُّسُلِ يَوْمَئِذٍ: اللَّهُمَّ سَلِّمْ سَلِّمْ، وَفِي جَهَنَّمَ كَلاَلِيبُ مِثْلُ شَوْكِ السَّعْدَانِ، هَلْ رَأَيْتُمْ شَوْكَ السَّعْدَانِ؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: فَإِنَّهَا مِثْلُ شَوْكِ السَّعْدَانِ غَيْرَ أَنَّهُ لاَ يَعْلَمُ قَدْرَ عِظَمِهَا إِلَّا اللَّهُ تَخْطَفُ النَّاسَ بِأَعْمَالِهِمْ فَمِنْهُمْ مَنْ يُوبَقُ بِعَمَلِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يُخَرْدَلُ ثُمَّ يَنْجُو حَتَّى إِذَا أَرَادَ اللَّهُ رَحْمَةَ مَنْ أَرَادَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ أَمَرَ اللَّهُ المَلاَئِكَةَ أَنْ يُخْرِجُوا مَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ فَيُخْرِجُونَهُمْ وَيَعْرِفُونَهُمْ بِآثَارِ السُّجُودِ وَحَرَّمَ اللَّهُ عَلَى النَّارِ أَنْ تَأْكُلَ أَثَرَ السُّجُودِ فَيَخْرُجُونَ مِنَ النَّارِ فَكُلُّ ابْنِ آدَمَ تَأْكُلُهُ النَّارُ إِلَّا أَثَرَ السُّجُودِ فَيَخْرُجُونَ مِنَ النَّارِ قَدْ امْتَحَشُوا فَيُصَبُّ عَلَيْهِمْ مَاءُ الحَيَاةِ فَيَنْبُتُونَ كَمَا تَنْبُتُ الحَبَّةُ فِي حَمِيلِ السَّيْلِ ثُمَّ يَفْرُغُ اللَّهُ مِنَ القَضَاءِ بَيْنَ العِبَادِ وَيَبْقَى رَجُلٌ بَيْنَ الجَنَّةِ وَالنَّارِ وَهُوَ آخِرُ أَهْلِ النَّارِ دُخُولًا الجَنَّةَ مُقْبِلٌ بِوَجْهِهِ قِبَلَ النَّارِ فَيَقُولُ: يَا رَبِّ اصْرِفْ وَجْهِي عَنِ النَّارِ قَدْ قَشَبَنِي رِيحُهَا وَأَحْرَقَنِي ذَكَاؤُهَا، فَيَقُولُ: هَلْ عَسَيْتَ إِنْ فُعِلَ ذَلِكَ بِكَ أَنْ تَسْأَلَ غَيْرَ ذَلِكَ؟ فَيَقُولُ: لاَ وَعِزَّتِكَ، فَيُعْطِي اللَّهَ مَا يَشَاءُ مِنْ عَهْدٍ وَمِيثَاقٍ، فَيَصْرِفُ اللَّهُ وَجْهَهُ عَنِ النَّارِ فَإِذَا أَقْبَلَ بِهِ عَلَى الجَنَّةِ رَأَى بَهْجَتَهَا سَكَتَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَسْكُتَ، ثُمَّ قَالَ: يَا رَبِّ قَدِّمْنِي عِنْدَ بَابِ الجَنَّةِ، فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ: أَلَيْسَ قَدْ أَعْطَيْتَ العُهُودَ وَالمِيثَاقَ، أَنْ لاَ تَسْأَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنْتَ سَأَلْتَ؟ فَيَقُولُ: يَا رَبِّ لاَ أَكُونُ أَشْقَى خَلْقِكَ فَيَقُولُ: فَمَا عَسَيْتَ إِنْ أُعْطِيتَ ذَلِكَ أَنْ لاَ تَسْأَلَ غَيْرَهُ؟ فَيَقُولُ: لاَ وَعِزَّتِكَ لاَ أَسْأَلُ غَيْرَ ذَلِكَ فَيُعْطِي رَبَّهُ مَا شَاءَ مِنْ عَهْدٍ وَمِيثَاقٍ فَيُقَدِّمُهُ إِلَى بَابِ الجَنَّةِ فَإِذَا بَلَغَ بَابَهَا فَرَأَى زَهْرَتَهَا وَمَا فِيهَا مِنَ النَّضْرَةِ وَالسُّرُورِ فَيَسْكُتُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَسْكُتَ فَيَقُولُ: يَا رَبِّ أَدْخِلْنِي الجَنَّةَ فَيَقُولُ اللَّهُ: وَيْحَكَ يَا ابْنَ آدَمَ مَا أَغْدَرَكَ أَلَيْسَ قَدْ أَعْطَيْتَ العُهُودَ وَالمِيثَاقَ أَنْ لاَ تَسْأَلَ غَيْرَ الَّذِي أُعْطِيتَ؟ فَيَقُولُ: يَا رَبِّ لاَ تَجْعَلْنِي أَشْقَى خَلْقِكَ، فَيَضْحَكُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْهُ ثُمَّ يَأْذَنُ لَهُ فِي دُخُولِ الجَنَّةِ، فَيَقُولُ: تَمَنَّ، فَيَتَمَنَّى حَتَّى إِذَا انْقَطَعَ أُمْنِيَّتُهُ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: مِنْ كَذَا وَكَذَا أَقْبَلَ يُذَكِّرُهُ رَبُّهُ حَتَّى إِذَا انْتَهَتْ بِهِ الأَمَانِيُّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: لَكَ ذَلِكَ وَمِثْلُهُ مَعَهُ، قَالَ أَبُو سَعِيدٍ الخُدْرِيُّ لِأَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: قَالَ اللَّهُ: لَكَ ذَلِكَ وَعَشَرَةُ أَمْثَالِهِ، قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: لَمْ أَحْفَظْ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا قَوْلَهُ لَكَ ذَلِكَ وَمِثْلُهُ مَعَهُ قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: إِنِّي سَمِعْتُهُ يَقُولُ: ذَلِكَ لَكَ وَعَشَرَةُ أَمْثَالِهِ).[31]

