وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ...
هذا تذكير بنعمة اخرى من الله تعالى على بني اسرائيل وكفرانهم لها.
والقصة واردة في سورة الاعراف ايضا قال تعالى (وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ * فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ)[1] والمضمون واحد والاختلاف قليل.
وهناك بحث في التفاسير عن هذه القرية هل هي بيت المقدس او اريحا او غيرهما وربما يقال انها بيت المقدس لقوله تعالى (يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ..)[2] ولكن لا دليل على ان الامر بالدخول كان واحدا.
وربما يظن صحة هذا القول لوجود باب للمسجد الاقصى باسم باب حطة.
ولكن التسمية لا تدل على ذلك كما هو واضح بل يمكن ان يقال بالعكس وان الامر بدخول بيت المقدس كان قبل التيه وبسبب عصيانهم في الدخول تاهوا في الارض اربعين سنة وهذه القرية امروا بدخولها بعد ذلك كما هو ظاهر السياق.
وقيل ان هذا الامر هو بعينه ما ورد في قوله تعالى (اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ..)[3] بعد ان طلبوا من موسى عليه السلام اطعمة اخرى غير المن والسلوى وذلك في وادي التيه ايضا كما سيأتي ان شاء الله تعالى. ولكنه ايضا لا دليل عليه.
ومهما كان فلا يهمنا تحديد القرية اذ لا اثر له في ما اراد الله تعالى التنبيه عليه. والقرية بمعنى المكان الذي يجتمع فيه الناس واصلها من قرى اي جمع وتطلق على المدن الكبيرة والصغيرة.
والرغد من العيش: الواسع الطيب. وهو هنا مفعول مطلق لبيان نوع الاكل اي اكلا رغدا والمراد بالاكل كل انحاء التنعم لا خصوص التناول بالفم نظير قوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ..).[4]
والامر بدخول القرية والاكل الرغد إشارة الى أنه تعالى هيّأ لهم الظروف للتمكن من دخول قرية يمكنهم فيها ان يتمتعوا بالعيش الرغد وهذه هي النعمة التي منّ الله عليهم بها. وقوله (حيث شئتم) يدلّ على الاذن لهم في التصرف في اي موضع من القرية.
والظاهر أن المراد بالباب بوابة المدينة وان احتمل غيره. والدخول سجّدا بمعنى كونهم خاضعين لله تعالى شكرا على إنعامه عليهم اذ لا يمكن الدخول في حال السجدة. والسجود مستعمل في القرآن بمعنى الخضوع بوجه عام في عدة موارد كقوله تعالى (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ..).[5]
ولعل السر في الامر بالدخول خاضعين هو اجتناب الاعجاب بالنفس والغرور وتذكيرهم بان هذا الامر انما حصل لكم بتسديد منه تعالى وليس بالاعتماد على بأسكم وجمعكم كما قال تعالى للمسلمين (لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ * ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ).[6]
وقوله تعالى (وقولوا حطة) اي قولوا حين دخول الباب (حطة) نغفر لكم خطيئاتكم فكل ما سبق منهم من العصيان يزول اثره بمجرد ان يقولوا كلمة (حطة) حين دخول الباب ومن هنا سمي الباب في الروايات – كما سياتي ان شاء الله – باب حطة. ويلاحظ أن القول تأخر هنا عن الدخول وفي سورة الاعراف تقدم عليه. وهذا يدل على أن الغفران مترتب على الامرين معا.
و(حطة) مصدر بمعنى الوضع وانزال شيء من علو وذلك لتشبيه الذنوب بالاوزار التي تثقل كاهل الانسان وهو يدعو ان يحطها الله منه كما قال تعالى (وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ).[7] قال في الكشاف (وهي خبر مبتدأ محذوف أي مسألتنا حطة او أمرك حطة والأصل النصب بمعنى حُطَّ عنا ذنوبنا حِطَّةً وإنما رفعت لتعطي معنى الثبات).
والخطايا جمع خطيئة وهي فعيل من الخطأ واصله التجاوز والتعدي ومنه الخطوة والتخطي ويطلق الخطأ على كل ما يتعدى الصواب والطريق السويّ والمراد بها هنا كل ما خالفوا فيه اوامر ربهم او نبيهم.
وقوله (وسنزيد المحسنين) يدل على أن الغفران لكل من دخل الباب ساجدا وقال حطة واما اذا احسن عمله بعد ذلك فان الله تعالى سيزيده ثوابا. ولعل المراد الزيادة في الدنيا والاخرة ولذلك أبهم الزيادة.
وقد ورد في الاحاديث تشبيه اهل البيت عليهم السلام في هذه الامة بباب حطة باعتبار ان من تمسك بهم وبمتابعتهم فان الله تعالى سيغفر له كما غفر لمن دخل ذلك الباب من بني اسرائيل وقال حطة. فعبّر عن الباب بباب حطة ومثل ذلك تشبيههم عليهم السلام بسفينة نوح عليه السلام من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق وهوى.