وهذه الاحاديث مخالفة بوضوح لصريح القرآن كقوله تعالى (لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ..)[32] ومخالفة للادلة العقلية القطعية حيث انه تعالى ليس جسما يمكن رؤيته بالبصر وفي الحديث الاخير مواضع من مخالفة النصوص ومن الغرائب التي لا يمكن تصديقها ولكن القوم لا يمكنهم رفع اليد عما التزموا به من متابعة كل ما في الصحيحين مهما كان.

ومنها ما رووها في تفسير قوله تعالى (يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ).[33]

قال الالوسي في روح المعاني (أخرج أحمد والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي وغيرهم عن أنس قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم لا تزال جهنّم يلقى فيها وتقول هل من مزيد حتى يضع ربّ العزّة فيها قدمه فيزوي بعضها إلى بعض وتقول قط قط وعزتك وكرمك ولا يزال في الجنة فضل حتى ينشئ اللّه لها خلقا آخر فيسكنهم في فضول الجنة).

وقال (أخرج الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: تحاجّت الجنة والنار فقالت النار: أوثرت بالمتكبرين والمتجبرين وقالت الجنة: ما لي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم فقال اللّه تعالى للجنة: أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي وقال للنار: إنما أنت عذابي أعذب بك من أشاء من عبادي ولكل واحدة منكما ملؤها فأما النار فلا تمتلى‏ء حتى يضع رجله فتقول قط قط فهناك تمتلى‏ء ويزوي بعضها إلى بعض ولا يظلم اللّه من خلقه أحدا وأما الجنة فإن اللّه تعالى ينشى‏ء لها خلقا).

لا اعلق على هذه الروايات ولا استغرب ذكر السلف لها في كتبهم ولا اعتقادهم بصحة مضامينها لسذاجتهم ولكني استغرب العلماء الذين اتوا بعدهم وخصوصا المتاخرين منهم كيف استسلموا لهذه الافكار الساذجة وكيف حكموا بصحة كل ما في هذه الكتب.

واغرب من ذلك القول بان ما لم يكن في الصحيحين فليس بصحيح وهذا ما قاله بعض من عرف عنه العلم والثقافة والبحث العميق حيث انكر الاحاديث الواردة بطرق متواترة حول الامام المهدي عجل الله فرجه بحجة انها لم ترد في الصحيحين!!!

وللقوم كلام طويل لتاويل هذه الروايات وما نسب فيها الى الله تعالى من الرؤية والاتيان والضحك وغيرها اغرب من نفس الروايات راجع عمدة القاري للعيني واساس التقديس للرازي واغرب الكلام ما نسب الى احمد بن حنبل من تكفير من ينكر ذلك كما مر.

 

ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ...

هذه الآية تصرح بأن الجماعة ماتوا ثم أحياهم الله تعالى. والبعث كما في معجم المقاييس (اصل واحد وهو الاثارة). فاذا تعلق بالموتى كان بمعنى الاحياء فلا وجه لتأويل الآية كما سيأتي.

والمستفاد من قوله تعالى (فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا..)[34] أن الإحياء كان استجابة لدعاء موسى عليه السلام.

وقوله (لعلكم تشكرون) اي تشكرون ربكم على هذه الحياة الجديدة التي لم تكن متوقعة حيث اعطاهم فرصة اخرى ليتوبوا من التشكيك في الرسالة وفي صدق الرسول ومن المطالبة برؤية الله تعالى مما يدل على ضعف الايمان والمعرفة.

وهذه الآية دليل واضح على امكان الرجعة وان كان الامكان لا يحتاج الى دليل في حد ذاته مضافا الى أن إحياء الموتى ورد في مواضع اخرى ايضا من الكتاب العزيز..

منها قوله تعالى (وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ * فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ)[35]

ومنها قوله تعالى (أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).[36]

وقوله تعالى (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ..)[37]

وقوله تعالى (وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ..).[38] والآية تشير الى إعجاز سيدنا عيسى عليه السلام في إحياء الموتى. وليس المراد مجرد القدرة عليه باذنه تعالى بل ان ذلك تحقق منه عليه السلام كما في الروايات بل هو واضح من قوله تعالى (وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي..)[39]

ومن الواضح ان الرجعة بحد ذاتها امر ممكن والله تعالى على كل شيء قدير.

ومع ذلك فان بعضهم اول هذه الاية لاستبعاد الرجعة في الدنيا قال في المنار (ذَهَبَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْبَعْثِ هُوَ كَثْرَةُ النَّسْلِ أَيْ أَنَّهُ بَعْدَمَا وَقَعَ فِيهِمُ الْمَوْتُ بِالصَّاعِقَةِ وَغَيْرِهَا وَظُنَّ أَنْ سَيَنْقَرِضُونَ بَارَكَ اللهُ فِي نَسْلِهِمْ لِيُعِدَّ الشَّعْبَ بِالْبَلَاءِ السَّابِقِ لِلْقِيَامِ بِحَقِّ الشُّكْرِ عَلَى النِّعَمِ الَّتِي تَمَتَّعَ بِهَا الْآبَاءُ الَّذِينَ حَلَّ بِهِمُ الْعَذَابُ بِكُفْرِهِمْ لَهَا).[40]

ومن الغريب انه تعالى لم يعوضهم عن الالاف الذين قتلوا في الحروب وفي ايام فرعون وفي توبتهم عن عبادة العجل حيث امروا بقتل انفسهم وانما اهتم بالتعويض عن سبعين رجلا قتلوا في هذه الحادثة وسماه بعثا!!! وأغرب منه خوف الانقراض بموت السبعين.

وحكى في روح المعاني عن بعضهم تاويل الموت بالغشيان والهمود وعن بعض آخر تاويله بالجهل فيكون الاحياء بمعنى التعليم!!!! وقد اضطر القوم الى تأويل كل آية يمكن ان يستدل بها على الحياة بعد الموت في هذه النشأة لئلا يتمسك بها في اثبات امكان الرجعة.

ويدفع كل ما قالوه صراحة الاية في انه تعالى بعثهم بعد موتهم وكذلك التعبير بالهلاك الوارد في دعاء موسى عليه السلام في الاية الانفة الذكر من سورة الاعراف.

والرجعة من العقائد الخاصة بالشيعة الامامية ومعناها ان الله تعالى يعيد بعض الاموات الى الحياة بعد ظهور الامام المهدي عليه السلام وهناك اختلاف في التفاصيل فمن الروايات ما تدل على ان الرسول والائمة صلوات الله عليهم او بعضهم يرجعون ومنها ما تدل على ان بعض الاجلة من المؤمنين ايضا يرجعون كما تدل بعضها على احياء بعض اعداء اهل البيت عليهم السلام تنكيلا بهم ولكي يشفي الله صدور المؤمنين.