فمن ذلك ما ورد عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم (من دان بديني وسلك منهاجي واتبع سنتي فليدن بتفضيل الأئمة من أهل بيتي على جميع أمتي فإن مثلهم في هذه الأمة مثل باب حطة في بني إسرائيل).[8]
ومنها ما رواه الصدوق قدس سره عن امير المؤمنين عليه السلام انه قال في خطبة له (وأنا باب حطة).[9]
وفي هذا الباب روايات اخر ايضا عن طرقنا وعن بعض العامة. ولكنهم كعادتهم ضعّفوا كل ما ورد في هذا الباب من الاحاديث.
فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ...
الظاهر أن هؤلاء بعض القوم ولا يشمل الجميع ولذلك ورد في سورة الاعراف (فبدل الذين ظلموا منهم..).
والظاهر أن معنى تبديل القول أنهم لم يقولوا حطة بل قالوا كلمة اخرى مشابهة لها استهزاءا منهم وكفرا. ويقال انهم كانوا يقولون بدلا عن كلمة (حطة) (حنطة).
وللقوم روايات بعضها في الصحيحين انهم قالوا حبة في شعرة.
روى البخاري بسنده عن همام بن منبه انه سمع أبا هريرة يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قيل لبنى إسرائيل ادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة فبدلوا فدخلوا يزحفون على أستاههم وقالوا حبة في شعرة).
والحديث غريب والقوم تمسكوا به مع ان مقتضاه انهم امروا ان يدخلوا في حال السجود فدخلوا على استاههم ولا ادري كيف يمكن ذلك فلا المامور به امر مقدور ولا المنسوب اليهم كما ان اللفظة المنسوبة اليهم في الحديث لا معنى لها.
ومهما كان فتبديل الكلمة ليس غريبا عنهم قال تعالى (مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا).[10]
ومن تحريفهم ما اشير اليه في الآية انهم كانوا يقولون خطابا للرسول صلى الله عليه وآله وسلم (راعنا) ولكنهم يلوون السنتهم ليفيد معنى آخر فيه انتقاص وقد اخذوا ذلك من خطاب بعض المؤمنين له صلى الله عليه وآله وسلم بقولهم (راعنا) من المراعاة ولذلك ورد النهي عنه في قوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا..).[11]
ولكن الكلام في ان حطة وحنطة او حبة في شعرة ونحو ذلك كلها من اللغة العربية فهل المراد من تبديل الحطة بغيرها على ما ورد في الروايات الكلمة المرادفة لهما من لغتهم او انه كان المطلوب منهم الاستغفار لا قول كلمة حطة فلم يستغفروا؟
الظاهر ان المطلوب منهم قول هذه الكلمة بالذات وانهم بدّلوها بغيرها بقرينة تكرار الكلمة في سورة الاعراف وحيث ان اللغتين متقاربتان فلا يبعد ان تكون الكلمة بنفسها مقصودة مع اختلاف اللهجة.
ويلاحظ ان اختلاف اللغتين في زماننا لا يدل على ان اختلافهما في عهد الرسالة كان بنفس الدرجة فان اللغات تتطور كثيرا خصوصا في مثل هذا العصر حيث تتداخل الثقافات وتتأثر اللغات بالثقافات الغريبة بسبب توسع الحضارة البشرية.
ومع ذلك فالمنقول عن المعجم الموجود في مجمع اللغة العربية في القاهرة ان حطة في العبرية تلفظ حاطط والحنطة حانط فهما متقاربان في اصل اللغة.
وهناك من يقول بان المراد مخالفة الامر وان تبديل القول بيان ابلغ عن هذه المخالفة وهذا هو المحكي عن ابي مسلم وتبعه صاحب المنار ونقل عن شيخه انه قال (وَتَبْدِيلُ الْقَوْلِ بِغَيْرِه عِبَارَةٌ عَنِ الْمُخَالَفَةِ، كَأَنَّ الَّذِي يُؤْمَرُ بِالشَّيْءِ فَيُخَالِفُ قَدْ أَنْكَرَ أَنَّهُ أُمِرَ بِهِ وَادَّعَى أَنَّهُ أُمِرَ بِخِلَافِهِ، يُقَالُ: بَدَّلْتُ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ، أَيْ جِئْتُ بِذَلِكَ الْقَوْلِ مَكَانَ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ. وَهَذَا التَّعْبِيرُ أَدَلُّ عَلَى الْمُخَالَفَةِ وَالْعِصْيَانِ مِنْ كُلِّ تَعْبِيرٍ..).