قال الشيخ المفيد قدس سره (اتفقت الإمامية على وجوب رجعة كثير من الأموات إلى الدنيا قبل يوم القيمة وإن كان بينهم في معنى الرجعة اختلاف..)[41]

وقال ايضا (أقول: إن الله تعالى يردّ قوما من الأموات إلى الدنيا في صورهم التي كانوا عليها فيُعزّ منهم فريقا ويُذلّ فريقا ويُديل المحقّين من المبطلين والمظلومين منهم من الظالمين وذلك عند قيام مهدي آل محمد عليهم السلام وعليه السلام وأقول: إن الراجعين إلى الدنيا فريقان: أحدهما من علت درجته في الإيمان وكثرت أعماله الصالحات وخرج من الدنيا على اجتناب الكبائر الموبقات فيريه الله عز وجل دولة الحق ويعزه بها ويعطيه من الدنيا ما كان يتمناه والآخر من بلغ الغاية في الفساد وانتهى في خلاف المحقين إلى أقصى الغايات وكثر ظلمه لأولياء الله واقترافه السيئات فينتصر الله تعالى لمن تعدى عليه قبل الممات ويشفي غيظهم منه بما يحله من النقمات ثم يصير الفريقان من بعد ذلك إلى الموت ومن بعده إلى النشور وما يستحقونه من دوام الثواب والعقاب وقد جاء القرآن بصحة ذلك وتظاهرت به الأخبار والامامية بأجمعها عليه إلا شذاذا منهم تأولوا ما ورد فيه مما ذكرناه على وجه يخالف ما وصفناه).[42]

ويقصد بالتاويل الذي ذكره اخيرا ان بعضهم حمل الروايات الواردة في رجوع الائمة عليهم السلام على رجوع دولتهم بظهور الحجّة القائم عجل الله فرجه لا برجوع اشخاصهم وهذا التاويل يصح في بعض تلك الاحاديث ولكن منها ما لا يقبل هذا التاويل.

روى الصدوق عن ابيه عن عبد الله بن جعفر الحميري عن إبراهيم بن هاشم عن محمد بن أبي عمير عن مثنى الحناط عن جعفر بن محمد عن أبيه عليهما السلام قال (أيام الله عزّ وجلّ ثلاثة يوم يقوم القائم ويوم الكرة ويوم القيامة). [43]

والسند معتبر على مبنى من يقول بوثاقة كل من يروي عنه ابن ابي عمير وهو مجهول الحال. ورواه ايضا بسند اخر في الخصال.[44] وحيث اعتبر يوم الكرة في قبال يوم القائم عليه السلام يدل الحديث على ان الرجعة لا يراد بها ظهوره عجل الله فرجه.

كما أن هذا التأويل لا يصح في ما ورد في زيارة الجامعة المنقولة عن الامام الهادي عليه السلام حيث يقول (وجعلني ممن يقتص آثاركم ويسلك سبيلكم ويهتدي بهداكم ويحشر في زمرتكم ويكر في رجعتكم ويملك في دولتكم ويشرف في عافيتكم ويمكن في أيامكم..).[45] 

فان الظاهر منها أن هناك جمعا من المؤمنين يكرّون في رجعة الائمة عليهم السلام فيدعو الزائر ان يجعله الله منهم فلو فرض صحة تأويل الرجعة بظهور الامام عليه السلام الا أن رجوع المؤمنين في عصره لا يشمله هذا التأويل. نعم يمكن تأويله بأنه مجرد تمنّ على الله تعالى نظير تمنّي المؤمن بقوله ليتني كنت معكم.

ومثل ذلك كثير في الادعية والزيارات كما ورد في دعاء العهد يقول الراوي سمعت سيدنا الإمام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام يقول (من دعا إلى الله أربعين صباحا بهذا العهد كان من أنصار قائمنا عليه السلام وإن مات أخرجه الله إليه من قبره.. – الى ان يقول في الدعاء – اللهم فان حال بيني وبينه الموت الذي جعلته على عبادك حتما فأخرجني من قبري مؤتزرا كفني شاهرا سيفي مجردا قناتي ملبيا دعوة الداعي في الحاضر والبادي..).[46]

وورد في الروايات الاستدلال على الرجعة بقوله تعالى (وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ)[47] باعتبار ان يوم القيامة يحشر جميع الناس وهذا يوم يحشر فيه من كل امة فوجا من المكذبين.

ولكن لو حملت هذه الآية على الرجعة فلا بد من تأويل الامة بالفرق اذ لا يبعث في الرجعة افواج من الامم السالفة.

ومهما كان فكلامنا في هذا المقام ليس في اثبات الرجعة وانما في امكانها حيث ان بعض مفسري العامة وكتّابهم شنّعوا على الشيعة هذا القول وكأنه مخالف للعقل والقرآن.

اما العقل فلا يدعي مخالفته له من يؤمن بالآخرة فالرجعة ليست الا إحياءا للموتى وهو يحصل في الآخرة بلا ريب والعقل لا يفرّق بين الحياتين مضافا الى ما مرّ من تحققه في موارد عديدة حسبما ورد في القرآن الكريم.

وربما يقال ان هذا القول يستلزم صحة التناسخ وهذا من الجهل بمعنى التناسخ فان القول به يعني ان ارواح الموتى بصورة مستمرة تعود الى اجسام اخر فالبشر في كل عصر ليسوا الا نفس البشر السابقين وانما تبدّلت اجسامهم.

والرجعة ليست بهذا المعنى حتى لو قلنا بأن الإحياء مستلزم لتعلق الروح بجسم اخر غير الجسم السابق وانما هو مثله ولكن هذا لا يعني انه انسان اخر لان حقيقة كل انسان بروحه حتى لو فرض تبدل جميع اعضاء الانسان الى غيرها – وهو امر ممكن حاليا في اكثر الاعضاء ولا يبعد امكانه في جميعها مستقبلا – الا ان الانسان لا تتبدل حقيقته الى اصحاب تلك الاعضاء او الى انسان اخر بل هو نفسه له ما له وعليه ما عليه والسر أن الروح لم يتبدل.

واما الاستبعاد فانما يحصل لمن لا يؤمن بالله وعظيم قدرته او لمن يتصور ان كل ما يتحقق في الكون يجب ان يكون وفقا لقانون الطبيعة ولذلك نجد من ينكر شق القمر كما ينكر الملاحدة معاجز الانبياء عليهم السلام وكما ينكر بعض الناس ظهور الامام المهدي عليه السلام او ينكرون بقاءه طيلة السنين المتمادية.

واما من يعتقد بأن للكون ربا قادرا على كل شيء وأنه لا يعسر عليه ان يخترق نظام الكون لمصلحة يعلمها فلا يستبعد شيئا. 

وهناك من يظن أنه يعلم المصالح والحكم التي على أساسها يسير نظام الكون فاذا راجع نفسه ولم يجد مصلحة وحكمة تستدعي ظهور المهدي عليه السلام مثلا ينكره على اساس عدم وجود حكمة فيه وبالطبع مثل هذا ينكر الرجعة بنفس المناط ولكن الله تعالى هو العالم بالحكم والمصالح لا يعلم حقيقتها الا هو.

وأما مخالفتها للقرآن فقد تبين الجواب عنه بأن في القرآن آيات تدل على وقوع موارد عديدة من إحياء الموتى في هذه النشأة.

وتمسك بعضهم كالالوسي بقوله تعالى (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ)[48] باعتبار أن ذيل الآية يدل على أن الرجعة الى الدنيا لا تكون مطلقا بل لا يكون بعد الموت الا البرزخ الى يوم يبعثون.

والجواب عنه واضح فان هذا هو الحكم العام ولا يمنع من وجود موارد خاصة رجعوا الى الدنيا كما دلت الايات بصراحة.

وقال بعضهم ان الرجعة لو صحت فهي معجزة والاعجاز خاص بالرسل لاثبات رسالتهم ولا يمكن تحقق معجزة في ذلك الزمان لعدم وجود الرسول.

ولكن لا دليل على اختصاص المعجزة بدعوى الرسالة واثباتها فدعوى الامامة ايضا بحاجة الى اثبات ولا يثبتها في مثل هذا الحال اي ظهور الامام عليه السلام الا الاعجاز مع ان الاعجاز وقع كثيرا بعد الرسول صلى الله عليه واله وسلم مما لا يمكن انكاره كشفاء المرضى المايوس منهم وتحير الماء الذي ارسل على قبر الامام الحسين عليه السلام وغير ذلك مما تواترت به الاخبار ومما يقع في زماننا ايضا.

ولو انكر القوم كل ذلك فلا يمكن انكار بعض ما ورد في كتب التاريخ المشهورة من مؤلفاتهم كالحوادث التي اعقبت قتل سيد الشهداء عليه السلام الا من امثال ابن تيمية واتباعه.

روى الذهبي المعروف بتعصبه في تاريخه ان الوليد بن عبد الملك قال للزهري: تعلم ما فعلت أحجار بيت المقدس يوم قتل الحسين فقال الزهري: إنه لم يقلب حجر إلا وجد تحته دم عبيط.

وروى ايضا عن الواقدي قال: أرسل عبد الملك إلى ابن رأس جالوت فقال: هل كان في قتل الحسين علامة قال: ما كشف يومئذ حجر إلا وجد تحته دم عبيط.[49]

وهذا الامر ورد في كتب كثيرة وباسانيد مختلفة لا اقول انه متواتر ولكن من يلاحظها لا يبقى له شك في صحة النقل الا من كان في قلبه مرض.