وهذا تاويل بعيد وفيه مخالفة لظاهر الاية من دون وجه خصوصا مع ملاحظة طبيعة القوم كما اشرنا اليه وانما ارتضاه صاحب المنار لاستبعاده التقيد بلفظ خاص ومن الغريب انه رفض التسليم لما ورد في الصحيح بحجة انه من الاسرائيليات وان الحديث مرفوع لم يسنده ابوهريرة الى المعصوم وهو خلاف ما نراه في البخاري.
والصحيح أن هذه الآية تدل على لزوم التعبد والتقيد بما ورد في الشرع من طقوس والفاظ في العبادات وغيرها وكذلك عدم الاخذ بالقياس بتوهم انه لا فرق بين اللفظين او الفعلين في ترتب الحكم الشرعي لعدم الفرق بينهما من حيث المعنى او التأثير في النفس فلا يجوز ان يقول احد للدخول في الصلاة الله اعظم بدلا من الله اكبر.
وكثيرا ما كان البشر يخالفون حكم الله باجتهاد من انفسهم وهو مما يؤاخذ به الانسان حتى لو كان مؤمنا وهو في الواقع درجة من الكفر كما قال الله تعالى بشأن المشركين في النسيء (إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ).[12] حيث كان المشركون يؤخرون حرمة القتال في محرم الى صفر فيقاتلون فيه ثم يعودون الى محرم في السنة التالية. والنسيء: التاخير.
ومثل ذلك ان بني اسرائيل حيث حرم الله عليهم الصيد يوم السبت كما سيأتي لم يلتزموا به لانهم لا يرون فرقا بين السبت والاحد.
وكثيرا ما نسمع من الناس ان المرأة التي لا يمكن ان تحمل لاي سبب فليس عليها عدة لان الحكمة في العدة حفظ الانساب. وهكذا غيرها من الاحكام تجد الناس يبحثون عن وجه الحكمة فيها فيقتصرون على بعض مواردها او يعممونها لغير موضوعها الشرعي.
ومن الخطأ الفادح ما نجده من بعض الناس من عدم الذبح في منى اذا لم يجدوا فقراء لان الحكمة من الذبح هو توزيع اللحم عليهم كما ان من الخطا الحكم بجواز الذبح في البلد في هذا الحال كما افتى به بعض الناس. والله انما شرّع هذه الاحكام لامتحان البشر كما قال تعالى (لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ).[13]
ومن هذا الباب ما ورد في الصحيح عن ابي جعفر عليه السلام (انما الوضوء حد من حدود الله ليعلم الله من يطيعه ومن يعصيه وان المؤمن لا ينجسه شيء..) [14] وبذلك يردّ الامام عليه السلام على من يتوهم ان الوضوء لتطهير النفس.
وهذا باب واسع في الفقه والشريعة وليس في مذهبنا القياس ولكن بعض المذاهب ياخذون به في احكام مختلفة. وقد ورد التنديد بالقياس في رواياتنا بشدة وبكثرة وتكرر القول بان اول من قاس ابليس وذلك لان الله تعالى امره بان يسجد لادم عليه السلام فلم يسجد (قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ).[15]
ولكن القوم لهم ولاسلافهم يد طويلة في معارضة النص بالاجتهاد وأهمّ شيء في الدين عملوا فيه باجتهادهم ونقضوا حكم الله تعالى هو نصب الخليفة للرسول صلى الله عليه وآله وسلم خلافا لما أمر به من متابعة امير المؤمنين عليه السلام وبعد أن بايعوه على إمرة المؤمنين وعلى ولايته عليهم وبخبخوا له.
فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ...
الرجز فسر في العين والجمهرة بالعذاب وقوله (من السماء) تأكيد على أنه لم يكن أمرا طبيعيا وقد تكرر ذلك في سورة الاعراف ايضا ولا يهمّنا معرفة نوعه. وتكرار قوله (الذين ظلموا) للاشارة الى ان العذاب لم يكن عاما للجميع بل خاصا بالقوم المستهزئين.
ولعل قوله (بما كانوا يفسقون) وكذلك في سورة الاعراف (بما كانوا يظلمون) مع اقحام (كان) للاشارة الى أن هذا الاستهزاء لم يكن اول فسق وظلم منهم بل كانوا مستمرين على ذلك كما هو مقتضى التعبير بانهم كانوا كذلك. وهذا هو شأن عذاب السماء لان الله تعالى يمهل الانسان لعله يرجع الى رشده فاذا تمادى في غيّه فانه يأخذه على كل ما فعل.
والسر في قبح الاستهزاء كما يظهر من موارد عديدة من الكتاب العزيز وهو مما اعتاده اعداء الرسل طيلة تاريخ الرسالات هو أن هذه الطريقة في مواجهة الحق لا تمكن مواجهتها والرد عليها لانها لا تستند الى دليل وحجة وهي في نفس الوقت مؤثرة تاثيرا عميقا في نفسية عامة الناس والبسطاء من الناس الذين لا ينظرون الى الامور بدقة وعمق. وتؤثر بوجه خاص في نفوس الشباب والجيل الناشئ وتبعدهم عن الرسل والمصلحين ولا تترك لهم مجالا للتفكير والمراجعة.