ومع كل ذلك فان القول بالرجعة ليس من ضروريات المذهب بحيث يحكم على منكرها انه خارج عن التشيع فضلا عن ان يكون مستلزما للكفر كما نسب الينا بل هناك من العلماء السابقين من كان ينكرها ويأول الروايات كما تبين من كلام المفيد قدس سره.

 

وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى...

ومن النعم التي منّ الله تعالى بها على بني اسرائيل ما انزل عليهم في وادي التيه. والغمام السحاب ماخوذ من الغمم وهو الستر. وفي بعض التفاسير ان الغمام ليس هو السحاب بقول مطلق بل خاص بما يكون رقيقا لا يمنع الضوء. ولم أجد له اصلا في اللغة.  

والقصة مشار اليها في قوله تعالى (يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ * قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُون * قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ * قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ * قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ).[50]

وما حدث لهم من البلاء في هذا الوادي حيث يمشون ليلا ونهارا ولا يخرجون منه وان كان جزاءا لما صدر منهم من عصيان امر الرسول الا انه كان لا بد منه لتربيتهم وجعلهم أكفاء لحمل الرسالة الالهية في المجتمع البشري بعد ان كانوا أذلاء تحت يدي فرعون وقومه يسومونهم سوء العذاب ويحتقرونهم ولا شك ان إزالة هذه الرواسب عن نفوسهم كانت بحاجة الى تربية خاصة وان كان ذلك مؤثرا في مجموعة خاصة منهم دون السواد الاعظم.

ومهما كان فانهم بالطبع كانوا بحاجة في هذا الوادي الى ظل يحفظهم من اشعة الشمس فالظاهر ان ارسال الغمام لتظليلهم انما كان في هذا الوادي الذي تاهوا فيه اربعين سنة. وقد ورد ذكر هذه النعمة في سورة الاعراف بتفصيل اكثر بعد ايراد مناجاة سيدنا موسى عليه السلام مع ربه.

قال تعالى (وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ).[51]

فيظهر من هذه الاية أن التظليل بالغمام وانزال المن والسلوى كانا بعد سقيهم الماء بذلك الاعجاز ويظهر ايضا ان كل ذلك كان في ذلك الوادي وفي ايام التيه وأن كل ذلك كان بطريق الاعجاز اما التظليل فواضح اذ لا يستمر الغمام مدة طويلة كل يوم بصورة طبيعية مع انهم كانوا يسيرون ويتبدل مكانهم وكذلك المنّ والسلوى على ما يبدو من السياق.

وهناك من المفسرين من يحاول تأويل الايات مهما امكن بحيث تظهر هذه الامور طبيعية. كما أن بعضهم فسّر الغمام بما ورد في التوراة الحالية من أن الرب كان يظهر في سحابة تخيّم على الخيمة التي نصبوها للاجتماع بالرب وهو خلاف ظاهر الآيات الكريمة.

وظاهر السياق أن المنّ والسلوى نوعان من الطعام أنعم الله تعالى بهما عليهم في ذلك الوادي فقيل إن المنّ مادة صمغية تظهر على بعض الاشجار كالترنجبين وقيل المنّ هو الترنجبين بالذات.

وقيل ان السلوى طائر يشبه السمانى او هو السمانى بالذات وأنه من الطيور المهاجرة التي كانت تنزل في تلك المنطقة ولكن الآية تدل على أنهم كانوا يقتاتون به اربعين سنة فلم يكن من النعم الخاصة بزمان الهجرة فان اريد بالسلوى ذلك الطائر فلا بد ان يكون الانزال بنحو الاعجاز وقد مر أن ظاهر السياق ان الانعام بهما عليهم لم يكن بصورة طبيعية وللسلوى معنى اخر في اللغة وهو العسل ولكنه لا يناسب المقام.

والذي يظهر من التوراة الموجودة بايدينا صحة ما ذكر من التفسير وان لم يرد في اللغة العربية الدارجة ننقل بعض ما ورد فيها:       

(فقال الرب لموسى ها أنا أمطر لكم خبزا من السماء فيخرج الشعب ويلتقطون حاجة اليوم بيومها لكي أمتحنهم أيسلكون في ناموسي أم لا ..... وقال موسى ذلك بأن الرب يعطيكم في المساء لحما لتأكلوا وفي الصباح خبزا لتشبعوا ...... فكان في المساء أن السلوى صعدت وغطت المحلة. وفي الصباح كان سقيط الندى حوالي المحلة ولما ارتفع سقيط الندى إذا على وجه البرية شيء دقيق مثل قشور دقيق كالجليد على الأرض فلما رأى بنو إسرائيل قالوا بعضهم لبعض من هو. لأنهم لم يعرفوا ما هو. فقال لهم موسى هو الخبز الذي أعطاكم الرب لتأكلوا هذا هو الشيء الذي أمر به الرب التقطوا منه كل واحد على حسب أكله ...... ودعا بيت إسرائيل اسمه منا وهو كبزر الكزبرة أبيض وطعمه كرقاق بعسل ...... وأكل بنو إسرائيل المن أربعين سنة حتى جاءوا إلى أرض عامرة. أكلوا المن حتى جاءوا
إلى طرف أرض كنعان).[52]

وفي موضع اخر

(فعاد بنو إسرائيل أيضا وبكوا وقالوامن يطعمنا لحما قد تذكرنا السمك الذي كنا نأكله في مصر مجانا والقثاء والبطيخ والكراث والبصل والثوم والآن قد يبست أنفسنا ليس شيء غير أن أعيننا إلى هذا المن وأما المن فكان كبزر الكزبرة ومنظره كمنظر المقل كان الشعب
يطوفون ليلتقطوه ثم يطحنونه بالرحى أو يدقونه في الهاون ويطحنونه في القدور ويعملونه
ملات. وكان طعمه كطعم قطائف بزيت ومتى نزل الندى على المحلة ليلا كان
ينزل المن معه)[53]

فيظهر من قوله (فكان في المساء ان السلوى صعدت وغطت المحلة) انه اسم لنوع من الطير كما يظهر بوضوح ان المنّ مادة تنزل من السماء يصنعون منه الخبز.

وقيل ان المنّ بمعنى المنة عليهم بوجه عام والسلوى من التسلية فالله تعالى كان ينعم عليهم من جهات شتى ويسليهم بذلك.

وهو تأويل مخالف لظاهر الآية خصوصا مع تكرار نفس التعبير في سورة الاعراف ومضافا الى قوله تعالى (وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا..)[54] مما يدل على كون طعامهم قبل ذلك طعاما واحدا باطعام من الله تعالى والقصة ايضا من حوادث التيه.

 

كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ...

لا حاجة الى تقدير (قلنا لهم) كما قيل بل هو تعبير عن الرحمة الالهية واللطف بعباده حيث افاض عليهم من طيبات الرزق من دون تعب وجهد. كما أن الامر بالاكل ايضا ليس للاباحة كما قالوا بل هو ايضا تعبير عن لطفه تعالى وعنايته واهتمامه بهم. والطّيّب من الطعام ما تستلذّه النفوس البشرية وتستسيغه ولا تجد فيه ما يضرها او يوجب اشمئزازها ويخالفه الخبيث.

والطيب من الالفاظ التي لم يتمكن اللغويون من تفسيرها بدقة فتجد كثيرا منهم يفسرونه بانه نقيض الخبيث ويفسرون الخبيث ايضا بانه نقيض الطيب ولعل السبب هو وضوح المعنى بحيث لا يمكن تفسيره باوضح منه والواقع ان معناه يختلف حسب الموارد فالطيب من الطعام ليس كالبلدة الطيبة او الانسان الطيب او الرائحة الطيبة.

والاضافة هنا بيانية باعتبار ان كل ما رزقه الله فهو طيب او بتقدير (من) باعتبار ان الرزق يشمل ما لا يجوز اكله وانما يستفاد منه في غير الاكل. 

  

وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ...

يقال انه لا بد من تقدير جملة ليصح التعقيب بهذه الجملة والتقدير فخالفوا امرنا او لم يشكروا نعمة الله ونحو ذلك.

ولكن الظاهر أنه لا حاجة الى تقدير بل المراد بهذا الظلم ما سبق ذكره من اتخاذ العجل ومن عدم ايمانهم بموسى عليه السلام وطلبهم رؤية ربهم ليؤمنوا بدعوى الرسالة مع كل ما انعم الله عليهم خاصة. فمعنى الاية ما ظلمونا بعدم شكر هذه النعم وانما ظلموا انفسهم.

وهذه الآية تنبه على أن كل مخالفة للعبد يعود ضررها اليه كما أن كل طاعة له تعود بالنفع اليه فالله تعالى غني عن عباده لا يضره شيء ولا ينفعه شيء ولا يؤثر فيه شيء.