ولذلك ورد في موردين في القرآن عدم جواز الجلوس في مجلس يستهزأ فيه الدين قال تعالى (وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ).[16]
ووردت الاشارة الى هذه الآية المكية في سورة النساء وهي مدنية حيث قال تعالى (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا).[17]
ويلاحظ في هذه الآية التأكيد على المنع حيث اعتبر الجالس معهم مثلهم في الاثم حيث قال (انكم اذا مثلهم) بل اعتبر ذلك نفاقا وحذّر الجالس معهم بانه سيكون ضمن المنافقين مع الكافرين في جهنم.
وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ...
(اذ) ظرفية اي واذكروا يوم استسقاء موسى لقومه وهو تذكير بنعمة اخرى على بني اسرائيل بطريق الاعجاز عندما اصابهم العطش في الوادي الذي تاهوا فيه فتذمّروا على موسى عليه السلام كما ورد في تعبير التوراة الحالية وقالوا (لماذا أصعدتنا من مصر لتميتنا وأولادنا ومواشينا بالعطش).
فدعا موسى ربه واستسقاه اي طلب منه السقيا لشعبه فأمره الله تعالى أن يضرب بعصاه حجرا خاصا او اي حجر. والعصا هي ما كانت معه عليه السلام منذ رعيه لمواشي الرجل الصالح في مدين وهي التي تحوّلت ثعبانا امام فرعون وهي التي فتح الله بها البحر ليمرّ موسى عليه السلام وقومه بأمان.
والاستسقاء عادة يتعقبه المطر مع الاستجابة فيسقي الله الناس به وهو ايضا قد يكون بنحو لا يشك في انه اعجاز كما حدث في عهد عبدالمطلب عليه السلام حيث استسقى بالرسول صلى الله عليه وآله وسلم وهو غلام على ما رواه ابن حجر.[18]
ولكن السقيا بانفجار العيون من الحجر بضرب العصا اعجاز واضح فالحجر لا يتاثر بالعصا بل العصا يتكسر اذا ضرب بها الحجر وانما تنفجر العيون بارادة الباري عز وجل.
والفاء في قوله (فانفجرت) فصيحة لانها تدل على محذوف اي فضربه موسى بعصاه فانفجرت اثنتا عشرة عينا بعدد اسباط بني اسرائيل اي اولاد يعقوب عليه السلام وتعين لكل قبيلة منهم موضع شربها الخاص بها لئلا يتدافعوا ويتقاتلوا من اجل الماء فتعود هذه السقيا وبالا عليهم. فقوله (كل اناس) اي كل قبيلة منهم. وهذه معجزة وآية اخرى من الله تعالى.
وبذلك يتبين ايضا مدى معاداة بعضهم لبعض حتى في تلك الازمة الشاملة. ولم يرد في التوراة الحالية ان العيون كانت بعدد القبائل.
وفي سورة الاعراف وردت قصة الاستسقاء قبل نزول المن والسلوى قال تعالى (وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ).[19] ولكن ذلك لا يدل على الترتيب لتتنافى الآيتان.
كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ...
يبدو أن الامر بالاكل باعتبار نزول المن والسلوى في نفس الموضع وقد مر الكلام في هذه الجملة وانها امتنان من الله تعالى على عباده وتدل في نفس الوقت على حالة القوم وشعورهم بالسعادة بهذا الرزق الموفور خصوصا انه كان باعجاز واضح مما يدل على عناية الله تعالى بهم.
والعُثُوّ أشد الفساد على ما في كتب اللغة و(مفسدين) حال منهم ولعل النهي عن الفساد مع كونهم في حال الفساد اما بلحاظ شدة الفساد او بلحاظ قوله في الارض فان الفساد في الارض يدل على التوسع فيه فالانسان عادة يصدر منه الفساد وهو خلاف الصلاح وليس كل البشر صالحين ولكن الفساد في الارض يعني نشر الفساد في المجتمع البشري فالمراد بالنهي عدم التوسع في الفساد.
[1] الاعراف: 161 - 162
[2] المائدة: 21
[3] البقرة: 61
[4] النساء: 29
[5] الحج: 18
[6] التوبة: 25 - 26
[7] الانشراح: 2 - 3
[8] امالي الصدوق ص 133
[9] معني الاخبار ص 18
[10] النساء: 46
[11] البقرة: 104
[12] التوبة: 37
[13] الحج: 37
[14] علل الشرايع ج2 ص 279
[15] الاعراف: 12
[16] الانعام: 68
[17] النساء: 140
[18] فتح الباري ج2 ص412
[19] الاعراف: 160