ولذلك فان الظلم لا يمكن ان يقع عليه تعالى لا انه ليس واقعا فحسب وانما نفى وقوع الظلم عليه لان الانسان يتوهم أن عمله يضرّ به تعالى والا فالنفي على حقيقته لا يصح ايضا لانه انما يصح في موضع امكان الاثبات.

وتقديم المفعول اي (انفسهم) لافادة الحصر لا يظلمون الا انفسهم بمعنى أن الضرر لا يعود الا اليهم حتى ظلمهم على غيرهم يعود ضرره الاعظم الى الظالم وان تضرر المظلوم في هذه الدنيا.

ولذلك قال تعالى بشأن المطلقات (وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ..).[55] وقال ايضا (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا..).[56]

حتى الشكر على نعمه تعالى شكر لنفسك قال تعالى (وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ)[57] وكذلك الجهاد في سبيل الله تعالى جهاد في سبيلك ولمصلحتك كما قال تعالى (وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ)[58]

وظلم النفس في مخالفة احكام الله تعالى من جهتين:

من جهة أن الاحكام انما شرعت لمصلحة الفرد نفسه او المجتمع فمن يخالفها يتضرر اما مباشرة او باعتبار اضراره بالمجتمع الذي يعيش فيه. ومن جهة اخرى يعرّض نفسه للمحاسبة والجزاء يوم القيامة.

واقحام (كان) حيث قال (كانوا أنفسهم يظلمون) للدلالة على استمرار ظلمهم لانفسهم بمخالفتهم لاوامر الله تعالى ونواهيه.

وهذه الآية تشعر ان التعبير بالظلم على المولى غير صحيح وان ورد في بعض عبارات العلماء خصوصا في بيان الفرق بين الاوامر المولوية والارشادية فان المولى في اوامر الشرع هو الله تعالى ولا يمكن ان يقع الظلم عليه.

 

 


[1] النساء: 153

[2] الاعراف: 155

[3] الاعراف: 143

[4] النجم : 11

[5] النساء: 163 - 164

[6] التوحيد ص 116

[7] الكافي ج2 ص53 باب حقيقة الايمان واليقين

[8] ق: 22

[9] عيون اخبار الرضا ج1 ص105

[10] القيامة: 22 - 25

[11] الاعراف: 46 - 47

[12] الزمر: 68

[13] الذاريات: 44 - 45

[14] النحل: 33

[15] النساء: 153

[16] مجموعة الفتاوى ج6 ص 500

[17] الانعام : 103

[18] روح المعاني ج 1 ص 264

[19] النساء: 153

[20] روح المعاني ج3 ص 182

[21] التحرير والتنوير ج1 ص 491

[22] التحرير والتنوير ج4 ص 301

[23] المنار ج9 ص 121

[24] القلم: 42

[25] المكتبة الشاملة / صحيح البخاري / ح 4538

[26] المصدر/ ح 6886

[27] المكتبة الشاملة / الدر المنثور/ تفسير الآية

[28] القيامة: 22 - 23

[29] صحيح البخاري ج9 ص127 باب قوله تعالى وجوه يومئذ ناضرة على ما في المكتبة الشاملة وكذا الحديث التالي

[30] صحيح مسلم ج1 ص433 باب فضل صلاتي الصبح والعصر

[31] صحيح البخاري ج1 ص160 باب فضل السجود / صحيح مسلم ج1 ص163 باب معرفة طريق الرؤية / مسند احمد ج13 ص144

[32] الانعام: 103

[33] ق: 30

[34] الاعراف: 155

[35] البقرة : 72 - 73

[36] البقرة: 259

[37] البقرة: 243

[38] ال عمران: 49

[39] المائدة: 110

[40] المنار ج1 ص267

[41] اوائل المقالات ص 46

[42] اوائل المقالات ص77

[43] معاني الاخبار ص 366

[44] الخصال ص 108

[45] تهذيب الاحكام ج6 ص99

[46] بحار الانوار ج83 ص 285

[47] النمل: 83

[48] المؤمنون: 99 – 100

[49] تاريخ الاسلام ج5 ص16

[50] المائدة : 21 - 26

[51] الاعراف: 160

[52] العهد القديم سفر الخروج الاصحاح 16

[53] العهد القديم سفر العدد الاصحاح 11

[54] البقرة: 61

[55] البقرة: 231

[56] يونس: 108

[57] لقمان: 12

[58] العنكبوت: 6